"لا مدينة من دون فضاء عام" السعي إلى مستقبل أخضر ومسالم ومنفتح في لبنان مع "نحن"

"لا مدينة من دون فضاء عام" السعي إلى مستقبل أخضر ومسالم ومنفتح في لبنان مع "نحن"

"في جملة واحدة: تصنع ’نحن‘ قادة لاستعادة الفضاء العام لصالح الشعب اللبناني"، يقول محمد أيوب، المدير التنفيذي لـ "نحن"، حين يُسأل أن يصف جوهر عمل "نحن". أطلق أيوب منظمة "نحن" التي لا تتوخى الربح في 2009. وتعمل "نحن"، التي تلتزم بقيمها الأساسية غير الحزبية أو الطائفية، لتشجيع الشباب في لبنان ودعمهم، فتزودهم بمهارات لا غنى عنها في حيواتهم المهنية وانخراطهم في المجتمعات المحلية.

وفي أسبقية على المؤسسة الرسمية، تُعقد حلقات نقاش طلابية، ومناسبات ثقافية جامعية، ونشاطات رياضية منذ 2002. وسرعان ما وسعت المجموعة التزامها إلى القضايا السياسية حين واجه لبنان أزمة في 2005. واليوم تنخرط "نحن" في ثلاثة مجالات: تمكين الشباب، والتبادل الثقافي، والمناصرة. وتنتشر مشاريع أخرى في مواقع بكل لبنان، فيما التركيز الرئيسي على صور وبعلبك والعاصمة بيروت. وبعيداً من فريق "نحن" المحيط بمحمد أيوب، الذي يحمل شهادة ماجستير في التاريخ ويحضّر حالياً لشهادة أخرى في علم النفس بعدما أكمل تدريباً على التواصل المتقدم، تحظى المنظمة بدعم من شباب، فأكثر من 50 شخصاً تطوعوا في مشاريع وحملات. كذلك أقامت المنظمة علاقات مع شركاء دوليين كثيرين، أبرزها مع فرع الشرق الأوسط لـ "مؤسسة هينرِش بُل".

"أنت ما تأكل".

المجال الأول الذي تلتزمه "نحن" هو برنامجها للشباب، الذي دخل الآن السنة الخامسة من نشاطه والذين شهد تحسيناً مستمراً منذ إطلاقه. والهدف الرئيسي لهذا البرنامج هو تمكين الشباب في مجالات التواصل والمهن، وتقويتهم أيضاً على المستوى الشخصي. وتحقق "نحن" هذه الأهداف من خلال التدريب على القيادة، وتسوية النزاعات، ونظرية التواصل وممارستها. وفي شكل أكثر تحديداً، تشمل القضايا المستهدفة العناصر الضرورية والسيكولوجيا الأساسية لعمليات التواصل. وثمة تركيز خاص على إدراج العوامل العملية، وأهمية التعدديات الثقافية، والمنهجية التفاعلية في هذه التدريبات. وبعدما يتمرس الشباب في هذا البرنامج، يمكنهم أن يؤدوا عروضاً شفهية وخطية، ضرورية ليدافعوا بنجاح عن حقوقهم ويتولوا دوراً فاعلاً في عمليات التغيير وبناء السلام في لبنان. وتشمل المناسبات المنظمة أخيراً في إطار برنامج الشباب، مشروع "ضمير منفصل" الذي ضم 13 ورشة عمل خلال سنة كاملة، وشارك ما لا يقل عن 205 شباب في حوار عن قضايا كثيرة منها التواصل الفاعل، وتسوية النزاعات، ومبادئ القيادة. واستضافت "نحن" أيضاً ورشة عمل لثمانية أيام في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر 2012 ركّزت على مبادئ التواصل الفاعل واستخدامه. وأثبت فريق "نحن" أن مزيداً من الأساليب غير التقليدية في تمكين الشباب يجب أن يؤخذ في الاعتبار. فقبل بدء 2013، دعت "نحن" إلى اجتماع تحت عنوان "أنت ما تأكل: عشاء عائلي لـ ’نحن‘". وجمعت المناسبة مشاركين من لبنان وسوريا وفلسطين والمكسيك وألمانيا والنرويج وفرنسا والولايات المتحدة والبوسنة، دُعي كل منهم إلى تحضير طبق مستوحى من موطنه. وأدت الفكرة إلى مساء منزلي في مكتب "نحن" الذي امتلأ ببعض من أفضل الأطعمة والموسيقى وحوار بين الثقافات.

