البيئة، الضرر الجانبي الأول لمستوى فساد غير مسبوق

يحتل لبنان مرتبة منخفضة في قائمة الفساد العالمية، بينما تشهد بيئته تدهورًا سريعًا. هل هناك صلة بين الوضعين؟ نعم، هكذا يقول الخبراء.

منذ امتهاني العمل الصحافي، في أواخر التسعينيات، والكتابة حول قضايا مثل كسارات الغير المنظمة أو سوء إدارة النفايات أو مياه الصرف الصحي غير المُعالجة أو تلوث الهواء والتي أمست بالفعل قضايا ساخنة. وبعد أكثر من خمسة عشر عامًا والعديد من المقالات، ما زالت تلك المشكلات كما هي بلا حلول، إن لم تكن قد تفاقمت. ولكي نفهم أسباب هذا الواقع البائس، لا يمكن لنا إلا البحث في المسائل الهيكلية المتعلقة بإدارة هذه الملفات في لبنان. لا تنفصل المشكلات البيئية عن التعقيدات بالغة الخطورة المؤثرة حاليًا على الساحة اللبنانية: عدم الاستقرار السياسي، وانعدام الأمن، إلخ. وعلمًا بأن مبالغ ضخمة أُنفقت، وجهود مضنية بُذلت في محاولة لحل القضايا البيئية، يمكن لنموذج واحد فقط إلقاء الضوء على المسألة: الفساد المتفشي الملحوظ الذي يُثقل كاهل مؤسسات الدولة. هذا الفساد، الحاضر على كافة المستويات، قد أُضفي عليه الطابع المؤسسي، كما لو أنه كيان مستقل له أسلوب خاص في الحياة، يتحكم في النظام بأكمله.

وفقًا لمؤشر مدركات الفساد الأخير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية في كانون الأول/ديسمبر 2014، يحتل لبنان المرتبة رقم 136 من 175 دولة. وفي 2013، احتل المرتبة 128: يبدو أن الوضع يسوء من عام لآخر. تأثيرات الفساد ملموسة في كافة مظاهر الحياة اليومية، وفقًا لموقع الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية، ولا يُعد أقلها ضعف العلاقة بين المواطنين والمؤسسات الرسمية. علاوة على ذلك، في دراسة تابعة لمنظمة الشفافية الدولية غير الحكومية، أجرتها جامعتان مرموقتان، ييل وكولومبيا، تظهر صلة جلية بين مستوى الفساد في بلد ما وجودة بيئته. كما تُظهر هذه الدراسة أن البلد الذي يعاني نظامه من الفساد، تصل فرصة تدهور بيئته إلى 75%. ودليلاً على ذلك، ثلاث دول تتمتع بأفضل أداء بيئي، فنلندا والنرويج وكندا، هي كذلك بين الأقل فسادًا على كوكبنا. وإذا كانت هناك حاجة إلى دليل آخر، يمكننا بسهولة أن نلاحظ أن لبنان، أحد أكثر البلدان فسادًا في الوقت الحاضر بكل المقاييس، تمثل أيضًا مشهدًا مؤسفًا لبيئة متدهورة.

الأشكال المتنوعة من الفساد (كما تم تعريفها بواسطة الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية) تظهر في لبنان، وكما سنرى لاحقًا، تؤدي كلها إلى إساءة استعمال موارد البيئة، بمعنى آخر إساءة استخدام الأموال العامة، انتزاع موظفي القطاع العام مبالغ من المال بشكل غير عادل وبحُجج متنوعة كاذبة، عدم الالتزام باللوائح الخاصة بالرشاوى المقدمة إلى سلطات إشرافية، قرارات قضائية متحيزة، تقديم الشركات للرشاوى لأجل الحصول على العقود العامة، إلخ. يتشارك معنا ثلاثة خبراء في حملات مكافحة الفساد وفي البيئة بخبراتهم في هذا الشأن.

"صار مُعممًا حتى لم يعد أحد يتحدث عنه."

