قراءة في التنظيم المجتمعيّ والتحرّر الوطنيّ في السّياسات النسويّة الصحراويّة

ها نحن نرى اليوم كيف يُساء تمامًا تفسير أفكار “الأمن” و”السّلام”، وكيف تستخدم القوى المهيمِنة هذه الأفكار لتبرير العسكرة وما يُسمّى بـ”السّلام المسلّح”، بينما تتجاهل كليًا منظور حقوق النساء والإنسان… في هذا السّياق العالميّ غير المشجّع، نحن الناشطات في المسيرة العالميّة النسائيّة، نلتزم مسار رعاية بدائلنا النسويّة. سوف نستمرّ بنسج التحالفات مع الحركات الأخرى التي تشاركنا الرّؤية، كما نقدّم دعمنا المستمرّ لنضالات أخواتِنا المحليّة من أجل حياةٍ مستدامة… سوف نقاوم كما تفعل نساءٌ مجهولاتٌ كثيراتٌ كلّ يومٍ حول العالم، من منازلهنّ ومجتمعاتهنّ، واقفاتٍ من أجل حقوقهنّ ومن أجل حماية النساء الأخريات.

سنستمرّ دومًا بالمقاومة
لن تسكِتنا أيّ أسلحةٍ ولا أيّ قوّةٍ بطريركيّةٍ قمعيّة.

(مقاومة العسكرة، 8 آذار/ مارس 2016، المسيرة العالميّة النسائيّة)

 
يوم 8 آذار/ مارس من العام 2016، شارك الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات بيان التضامن هذا الذي أصدرته المسيرة العالميّة النسائيّة، الحليف القويّ للإتّحاد ولحركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة. وبما أنّ التضامن والمقاومة النسويّة هما موضوع المؤتمر العالميّ السنويّ للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، شدّد الإتّحاد على ما تفهمه النسويّات الصحراويّات ويعملن من أجل تحقيقه ضدّ العسكرة في ضوء مرونتها وروابطها المشتركة مع السّلام المسلّح والأنظمة السياسيّة.

للنساء الصحراويّات صلاتٌ قويّةٌ بتاريخ النزاع المسلّح وسياسات حركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة. هو نوعٌ من النسويّة المتجذّرة في لحظةٍ طويلة الأمد من سياسات الهويّة التي تتجاوز سياسة الواقع (realpolitik) المعاصرة. نمت النسويّة الصحراويّة إلى حركةٍ نموذجيّةٍ في سياق اللّجوء والتحرّر الوطنيّ، وعند منعطف القانون والإنسانيّة الحديثَين. إنّ نضال الصّحراويّين/ات كفئةٍ وكأمّةٍ وكأرضٍ، مستمرٌ منذ أواخر الستّينات، ساعيًا إلى اجتذاب التضامن العالميّ من أجل إنهاء نزاعٍ طويل الأمد فوق أرضهم/ن، الصّحراء الغربيّة. لقد صُوّرت معركة النسويّات الصحراويّات كمعركةٍ تنتمي إلى جبهتَين أدائيّتَين: تحرير الصّحراء الغربيّة من الإستعمار المغربيّ، وتحسين وضع النساء إجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا في الدّولة القوميّة الحرّة الموعودة في الصّحراء الغربيّة(Gandolfi, 1989; Allan, 2010) . وانطلاقًا من رحلتي الإثنوغرافيّة في مخيّمات اللّجوء الصحراويّة في تندوف في الجزائر، أدرك أنّ الأسئلة التي تطرحها النسويّات الصحراويّات لا يُمكن اختزالها بسهولةٍ في هذين الفعلَين السياسيّين الأدائيّين. هؤلاء النسويّات منخرطاتٌ في سياقٍ سياسيٍ وزمنيٍ أكثر تعقيدًا في مجال تنظيم المجتمع، لا يستحضر ببساطةٍ الجندر كرافعةٍ لسياسات الهويّة، بل يجادل من أجل سياساتٍ نسويّةٍ أكثر صرامةً في تنظيم المجتمع المعاصر. تسعى سياسات هاته النّسويّات إلى إبطال المعادلة الرابطة بين إنهاء الإستعمار وتعزيز الدّولة القوميّة. وإزاء تشكيلات الدّولة، تساعدنا النسويّة الصحراويّة في مراجعة العنف المتخفّي في استجداء التحرّر الوطنيّ، وتقدّم لنا من جديدٍ رؤىً نسويّةً لمشاريع الحياة.

تتيح لي الحركة النسويّة الصحراويّة إعادة النّظر في الفهم العامّ للعنف في النزاع المسلّح وفي النضالات من أجل إنهاء الإستعمار، ضمن العلاقات التقليديّة والمجتمعات المُعسكرة. من جهةٍ، لطالما دُرسَت الكتابات عن عنف الإستعمار والنزاع المسلّح بشكلٍ رئيسٍ من خلال عدسات الجندر والجنس التي تغفل الإحتمالات الأخرى لتعريف التراكيب المعقّدة للعنف في النزاعات المسلّحة غير التقليديّة. ومن المهمّ التوقّف عند هذه اللّحظة والتفكير نقديًا في مشاريع الحياة التي تتفتّح أمامنا في اللّحظة المعاصرة التي تصوغها الحركات النسويّة. ومن جهةٍ أخرى، تشير الحوارات التي أجريتها مع النسويّات الصحراويّات في مخيّمات تندوف إلى وجود تضامنٍ قليلٍ أو معدومٍ مع النضال الصّحراويّ من قبل الحركات في الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء الجزائر. وإذا ما جرى تصوّره سياسيًا، يمكن للتضامن أن يتجاوز قيود النزاعَين الإستعماريّ والمسلّح، وهما المركّبَين التقليديّين لشبكات التضامن.

المجازات الوطنيّة المُجندَرة في المشهد الحربيّ الصحراويّ

يمكن تعريف التضامن النسويّ العالميّ إستنادًا إلى منطلقاتٍ سياسيةٍ كثيرة، ولطالما كان التضامن أمرًا رئيسًا في الإستجابات الإنسانيّة لحالات العنف القصوى كالنزاع المسلّح. وفي إطار تلخيص شبكات التضامن في المغرب والشرق الأوسط، لطالما ارتكزت حركات التضامن على الدّعم التاريخيّ والأخلاقيّ للقضايا التي اتّسمت بالنضال المشترك ضدّ القمع والإستبداد وبنى القوّة – فلنقارن على سبيل المثال، بين أسباب الدعم الإقليميّ للنضال الفلسطينيّ من جهةٍ، وللنضال الصحراويّ من جهةٍ أخرى[1]. إنّ مجموعات التضامن القائمة مع النضال الفلسطينيّ في شكل جمعيّاتٍ، وموارد، وخطاباتٍ سياسيّةٍ ومعاهداتٍ في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ترتكز على أسبابٍ سياسيّةٍ ودينيّةٍ وتاريخيّةٍ مختلفة. كما تجادل بلّ هوكس، “التضامن لا يماثل الدّعم. لكي نختبر التضامن، يجب أن يكون لدينا مجتمعٌ من المصالح والأهداف والمعتقدات المشتركة التي نتّحد حولها لبناء الأختيّة” (2015: 67). لقد عزّزت حركة القوميّة العربيّة التّضامن، وربطته بالمسألة الوطنيّة المتعلّقة بالأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، كما ساهمت في بناء أخويّةٍ عربيّة (Kazziha, 2015: 28). أما الصّحراء الغربيّة، فلم تكن يومًا جزءًا من مسألة القوميّة العربيّة: لقد أُخفيَ النضال الصحراويّ في نزاعٍ إقليميّ جيو- سياسيٍّ على السّلطة بين الحكّام والدّول القوميّة؛ لم يكن هذا النضال متعلّقًا بإنهاء الإستعمار.

لكن في ظلّ التصدّعات الأخيرة في مختلف بنى القوّة وصعود مسارٍ مختلفٍ من النشاط والتضامن، هناك إمكانيّةٌ لإعادة التفكير في الإحتمالات التي تنتجها بعض الحركات المتّصلة بسياقاتٍ سياسيّةٍ محدّدةٍ على مستويَي المفهوم والممارسة. على امتداد هذا المقال، تقدّم الخلفيّة الفكريّة تصوّرًا عن أهميّة قيام السياسات الإجتماعيّة عند هذا المنعطف، بمراجعة أهداف الحركات المنتظمة حول مسائل التحرّر الوطنيّ. فقط من خلال هذا الحوار يمكننا تحويل إمكانيّة تغيير علاقات التضامن إلى ما هو أكثر من نماذج غير متساويةٍ من قوّة التضامن. تكمن الإمكانيّة في تحدّي الإحتمال الوحيد لنموذج التضامن القائم على المانح – المتلقّي، وهو ما تصفه جوديث باتلر (1990: 14-16) بالأسس الإقصائيّة والقسريّة التي تسِم شبكات التضامن. وفي ظلّ وجود إمكانيّةٍ للإنخراط السياسيّ المبتكر في التضامن في سياق النزاعات المسلّحة، تغدو ممكنةً صياغة الطّيف الأوسع من مساءلة الممارسات، والرغبات، والأفكار والحركات.