عبور الحدود

وقريباً من مجال تمكين الشباب، تركّز "نحن" على برنامجٍ ثانٍ مخصص للتبادل الثقافي. وليس هذا البرنامج ذا أهمية فقط بالنسبة إلى الحوار بين الشباب من بلدان مختلفة، بل هو ذو معنى أيضاً بالنسبة إلى بناء فهم أكبر بين المجموعات في المجتمع اللبناني. وتشمل المناسبات الأحدث في هذا المجال ورشة عمل للتبادل بين الثقافات، استهدفت إيصال شعور من التعاطف مع بلدان أخرى وزيادة الوعي بالتحيز والتنميط. واعتماداً مرة أخرى على الكفاءة الضرورية للتواصل، أمّنت ورشة العمل فضاء لتبادل فكري وقدّمت حلولاً لمعالجة التحديات بين الثقافات. كذلك نظّمت "نحن" أسبوعاً لبنانياً – نرويجياً للعام الثالث على التوالي. وبالتعاون مع مؤسسات رفيعة المستوى في كل من بيروت وأوسلو، عُقد أسبوع من القراءات الشعرية والعروض الموسيقية النرويجية واللبنانية في بيروت. ومن المشاريع اللافتة التي نُفّذت من ضمن برنامج "نحن" للتبادل الثقافي في وقت أسبق من 2012، تبادل تطوعي بين الدانمارك ولبنان. وأُعطي المشاركون إمكانية فريدة لتمضية سنة كاملة في الدانمارك، أقاموا خلالها مع عائلات دانماركية ومُنحوا فرصة لاستكشاف الثقافة الدانماركية والتعاون والتفاعل معها.

الحق بفضاء عام

وثمة مجال ثالث أثبتت فيه "نحن" عن إخلاص كبير هو مجال الفضاء العام. فبعدما لمست المنظمة الخسارة والتراجع السريعين الجاريين للفضاء العام، خصوصاً في بيروت، طورت مشاريع لافتة كثيرة. ويتمثّل الهدف الأسمى للمنظمة في جعل الفضاء المفتوح القائم متاحاً للعموم. ولهذا الهدف ما يبرره في واقع أن الوصول إلى الفضاء العام يقدّم للسكان منافع نفسية واجتماعية وصحية. فالفضاءات الخضراء والشواطئ المفتوحة والساحات لا تشكّل مجرد مساحة للنقاشات، ومراكمة انطباعات جديدة، والتعرف على أشخاص جدد، والاسترخاء، وممارسة النشاطات الرياضية، بل هي كذلك تساعد الأفراد في تعريف أنفسهم مع جوارهم ومدينتهم وبلادهم. لكن حاجة كثيرين من اللبنانيين إلى مساحات كافية للتفاعل والتبادل، يمكن للعموم الوصول إليها وكذلك حقهم بها، غير معترف بهما حالياً. ويشكّل مجال هذا البرنامج مثالاً جيداً على مقاربة "نحن" على صعيد الحملات وزيادة الوعي.

