عن حدود خفية - نقاش مع الكاتبة والمخرجة والمؤدّية سوسن أبو خالد

في عصر يوم مشمس يتخلّله نسيم عليل في أيار/مايو، تجلس سوسن أبو خالد بهدوء في زاوية أحد المقاهي في بيروت وهي تحدّق في صورة التقطتها في كينكاكو-جي، معبد الجناح الذهبي، في كيوتو. يتميز المعبد بتصميمه المرهف، فهو مغطّى بالذهب ومزيّن بأوراق مطلية بالذهب؛ والهدف من تصميمه ليس فقط التخفيف من وطأة الأفكار والمشاعر السلبية عن الموت وتبديدها، بل أيضاً توليد خلفية من الشطَط البصري. عادت سوسن للتو من اليابان، حيث شاركت في مهرجان المسرح العالمي في شيزووكا من خلال عرضها المسرحي الأخير بعنوان "أليس"، ويبدو عالمها الفني مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بروح كينكاكو-جي. تماماً كما أن فرط البريق في المعبد يُستخدَم للتشجيع على قبول الموت، تتبنّى سوسن فلسفة مشابهة في إخراجها وأدائها حيث يتم تسخير العرض البصري لتقديم الموت على المسرح. تفصل بين الاثنَين عوالم وأشكال لكن خيطاً مشتركاً يمتدّ بينهما فيشكّل الأساس لسرديات جديدة.

 

بيد أن القصة هنا مختلفة، بحيث تُركِّز على آراء الكاتبة والمخرجة والمؤدّية الشابة بشأن حالةٍ من المحدوديات تتعلق بالحدود في الفنون. من المهم الإشارة إلى أن سوسن قدّمت عروضاً في عدد من البلدان منها الجزائر وبلجيكا ومصر وفرنسا واليابان والأردن ولكسمبورغ والسويد وسوريا وتونس، ووطنها الأم لبنان. بعدما عبرت سوسن بو خالد الحدود لتقديم أعمالها والتعاون مع فنّاني (أداء) آخرين، تبقى الحدود الأساسية التي تواجهها اليوم قريبة من قلبها – بالمعنى الحرفي للعبارة.

 

حدود شخصية

زيتون: ما هي الحدود التي تشعرين بأنها الأكثر حضوراً في أعمالك، وكيف تولّد قيوداً أو تتيح لك الوصول إلى حيّزات جديدة؟

 

بو خالد: عندما أفكّر في التأثير الذي يمكن أن تمارسه حدود ما عليّ من الناحية الفنية، الحدود الأولى التي تخطر في بالي هي حدود جسدي. أعتقد أن معظم فنّاني الأداء تربطهم علاقة قوية بجسدهم – علاقة يحاولون قطعها أو تعزيزها. شخصياً، أعتبر أن الحدود الأولى التي ينبغي علي عبورها هي حدودي الخاصة، وتُركّز أعمالي على ذلك الانشطار إذا صح التعبير. ماذا يكمن وراء جسدي؟ تماماً كما أن المرء قد يواجه حدوداً حسّية، فإن استكشاف ما يكمن داخل كينونتي، وتحويله وتشويهه وإعادة صياغته بعد اختبار محدودياته، مهمة صعبة. لكنه يمنحني في الوقت نفسه الأمان الذي أنا بأمس الحاجة إليه. غالباً ما تسمع مؤدّين يقولون، عند اعتلائهم خشبة المسرح، إنهم عراة – حتى لو لم يكونوا كذلك بالمعنى الحرفي للكلمة. عندما أؤدّي أمام الجمهور بعد أسابيع أو أشهر من التمارين بعيداً عن الأنظار، جسدي هو الذي يتسلّم زمام السيطرة عن غير وعي، وليس عقلي. إنهما زمانٌ ومكان متوازيان حيث أكون واعية لما أقوم به وأقوله فيما أستسلم لذاتي الجسدية. على خشبة المسرح، حدود الجسد مفتوحة، والوصول إليها يتم عن طريق التواصل. لكن عندما يخذلني جسدي، أعلم أنني لن أعود قادرة على الأداء كفنّانة.

 

زيتون: كيف ذلك؟

 

بو خالد: لجسدي كحدود شكلٌ وحيّز يتطوران بصورة مستمرة. لكن إذا انتهت عملية الاختبار المستمرة هذه، ولم أعد قادرة على الانخراط في حوار صادق وممتع، أعتقد عندئذٍ أنه لن يبقى لدي ما أتشاركه مع الآخرين.