من الضّروري قراءة هذا التطوّر ضمن سياقه الجيو-سياسيّ الرّاهن لسيرورات التحرّر الوطنيّ والحركات الثوريّة في شمال إفريقيا والشّرق الأوسط. إنّ الرّؤى التي يُعاد تشكيلها حاليًا لمجتمعات الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا تصوغ بقوةٍّ تخيّلاتٍ جديدةً للعدالة الإجتماعيّة والجندريّة. في وقتٍ غير متزامنٍ، إعتمدت جبهة البوليساريو (الجبهة الشعبيّة لتحرير ساقية الحمراء ووادي الذّهب، الذّراع العسكريّ للجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الديموقراطيّة) [2] خطابًا مجندرًا بغرض كسب التضامن في المشهد الدوليّ. في خلال أيّامي الأولى في مخيّم بودجور، سمعت خطابًا مشابهًا من قبل عضوات الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات. أما أنا، فكنت باحثةً مغربيّةً كبرتُ في الخليج وعشتُ في مصر. كانت عضوات الإتّحاد يعتبرن أنفسهنّ مختلفاتٍ عن النساء في تلك البلدان، إذ بالنسبة إليهنّ، كنّ كصحراويّاتٍ يتمتّعن باحترامٍ أكبر وبحقوقٍ أكثر في القانون العرفيّ الصحراويّ.

منذ سبعينات القرن الماضي، روّج الصّحافيّون/ات والباحثون/ات للمخيّمات الصحراويّة بصفتها مؤنّثةً، بالإضافة إلى كونها الأكثر تنظيمًا وتمتّعًا بالوعي السياسيّ (Harrell-Bond, 1999; San Martin, 2010). وبما أنّ النساء كنّ من نظّمن أنفسهنّ وأطفالهنّ ضمن المخطّط الإداريّ الذي وضعته البوليساريو، تُرجِمَت الصّورة لاحقًا في سياسات شبكات التضامن المعروفة بالـ”سوليداريوس” لاسيما لدى الإسبان Harrell-Bond), (1999:145; Fiddian-Qasmiyeh, 2014:106. ويضمن التركيز على مجموعات التضامن تحرير وتمكين النساء الصحراويّات، كما يضمن تمثيلهنّ سياسيًا. ويعكس الصّحراويّون/ات في المخيّمات المعجم الحديث لأنظمة التنمية والإنسانيّة في مؤسّساتهم/ن ووثائقهم/ن القانونيّة.

يكرّر المُحاوَرون/ات ممّن يشغلون مواقع حكوميّةً ومؤسّسيّةً أنّ العرف الثّقافي يقضي بعدم تعريض النساء للعنف. عند سؤالهم/ن عن تعريفهم/ن للـ”عنف” في هذه الحال، فوجئ المُحاوَرون/ات بأنّه لم يكن واضحًا أنّ العنف يعني “ضرب النساء”، إذ اعتبر هؤلاء أنّ ضرب النساء هو ممارسةٌ شائعةٌ في المنطقة العربيّة (حوارات شخصيّة، كانون الثّاني/ يناير – شباط/ فبراير 2015). لكن الصّحراويّين/ات ممّن قابلت ولم يكونوا جزءًا من السّياسات المُمأسَسة، إستخدموا/ن كلمة “ضرب” بدلًا من “عنف”. تجادل فيديان – قاسميّة أنّ الخطاب الرّسمي للبوليساريو بشأن الثقافة الصحراويّة الخالية من العنف أنتج تقديمًا للمخيّمات الصحراويّة كـ”مساحةٍ مثاليّةٍ وفريدةٍ وخاليةٍ من العنف، على العكس من السّياقات العامّة للشّرق الأوسط وشمال إفريقيا ومخيّمات اللّجوء، لكن أيضًا على العكس من الغرب” (2014: 249). أكثر من ذلك، تشير فيديان – قاسميّة إلى أنّ الصّحراويّين/ات عرّفوا المسألة كمسألةٍ سياسيّةٍ، لا لأنّهم/ن لم يشهدوا حالاتٍ من العنف على أساس الجندر، بل لأنّ الـسوليداريوس لم يكونوا ليقّدموا المساعدة، إلّا إذا ما عثروا على اللّاجئ/ة والمرأة والمشروع السياسيّ المثاليّ الذي يبحثون عنه.

إنّ الإنسانيّة النيوليبراليّة وشبكاتها التي تقوم عليها المخيّمات الصحراويّة، لها أثرٌ مباشرٌ في الطرّق التي تُشكّل فيها هذه الهويّات والتوقّعات المُجندَرة ويجري إسقاطها في داخل مخيّمات اللّاجئين/ات الصحراويّين/ات وأبعد منها. لقد طورّت جبهة البوليساريو وغيرها من الأطراف غير الصحراويّة وأعادت إنتاج تمثيلاتٍ معيّنةٍ للنساء الصحراويّات كفئةٍ متجانسةٍ، بما يتجاهل الممارسات المستمرّة من الإرتباط القبلي والطبقة الإجتماعيّة، عاكسةً بذلك ديناميّات قوّةٍ معيّنةً بين النساء الصحراويّات والرجال الصحراويّين. وكما تبيّن فيديان – قاسميّة، إنّ تمثيلات ومثاليّات ومناورات الجندر المعاصِرة وكذلك العلاقات الجندريّة المتخيّلة في المخيّمات الصحراويّة، تتجاوز ديناميّات القوّة المحليّة والوطنيّة إذ تتشابك مع الديناميّات القائمة بين مختلف المجموعات في المخيّمات وفي الشبكات الإنسانيّة الدوليّة. بالتالي، العلاقات الجندريّة الصحراويّة متضمّنةً بشكلٍ مباشرٍ في بُنى القوّة وشبكات الدّعم الإنساني والتضامن الدّولي، كما أنّها تتأثّر بها وتضمن استمراريّتها.

إنّ أهميّة دراسة إعادة تشكيل بُنى القوّة والهويّات الجندريّة الواقعيّة والمتخيّلة، تكمن في قلب الأطر السياسيّة والزمنيّة لفئة الصحراويّ/ة. بهذا المعنى، أطرح النزاع المسلّح كإطارٍ سياسيٍّ وزمنيٍّ أنطلق منه لأعاين الحركة الصحراويّة النسويّة وصِلاتها بمفهوم العنف وواقعه. هدفي هنا هو استكشاف كيف دفعت حركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة بالحركة النسويّة في داخل المخيّمات باتجاه فهمٍ واضحٍ لسياسات تنظيم المجتمع. بالتالي، يتناول النقاش هنا النسويّة والتحرّر الوطنيّ ضمن الأطر السياسيّة والزمنيّة للنزاع المسلّح والتحرّر الوطنيّ.

السّياق السياسيّ والزمنيّ للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات

يستند هذا المقال إلى دراسةٍ إثنوغرافيّةٍ أجريتها بين كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير من العام 2015 في مخيّمات اللّجوء الصحراويّة في تندوف في الجزائر. أحد الأسئلة التي أردت تحرّيها كان عن آمال السكّان المستمرّة في مشروع التحرّر الوطنيّ. هل يكفي التحرّر الوطنيّ وبناء الدّولة لمنح الحريّة والعدالة لشعبها؟ ماذا يحدث عندما تحصلون في النهاية على الدّولة القوميّة؟ وحدهنّ النساء الصحراويّات المنتظمات في الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات أخذن هذه الأسئلة على محمل الجدّ. وعلى الرغم من جذريّة هذه الأسئلة، إلا أنها تطالب بتفكيرٍ جدّيٍ في السياسات المعاصرة للحوكمة، والعدالة، والإعتراف والتمثيل. بالطّبع، لا تقترح مساءلة المشروع السياسيّ للتحرّر الوطنيّ إحتمالَ معارضة الصحراويّين/ات يومًا لحركة التحرّر أو مناداتها بالإستقلال، فالإستقلال عن المغرب هو ما يُشرعن فئة الصحراويّين/ات في حدّ ذاتها. ويكرّر الصحراويّون/ات رجالًا ونساءً من كافّة الأعمار وبشكلٍ ممنهجٍ أنّ أيّ احتمالٍ للإنتظام من أجل قضيّةٍ ما يجب أن يحدث تحت مظلّة البوليساريو (SADR Const. art 2, 32). بصفتي عالمة إثنوغرافيا، أردت أن أخطو أبعد من ذلك السّؤال. إنّ الإستثمار في الإستقلال يبدو واضحًا بما لا يقبل الشّك ليس فقط من وجهة نظرٍ تاريخيّةٍ، بل أيضًا كاستجابةٍ سياسيّةٍ من قبل مجموعةٍ من الناس ممّن يعتبرون تنظيمهم/ن الإجتماعيّ – السياسيّ مختلفًا.

