قطر والربيع العربي

Image removed.

20. Dezember 2012

خلال معظم المراحل التالية لاستقلالها، سلّمت الدول العربية الصغيرة والضعيفة إدارة السياسة الإقليمية المعقدة إلى شقيقاتها الأكبر والأقوى. ففي المنطقة العربية شرقي البحر المتوسط، تولت مصر وسوريا والعراق والسعودية القيادة، ولحقتها الدول الأخرى. وفي شمال أفريقيا، لعبت الجزائر والمغرب، بمقدار أكبر أو أقل، الدور نفسه. وكانت الدول الأصغر، نتيجة لذلك، تُغرى أو تُجبر، على الالتحاق بتحالفات مع هذه "الشقيقة الكبرى" أو تلك. وفي منطقة الخليج خصوصاً، كانت السعودية تفاوض في شأن السياسة الإقليمية، ثم تقود الدول الأصغر على الطريق الخاصة بها. وتمتعت القيادة السعودية بتبنٍّ صلب مع تشكيل مجلس التعاون الخليجي في 1981 والذي جمع ستة بلدان خليجية (الإمارات وقطر والكويت وعُمان والبحرين، إلى جانب السعودية) تحت مظلة تعاونية إقليمية. وعلى الرغم من أن مجلس التعاون هو نظام فضفاض بعيد جداً عن التكامل الكامل، كان المقصود منه جمع البلدان الخليجية العربية القلقة لمواجهة التهديدات المتزايدة من الطموحات الإقليمية الإيرانية والعراقية، خصوصاً بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في 1979. وفي هذا السياق العريض، كانت قطر جزءاً من المحور السعودي، وبقيت كذلك حتى 1995، حين خلع أميرها الحالي، حمد بن خليفة آل ثاني، والده في انقلاب ملكي أبيض، فغيّر حظوظ قطر وسياستها جذرياً، وربما لمدة لا بأس بها. ومنذئذ، خرجت قطر من الاصطفاف مع شقيقاتها الأكبر، خصوصاً السعودية، وبدأت تضع سياستها الخارجية المستقلة الخاصة بها. وخلال السنوات التالية، حوّل مزيج من القيادة الطموحة الشابة والثروة الضخمة ما كان شبه جزيرة صغيرة لا يُحسب لها حساب إلى لاعب سياسي جازم في المنطقة.

لكن التغيير الجذري الذي حققه الأمير بقي يواجه معارضة قوية من "الشقيقتين الأكبرين"، السعودية ومصر. فالبلدان فضلا الوالد المريض والضعيف الذي بقي كل الوقت تحت جناح السعوديين. وبعد سنة، كُشف انقلاب عسكري فاشل ضد القيادة الجديدة، واتُّهمت القاهرة والرياض بتنسيقه. ودفع الأمر الأمير الجديد إلى تبني سياسات حذرة، وعدوانية في نظر البعض، ضد السعوديين والمصريين. ومع اكتشاف احتياطات غازية كبرى في البلاد، أطلق الأمير مشاريع وسياسات توسعية قوية، محلياً وإقليمياً، غطت مجموعة كاملة من المجالات، لكنها خدمت كلها هذه السياسة الخارجية الجديدة القائمة على احترام الذات. واتضح أن المقاربة الجديدة قصدت أن تثبت للآخرين جميعاً أن "الحجم لا يهم"، وأن تفنّد الإقلال من شأن البلاد الصغيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين 225 ألف شخصاً. وقصدت الإستراتيجية، التي حمت قطر باستضافة القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر خارج الولايات المتحدة، عزل أي فريق إقليمي ثالث (خصوصاً السعوديين) قد يرغب في التحكم في الدول الأصغر في الخليج. وسرعان ما تمكنت قطر من تشكيل شبكة مذهِلة (إن لم تكن مقامِرة) من العلاقات مع أطراف ميالة إلى الخصومة كانت لكل منها مصلحة محددة ومختلفة. فقطر، من جهة، أقامت علاقات طيبة مع الولايات المتحدة، والبلدان الغربية الأخرى كلها، وحتى إسرائيل، ولو إلى درجة أقل. ومن جهة أخرى، أقامت علاقات قوية مع حركتي حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني وكثير من الأحزاب الإسلامية والبلدان "المارقة" (بما فيها إيران وسوريا).