"وصل الفساد في لبنان إلى مستوى مُقلق. كأنه لم يعد هناك المزيد من العقوبات التي يمكن تطبيقها على الأفراد والمجموعات الفاسدة، لا في النظام القضائي ولا في المؤسسات السياسية." ربيع الشاعر، رئيس المبادرة غير الحكومية لمكافحة الفساد "سكّر الدكانة" يقول ذلك مُعربًا عن قلقه. "أجد أن الطبقة السياسية بأكملها، برغم الفروق بين مكوناتها، قد اتفقت على الإستمرار في تكريس الوضع القائم بتمديد ولاية البرلمان الخاصة بها، والامتناع عن انتخاب رئيس جمهورية"، هكذا يقول الشاعر، ثم يضيف: "ولأجل إجازة هذا التكريس، تضغط طبقة السياسيين على المحكمة الدستورية للتصديق على أفعالها، كما تواصل تأجيل تبني قانون انتخابات جديد يسمح للمواطنين اللبنانيين باختيار ممثليهم بحرية."  

وفقًا لحديث ربيع الشاعر، تعود جذور كل المشكلات إلى حقيقة أن هذه الطبقة السياسية لا تخشى شيئًا كما هو الوضع  حاليًا: فمن جهة، لا يُرجح أن يشعل المجتمع اللبناني المقسم ثورة كما كان الحال في البلدان الأخرى في المنطقة، ومن جهة أخرى عمل السياسيون حتى لا تتمكن أي سلطة تنظيمية على تقديم الفاسدين إلى العدالة في أي وقت، ويشير: "عادة ما تتلقى الأحزاب اللبنانية السياسية تمويلها من الخارج، ولذا فهي فقط مُساءلة من قبل تلك السلطات الأجنبية. يُمكّنهم ذلك من رشوة كافة أنواع المؤسسات، بما فيها بعض أجهزة الإعلام، وتقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية للسكان. قد تكون الأحزاب منقسمة في عدة قضايا، لكنها تجد بسهولة أرضية مشتركة عندما يتعلق الأمر بتوزيع الكعكة في مجلس الوزراء. وفي حالة اتهام أحدها بالفساد، تعمل على تسييس الأمر، مستفيدة من الانقسامات بين المواطنين التي أحدثتها تلك الأحزاب في الأصل."

ونتيجة لهذه التوليفة السياسية، أي ملف مثير للجدل يجد طريقه إلى المحكمة يوضع على الأرفف إلى أجل غير مسمى، ويُنسى في الحال، بما في ذلك ملفات البيئة. "يتحكم السياسيون في النظام القضائي"، يقول موضحًا. "يُرشّح القضاة عادة بواسطة القادة والأحزاب السياسية. يخافون كثيرًا من التحويلات المزعجة التي قد تتم في حالة اتخاذهم قرارًا لا يعجب "المحسنين" إليهم. المؤسسات التنظيمية الإدارية الأخرى، مثل ديوان المحاسبة، تتحكم بها كذلك الكيانات السياسية، مما يؤثر على عملها بوضوح."

ووفقًا لحديثه، تميل الأرقام إلى البرهنة على ما يقول: في 2007، احتل لبنان المرتبة 99 في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. في ذلك العام، أصدرت إدارة التفتيش المركزي ما لا يقل عن مائتي قرار يدين موظفين من القطاع العام (ولو أنهم لم يكونوا من كبار المسؤولين). في 2014، أصدرت الإدارة نفسها 87 قرارًا مماثلاً فقط، مع أنه كان من الواضح أن الوضع ازداد فسادًا."