كيف يمكن لنا فهم المشروع السياسيّ الذي يسعى إلى بناء مجتمعٍ لا يكون نسخةً مطابقةً عن الدّولة الوطنيّة؟ أجادل هنا أنّ ارتباط النسويّات الصحراويّات بأشكال العنف متعدّدة الأوجه يمكنه بناء حركةٍ تركّز على سؤال التنظيم الإجتماعيّ – السياسيّ للمجتمع، مدركةً التناقض الذي تمثّله حركةٌ تعمل من داخل بنية الدّولة، بينما تطرح نماذج تنظيميّةً مستقلّةً عن مراقبتها. في هذا الصّدد، لا تتخلّى الحركة عن عمليّة تشكيل الدّولة في المستقبل، دولة يمكن تنظيمها بطرقٍ أكثر عدالةً وشمولًا. في الواقع، تبني النسويّات الصحراويّات مشروعًا سياسيًا يمتلك الإمكانيّة لصياغة سياساته الخاصّة من دون الوقوع في فخّ مناهضة البُنى. لقد ناضل الثوّار واليسار – بتعريفه الواسع – من أجل تصوّر أشكالٍ واعدةٍ من السياسة من دون استخدام مفرداتٍ مثل “معادية لـ”، “ضدّ”، “لا” و”غير”. سؤالي هنا هو عن التشكيلات السياسيّة التي انبثقت عن الديناميّات الداخليّة للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، ونقدهنّ الإكتفاء بهدف تحقيق دولةٍ قوميّةٍ مستقلّةٍ، حتّى بينما يحاولن العمل ضمن حركة تحرّرٍ وطنيٍّ ذات بنيةٍ عسكريّة. وأتناول هنا الإمكانيّات الي تولدّها النسويّات الصحراويّات من خلال سياساتهنّ في مشهدٍ مشحون.

يمثّل الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات النساءَ الصحراويّات في مخيّمات اللّجوء من الأجيال الأصغر والأكبر سنًا، وله مجموعات عملٍ في الصّحراء الغربيّة. الإتّحاد هو مؤسّسةٌ نشأت بمبادرةٍ من البوليساريو في العام 1979، ومنذ ذلك الحين، بات حاضرًا في المجلس الوطنيّ الصّحراوي كأحد أهمّ الكيانات المنبثقة عن مخيّمات اللّجوء. أما لجهة النزاع المسلّح، فتُصاغ المساهمة الأبرز للنساء في الطّرق التي يدِرن فيها المخيّمات. تستعيد فاطمة، عضوةٌ شابّةٌ في الإتّحاد، ما قالته لها أمّها عن رحلتهنّ في المخيّمات:

نحن ]النساء الصحراويّات[ كنّا الدّولة. كانت لدينا السّلطة للتنظيم والتخطيط ولوضع كلّ شيءٍ موضع التنفيذ. أما هم ]الرجال الصحراويّون[ فكانوا الجيش. إهتمّوا بالدفاع عنّا، بينما اهتمّينا نحن بجعل الحياة تستمرّ. (حوار شخصيّ، فبراير/ شباط 2015(.

تقدّم هذه الحكاية مقارنةً بين بُنى القوى، كما تعرض تمثيل الذاتيّات المُجندرة في وقت النزاع المسلّح. كما أشرت سابقًا، إنّ الباحثين/ات والناشطين/ات ممّن زاروا المخيّمات وأنتجوا المعرفة عنها رسموا صورةً رومانسيّةً عن تاريخ تطوّرها. إنّ التعديل الحذر لعلاقات الجندر والمواقع السياسيّة التي تحتلّها النساء في المجال العام في مخيّمات ومؤسّسات الدّولة الصحراويّة، يؤدّي دورًا هامًا في اجتذاب الدّعم الخارجي. على سبيل المثال، يصف مسؤول مكتب أوكسفام كريس ماولز المجتمع الصحراويّ على أنّه المجتمع الأكثر مساواةً لجهة العلاقات بين الرجال والنساء (1984: 6). أكثر من ذلك، فكرة أنّ المجتمعات الصحراويّة في المخيّمات هي مجتمعاتٌ مثاليّةٌ لجهة الإدارة الذّاتيّة والسياسات، تخفي صراعاتٍ إجتماعيّةً مختلفةً تتناول مسائل العرق والطّبقة. حتى وقتٍ قريبٍ، ظلّت النقاشاتُ مخفيّةً عن الإستعباد المستمرّ للطّبقة المعتبَرة إجتماعيًا طبقةً دنيا في المجتمع الصّحراويّ، على أمل ألّا تكشف المشاكل القائمة بين المجتمعات في المخيّمات. لكن الحوارات التي أجريتها مع النساء الصحراويّات ممّن شهدن الهجرة الجماعيّة واللّجوء في العام 1976 تخبر قصّةً أخرى. على الرّغم من عدم نيّتها معارضة الزّعم الرسميّ، تقول موما سيدي عبد الهادي، الرّئيسة السّابقة للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات:

وجدَت النساء أنفسهنّ مجبراتٍ على تسلّم دفّة القيادة لأنّ الرجال كانوا يحاربون في الجبهات. هذه اللّحظة المحدّدة التي وجدت النساء فيها أنفسهنّ وحدهنّ، لا يمكن أن تكون ادّعاءً بالإنتصار للتقاليد الثوريّة للنساء الصحراويّات. عندما عاد الرّجال إلى المخيّمات بعد الهدنة، بدأت العودة التدريجيّة إلى الأدوار التقليديّة للنساء والرّجال. ظنّت بعض النساء أنّها كانت لحظة انفراجٍ تُلقى فيها الأحمال. لكن بالنسبة إلى الكثيرات منّا، كنّا مدركاتٍ أنّ قيمة أدوارنا يجب أن تبرز أكثر من أيّ وقتٍ مضى. فقط في لحظة السّلام المُعلن رأينا حقًا أنّ موقع النساء في مجتمعنا سيتمظهَر في نطاقه الحقيقيّ. الحرب تخفي بُنى السّلطة لكنها تغدو واضحةً في أوقات السّلام. لقد ووجِهنا ]النساء الصحراويّات في المخيّمات[ بإعادة تشكيل الأدوار هذه … لم تضطرّ النساء الصحراويّات إلى المحاربة من أجل الحقّ بالتصويت. منذ انعقاد المجلس الأوّل للثّورة، كانت النساء يصوّتهن ويُنتخَبن. لم نناضل من أجل ذلك؛ لقد منحتنا الثّورة الكثير من حقوقنا المكتسبة. لكن بما أنّها مُنحَت لنا، نخشى كذلك أن تُؤخذ منّا. ما لا تناضلين من أجله، لا تعرفين قيمته. على سبيل المثال، كنّا نخشى ألا نتمثّل في الهيئات الحاكمة بعد الهدنة (حوار شخصيّ، فبراير/ شباط 2015).

لقد أتاحت إدارة المخيّمات فهمًا بديلًا لأدوار النساء إلى درجةٍ أُطّرَت فيها الخطابات اللّاحقة عن الجندر والنساء انطلاقًا من نقطة أفضليّة هذا التاريخ. لإيضاح كيفيّة حدوث هذا، أرغب بمنح مزيدٍ من الوقت للمسار التاريخيّ للنزاع المسلّح – أو ما سيغدو بعد الهدنة السّلام المسلّح – وهو وجهٌ هامٌ من وجوه الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات وكذلك لحركة التحرّر الوطنيّ.

في وسط النزاع المسلّح (1975 – 1991)، إضطرّت البوليساريو إلى التعامل مع الهجرة الجماعيّة للصحراويّين/ات إلى الجزائر. جمعت قيادة البوليساريو الأسر الصحراويّة والناجين/ات من قنابل النابالم المغربيّة في جماعاتٍ وأخذت تنقلهم/ن ضمن إعداداتٍ مكانيّةٍ محدّدة. وتطوّرت هذه الإعدادت على امتداد أربعين سنةٍ من النزاع إلى ما هي عليه اليوم: خمسة مخيّماتٍ ببُنًى تحتيّةٍ تشمل الكهرباء والمدارس والمستشفيات في كلّ مخيّمٍ تقريبًا. وعلى العكس من الإدّعاء بأنّ النساء خطّطن المخيّمات، فإنّ محمد يسلم بيسط، سفير البوليساريو السّابق في واشطن العاصمة وقت إجراء المقابلة، عزا فضل إدارة المخيّمات وتخطيطها الإداريّ إلى قيادة البوليساريو. وجدت النساء أنفسهنّ في وضعٍ كنّ فيه بالكاد يساعدن في تنظيم الخيام وإدارتها اليوميّة. حتّى عندما انتخبت البوليساريو نساءً لتمثيل “فئة الجندر” في المجلس الشّعبيّ الوطنيّ، كان الهدف الرّئيس مناقشة الإستراتيجيّة الوطنيّة لتمكين النساء، وليس تضمينهنّ في عمليّة صناعة القرارات الأكبر (Lippert, 1992: 640). بمعنًى آخر، أرادت البوليساريو أن تُظهر وجود النساء في الجهاز السياسيّ للذّراع العسكريّ، لكن من دون أن تدَع النساء يحصلن تلقائيًا على حصّتهنّ من القوّة السياسيّة.