 

زيتون: هذه الحدود التي تتكلمين عنها، كيف تطبع نظرة الجمهور إلى أدائك؟

 

بو خالد: تستند أعمالي إلى كل تلك التجارب الشخصية التي صنعت ما أنا عليه اليوم، وهذا ما يتيح لي تصميم أداء ليس مجرد نقل أحادي البعد لرسالة أو صورة معيّنة. أعمل جاهدةً على الجانب البصري في أي إبداع فني لممارسة تأثير على الجمهور، وأستند إلى حد كبير إلى استخدام الرموز الشخصية التي تجسّد لحظات في طفولتي وحياتي في شكل عام. الحدود الحسّية هنا هي خشبة المسرح، أو المكان حيث يُقدَّم العرض، إنه يُعيّن حدود التدخل الجسدي من قبل الجمهور، كما يؤمّن في الوقت نفسه حيّزاً لهذا الجمهور كي يراقب ويتفاعل مع ما يراه ويسمعه.

 

لا أهتم أبداً بدعوة الجمهور إلى الشعور بالتعاطف معي، أو مع أعمالي. ما يثير حماستي في فن الأداء هو الحيّز الفاصل الذي يمكنك تطويره والتحكّم به لتوليد روابط تجريدية مع الناس. أريد أن يتأمّل الجمهور في مسوخه وسردياته الشخصية بدلاً من أن يضع نفسه مكاني كي تراوده مشاعر معيّنة. الحدود التي يمثّلها جسدي – الحدود الأولى التي أواجهها – مفتوحة على خشبة المسرح، وتُستخدَم أداةً لتشجيع نفسي والآخرين على اكتشاف بعدٍ جديد. الحدود التي أرسمها على المسرح قابلة للاختراق، ويتم عبورها عندما ندخل الجمهور وأنا في حالة من التواصل.

 

زيتون:  ما هي مسوخك أنت؟

 

بو خالد: لديّ مسوخ كثيرة، وكلها تندرج في إطار موضوع الموت المحوري الحاضر في جميع أعمالي، والذي أعتقد أنه يقع في صلب المسرح في شكل عام. لا تركّز أعمالي على حالة معيّنة لها سياقها الزمني، ويشكّل قسمٌ كبير من مخاوفي ورغباتي – إن لم يكن كلها – جزءاً لا يتجزأ من الكلام الذي أقوله كمؤدّية. من المواضيع أو المسوخ المحورية الأخرى الظلم. أنا في بحثٍ عن عالم أكثر إنصافاً وعدالة.

 

أعيش في منطقة ترزح تحت وطأة الظلم، ولا يمكن للأعمال الفنية تجاهُل هذا الواقع. أشعر بأنني أتحمّل مسؤولية معيّنة عن هذا الظلم، ومن المهم أن أقدّم نفسي بأنني أدرك كيف أوصلتنا الصراعات التاريخية والمعاصرة على السلطة إلى الوضع الراهن. مراكز القوى موزّعة بطريقة غير متساوية في مختلف أنحاء العالم، ولا تشعر الشعوب في المدن والدول والقارات المختلفة بأنها معنيّة بما يحدث لجيرانها أو بأنها تتحمّل ذنباً في حدوثه. وهذا من أقصى درجات الغبن والإجحاف في رأيي.

 

المحدوديات الفنية والنسور الثقافية

قد تكون المحدوديات الفنية خطيرة. تفترض خطوط الفصل الهشّة هذه أن ما يجري هنا لا علاقة له بما يجري هناك. الحدود غير الملومسة الأكثر تجريدية هي أيضاً مواقع التفاعل والحوار داخل المشهد الفني العالمي. إنه مكان يسافر إليه الفنانون وأعمالهم لعرضها ضمن أطرٍ معيّنة، وفهمٌ لماهية الفن. فيما رحنا سوسن وأنا نتناقش حول هذه المحدوديات، انتقلنا للحديث عن قوة الحدود والمعابر في المجال الثقافي.

 

زيتون: هلا تخبرينني المزيد عن حدود الدول انطلاقاً من عملك كفنّانة امرأة من لبنان.