يعتبر الناشط بوضوح أن هذه التوليفة تدمر البيئة. يقول: "عندما ترى بيروت من طائرة خلال هبوطها إلى أرض المطار، لا بد أن تصدمك غابة  الخرسانة التي تحولت إليها."  ويضيف: "غياب التخطيط العمراني وفوضى البناء أحد أهم أسباب التلوث وإزالة الأشجار في لبنان. وما الذي أدى إلى ذلك؟ مرة أخرى، الإجابة نجدها في ممارسات الفساد. عندما يحاول شخص الحصول على تصريح بناء من "الإدارة العامة للتخطيط العمراني (الرابعة في قائمة المؤسسات الفاسدة التي وضعتها "سكّر الدكانة"، بناءً على استبيان أُجري بين السكان)، عادة ما يحدث الآتي: وفقًا لمعلوماتنا، يقوم الموظف العام الذي يستلم الملف بإرساله إلى ثلاثة على الأقل من المقاولين المتعاملين مع هذه الإدارة، في إجراء غير قانوني على الإطلاق. إذا كان أحدهم مهتمًا، يتواصل مع الشخص الذي قدم الملف إلى الإدارة. في حالة رفض الأخير التعامل مع المقاول، يكون عليه أن ينتظر مدة طويلة لإصدار التصريح له. في حالة موافقته، تسير الأمور بشكل أسهل، ويبدأ المال في التدفق في أحد صناديق أموال القادة الإقطاعية."

وكما يرى، فإن فوضى التخطيط العمراني والبناء مربحة إلى حد أنها مصدر لتمويل الأحزاب السياسية مما يدفع كرشوة. ويقول ربيع الشاعر: "يجب أن يضاف إلى ذلك التهاون في تنفيذ القوانين، وأحيانًا، عدم وجودها، وكذلك عدم مساءلة موظفي القطاع العام". ثم يضيف: "صار الفساد نظاميًا ومُعممًا حتى لم يعد أحد يتحدث عنه. كما أن المواطنين يمتنعون عن الاحتجاج لأنه غالبًا ما يخدم مصالح الفاسدين."

"محرك تشغيل كافة القرارات"

"الفساد هو محرك تشغيل كافة القرارات التي يتخذها القادة السياسيون"، هكذا يقول الخبير البيئي ناجي قديح، والناشط حاليًا، لكنه كان أيضًا موظفًا في وزارة البيئة لعشر سنوات. عندما سألته عن كيفية تأثير الفساد على البيئة، لم يكن لديه مشكلة في شرح التفاصيل. يقول: "عادة، يكون لكل دولة مؤسسة متخصصة في التخطيط والتوسع في رؤية مشتركة يجب على كافة المشروعات أن تتكيف معها." ويضيف: "خلال العشر سنوات التي قضيتها في الوزارة، مر علي ثمانية وزراء، لم يأخذ أي منهم عمل الوزير السابق له في الاعتبار. وصار واضحًا لي أن كافة المشروعات كانت تُعتبر طريقة لتحقيق المصالح الشخصية للمجموعة المحيطة بالوزير، وسط حرص شديد لإنفاق المال الموضوع تحت تصرفها."

أحد الطرق المميزة "لإنفاق" المال هي إجراء دراسات لا يُنفذ أغلبها على الإطلاق. يقول: "أذكر فترة قرر فيها أحد الوزراء الاستعانة بخبراء أجانب لإجراء دراسة حول المخلفات الصناعية. عقد هؤلاء الخبراء معي اجتماعات لأيام متوالية، مع تدوين ملاحظات حول المعلومات التي أمددتهم بها وتحليل الموقف. أصدروا تقريرًا قبل العودة إلى بلادهم. لم أسمع منهم بعد ذلك، ولم أسمع عن هذه الدراسة ثانيةً. كانت المخلفات الصناعية موضوعًا أيضًا لدراسة أجريت بواسطة شركة استشارية لبنانية معروفة في 1999-2000، بتحفيز من الوزارة. هذه الدراسة أيضًا لم يتم تنفيذها، مع أن تكلفتها جاوزت المليون دولار. كانت لدينا خطط لإدارة معظم المخلفات الصناعية كالزيوت والإطارات، إلخ. وكانت لدينا رؤية واضحة حول تصنيف المناطق الصناعية في لبنان. ماذا حدث لكل تلك الدراسات التي أجريت خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة؟"