ويتركّز حالياً مشروع "نحن" الأكثر تحدياً واسترعاء للانتباه، على حض بلدية بيروت على إعطاء وصول عام إلى حرج بيروت، وهو غابة صنوبر تغطي 330 ألف متر مربع، ما يشكّل أكبر فضاء أخضر في مدينة بيروت. ومنذ 1995 وأجزاء من المنتزه – 66 بالمائة من مساحته الإجمالية حالياً – مغلقة في وجه العموم، حتى بعد اكتمال أعمال التجديد بعد الحرب الأهلية. وأثار التردد في منح العموم فرصة اختبار الغابة بإرثها الطبيعي من أشجار الصنوبر، أسئلة لم يرد عليها المسؤولون في شكل كافٍ إلى اليوم. وأبرز المبررات المقدمة لاستمرار الإقفال هو مجرد قلق البلدية من ضرر محتمل قد يصيب المنتزه من شباب غير مسؤولين، لكن أي خطة ملموسة لحل المشكلة لم تعلَن.

سياسات الوصول إلى الفضاء المديني

حين أطلقت "نحن" المشروع، اختارت في خطوة أولى معالجة مشكلة المنتزه المغلق في مقاربة علمية. وأجرت المنظمة بحوثاً ومسوحاً في التخطيط المديني حول نوعية الفضاء العام المتاح حالياً وطرق حماية الموارد الطبيعية للحرج. كذلك أُجريت بحوث قانونية للتأكد من امتلاك البلدية فعلاً للمنتزه، ومن احتمال أن يكون عاماً وفق القانون اللبناني، ومن كيفية تبرير إقفال المنتزه إن صح الأمر الثاني. كذلك وجب تحديد العوائق المحتملة ووضع جدول بالأهداف الممكنة. وفور اكتمال إطار قانوني فاعل يتعلق بحماية الفضاءات العامة على غرار الحرج وبالوصول العام إليها، تثق "نحن" بأن محاولات لاستعادة فضاءات عامة أخرى ستُدفع قدماً. كذلك أُطلقت بحوث اجتماعية في محاولة لاستيضاح الفهم الدقيق لدى المواطن للفضاء العام. ويمكن لهذه المعلومات أن تشكّل قاعدة لحملات لاحقة، فهي تساعد في تحديد الآراء واللغة التي ستساهم أكثر من غيرها في نجاح المشروع.

وعملت هذه النتائج والتحليلات على تأكيد المطالب البيئية والإدارية واللوجستية والصيانية والاجتماعية التي ستبرز في حال فُتح الحرج أمام العموم، كما كشفت الخطوات التي يمكن أن تقوم بها منظمات غير حكومية مثل "نحن" للمساهمة في فتح المنتزه. وتبدو الحاجة إلى فتح المنتزه لصالح سكان بيروت جلية، فهو سيؤمّن لهم مفراً من الحياة اليومية الملوثة والمزدحمة في المدينة، وسيعمل أيضاً على جسْر الفوارق الطائفية والسياسية بين الأفراد. وفي مجال أبعد، ترى "نحن" أن هدفها لا يقتصر على إعادة فتح المنتزه لتحسين نوعية الحياة في بيروت، فهي تسعى أيضاً إلى تغيير في الشعب اللبناني على المستوى النفسي. ويبرز مبرر هذه الفكرة من الأمل بأن الناس من خلال اختبار الفضاء العام في المنتزه، سيعدّلون فهمهم للفضاء العام، وسيستخدمونه في شكل أكثر انتظاماً، وسيتعلمون الدفاع عنه في المستقبل.

التنزه مثل العصابات

وبعد البحوث العلمية، تتمثّل الخطوة التالية لـ "نحن" في العمل على زيادة الوعي بقضية الحرج. ووفق فكرة استثنائية، نسقت "نحن" بين 17 منظمة غير حكومية أخرى منخرطة اجتماعياً وبيئياً، وعبأت مع هذه المنظمات الناس لمناسبة باسم "حرج بيروت في كل بيروت". وتحوّل المشروع إلى واقع حين أُقيم "مهرجان تنزه" في 12 موقعاً مختلفاً في بيروت كلها في الوقت ذاته. ودُعي الناس إلى الالتقاء في نقطة التجمع الأقرب إليهم وإمضاء وقت وهم يتنزهون، والتظاهر من خلال ذلك للمطالبة بتحسين الفضاء العام وفتح غابة الصنوبر.