ويُعتبر الدور الصاعد لقطر خلال الربيع العربي استمرار، في الواقع، لسياستها الخارجية الفاعلة والمتنامية خلال العقد الماضي. فخلال تلك السنوات وعلى صعيد عدد من المسائل الممتدة في المنطقة، كان القطريون هم من نجحوا في التوسط في صفقات وعقدها. فجنوبي مصر، قاد القطريون الجهود في السودان لتحقيق السلام بين الحكومة ومتمردي دارفور، فيما اكتفت القاهرة بمراقبة الوضع لسنوات. وجنوبي السعودية، انخرط القطريون أيضاً مع الحكومة اليمنية والمتمردين الحوثيين في محادثات، فنالوا ثقة الطرفين، فيما اكتفت الرياض بمراقبة الوضع، أيضاً لسنوات. وإن بيّنت الحالتان الدبلوماسية القطرية النشطة والناجحة، فقد كشفتا أيضاً انعدام فاعلية الدول العربية الكبرى وانعدام اهتمامها وفشلها في حل المشكلات التي كانت تقلقها في جوارها[i]. ثم كان القطريون هم من منعوا ببراعة لبنان من الانزلاق إلى حرب أهلية داهمة أخرى في أيار/مايو 2008، إذ استضافوا اللاعبين اللبنانيين الأساسيين (ويمكن القول إنهم انخرطوا من وراء الكواليس مع لاعبين آخرين ذوي نفوذ في لبنان) في عاصمتهم وتوصلوا إلى اتفاقية في اللحظة الأخيرة. وعلى الجبهة الفلسطينية، لعبت الدوحة دوراً فاعلاً جداً في فتح القنوات مع كل من السلطة الفلسطينية في رام الله وحماس في غزة. وخلال الحرب الإسرائيلية على غزة في 2008 – 2009، نافست قطر مصر في الدعوة إلى قمة عربية بهدف قيادة جهد منسق لوقف الحرب. ثم وفي شباط/فبراير 2012، نجحت الدوحة في جمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزعيم حماس خالد مشعل لتوقيع اتفاقية مفاجئة على حكومة وحدة وطنية. وبلغ انخراط قطر في المسألة الفلسطينية ذروته في تشرين الأول/أكتوبر 2012 حين زار أمير قطر غزة، على الرغم من الحصار، ووعد بمساعدات ومشاريع للغزيين المتضررين، فأغضب بذلك واشنطن وتل أبيب ورام الله معاً.

وفي مجلس التعاون الخليجي، بقيت الدوحة ناشطة، لكن حفاظها على علاقات دافئة مع طهران (أقله حتى اندلاع الثورة السورية) كان يزعج الرياض وأبو ظبي، فالجانبان يعانيان توترات منذ زمن بعيد مع جارتهم المخيفة وذات الطموحات النووية ومع سياساتها الإقليمية العدوانية. ولذلك مثّلت موازنة العلاقات مع لاعبين متخاصمين، ممارسة مذهلة للسياسة الخارجية المبادِرة، على الرغم مما رافقها من أخطار ومقامرات.

يقود المغامرة القطرية الأمير نفسه الذي يعتقد بوجود فراغ على صعيد قيادة المنطقة حيث يمكنه أن يتدخل عكس السلبيات كلها المتعلقة بحجم بلاده على صعيدي الجغرافيا والديموغرافيا. وفي هذا الصدد، إذاً، صُمّم الدور الجازم لقطر للتعويض عن النقص في النفوذ العربي في المنطقة العربية نفسها. فإن لم تملأ أي من البلدان العربية الكبرى الفراغ الواضح في القيادة في المنطقة، ستتوزع المحيط العربي إيران وتركيا. وسيحافظ دعم الثورات العربية والجيل الجديد المرافق من قادتها، على تأييد الموجات الإقليمية البارزة هذه ويمنح فضلاً كبيراً لقطر – وسيندرج ذلك كله في مخطط القيادة الخاص بالأمير.

كانت الثورات العربية انتفاضات شعبية حقيقية على عقود من الأنظمة التسلطية وقمعها وفسادها والاستغلال للثروة الوطنية من عائلات وطغمات. وأخذ الانتشار السريع لهذه الثورات ومداها الجميع تقريباً على حين غرة. فالشعوب العربية، في غياب قوة عقيدية دافعة بداية، تفوقت بنفسها على الأحزاب المعارضة من الألوان كلها، فاستقطبت تعاطفاً إقليمياً ودولياً. ولم تستطع البلدان واللاعبين السياسيين المحافظين من مواكبة الوتيرة السريعة للانتفاضتين التونسية والمصرية في كانون الثاني/يناير 2011، وخشوا التحديات التي كان يمكن لهاتين الانتفاضتين أن تأتيا بها، وأضاعوا أي فرصة كان يمكن لهما أن تحملاها.

وتصرفت قطر بطريقة مختلفة. لقد بدت بلداً متميزاً في المنطقة العربية في الترحيب بالانتفاضات ودعمها بتحفظ بدا قليلاً. ويمكن القول إن القيادة القطرية اعتبرت الربيع العربي الفرصة التي كانت تنتظرها لتأكيد نفوذها وموقعها الإقليميَّين. وكان الرد الفوري لقطر على الانتفاضات العربية النشر الفعلي لترسانتها الإعلامية، ونشاطها الدبلوماسي، ودعمها المالي، وحتى دعمها العسكري إن طلبته بعض الأطراف (كما في ليبيا وسوريا).