ومن أجل إيضاح هذه النقطة أكثر، حدّدت البوليساريو ثلاث فئاتٍ من المجموعات التي مثّلت إستراتيجيّتها الوطنيّة: النساء، والطّلبة والعمّال/ العاملات. واستُلهم شمل النساء في استراتيجيّة الجبهة من حركات التحرّر الأخرى حول العالم. في الوثائق التحضيريّة وفي التاريخ الشفهيّ، كتب القادة الذّكور في البوليساريو، لاسيّما أيقونة حركة التحرير الوالي مصطفى السيّد، أنّ “المساواة” للنساء هو أمرٌ أساسيّ (المرجع السّابق: 640 – 642). إنّ ضمان نضال التحرّر الناجح والتحضير لدولةٍ مستقلّةٍ تضمّن إلغاء الإستعباد، ومحو الفروق الطبقيّة، وتفكيك الإنتماءات القبليّة في محاولةٍ لتحويل المجتمعات الصحراويّة إلى مجتمعٍ يلائم نموذج الدّولة القوميّة الحديثة ( أنظر إلى مسودّة وثيقة دستور الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الديموقراطيّة، تبنّاها المجلس الوطنيّ الشعبيّ الثّامن لجبهة البوليساريو في حزيران/ يونيو 1991). وشكّلت النساء جزءًا من هذه العمليّة من دون قضيّةٍ معيّنةٍ، إذ اعتُبرت غالبيّة السّياسات الجديدة مفيدة. ويؤكّد الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات أنّه من خلال إشراك المزيد من عضواته في صناعة القرار، يضمن الإتّحاد حضوره المستمرّ في المجلس الوطنيّ الصّحراويّ وفي المجلس الشّعبيّ الوطنيّ ذوَي التركيبة العسكريّة. وعند التفكير في سرديّات موما سيدي عبد الهادي، يمكن القول أنّ تطوّر معنى العنف المرتبط بالنزاع المسلّح وبإسكات الرّؤى البديلة للمجتمعات الصحراويّة ما بعد الحرب، يكشف الطّرق التي يتمظهر من خلالها العنف في المشهد الحربيّ الصّحراويّ.

هذا التاريخ من النزاع المسلّح والتطوّرات السياسيّة المتزامنة معه يعقّد معنى العنف. ويصوّر الأدب المكتوب عن الصّحراء الغربيّة الحرب كحدثٍ عنيفٍ في إطارٍ مشظًّى زمنيًا (c.f. Zunes & Mundy 2010; San Martin (2010; Hodges 1983. لست بوارد تطبيق هذا التّمرحل؛ بدلًا من ذلك، أجادل أنّ الحرب بين الصحراويّين/ات المقيمين/ات في المخيّمات لا تُرى ولا تُعاش انطلاقًا من هذه الزمانيّة المنقطعة. في الواقع، إنّ ارتباطي بالطريقة التي يسرد فيها الصحراويّون/ات ولاسيّما النساء ممّن قابلت تجاربهم/ن مع النزاع المسلّح، يبدأ من النمط الأكبر الذي يرتّب كلّ هذه الحلقات مع بعضها البعض. إنّ الفهم المحدود للنزاع المسلّح كساحة معركةٍ قد يغفل الديناميّات الأكبر التي تصوغ الصّراعات اليوميّة والطريقة التي تتحوّل فيها من خلال العنف المتواصل والمجازات الخطابيّة. إن كان النزاع المسلّح يعني تصنيع وعسكرة العنف، فالهدنة المفهومة كـ”سلامٍ مسلّحٍ” بالكاد حوّلت نمط العنف عندما بدّلت صفة العسكرة.

لم تتمظهر العسكرة التي أعقبت الهدنة في ساحة المعركة، بل في الطريقة التي يتحكّم بها الجيش ومنطقه في الحكم في سياسات التحرّر الوطنيّ وفي مختلف شظاياها في مخيّمات اللّاجئين/ات. إنطلاقًا من مسار العسكرة هذا، يواجِه العنف كمفهومٍ رئيسٍ في المواجهة الإستعماريّة مع المغرب تحدّي إعادة التفكير في صيغٍ أخرى للمفاهيم المؤسِّسة لحركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة. مع هذا، مفاهيم إنهاء الإستعمار والعسكرة والنزاع المسلّح ليست بمفاهيم تعطّل مسار حركة التحرّر. على العكس من ذلك، هي مفاهيمٌ معكوسةٌ في معاش الصحراويّين/ات، وفي تشابك نشوء الدّولة القوميّة، والتحرّر والسّيرورات النسويّة.

إعادة مفهَمَة نسويّةٍ للعنف

أموضِع لحظات ارتباط الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات بالعنف الكامن في العمل من الدّاخل، ومرونة البُنى العسكريّة للبوليساريو إزاء هذه الإجراءات، بالإضافة إلى أحداثٍ أخرى في المشهد الحربيّ الصحراويّ، ضمن إطار عملٍ مفهوميٍّ من خطابيّة العنف المُتنازَع عليها. أتناول هنا الطّرق التي يمكن عبرها التفكير بالغيابات والتصدّعات والتحوّلات التي تسِم العنف، كأفعالِ خطابيّةٍ مُتنازعٍ عليها (Hoffman, 2005: 329 – 53). أستخدم مصطلحَي التنازع والخطابيّة بما يتعلّق بأداء الحركة، فالتنازع ينطوي على خلافاتٍ حول منظومةٍ معرّفةٍ من الإرتباط السياسيّ بالأحداث، والمفاهيم ومشاريع الحياة. أما الخطابيّة، فتُرسي الرّوابط والتخيّلات والقصص بناءً على أفعال ذاتيّاتها. ويستلزم الخطاب إعادة تكوينٍ رمزيّةٍ للعناصر المتباينة ضمن مخطّطاتٍ لا تتّسم بالكثير من التماسك والشفافيّة، بما هو أبعد من تمثيلٍ أو أداءٍ بسيط. وكما أشير أدناه، أوظّف مصطلح الخطابيّة المتنازَع عليها كطريقةٍ لزعزعة حسّ التماسك، وفي ذلك تكشّفٌ بسيطٌ للمشاريع السياسيّة النسويّة. أقوم بذلك لأنّ العنف يتحدّى هذه الذاتيّات التي تصارع للبقاء في ظروف النزاع المسلّح، والمساعدات الإنسانيّة والسياسات المؤسّسيّة. إنّ خطابيّة العنف المُتنازع عليها توفّر فرصةً لاستكشاف ما يحدث كعنفٍ في أداءات وانعكاسات سياسات التحرّر.

ليس العنف انهيارًا ولا إفراغًا للمعنى. إنّ الإبتعاد عن هذه التصوّرات للعنف يشكّل تحدّيًا سياسيًا. بهذا المعنى، العنف ليس معنيًا بخطوط الصّدع في العلاقات الإجتماعيّة التي تفاقمها التفاعلات. لا أرغب بالتعامل مع العنف كما لو كان من غير محتوًى أو معنًى، لكنّني أركّز هنا على الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات وارتباطه بالعنف، مع الإشارة إلى أنّ المادّة الإثنوغرافيّة التي أبني عليها عملي تتجاوز حدود الإتّحاد. ينصبّ اهتمامي هنا على الطريقة التي تقوم فيها السياسة والسرديّات والعناصر الأدائيّة بتعقيد حوادث العنف والسياسات الناجمة عنها بشكلٍ غير متماسكٍ تمامًا. إنّ اللّحظة الإثنوغرافيّة – وهي السّياق الزمانيّ والمكانيّ للعمل الميدانيّ هذا- والتي أصوغ عبرها حجّتي وملاحظاتي، مبنيّةٌ على معارف مماثِلة. بهذا، أعني أنّني أتفكّر في مواقع ومشاريع الحياة الخاصّة بسياسات الإتّحاد وحركة التحرّر الوطنيّ عبر الزمان والمكان، بالطريقة نفسها التي يعتمدها العنف في حدّ ذاته. وأهدف من خلال هذه الصّيغة إلى فكّ الإرتباط بنمط الخطيّة التأمّليّة. ومن دون إعادة صياغة الزمانيّات، حتى ولو تبنّيتُ أكثر المشاريع السياسيّة راديكاليّةً، فلن أتمكّن كعالمة إثنوغرافيا من فهم الآمال والإمكانات التي تخلقها الحركة النسويّة الصحراويّة. هذا الأسلوب هو أسلوبٌ إثنوغرافيٌّ لا يرى لحظات العنف كلحظاتٍ معزولةٍ، ولا يفسّرها على أنّها استثنائيّة.