ويذكر مثالًا آخر متعلقًا بمعالجة مياه الصرف الصحي في لبنان. يتذكر ناجي قديح قائلًا: "كنت عضوًا في اللجنة المسؤولة عن التعاون مع مجلس الإنماء والاعمار في هذا الشأن." ويقول: "كان دوري هو إعداد تقرير حول التوافق مع معاهدة برشلونة (لحماية البحر الأبيض المتوسط) التي وقع عليها لبنان. في تلك الفترة، 2000-2001، تضمنت المشروعات تسع محطات لمعالجة مياه الصرف تنتشر بطول الساحل، بتكلفة 400 مليون دولار. من الصعب أن نعرف، بعد مرور خمسة عشر عامًا، ما الذي تم بالفعل وفيما أنفق هذا المبلغ. كل ما لدينا هو مشروعات غير مُنجزة، محطات مياه الصرف أُنشأت إلا أنها لا تزال مُغلقة، إذ لم يتم توصيلها قط بالصرف الصحي. لِم تحدث أمور غامضة كهذه في لبنان؟ هل تنقصنا الكفاءة؟ لا أظن ذلك. يجب محاسبة المسؤولين عن فوضى كهذه."

يرفض ناجي قديح الحديث  فقط عن إهدار المال، فيقول: "إهدار المال يعني إنفاق 1500 دولار على مشروع كلفته فقط ألف دولار." ثم يضيف: "لكن في حالات كهذه، يُنفق المال على مشروعات تفتقد لأي منفعة وأخرى لن يتم إنجازها قط."

يندهش الخبير من أن الجهات الدولية المانحة التي غالبًا ما تمول هذا النوع من المشروعات، ليس لديها أي رد فعل على هذا الفساد الجلي. يقول: "يأتي التمويل إما في شكل قرض أو هبة." ويضيف: "في الحالة الأولى، أعتقد أن مُقدم القرض يهتم في المقام الأول باستعادة أمواله، مع الفوائد. في الحالة الثانية، يفرض المانح عادة خبراء من بلده، بحيث يستفيد مواطنيه من المشروع. وفيما يتعلق بالنظير اللبناني، فالمال يأتي من العمولات. يمكن توضيح ذلك جيدًا بمثال واحد: منذ سنوات قليلة، وضعت "كهرباء فرنسا" البروتوكول الذي يُحدد احتياجات لبنان في قطاع الكهرباء حتى عام 2025.  لغاية الأن يمكننا أن نلحظ عدم تأثيره على حياتنا اليومية. ألا يعتبر ذلك فسادًا من جانب المؤسسات؟"

"مجتمع مدني ضعيف"

التهاون في تطبيق القوانين، بما فيها تلك المتعلقة بالبيئة، وتضارب المصالح بين المؤسسات المهتمة بالملفات نفسها، ونقص الوعي من جانب البلديات والرأي العام، هي أهم الأسباب التي تجعل ممارسات الفساد تؤدي إلى تدهور البيئة، وفقًا لحديث فيفي كلّاب، الخبيرة في علم الاقتصاد الإجتماعي البيئي ورئيسة منظمة "بيبلوس إيكولوجيا" غير الحكومية. تقول: "لنأخذ قضية النفايات المنوطة بالبلديات مثالاً: ثلاثة وزراء –البيئة، والداخلية والبلديات والتنمية الإدارية – وكذلك مجلس الإنماء والإعمار، كل منها مسؤول عن تلك القضية." ثم تضيف: "نضيع وسط هذه الفوضى، والخلافات بين الوزراء تقف عائقًا في طريق أي حل حقيقي. أنا مقتنعة بأن هذا الوضع مقصود، ويسمح للمسؤولين بالتهرب من المحاسبة بينما يلقي كل منهم اللوم في الفشل على الآخر."