 

بو خالد: لا أعرّف عن نفسي بأنني فنانة امرأة من لبنان. أنا أعتقد أن توصيف الإنسان نفسه من منطلق الجندر والانتماء الجعرافي يمنح الآخرين أداةً قد يستخدمونها لتكوين نظرة ما عن عمله، وهذه المقاربة لا تريحني. أريد أن يتفاعل الآخرون مع أعمالي من خلال فهمهم لها، بالطبع، إنما أيضاً من خلال اليد التي أمدّها لإرشادهم وتوجيه طريقهم. في نهاية المطاف، يعود إلى كل شخص في الجمهور أن يقرّر إذا كان يريد قبول الدعوة أم لا. أعتقد أيضاً أن هذه التوصيفات تُستخدَم لتعزيز العلاقة الثنائية، علاقة القوي في مقابل الضعيف.

 

زيتون: كيف ذلك؟

 

بو خالد: الأمثلة كثيرة. مثلاً، الغرب أكثر ميلاً إلى النظر إلى نفسه، كما فعل دائماً على مر التاريخ، بأنه معيار التفوّق الثقافي. يضعنا الاستعمار، وما تبقّى من إرثه، في موقف محرج نحن الفنانين. المرات التي عُرِضَت فيها أعمالي في أوروبا حملت لي تجربة غنيّة، ولو كانت مقلقة أحياناً. أعتقد أن الحدود التي أرستها أوروبا هي حدود ثقافية أكثر منها جغرافية، وعلى الأشخاص أن يعبروا مساراً غير معهود ليتوصّلوا إلى فهم أوضح لما هو عليه العالم في المقلب الآخر. من وجهة نظر فنية، أعتقد أنه من شأن ذلك أن يساهم في إغناء نظرة الأشخاص إلى المنطقة على صعيد إعادة تشكيل زاوية النظر التي يقيسون بواسطتها الإبداعات الفنية. لا أحبّ تأدية دور الضحية في سياق الحرب والعنف اللذين يُجسَّدان بطريقة غريبة، مع العلم بأن دور الضحية ماثلٌ في معظم الأحيان عند عرض أعمال من العالم العربي. مستوى النقد الذي يُعتمَد عادةً في التعامل مع الفنانين المنتمين إلى عالم أكثر حظوةً لا يُطبَّق على ما يبدو عند مراجعة أعمال الفنانين الأقل حظوة.

 

في الوقت نفسه، عالم الفنون أشبه بسوقٍ محاطة بسياج جميل. هناك، يدعو القيّمون والمبرمِجون والمؤسسات الفنانين لبيع أعمالهم. يبدو بعضها جذاباً، في حين أن البعض الآخر أقل جاذبية بقليل. بعضها على صلة بالموضة الرائجة حالياً، وبعضها الآخر لا يمتّ إليها بأي صلة على الإطلاق. وبعض الأسواق أفضل أيضاً من سواها، أو على الأقل يُعتقَد أنها كذلك، وعرْضُ "منتجك" هناك عملية تستغرق وقتاً طويلاً. كل ما في الأمر أنه ليست لدي أشياء كثيرة أرغب في بيعها.

 

زيتون: عَرْضُ أعمالك في مهرجانات مرموقة قد يُتيح لها العبور إلى وجهات إضافية والوصول إلى جماهير أخرى. هل تلمّحين إلى أن الحدود التي يجب المرور عبرها لعرض أعمالك في الغرب لا تستحق عناء عبورها؟

 

بو خالد: أكثر ما أحب هو إنشاء خطوط تواصل مع جماهير واسعة، وأن يلقى عملي أصداء لدى حشود متنوعة، وأن ألمس الطرق التي يتفاعل بها أشخاص مختلفون مع أعمالي وكيف يكون رد فعلهم. أحبّ أن أشوِّش ردود فعل متوقّعة وأن أؤكّد ردود فعل أخرى... في الوقت نفسه، أحاول أن أتذكّر الأسباب وراء سفر أعمالي إلى الخارج. برأيي، لا يجب أن تُعرَض أعمالي في الخارج إلا إذا كان بإمكانها أن تلقى أصداء لدى الجمهور أو تتيح حيّزاً جديداً للاستكشاف بدلاً من عبور الحدود لمجرد أنني مؤدّية من مستوى معين أو إثنية أو منطقة معينة. فضلاً عن ذلك، ثمة محدودية تُفرَض على الفنانين من المنطقة، فهم يُصنَّفون إما في فئة "الضحايا" وإما في فئة "الحلفاء". يبدو أن هناك أشخاصاً في المقلبَين يرفضون فكرة أن مصائرنا مترابطة كلها على الرغم من الأراضي والمساحات التي تفصل بيننا. من المهم أن يكون الرأي العام مدرِكاً للمسؤولية الملقاة عى عاتقه. الفكرة التي أودّ إيصالها إلى الآخرين هي أننا جميعنا جزء من مجد العالم وأفوله – وأريد من الجمهور أن يفكّر في الدور الذي عليه أن يؤدّيه في هذا الإطار.