وبعد ثورتين سريعتين وقليلتي الكلفة نسبياً في تونس ومصر، ونصف نجاح في اليمن، قادت قطر الجهود العربية والإقليمية لدعم الليبيين ثم السوريين ضد نظاميهما. فالقطريون تولوا الرئاسة الدورية لجامعة الدول العربية في 2011 بعدما طلبوا من الفلسطينيين، الذين كان يُفترَض أن يتولوا القيادة لسنة، أن يتنحوا لأن أحداث الربيع العربي كانت أكثر حساسية من أن يتولاها الفلسطينيون. وبعد انهيار النظامين التونسي والمصري في شباط/فبراير 2011، أصبحت العاصمة القطرية الدوحة المركز الإقليمي الرئيسي للدعم الدبلوماسي واللوجستي للانتفاضات في ليبيا واليمن وسوريا. وتمركز ممثلون لهذه الانتفاضات وناطقون باسمها في الدوحة أو زاروها كثيراً ليصدروا إعلانات وبيانات. وعلى مستوى دولي، نسّق القطريون جهوداً داخل جامعة الدول العربية للتوصل إلى طلب من الأمم المتحدة للتدخل في ليبيا، ما سهّل إصدار قرار عن مجلس الأمن سمح لحلف شمالي الأطلسي بالتدخل ضد الراحل معمر القذافي ونظامه بفرض منطقة حظر للطيران.

ويحاول القطريون فعل الشيء نفسه ضد نظام الرئيس بشار الأسد في سوريا. وأثبتت الحالة أنها أصعب بكثير بسبب المعارضة الروسية والصينية الشديدة لتغيير النظام والدعم العسكري الروسي والإيراني القوي للنظام على الأرض.

بيد أن أمير قطر كان الزعيم الوحيد في المنطقة وخارجها الذي دعا في وقت مبكر، وذلك في كانون الثاني/يناير، إلى تدخل عسكري عربي بهدف إنهاء إراقة الدماء في سوريا، وكرر الدعوة نفسها في خطاب أمام الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2012. ويتخذ دعم قطر للثورة السورية الأشكال كلها تقريباً: الدبلوماسي، والإعلامي، والإنساني، والمالي، والعسكري. وتُعتبر الدوحة العاصمة العربية الرئيسية المخصصة للقاءات أحزاب المعارضة السورية. وأخيراً، وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، استضافت الدوحة اللقاءات الموسعة والتي حظيت بتغطية إعلامية واسعة، لمجموعات سورية مختلفة، شملت المجلس الوطني السوري الذي يتخذ من إسطنبول مقراً والذي انتخب رئيسه الجديد في الدوحة وأشرف على تشكيل منصة معارِضة أوسع شملته.

"الجزيرة": "الجغرافيا – الإعلامية" لقطر
يمكن القول إن ما ورد أعلاه كله كان صعب التحقيق من دون الجهود الضخمة التي بذلتها "الجزيرة". فالمحطة، وهي من بنات أفكار الأمير نفسه، ناصرت سياسته المبادِرة والواسعة النطاق في الوقت نفسه، وعرضت قضية جديدة لفهم دور الوسائط الإعلامية الحديثة العابرة للحدود في دعم السياسة الخارجية.

يتطلب هذا الأمر مزيداً من التأمل. في المقاربات الكلاسيكية، يساعد التعبير "جغرافي – سياسي" عادة في وصف السياسة بين الأمم. وصيغ التعبير "جغرافي – اقتصادي" لاحقاً، في تسعينيات القرن العشرين، للدلالة إلى عمليات التنافس بين القوى السياسية – الاقتصادية الناشئة في سياق العولمة. واستطراداً واشتقاقاً من الحالة القطرية، أعرض هنا التعبير "جغرافي – إعلامي" في محاولة لوصف الديناميكيات الأحدث (والناجحة) لاستخدام الوسائط الإعلامية المكثفة، العابرة للحدود والعالمية، من بلدان للتعويض عن الجوانب الضعيفة، أو الغائبة، في أوجه القوة "الجغرافية – السياسية" أو "الجغرافية – الاقتصادية" الخاصة بهم. ومن منظور "جغرافي – إعلامي"، يمكننا أن نفسّر في شكل أدق البروز الموازي لتأثير "الجزيرة" وللسياسة الخارجية الجازمة لقطر. لقد حُفِزت قطر لكي تتجاوز أوجه القصور التي يمكن أن يشير إليها تحليل جغرافي – سياسي، ثم مُكِّنت من ذلك.