وتشعر الناشطة البيئية القديمة بالأسف على رصد ظاهرة، وفقًا لحديثها، تساهم في تعزيز سيادة ممارسات الفساد في الحياة اليومية في لبنان: ضعف الحماس داخل المجتمع المدني. تقول: "الحياة في هذا البلد تزداد صعوبة يومًا بعد الآخر. صار من الصعب إقناع الشباب بالتطوع لأجل قضية ما. كل منهم يعاني ليوفر تكاليف معيشته في مرحلة يبدأ أغلبهم فيها تكوين أسرة. الحماس للتطوع في المنظمات الأهلية يختفي. ويزداد الاهتمام  بالمنظمات الأهلية البيئية للحصول على فرصة إدارة المشروعات التي تمولها الجهات المانحة. كل ما يمكنني قوله هو أن الناس الآن مؤهلون أكثر مما كانوا في الماضي، عندما بدأنا نشاطنا في التسعينيات، لكنهم أقل حماسًا للنضال من أجل قضية ما."

وتضيف: "هذه الديناميكية المعتمدة تُضعف  المجتمع المدني أيضًا لأن مبالغ أكبر تُضخ لأجل المشروعات، وتحتد المنافسة بين المنظمات الأهلية. وهذا ايضًا هو سبب تلهف الأحزاب السياسية والقادة السياسيين على إنشاء مؤسسات بيئية وفقًا لأجندات تختلف تمامًا عما لدينا." تتفق مع ناجي قديح حول حقيقة أن المشروعات هي طريقة مميزة للحصول على المال، فتقول: "كل تلك المشروعات، حتى لو كانت تمولها جهات مانحة أو قطاع خاص، يجب أن تخضع إلى سلطة، كوزارة البيئة، لكن هذا بعيد عن الوضع الحالي." وتضيف: "في جبيل، منذ عدة سنوات، تم إنشاء مصنع لمعالجة نفايات منطقة جبيل بأكملها. كان مصنع للتسبيخ لاستبدال مكب النفايات الذي يعاني من سوء إدارة، والذي كنا جميعًا نشكو منه. هذا المشروع الذي بدأه اتحاد بلديات المنطقة، الا أنه فشل فشلاً ذريعًا. لم يتم تشغيل مصنع التسبيخ أبدًا، ولا يزال مغلقًا حتي يومنا. ومع ذلك لم يُحاسَب أحد حتى الآن."

إدارة النفايات البلدية، "فضيحة"

تُعد قضية النفايات البلدية التي طرحتها فيفي كلّاب من أسوأ نماذج الفساد في لبنان. مؤخرًا فقط، تبنت الحكومة خطة وطنية جديدة قائمة على تقسيم البلد إلى ست مناطق، تُدار كل منها، في المستقبل، بواسطة شركات خاصة  تفوز بالمناقصة العامة. وفقًا للمراقبين، هذه الخطة الجديدة ما هي إلا امتداد لنظام الاحتكار الذي غلب على السنوات العشرين الأخيرة، باستثناء أن عدد الشركات المشاركة فيها (ثلاث أو أربع بدلًا من واحدة). يتحمّل الشعب اللبناني دفع تكاليف باهظة لمعالجة لكل طن من النفايات، كما تُعد من أعلى التكاليف في المنطقة، ناهيك على أن المعالجة هي في حدودها الدنيا من التسبيخ وإعادة التدوير، والقاء نفايات بيروت ومنطقة جبل لبنان كلها تقريبًا في أكبر مكب نفايات في البلاد والواقع في الناعمة (جنوب بيروت). كما تبقى حاليًا غير مسموعة أصوات احتجاجات سكان القرى القريبة من مكب النفايات، الذين يقولون أنهم يشهدون موتًا بطيئًا.

يقول ربيع الشاعر مبتسمًا: "لتكوين ثروة في لبنان، عليك أن تعمل في قطاع النفايات"، ويضيف: "احتكار شركة واحدة للقطاع بأكمله لسنوات يُعد فضيحة كبيرة. يدفع الشعب اللبناني الكثير لأجل معالجة نفاياته. وكل المحاولات لمراجعة عقد هذه الشركة في مجلس الوزراء باءت بالفشل. ما شجع على تبني الخطة الجديدة، وفقًا لملاحظاتنا، هو ازدياد عدد القادة السياسيين الراغبين في أن تدير شركاتهم الخاصة المناطق التي يسكنون فيها بالطريقة التي يريدونها. وبينما كان عدد قليل من القادة مشاركًا في هذه الشركة الواحدة، اليوم يريد كل شخص  جزءًا من الكعكة."