 

أدرك أيضاً أنني إذا أصبحت مؤدّية ناجحة في الخارج، يمكن أن تتعزّز إلى حد كبير الفرص المتاحة أمامي لإجراء جولة على المنطقة، وأتوقّع أن تتعزّز، وهذا يُخيفني.

 

خداع إقليمي

 

زيتون: وفي المنطقة تحديداً، هل تعتقدين أنه من الممكن النمو والتشارك مع الفنانين والمجموعات من دول أخرى؟ ما هي العقبات؟

 

بو خالد: السياسات الثقافية التي تعتمدها وزارات الثقافة في منطقتنا ضعيفة، كما أن هذه الوزارات لا تؤمّن تمويلاً منصفاً للفنانين والمساحات الفنية. بدلاً من ذلك، هناك مؤسسات وجمعيات تقوم بعمل أكثر جدّية لتوزيع الأموال وتأمين المنح. عدد كبير من هذه الكيانات أوروبي وأميركي، ويتلقّى عدد آخر منها التمويل من منظمات في الغرب. بفضل هذه المنظمات، يستطيع فنانون كثر أن يُبدعوا وينجحوا في عملهم. أواجه تحدّيات أكبر في عملي هنا، بحثاً عن طرق مختلفة للتطور والتواصل. إنه لأمرٌ مؤسف أنه على الرغم من توافر الفرص، يشعر فنّانون كثر بأن عليهم تعديل تصاميمهم كي تتلاءم مع المواصفات المطلوبة في استمارات الطلب، فنصبح بالتالي أمام أعمال ومواضيع جرى تكييفها كي تلبّي الرغبات.

 

أن يبادر الإنسان إلى إقامة روابط مع الآخرين من تلقاء نفسه أمرٌ ينطوي على صعوبات إلى حد ما، وعدد كبير من أشكال التعاون هذه يبقى بعيداً عن الأضواء (لكن هذا لا يقلّل على الإطلاق من أهميتها!). أعتقد أن أحد أبرز العوائق في المنطقة هو الفساد، والوضع الذي نجد أنفسنا فيه كدول ومجتمعات هو نتيجة مباشرة للسياسات الرديئة والهيمنة الثقافية من الخارج. من اللافت أيضاً أننا ما زلنا نتمسّك بتاريخنا الاستعماري بدافع التطلع إلى أزمنة أفضل. وكذلك يبدو، من نواحٍ كثيرة، أننا نستخدم هذا الأمر لتقويم أنفسنا فنياً، وهذا مأسوي جداً برأيي.

 

زيتون: هل من أمل بأن يتبدّل هذا الوضع؟ هل ستنفتح حدود العالم العربي الثقافية وتتوسّع عضوياً نحو الخارج؟

 

بو خالد: على الرغم من أنها عملية بطيئة، لكنها تحدث برأيي. في مرحلة معينة، عندما بدا الربيع العربي مزهِراً، بدأنا نبني الآمال والجسور في ما بيننا في مختلف أرجاء المنطقة. كانت لدينا النيّة والرغبة في التواصل وفي جعل منطقتنا أكثر ازدهاراً، فنعيد بالتالي تأكيد هوياتنا المتعددة والغنيّة. لا داعي إلى التذكير بما وصلنا إليه، فعلى الرغم من التقدّم الذي أُحرِز، وقعت انتكاسات كثيرة وما زال علينا أن ننهض منها. لكن ثمة أملٌ دائماً!

 

انقضت ساعات، وبدأت الشمس تغيب في الأفق، فتبعث أشعّة ذهبية تنعكس على جدران المبنى السكني ذات اللون الأبيض الضارب إلى الصفرة مقابل المقهى. وصل صديق وطلب الانضمام إلى طاولتنا، فوافقنا من دون تردّد. سألته: "عندما ألفظ كلمة ’حدود‘، ما هو أول شيء يخطر في بالك؟" فأجاب: "بلا حدود!" آه، أن نعيش في عالم خالٍ من الحدود...