وفي خطوة ثالثة، وبعد نجاح مهرجان التنزه، انتقلت "نحن" إلى مستوى المناصرة ونجحت في دفع الأمور قدماً مع البلدية. فقد اتُّفق على موعد نهائي لفتح المنتزه بين الطرفين، وللمرة الأولى خلال سنوات، يبدو أن حق الناس بفتح حرج بيروت أصبح قريب المنال.

وبموازاة العمل المباشر لـ "نحن" في المطالبة بفتح المنتزه، مضت المنظمة أبعد، فهي تستهدف اليوم تجنيد شباب وتقديم التربية للراغبين في المساهمة في عمل "نحن". ولهذا الهدف أُسّس مشروع "المبتكرين الشباب" في 2012. وبمساعدة ورش عمل مختلفة حول التواصل الفاعل، والخطابة العامة، والمناصرة، وغيرها، ينال شباب إمكانية الحصول على الدعم الضروري لأفكارهم الخلاقة حول مستقبل الفضاء العام في لبنان.

رؤية "نحن" لمستقبل لبنان

على الرغم من الوقت والطاقة اللذين تتطلبهما قضية الحرج، لا يتوقف مشروع "نحن"عن الفضاء العام هنا. فالمشاكل في مدن لبنانية أخرى مثل صور وبعلبك غير مهملة. فالمنظمة توسّع في استمرار وصولها وبدأت الآن تضع خطط عمل لمدن معينة. فالفضاء العام في هذه المدن يعاني عموماً في شكل أقل من السرعة المتزايدة لمشاريع التنمية، مقارنة بالفضاء العام في بيروت. لكن هذه المدن تفتقر أيضاً إلى حدائق عامة، وأراضٍ مخصصة للرياضة، وصيانة مستمرة وآمنة للطرق، ناهيك عن الساحات العامة.

وثمة عناية خاصة أيضاً بقضية الشواطئ العامة في بيروت. فالرملة البيضاء، الواقعة على الخط الساحلي الغربي للعاصمة، تشكّل مثالاً بارزاً للإهمال والتحديات البيئية التي قد يواجهها الفضاء العام في لبنان. يبدو هذا الشاطئ موقعاً بديعاً للوهلة الأولى، لكن نظرة عن قرب إليه تكشف للزائر بقايا لا تُحصى من الأساليب المخربة للبيئة على صعيد التخلص من النفايات، سواء أكانت نفايات منزلية أو زيوتاً من محطات للوقود تتسرب إلى الشاطئ. وبدأت "نحن" في هذه الحالة تحديداً التعاون مجدداً مع منظمات غير حكومية أخرى في مسعى إلى القضاء على الأخطار الصحية المحتملة التي يواجهها زوار الشاطئ بسبب التخلص غير القانوني من النفايات.

وستتابع "نحن" مهمتها الحيوية والاستثنائية، والسبب، وفق محمد أيوب، "أن ما من مدينة لا تملك فضاءً عاماً. هذه حقيقة معروفة. لكن أحد التقارير عن بيروت أعلن أن الحياة مستحيلة هنا لأننا لا نملك فضاءً عاماً. إن الفضاء العام أساسي للحياة المدينية، فهو يمكّن الناس من كل الشرائح والخلفيات الاجتماعية من الالتقاء والتنفس والتعبير والتمتع والتريض بعيداً من القيود الاقتصادية". وعلى الرغم من كل المشاريع المذكورة، لا تتعب "نحن" من البحث عن قضايا مقلقة إضافية في لبنان. وتشمل الأهداف في المستقبل القريب تنفيذ حملات إضافية مطلوبة جداً لزيادة الوعي عبر البلاد بحقوق الشعب اللبناني بفضاء عام، وتطوير مشاريع إضافية للتبادل الثقافي، ومتابعة العمل الهادف إلى تمكين الشباب والترويج لتواصل عابر للحدود باعتباره أساسياً للسلام والتماسك الاجتماعي.