الفضيحة الكبرى، كما يقول الخبراء، هي أن الميزانية الضخمة المقدمة للقطاع الخاص لأجل معالجة النفايات تأتي من الصندوق البلدي المستقل، بينما تُحرم البلديات من أي دور في معالجة النفايات أو جمعها. وفقًا لأرقام رسمية قدمتها الحكومة، تُنفق نسبة 80% من أموال هذا الصندوق لمعالجة النفايات وتدفع للشركة الخاصة المسؤولة عن الجمع والمعالجة. وبالتالي، يتبقى القليل جدًا لمشروعات التنمية الحقيقية.

يقول ناجي قديح: "روح الفساد، أمسى واقعًا وعقيدة في لبنان، نشىء خلال فترة إعادة الإعمار التالية للحرب، في التسعينيات." ويضيف: "أسس القادة السياسيون الكبار في هذه الفترة إدارة موازية تتصل مباشرة بهم، دون احتمال الخضوع للمحاسبة أمام المؤسسات المعتادة. في هذه الأثناء، سقطت المؤسسات الرسمية في حالة من الفوضى مستمرة  حتى يومنا هذا. بدأت مشكلة المعالجة في تلك الفترة. وظني أن القوى السياسية كانت تعلم بوجود الكثير من الأموال في صندوق البلدي المستقل، ووجدوا طريقة للتسلل إليه."

بالنسبة لناجي قديح: "الرؤية هي نفسها اليوم". ويقول: "لا يفكر أحد في مشكلة النفايات من منظور علمي، أو يحاول التعامل معها بأسلوب عقلاني، آخذًا في الاعتبار احتياجات لبنان". ويضيف: "الجدل الذي دار في مجلس الوزراء خلال عدة جلسات في كانون الثاني/يناير الماضي، وأدى إلى تبني الخطة القومية الأحدث، لم يكن له علاقة بمعالجة النفايات. كان كل ما يهم الوزراء هو حصص أحزابهم السياسية. كانوا يطرحون هذا السؤال البسيط: لِم يجب أن تحصل شركة خاصة واحدة على كل المزايا والمكاسب؟ لندفع بشركات أكثر ونُقسم هذه المكاسب. وفي هذه الأثناء، لا يجيب أحد على السؤال الأساسي الخاص بمكان وكيفية معالجة النفايات، في غياب أي استراتيجية."

كذلك تنتقد فيفي كلّاب نقص الرؤية لدى القادة السياسيين المتشابهين بدرجة غريبة، وفقًا لكلامها، في سعيهم وراء مصالحهم الشخصية. وتقول: "في البداية، كان مطلوبًا من الشركة الخاصة المسؤولة عن معالجة النفايات (في 1997) جمع 800 طن يوميًا، وتحويل 300 إلى سماد والتخلص من البقية في مكب النفايات". وتضيف: "لم تحترم الشركة العقد الأساسي ومع ذلك لم يحاسبها أحد. لماذا؟ لأن أحد القادة السياسيين في ذلك الوقت أصر على إضافة قرى جديدة إلى العقد. ونتيجة لذلك، كان على الشركة جمع 1200 طن يوميًا بدلاً من 800، ولم تزيد من سعتها لتحويل النفايات العضوية إلى سماد. مما جعلها  كارثة حتمية الحدوث."