أكثر من ذلك، إنّ إعادة تصوّر العنف هو أمرٌ بالغ الأهميّة نظرًا إلى محدوديّة الممارسة التي يواجهها الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات بما يتعلّق بشبكات التضامن. إنّ سياسات التضامن التي ينخرط فيها الإتّحاد تقيّد مناقشة فهمٍ مختلفٍ للعنف ضمن الأطر السياسيّة والزمانيّة لحركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة. ليس مفاجئًا لسياسات أيّ حركةٍ نسويّةٍ مرتبطةٍ بالتحرّر الوطنيّ وببنيةٍ شبيهةٍ بالدّولة، أن تلجأ إلى التعبئة عبر خطابٍ رسميٍّ يمليه النظام الدّولي وآليات التنمية الرأسماليّة. لكن مهما يكن، ما يفيد الحركات النسويّة العاملة ضمن رؤًى بديلةً لسياسات المجتمع، هو أن تعمّق بحثها في الحوارات والنضالات التي لا تبدو واضحةً للزوّار الأجانب. بهذه الطريقة، أعود إلى مسارٍ ضمنيٍّ للإتّحاد لإبطال العنف كمفهومٍ وكممارسةٍ، وهو مسارٌ ينطلق من المركّب التقليديّ للعنف الجسديّ.

إنّ فكّ شفرة مختلف خطابات العنف والخطابات عن العنف في المشهد الحربيّ الصحراويّ ينطلق بدايةً من افتراض أنّ العنف يرتبط حصرًا بأحداث الحرب، تلك الأحداث التي تضخّم التفاعلات العنيفة الهائلة التي تحدث في اللّحظات خارج الحرب. من جهةٍ أخرى، هو يكشف التوتّرات بغرض التعرّف إلى دوائر العنف، وكيفيّة إنتاجها وماهيّة مفاصلها. وعلى الرغم من أنّ أيّ مشروعٍ سياسيٍ مهتمٍّ بالمشهد الحربيّ في الصحراء الغربيّة لا يمكنه أن يتجاوز بسهولةٍ الإستخدام الإستعماريّ للعنف من أجل حكم السكّان اللّاجئين/ات، فإنّ حوارًا آخرًا مع موما سيدي عبد الهادي، الرّئيسة السّابقة للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، تناول تاريخ الإتّحاد، والسياسات النسويّة الصحراويّة، وتعقّد العنف في مرحلة ما بعد الحرب، ومناهضة الخطابات الإستعماريّة المغربيّة. وتناول فهمها للعنف الفترة الفاصلة بين فترة ما بعد الحرب من جهةٍ، وعسكرة العلاقات في مخيّمات اللّجوء من جهةٍ أخرى.

يصف الجيل الأكبر سنًا من النساء الصحراويّات إعادة تشكيل الأدوار الجندريّة كانقلابٍ على إمساك الرجال بالمؤسّسات والسّلطة. ومهما بدا الأمر ثوريًا للأجانب ممّن يزورون المخيّمات، فإنّ الفهم الإجتماعيّ الصحراويّ للأدوار الجندريّة هو فهمٌ محافظ. وشكّلت تجربة السّجن للنساء والفتيات الصحراويّات قبل الغزو المغربيّ للصّحراء الغربيّة نقطة تحوّلٍ: فوجود الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات وأحكام القوانين اللّانهائيّة للترويج للمشاركة السياسيّة للنساء لا تعبّر عن كيفيّة اكتساب تعقيدات العنف دورها المُجندَر الخاصّ. لكن التحذير واجبٌ هنا: فحقيقة أنّ أحد المواقف الصحراويّة يجادل اليوم ضدّ الصّراع المسلّح ليس أمرًا ناتجًا عن طابعه السّلمي. ما يعجز كثيرٌ من النسويّات والسوليداريوس عن التعامل معه هو الرّابط بين المطالبات بالإستقلال، والنزاع المسلّح، والرّفض الشّرس لعسكرة المجتمع التي تشكّلت جزئيًا عبر تاريخ الحرب.

على سبيل المثال، مجموعة اللّاعنف الصحراويّة (NOVA Western Sahara) المؤلّفة من شابّاتٍ صحراويّاتٍ ضدّ العنف، تناصر من أجل إنهاء الإستعمار المغربيّ بالوسائل السلميّة. لكن عندما سألت عبيدة بوزيد عن ردّ فعل المجموعة في حال قرّرت البوليساريو العودة إلى ساحة المعركة قريبًا، أجابت:

كما كلّ المؤسّسات والجمعيّات الموجودة في المخيّمات الصحراويّة، مجموعة اللّاعنف الصحراويّة تعمل تحت مظلّة البوليساريو. قد أختلف مع قرارات الجبهة على المستوى الشخصيّ، لكن علينا جميعًا تأييد ودعم البوليساريو إذ أنّها تمثّل إرادة الشّعب ]الصحراويّ[. أتمنّى لو كان بإمكاننا تطوير آليّاتٍ للمقاومة السلميّة، وهذا هو محور عملنا في مجموعة اللّاعنف، لكن البوليساريو قد فعلت الكثير على امتداد سنوات اللّجوء الأربعين، وقد تعب شعبنا من الإنتظار. الحرب هي الأمل الأخير للكثيرين/ات، وأنا أفهم أولئك االمنادين/ات بها. لكنّ الحرب ستأتي بكثيرٍ من الخسائر. (حوار شخصيّ، كانون الثاني/ يناير 2015، التّوكيد لي).

كان الجيل الأوّل من الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات يخشى عودة الرّجال من ساحة المعركة إلى المخيّمات، وكانت الأسباب تستند إلى منظوراتٍ مختلفة. كان بعض النساء يخشين ألّا يعترف الرّجال بالعمل الذي أنجزنه في المخيّمات، وبالتالي أن يُحصر دورهنّ مجدّدًا بالعمل المنزلي. تفسّر سيدي عبد الهادي أنّ تجربة النساء الصحراويّات وازت تجارب عالميّةً أخرى، لاسيّما تجربة النساء الألمانيّات. الفكرة كما طرحتها سيدي عبد الهادي، كانت إرساء أسس التضامن بين جميع النساء اللّواتي أردن مواجهة شكلٍ قديمٍ من السّلطة في داخل أسرهنّ. لا منفعة للنساء اللّواتي يعملن حاليًا في مختلف مؤسّسات الدّولة في مخيّمات اللّجوء، لأنّ معظم أعمالهنّ لن تعود عليهنّ بأجورٍ تكفي معيشتهنّ. في ظلّ هذه التضحيات وعدم استقرار العمل، كان على الإتّحاد المساومة بالحفاظ على حقّ النساء الصحراويّات بالتصويت والترشّح والتمثيل، من أجل إبقائهنّ ناشطاتٍ في المشهد السياسيّ الصحراويّ. ليس التمثيل إشكاليّةً مبتكرةً تطرح أسئلةً أساسيّةً عن آليّات الحوكمة على مستويَي التنظيم الكلّي والجزئيّ. لكن في حال الإتّحاد، لم يعنِ التمثيل الإلتزام التامّ بالبُنى السياسيّة الموضوعة بعد هجرة اللّاجئين/ات، بل عنى فكّ الإرتباط بحذرٍ مع سياسات عسكرة الحوكمة على مستويَي تنظيم المجتمع وبناء الدّولة. ويتناول البحث الأعمق في تاريخ الإتّحاد هذا النسيج من خيبة الأمل بقيم سياسات الدّولة والرّغبات المُعبّر عنها من قبل من هنّ موضوعات هذه السّياسات.

لقد صُنع تاريخ الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات من تاريخ الحرب. هو ما جمع كلّ النساء من مختلف الطّبقات والإثنيّات والبيئات الإجتماعيّة في هيئةٍ مؤسّسيّةٍ لا تكرّر بشكلٍ جليٍّ السّياسات الرسميّة للبوليساريو. وإلى جانب قيامهنّ بالمهمّة الرسميّة بالمناصرة من أجل الإستقلال الصحراويّ في المحافل الدوليّة، تفهم النساء الصحراويّات في المخيّمات أنّهنّ قوّة مقاومةٍ ضدّ عنف النزاع المسلّح والتحديث القسريّ لمجتمعٍ يهدف إلى تكوين نموذج التنظيم الخاصّ به. لقد ولّدت الحرب يوميّاتٍ من العنف الإستعماريّ لكلّ صحراويّ/ة، لكن بشكلٍ خاصٍّ للنساء، كما تشرح سيدي عبد الهادي: “عندما ذهب الرّجال للقتال، شعرَت كثيرٌ من النساء بأنّهن تُركن لانتظارٍ لامتناهٍ. كان الشّعور الأصعب هو ترقّب حدوث شيءٍ ما”. وعلى الرّغم من الثّقل السياسيّ المحقّق للإستعمار على المعنى الأوّليّ للعنف، فإنّ نساء الإتّحاد الأكبر سنًا أدركن الطّرق التي تتعسكر عوالم حياتهنّ بموجبها.