"في الخطة القومية الجديدة، أُضيفت جملة واحدة رغم عدم موافقة كل الوزراء عليها: فهي تخص إستقدام محارق للبلاد خلال فترة سبع سنوات." وتضيف: "وجهت سؤالًا واحدًا للمسؤولين الذين التقيتهم منذ ذلك الحين: كيف ستتصرفون في الرماد السام الذي سينتج عن عملية الحرق، علمًا بأن  بلدان أوروبيان فقط يمتلكان تقنيات معالجة هذا الرماد ؟ لم يجب أحد على هذا السؤال. يبدو أن صفقة المحارق لها معزّة خاصة لدى أحد الوزراء. في الوقت نفسه، ليست لدينا إمكانية الطعن في قرارات كهذه تتخذها الحكومة."

يعتقد ناجي قديح أن الشركات المستقبلية التي ستتولى مسؤولية المناطق المختلفة، ستكون بالضرورة بمثابة وكلاء تستخدمهم القوى السياسية لفرض سيطرة أكبر على سكان هذه المناطق. ويقول: "يوضح هذا المثال أن الفساد ضارب بجذوره داخل الإدارة وداخل الطبقة السياسية، وينفذه نظام مافيا يعتمد عليه في معيشته". "البيئة كانت ولا تزال أحد الأضرار الجانبية الأولى الناتجة عن الفساد، فعقلية القادة والشعب كذلك تؤمن بأن البيئة هي ثروات وفيرة لا يملكها أحد، ويمكن أن ينهبها أي أحد. وخصخصة الملك البحري العام هو خير مثال على ذلك. لكن هذا خطأ. البيئة هي ثروة لبنان الرئيسية. وما ندمره اليوم، نحرم أجيال المستقبل منه."

مجتمع مدني، رأي عام، إعلام

ليست لدى المنظمات الأهلية إمكانية الطعن في قرارات الحكومة كما تقول كلّاب. لكن، ما الذي يدل عليه ذلك فيما يتعلق بتمكن هذه المنظمات من الضغط على الحكومة؟ تقول: "اجتمعت المنظمات الأهلية مؤخرًا للاحتجاج على الخطة القومية الأخيرة، وأشعر من حينها أن بعض البلديات تمكنت من الإعراب عن قلقها، كما تَشكّل وعي أكبر لدى الرأي العام."

ماذا إذن عن البلديات؟ تعرف السلطات المحلية مناطقها جيدًا، ويمكنها التفاعل مع المخاوف البيئية. مع ذلك، لا تؤمن فيفي كلّاب بقدرة البلديات على لعب دور مؤثر في الصورة الحالية. وتقول: "غالبًا ما تُنتخب المجالس البلدية وفقًا لنفوذ العائلات المحلية بدلًا من كفاءة الأعضاء."

لا يوافق ناجي قديح على هذا الرأي. يقول: "مؤخرًا، قال وزير البيئة أن البلديات مُنحت الفرصة لإثبات قدرتها على معالجة نفاياتها، وفشلت." ثم يضيف: "أذكره أنه لا يمكن الحكم على البلديات طالما أنه لم يٌحرر المال من ميزانية الصندوق البلدي المستقل، والذي يعد من حق للبلديات."

يستنفد الفساد الموارد الطبيعية، ويكلف المواطنين اللبنانيين أكثر مما يجب. أليس على الرأي العام الانتباه لهذه القضية والمطالبة بحقه؟ يقول ربيع الشاعر: "يبدو أن الرأي العام غائب تمامًا." ويضيف: "إنه تحت ضغط دائم: إذا ثار، تظهر التهديدات الأمنية على السطح فجأة. وبالنسبة للطبقة السياسية، فهي تعرف جيدًا كيف تتلاعب بالرأي العام. مع ذلك، تُظهر إحصائياتنا أن 13% فقط من الشعب اللبناني يرى في السياسيين صورة إيجابية."

كذلك، ليس لدى فيفي كلّاب الكثير من الأوهام: "الرأي العام لم يتشكل كما يجب، ولا يهتم بمثل تلك القضايا. وغالبًا ما يتم التلاعب به على أسس طائفية، مما يفسر سبب انقسامه برغم أن المشكلات البيئية تؤثر على الجميع بنفس الدرجة. كل ما يتطلبه الأمر هو تسييس القضايا الساخنة، هذا كفيل بدفع الناس إلى النأي عن المتاعب."