الفروق الدّقيقة في النّضال

تزامنت إقامتي في مخيّمات اللّجوء مع فترةٍ من النّقاش المحتدم حول مأسَسة مسوّدة قانون الأسرة بين القيادة الصحراويّة، والإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات والناشطين/ات. إنقسم الموقفان الرّئيسان العامّان بين مؤيّدٍ لأن يحكم قانون الأسرة العلاقة بين الرجال والنساء من جهةٍ، ومعارضٍ لقانون الأسرة برمّته من جهةٍ أخرى. ويشرح عمر عبد السّلام، رئيس رابطة أسر السجناء والمختفين الصحراويّين التالي:

لمجرّد أنّ نموذج الدّولة يطلب منك سنّ القوانين لكلّ شيءٍ، لا يعني ذلك أنّ الأمر سيصلح لنا نحن ]الصحراويّين/ات[. إن كنّا نتكلّم عن القانون، فنحن لدينا قانون. أفضّل أن أسمّيه تنظيمنا الخاصّ للمسائل الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة. لكن هذا القانون غير مكتوبٍ، ببساطةٍ لأنّنا لم نشعر قبل اليوم بضرورة أن نجعل منه شيئًا مقدّسًا. كمجتمعٍ، وجدنا الحلول للمشكلات الإجتماعيّة، ولطالما كانت العدالة مطلبنا جميعًا. لكنّ العدالة سياسيّةٌ أيضًا، ولذلك شعرت الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الدّيموقراطيّة بأنّ الوقت قد حان لترجمتها في قانونٍ ثابت. وهذا القانون لن يتكهّن بالطريقة التي لطالما أدرنا بها شؤوننا. (حوار شخصيّ، كانون الثاني/ يناير 2015).

يؤمن عبد السّلام أنّ النساء الصحراويّات قد يخسرن المستحقّات التي يتمتّعن بها نتيجة طبيعة هذا النوع من النقوش الإجتماعيّة في القانون. أكثر من ذلك، إنّ النقاش الدّائر حول أهميّة القانون في المجتمع الصّحراويّ، لا يمكنه إلّا أن يتطرّق إلى إرساء الأرضيّة للدّولة القوميّة الصّحراويّة. وفي ظلّ النزاع المسلّح، لم تعد حركة التحرّر الوطنيّ مجرّد حركة تحرّرٍ ثوريّةٍ تقاتل لإنهاء الإستعمار فحسب. في أنظمة الحكم الحديثة، لا يمكن لأيّ قوّةٍ ثوريّةٍ منخرطةٍ في أسئلة التحرّر وتنظيم المجتمع أن توجد في الفراغ. ويشدّد عبد السّلام على هذه النقطة:

في البداية، لم ينشغل الصحراويّون/ات بسؤال الدّولة ]القوميّة[. صار الأمر ضروريًا فقط من أجل الحضور في المجتمع الدّولي. لقد عنى التحرّر للصحراويّين/ات في بداية الأمر العيش الحرّ ببساطةٍ؛ كما عاشوا وعشن على امتداد الزّمن قبل استقلال البلدان المجاورة لهم/ن. (حوار شخصيّ، كانون الثاني/ يناير 2015).

يشكّل هذا الزّخم سياساتِ النسويّات الصحراويّات اللّواتي شهدن تحوّلًا من المطالبات الثوريّة لحركة التحرّر الوطنيّ، إلى مجلسٍ أكثر عسكرةً يتولّى بناء الدّولة القوميّة. تجادل ڤينا داس أنّ الدّولة هي شكلٌ من أشكال “التنظيم الذي يتأرجح بين نمطٍ عقلانيٍّ ونمطٍ سحريٍّ من الكينونة” (2004: 225). إنّ حياة الدّولة مشفّرةٌ في ذلك التوقيع الذي تحمله الوثائق، لتدلّ على ما تسمّيه ڤينا داس “هالة العمليّة القانونيّة” المستقاة من شرعيّة القانون. وينبع هذا “السّحر” الذي يكتسيه التوقيع من “عدم مقروئيّة قواعده وأحكامه”، ويمتدّ إلى الحياة التي اكتسبها التوقيع في ممارسات المجتمع (المرجع السّابق). ما يشير إليه عبد السّلام في صياغته النقديّة لقانون الأسرة الصحراويّ، هو في الواقع توثيق حياة الدّولة لجهة تدخّلها في مجالٍ نُظّمَ خارج معاييرها الرسميّة. هذه المعايير مُعدّةٌ لحكم الذّاتيّات الصحراويّة السياسيّة والمُجندرة وجعلها قابلةً للإختراق من قبل العمليّات البيروقراطيّة – القانونيّة التي لا تقبل بها المجتمعات الصحراويّة بسهولةٍ، على الرّغم من توقها إلى التحرّر الوطنيّ.

يفترض هذا النقاش عن القانون ضمن تطوّرات التحرّر الوطنيّ مركّبًا مفهوميًا أكثر تعقيدًا. إنّ استكشاف باتلر للصّلات التي تربط بين السّيادة والحكم كعنصرَين ضروريّين في الدّولة، يساهم في فهم الدّيناميّات بين قوى الدّولة والناشطين/ات في مخيّمات اللّجوء في تندوف. وعلى الرغم من أن هذا الحوار لا يدور حول السّيادة، إلا أنّ الطابع البارز للدّولة الصحراويّة (الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الديموقراطيّة) يتناول ما تسميّه باتلر السّيادة المنبثقة عن الحكم تحت شكلٍ جديدٍ (Butler, 2004: 62-64). وتسلّط باتلر الضّوء على المسار المتداخل بين حال الإستثناء من جهةٍ – متمثّلةً في حركة التحرّر الوطني – والتدابير الإداريّة والبيروقراطيّة من جهةٍ أخرى – متمثّلةً في سلطتها التنفيذيّة (المرجع السّابق). وتتضمّن هذه السّلطة التنفيذيّة أيضًا المقسّمات الإداريّة، كالمؤسّسة العسكريّة في الحال الصحراويّة. ومن ضمن هذا التطوّر في التدابير الإداريّة والبيروقراطيّة للجمهوريّة الصحراويّة، يطرح القانونُ كفعلٍ أدائيٍ تشكيلَ “السّيادة ضمن ميدان الحكم” (Butler, 2004: 62). ويرتبط هذان العنصران معًا في إحلال القوانين كعلامةٍ للسّيادة (وكذلك لسياسات الجسد)، وإحلال القواعد كعلامةٍ للحكم.

هذه النقطة بالتحديد هي التي تثير الإرباك في المخطّط الرّئيس لحركة التحرّر الوطني، لأنّ كلّ تلك المركّبات التقليديّة كالتحرّر، والعدالة، والعنف، والمقاومة وأطر العمل المفهوميّة التي تعمل السياسة بموجبها، ليست مصاغةً انطلاقًا من الأرضيّة ذاتها. وتشير فاطمة مهدي، الرّئيسة الحاليّة للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، إلى أنّ الإتّحاد منشغلٌ بما يلي:

أحيانًا نفكّر أنّه من الأفضل أنّنا لم نحصل على استقلالنا بعد، لأنّ ذلك يمنحنا المزيد من الوقت للعمل على مسائل معيّنةٍ … نحن قلقاتٌ بشأن تزايد عسكرة شبابنا، وظروف العيش القاسية في مخيّمات اللّجوء، إذ أنّنا لن نخسر تأثيرنا في المجلس فحسب، بل أيضًا سيُمحى أثرنا في المجتمع حينما يغدو هناك دعمٌ هائلٌ للنزاع المسلّح (حوار شخصيّ، كانون الثاني/ يناير 2015).

وعلى الرغم من أسلوبها الضّمني في التعبير، تجادل مهدي أنّ بناء الدّولة القوميّة لن يحلّ المسائل المطروحة ببساطة. بدلًا من ذلك، ما تريد النسويّات الصحراويّات تحقيقه هو التجريب بالشّروط المعاصرة في محاولةٍ لصياغة نظامٍ جديدٍ يمكن إبطاله، أو إعادة صنعه أو التخلّي عنه. وتشير مهدي إلى العمل على “مسائل معيّنةٍ” بين الصحراويّين/ات في المخيّمات، وهي مسائل لا تتعلّق بالسّلطة الإستعماريّة. وبما أنّه من الممكن للدّولة الصحراويّة أن تقوم أو ألّا تقوم في المستقبل، فإنّ نوع الأسئلة التي ستُطرح لن يختلف كثيرًا عن تلك المطروحة أصلًا. وتُصاغ سياسات الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات في الظّروف الحاليّة بصفتها قوّةً ضمن البنية العسكريّة التي لا يعني فيها العنفُ الإحتلالَ العسكريّ بالضّرورة، إنّما يمتدّ إلى عسكرة التخيّلات وسرديّات الحياة وتنظيم المجتمع. ما هي مسارات عسكرة الحياة في المخيّم، وما هي تصوّرات العنف التي يعبّر عنها الإتّحاد؟

للإجابة على السّؤال الأخير، أنظر في الصّلة بين مشروع خطاب حركة التحرّر الوطنيّ الصحراويّة من جهةٍ، وسياسات البوليساريو من جهةٍ أخرى. في الرّواية التاريخيّة التي تسرد حكاية الصّحراء الغربيّة، تُعتبر البوليساريو الجناح العسكريّ للجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الدّيموقراطيّة. ويتبع هذا الإفتراض منطق الدّولة القوميّة حيث المؤسّسة العسكريّة جزءٌ من مكوّنات الدّولة. لكن في القضيّة الصحراويّة، منذ نشوئها وحتّى اليوم، تمثّل البوليساريو الهيئة الحاكمة لكلّ المؤسّسات، وتعمل ليس فقط كجناحٍ سياسيٍ، بل كمحرّكٍ يدير كافّة أوجه الحياة. بالنسبة إلى الحركة النسويّة الصحراويّة، تعني العسكرة الإخفاء المؤسّسيّ للبدائل السياسيّة، والسّيطرة على الكيانات التي تسعى إلى تحدّي الوضع القائم من خلال تخيّل نوعٍ مختلفٍ من تنظيم المجتمع.

يتمثّل الإنشغال الأساسيّ للنسويّات الصحراويّات في مناهضة إستراتيجيّة إدخال المجلس العسكريّ في كافّة الطروحات التي يقدّمها الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات. ومن الجدير بالذّكر، على الرغم من مطالبة الإتّحاد بالإستقلال الماليّ والسياسيّ عن البوليساريو، أنّ دستور الجمهوريّة الصحراويّة – الذي يظلّ مؤقّتًا نظرًا إلى استثنائيّة الحرب – ينصّ على إشراف الأمانة العامّة الوطنيّة للبوليساريو على كافّة نشاطات الإتّحادات الصحراويّة، بما فيها الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات. وما زالت الإتّحادات تمثّل دعائم البوليساريو والأدلّة المُقدّمة إلى شبكات التضامن لإثبات مدى ديموقراطيّة الجمهوريّة الصحراويّة في مخيّمات اللّجوء (Es-Sweyih, 2001: 62). هكذا، يظلّ الرّابط غير ملموسٍ بين الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات والبوليساريو كبنيةٍ وكمصرفٍ للسّلطة. ومع أنّ الإتّحاد يؤدّي دورًا هامًا في اجتذاب التمويل الأجنبي للبوليساريو كما تبيّن فيديان – قاسميّة (2014: 117)، كان السوليدرايوس على يقينٍ من أنّ المساهمات الماليّة لن تضلّ طريقها إذا ما مُنحَت للإتّحاد. بالطّبع، هذا لا يقترح وجود صوتٍ مستقلٍّ في مجلس البوليساريو.

إنّ المقاربة النقديّة للعلاقة بين الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات والبوليساريو كبنيةٍ عسكريّةٍ يبدو قائمًا على رؤيةٍ معيّنةٍ لتنظيم المجتمع والسياسة. ولم تكن هذه الرّؤية لتكون ممكنةً فيما لو كان الهمّ الرّئيس للإتّحاد هو مجرّد التحرّر من الإستعمار المغربيّ. ما هي إذًا الرّؤية أو الخيال الذي تصوغه نسويّات الإتّحاد؟ وعلى أيّ أرضيّةٍ تعيد سياسات نسويّات الإتّحاد تشكيل مجتمعاتهنّ؟ هذا السّؤال الذي يبدو بسيطًا لم يلقَ صدًى لدى الكثيرين/ات ممّن حاورت. أما الإجابات التي تلقّيت على هذه الأسئلة، فقد حدّدت أهدافًا أساسيّةً مختلفةً للتحرّر الوطنيّ، ما يقدّم تصوّرًا عن الطّريقة التي يُستخدَم فيها العنف كحقيقةٍ مُعاشةٍ في بنية سلطة الدّولة. في أحيانٍ كثيرةٍ، إختلفت الحوارات التي أجريتها مع المسؤولين الذّكور عن تلك التي أجريتها مع عضوات الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات. إنّ خيال حركة التحرّر الوطنيّ (والبوليساريو في قيادتها)، وليس خيال الأفراد، يتمثّل في التفكير في البنية الحاكمة لا في سياساتها.

يمكن للمرء التظاهر بمعرفة الجواب في وقتٍ مازلنا فيه نقاتل من أجل استقلالنا. الإستقلال الذي يضمن لنا التحكّم في أجهزة الدّولة. أيّ رؤيةٍ للدّولة الصحراويّة أبعد ممّا صاغه دستور الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الدّيموقراطيّة سيفقد المصداقيّة لأنّنا ]الصحراويّين/ات[ لم نتكلّم بعد عن هذا الأمر. نحن نركّز على التحرّر الوطنيّ، وأعتقد أنّ الطّرح الرّئيس لمجلس البوليساريو على امتداد السّنين كان تثقيف الشّعب والعمل على بنية الدّولة. لكن لا بدّ من التعامل مع تفاصيل هذا الطّرح عندما نصل إلى تلك المرحلة. لكن يمكنني أن أقول لك أنّنا نسعى إلى بناء الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الدّيموقراطيّة كبلدٍ نموذجيٍ في منطقة المغرب. (عضوٌ في المجلس العسكريّ، 65 عامًا).

هذا الإطار المقارَن للرّؤى انطلاقًا من منظوراتٍ مؤسّسيّةٍ وحركيّةٍ لا يقترح وجود مواقف ثنائيّةٍ إستنادًا إلى الجندر. في الواقع، حتّى النساء اللّواتي يشغلن مناصب كبيرةً في البوليساريو أو في أجنحتها التمثيليّة الدّوليّة لا يتحدّين المخطّط الرّئيس للتحرّر الوطنيّ. سينيا أحمد، إمرأةٌ صحراويّةٌ عملت لوقتٍ طويلٍ في السّلك الدّبلوماسيّ، تتأمّل في خيال التحرّر:

عندما هبّ كلّ الناس لطرد المستعمرين ولعيش حياةٍ حرّةٍ، أردنا أيضًا إكتساب حريّتنا… حصلت المغرب والجزائر على استقلالهما، لماذا لا نحصل نحن على استقلالنا؟ لماذا تريد المغرب دمجنا بالقوّة؟ نحن أيضًا لدينا الحقّ في بناء دولتنا ]القوميّة[ … لأنّنا مختلفون/ات. (حوار شخصيّ، كانون الثاني/ يناير 2015؛ التّوكيد لي).

هناك حدودٌ بارزةٌ للمخيّلة السياسيّة التي تركّز حصرًا على الضّرورات المفترضة للدّولة وأجهزتها. وتستمرّ هذه الحدود من خلال مفهومٍ مفاده أنّ الدولة هي موضوع كلّ الأسئلة، وأنّها تقدّم الإجابات لأكثر الأسئلة جوهريّةً عن صفات ومواقع السياسة والحياة السياسيّة. يتأمّل هذا المنظور في خطاب التّكرار، في ظلّ مسرحيّةٍ طقسيّةٍ ومؤسّسيّةٍ من التّأكيد والنفي التي تهمل فهم السّلطة.

أجابت عضوات الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات على أسئلتي بنبراتٍ مختلفةٍ: “ما زال هناك الكثير من العمل اللّازم على المستوى الإجتماعيّ قبل تحقيق الإستقلال”، “أعتقد أنّ النموذج الذي نفكّر فيه هو مشاركة كلّ الصحراويّين/ات في بناء مجتمعاتهم/ن”، “نحن نبحث في إمكانيّة بناء دولةٍ تشمل كافّة الناس والجوانب الإجتماعيّة. الصحراويّون/ات ليسوا جميعًا متشابهين/ات، وقد فاقمت الحرب هذه الإختلافات. مشروعنا يهدف إلى شمول الديناميّات الإجتماعيّة – السياسيّة في مجتمعاتنا على هدى سياساتنا القائمة على الحريّة والمساواة، ومن دون التبنّي العشوائيّ للنماذج كما فعلت معظم دول المغرب”. بالإضافة إلى ذلك، تطرح هذه السرديّاتُ المختلفة الأزمنةَ المختلفة بقدر تحدّي المستقبل والحاضر كاحتمالَين سياسيّين متباعدَين. وهذا التوتّر بين هدف الإستقلال كلحظةٍ تحرّريّةٍ من جهةٍ والمشروع الوطنيّ من جهةٍ أخرى، يتضمّن تشكيل المجتمع في إنتاج الدّولة.

الخاتمة

تواجه النسويّات الصحراويّات إعتراضًا سياسيًّا. هنّ جزءٌ من حركة التحرّر التي يقودها الجيش، كما أنهنّ حركةٌ نسويّةٌ تمرّديّةٌ تعمل على إعادة تشكيل ديناميّات التحرّر الوطنيّ. إنّ أهميّة التفكير النسويّ هو في بنائه المستمرّ لعوالم الحياة وفقًا للإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، على نحوٍ مغايرٍ لباقي الهيئات المؤسّسيّة أو المجموعات في مخيّمات اللّجوء الصحراويّة. إنّ العنف الذي تمارسه عسكرة مجالات الحياة يتجلّى في رفض الإعتراف بأنّ المشروع الصحراويّ لا ينتهي بهذا المخطّط الرّئيس للإستقلال الوطنيّ. هذا في حدّ ذاته لا يعرّض عوالم الحياة لخطر الوقوع في شراك المشاريع قصيرة المدى. ويشكّل هذا في حدّ ذاته نوعًا من الممارسة السياسيّة، إذ توجد صراعاتٌ مجتمعيّةٌ أكثر تسييسًا من العسكرة بكثيرٍ في خلال فترات السّلام المسلّح.