الإعلام هو الطرف المؤثر الأخير في لعب المجتمع المدني دور هام في مكافحة الفساد وتعزيز الممارسات البيئية. أليس كذلك؟ يقول ناجي قديح: "قطاع الإعلام ليس متماثلًا. بعض أجهزة الإعلام يملكها سياسيون لديهم أجندات تخصهم. وأخرى يتم التلاعب بها بحيث تكون منابر تنشر أفكار بعينها. وبعض أجهزة الإعلام لا يهتم سوى بالأخبار المثيرة، ولا يطرح سوى القضايا الساخنة. الصحفيون الذين يؤدون مهامهم كاملة ويمارسون الصحافة الاستقصائية، ليس لهم دور كبير، للأسف، والكلام نفسه ينطبق على كل المخلصين، بمن فيهم النشطاء، إذ لا يُنصت أحد لأصواتهم اليوم. مع ذلك، أعتقد أن عليهم التعاون معًا."

يرى ربيع الشاعر أن الإعلام ليس نشيطًا بما يكفي في إعداد التقارير الاستقصائية حول الفساد، وفي أغلب الأحوال يحدث ذلك بسبب نقص التمويل و/أو الحرية. ويقول: "صحيح أن الوصول إلى المعلومات يظل محدودًا في لبنان، وأن الصحفيين لا يتمتعون بالحماية الكافية في غياب نظام قضائي مؤثر، لكن يكفي أحيانًا الكشف عن المعلومات، حتى في حالة وجود مجرد قرينة فساد."

مسؤولية مشتركة

في ضوء تدهور البيئة، يبدو الوضع قاتمًا. إذا كانت ممارسات الفساد مسؤولة بشكل كبير عن سوء استغلال الموارد الطبيعية، وإذا كان الفساد ضاربًا بجذوره في المؤسسات وفي العقول إلى الحد الذي جعل منه مؤسسة في حد ذاته، كيف يكون الهروب من هذه الدائرة الخبيثة ممكنًا؟

عند سؤاله عن الحلول، يقول ناجي قديح أن رأيه في هذه القضية راديكالي: "لأجل التفكير في إنقاذ البيئة، علينا تغيير النظام بأكمله. في الوقت نفسه، وخلال حياتنا اليومية، لا يمكننا مواجهة النظام الحالي إلا بالكشف عن أي معلومات نحصل عليها."

ويصر ربيع الشاعر قائلًا: "علينا أن نرفض التنازل. ومفتاح الحفاظ على هذا الاتجاه في يد النظام القضائي: إذا بدأ القضاة باتخاذ قرارات جريئة وتطبيق القانون، كما حدث بالفعل في إيطاليا، يمكننا أن نأمل في كسر هذه الدائرة الخبيثة."

وتؤمن فيفي كلّاب بأن المفتاح في يد المجتمع المدني. وتقول: "علينا تشجيع العمل التطوعي والنشاط. وبالتوازي، يجب أن تُدار حملات التوعية على أساس طويل الأجل."

إذن، يشتمل حل القضايا البيئية على صراع يُهزم فيه الفساد؟ يصعب اعتبار ذلك خبر سار.  من هذه الزاوية، يُعد صراع الحفاظ على الموارد الطبيعية شديد الصعوبة. ويجب أن تُبذل جهود مضنية لاستعادة المساءلة، والاعتراف بأن هذه المهمة هي مسؤولية مشتركة. إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة، سيظل المتسببون في التلوث يتجولون بحرية إلى أجل غير مسمى، ويحمي كل منهم الآخر من الأذى. تخبرنا فيفي كلّاب بحكاية تعكس الوضع الحالي في لبنان بوضوح: "ذات مرة، قلت لأحد السياسيين أن ملفات الفساد التي يتورط فيها أخوه تتراكم. كانت إجابته لي: عندما يحبسون الآخرين، فليحبسوه. إجابة بليغة، أليس كذلك؟"