إنّ حكم القانون الحديث كتقنيّةٍ للحكم يهدف إلى حلّ التوتّرات السياسيّة والإجتماعيّة من خلال تقليصها إلى فئاتٍ كقانون الأسرة على سبيل المثال. وترى النسويّات الصحراويّات في هذا المسار مسارًا ينزع الطّابع السياسيّ عن المسائل: فهو يفتّت تكتّلات المجتمع إلى هيئة حكمٍ خرافيّةٍ تًسمّى الدّولة. ويُنظر إلى هذه الدّولة بصفتها أكثر من مجرّد مؤسّسةٍ سياسيّةٍ، أي كمبدأٍ تجريديٍّ للسّلطة والسّيطرة، يرتبط بشكلٍ معقّدٍ بالفكر والخطاب والرّغبة. وتمارس الدّولة العنف بشكلٍ رئيسٍ من خلال تحويل مواجهات القوى التنظيميّة للمجتمع والسّياسة إلى هيمنةٍ خطابيّة. ولعلّ إلغاء العلاقات بين هيئةٍ مؤسّسيّةٍ من النسويّات اللّواتي يعملن انطلاقًا من تاريخٍ من الحرب، يقدّم لنا أملًا في حركةٍ نسويّةٍ مبتكرةٍ مستعدّةٍ لطرح السّؤال التالي: ما الذي نحن على استعدادٍ للتضحية به/ا بإسم الإستقلال؟

لا تورّط النسويّات الصحراويّات أنفسهنّ بسهولةٍ في ثنائيّات مواقف التأييد أو المناهضة. إنّ عسكرة الحركة والمجتمعات الصحراويّة هي المسار السياسيّ الذي يُعرّف من خلاله العنف ويُفهم كخطابيّةٍ مُتنازعٍ عليها. وعلى الرّغم من سياسات الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات التي تعمل ضمن إطار العمل السياسيّ والزمنيّ للنزاع المسلّح، وتحت قوّة العسكرة، تنبع إمكانيّات هذه السّياسات من محدوديّة عملها القاعديّ وتصوّرها السياسيّ لمعاني التحرّر الوطنيّ وتنظيم المجتمع، كما تنبع من ارتباطها بالمعرفيّة النسويّة المبتكرة التي تتّصل بتطوّرات المناضلات والمجموعات النسويّة حول العالم.

إنّ تصوّر العنف من قبل النسويّات الصحراويّات يقترح ارتباطًا مبتكرًا بأطر العمل السياسيّة والزمنيّة لحركة التحرّر الوطنيّ. وينظر هذا التصّور في الآليّات المفروضة لحكم المجتمعات بناءً على نماذج الكيانات الحديثة: القانون، الإنسانيّة والتنمية، إلخ. إنّ جهود الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات كقوّةٍ تعمل من داخل البنية العسكريّة، لكنّها تعارض العسكرة كأسلوبٍ في السّياسة، يمكن قراءتها بالطّريقة ذاتها التي تنبعث بها رؤى سياسات المجتمع من المعرفيّات النسويّة. وتتمثّل هذه المعرفيّة في صياغة كيفيّة تشكيل الذّاتيّات المُجندرة من قبل حركة التحرّر الوطنيّ والنّزاع المسلّح، ومن ثمّ انعكاسها لاحقًا في سياسات المجتمع والبوليساريو. إنّ الطّرق التي هيمن تاريخ الحرب والمشاريع الإنسانيّة من خلالها على المطالبات ذات الأهداف الثوريّة لحركة التحرّر الوطنيّ، قد أخفت جهود النسويّات الصحراويّات لتفكيك التحرّر الوطنيّ كاستقلالٍ للأرض فقط.

في الواقع، إنّ تعاملي مع خطابات وإنتاجات الإتّحاد ذات الحدّين كنزاعٍ خطابيٍّ، يكشف محوريّة مفهوم العنف في رؤى وأفكار وتعريفات النسويّات للتحرّر الوطنيّ وللمستقبل، والتي تختلف عن التعريفات الذّكوريّة المُعسكَرة. إنّ الإمكانيّات المُصاغة عبر السياسات النسويّة الصحراويّة تعيد تعريف كيفيّة بناء حركةٍ وسط التخيّلات المُعسكَرة لسياسات المجتمع والحركة. ويمكن تحقيق هذا من خلال بناء بدائل نسويّةٍ بالإستناد إلى إعادة بناء المعرفة. ويمكن لهذا النوع من المعرفة تغيير فهم العنف في السّلام المسلّح المصحوب بالعسكرة.

الحواشي

[1] عبّرت لي شابا سينيا، عضوة مجلس إدارة الإتّحاد الوطنيّ للنساء الصحراويّات، عن لامبالاة المجموعات النسويّة المغربيّة بالنضال الصحراويّ، في الوقت الذي تعبّر فيه علنًا عن تضامنها مع نضال التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ الذي يعكس النضال ضدّ الرأسماليّة، والإستعمار والإمبرياليّة. لكن النضال الصحراويّ يعود أيضًا إلى أواخر الستّينات ويتمحور حول مسائل شبيهةٍ كالإستعمار والرأسماليّة وتقرير المصير. تقول سينيا: “أفهم أنّ هذه الجمعيّات النسائيّة في المغرب لا يمكنها دعمنا مباشرةً، لكن يمكنها إعلان التضامن معنا كما يفعلن مع أخواتنا الفلسطينيّات” (حوار شخصيّ، كانون الثّاني/ يناير 2015).

[2] تأسّست جبهة البوليساريو على يد محمّد سيد إبراهيم بصيري في العام 1968. أدّى بصيري دورًا أساسيًّا في توحيد المجتمعات الصحراويّة ضدّ الإدارة الإستعماريّة الإسبانيّة. درس في كازابلانكا والقاهرة ودمشق، وتأثّر بالأفكار الإشتراكيّة للبعثيّين السّوريّين (Hodges, 1984: 153). لدى عودته، بدأ بصيري بتجنيد الأعضاء في حركة التحرّر للمناصرة من أجل “الإستقلال التقدّمي من خلال المفاوضات مع الإدارة الإستعماريّة” (San Martin, 2005: 589). وُلدت المقاومة المسلّحة والقوميّة الصحراويّة وتعزّزت جبهة البوليساريو كممثّلةٍ سياسيّةٍ وعسكريّةٍ وحيدةٍ للصحراويّين/ات عندما اختفى بصيري في خلال مظاهرةٍ سلميّةٍ في لعيون (زملة)، والتي قُتل فيها عشرات المتظاهرين/ات على يد الضبّاط الإسبان. بالنسبة إلى معظم القوميّين/ات في الصّحراء الغربيّة، مثّل حدث زملة الإنتفاضة الأولى التي صاغت تطوّر المشروع القوميّ الصّحراويّ. بعد ثلاث سنواتٍ، في 10 أيّار/ مايو من العام 1973، تأسّست جبهة البوليساريو وبدأ قادتها بتعريف الشّعب الصّحراويّ بوجود جبهةٍ جديدةٍ ستجمعهم/ن معًا تحت شعارٍ واحدٍ: قاتلوا/ن من أجل الحريّة (Zunes & Mundy, 2010: 115).

المراجع

Allan, J. (2010). “Imagining Saharawi women: the question of gender in Polisario Discourse.” The Journal of North African Studies, 15(2), 189-202.

Butler, J. (1990). Gender trouble: Feminism and the subversion of identity. New York: Routledge.

—. (2004). Precarious Life: The Power of mourning and violence. London: Verso.

Das, V., & Poole, D. (2004). Anthropology in the margins of the state. School of American Research Press, NM.

Fiddian-Qasmiyeh, E. (2014). The ideal refugees: Gender, Islam and the Sahrawi politics of survival. New York: Syracuse University Press .

Gandolfi, N. (1989). “A proposito del Sahara Occidentale: testimonianze dei Canari residenti durante il periodo coloniale.” Oriente moderno, VIII (LXIX), 7(12), 161-186.

Harrell-Bond, Barbara. 1999. “The experience of refugees as recipients of aid.” Refugees: Perspectives on the Experience of Forced Migration. Ed. Alistair Ager. London: Pinter.

Hodges, T. (1983). Western Sahara: The roots of a desert war. Westport: L. Hill.

Hodges, T. (1984). The Western Saharans. London: Minority Rights Group.

Hoffman. D. (2005). “Violent events as narrative blocs: The disarmament at Bo, Sierra Leone.” Anthropological Quarterly, 78(2): 329-353.

Hooks, B. (2015). Feminist theory: from margin to center. London: Routledge.

Kizziah, W. (2015). Palestine in the Arab dilemma. New York: Routledge.

Lippert, A. (1992). “Sahrawi women in the liberation struggle of the Sahrawi people.” Signs, 17(3), 636-651.

San Martín, P. (2010). Western Sahara: The refugee nation. Cardiff: University of Wales Press.

Mowles, C. (1986). “Desk officer’s report on trip to the Sahrawi refugee camps near Tindouf, Southern Algeria, June 16–21, 1986.” Oxfam. Refugee Studies Centre Grey Literature Collection, University of Oxford.

Zunes, S., & Mundy, J. (2010). Western Sahara: War, nationalism, and conflict irresolution. Syracuse: Syracuse University Press.