لكن حين تتطور الوسائط الإعلامية التقليدية إلى جغرافية – إعلامية، تخلق أيضاً ديناميكياتها شبه المستقلة الخاصة بها، فتؤثّر في السياسة وتضطر راعيها الخاص بها في بعض الحالات إلى تبني مواقف لا يجري تبنيها بالضرورة في مواقف أخرى. إنها عملية عكس، تصبح فيها الوسيطة الإعلامية المفترض أن السياسة الخارجية لصانعها صنعتها، مؤثرة إلى درجة أنها ترتد وتؤثّر في السياسة الخارجية نفسها. ويمكن أن يصح الأمر على "الجزيرة" التي جعلت تغطيتها الداعمة في شكل شديد الثبات للحالات الأولى من الربيع العربي – تونس ومصر وليبيا – صعباً جداً على السياسة القطرية ألا تبتعد عن سنوات من العلاقة الودودة مع نظام الأسد حين اندلعت الثورة في سوريا. وخلال الأسبوعين الأوليين أو الأسابيع الثلاثة الأولى من الثورة، ترددت "الجزيرة" في القيام بالتغطية نفسها التي قدّمتها إلى الانتفاضات الأخرى، في صدى للتردد في المستويات السياسية الأعلى في الدوحة. ولو فشلت "الجزيرة" في البقاء من ضمن الخط نفسه المتمثّل بالدعم القوي للثورات العربية، بتجنب الثورة الشعبية السورية، لخسرت النجاح الكبير كله الذي حققته، ومعه النفوذ السياسي الذي راكمته حتى ذلك الوقت قطر كدولة. وإذ وضعت "الجزيرة" نفسها سريعاً في قلب الربيع العربي، لم يكن أمامها من خيار غير البدء بجمع الدعم للمعارضة السورية، وبالتالي تسريع تحول الموقف القطري من سوريا. ويتفق معارضو "الجزيرة" (وقطر) ومؤيدوها، عموماً، على أن نفوذ المحطة في المنطقة، منذ إطلاقها في 1996، وكذلك النفوذ الذي سمحت لقطر بتحقيقه، مثير ببساطة تامة للإعجاب على الصعيد الإستراتيجي.

وعشية الربيع العربي، كانت المحطة، وكذلك قطر نفسها، أكثر من مستعدتين. فبمواردها العالمية والتي لا تُضاهى، حشدت "الجزيرة" كل ما في وسعها لتغطية المتظاهرين في تونس ومصر واليمن ثم ليبيا وسوريا ودعمهم، فصاغت منذ البداية تعابير مثل "ثورة" و"ثوار". وبعد أيام على اندلاع الاحتجاجات في تونس وامتدادها بعدئذ إلى مصر، كانت المحطة منخرطة تماماً في التغطية المباشرة عبر مراسليها بعيداً عن أعين الأمن المحلي، أو بالاعتماد على شبكات الوسائط الاجتماعية التي تبث مباشرة من الميدان. وامتلأت شاشة "الجزيرة" بالجماهير العربية، ناقلة طلبها القوي إلى العالم: "الشعب يريد إسقاط النظام".

واستخدم كثيرون من الثوار البارزين، المحظورين في الوسائط الإعلامية المحلية في بلدانهم والمعتقلين والفارين في أغلب الأحيان، "الجزيرة" منصة لهم للوصول إلى شعوبهم وحشدها. وبعدما ألغت المحطة برامجها المعتادة، حُوِّلت إلى ورشة على مدار الساعة للأخبار والمقابلات المباشرة، منتقلة من ثورة إلى أخرى. وفوراً أصبحت قناتاها الرئيسيتان، الناطقتان بالعربية والإنكليزية، المصدر الرئيسي للأخبار والتغطية، فكررتا المطلب الرئيسي للشعوب، وشحنت الأجواء في الواقع. وبالعربية، كُرِّست قناة شقيقة للقناة الرئيسية المتخصصة ببث الأخبار، اسمها "الجزيرة مباشر"، لتغذيات مباشرة لكل من يستطيع الاتصال بالهاتف أو الرسائل النصية أو مقاطع الفيديو. وبإعطاء فترات بث طويلة لمعارضي الأنظمة، والتغطية المحابية للثوار، اتضح أن ثمة سياسة صلبة كانت قائمة في المحطة وتقتضي الوقوف إلى جانب الشعوب، وتعكس سياسة الدولة نفسها. وكانت اتهامات الأنظمة الحاكمة المتهاوية بأن "الجزيرة" لم تكن حيادية في تغطيتها لحركات الاحتجاج ضد هذه الأنظمة، صحيحة في الواقع. وثمة نكتة واسعة الانتشار تدور حول هذا الأمر، فهي تنقل حواراً يجري في جهنم بين الرؤساء المصريين الثلاثة، جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، الذين يسألون بعضهم بعضاً عن أسباب مقتلهم. يقول عبد الناصر "السم" ويقول السادات "الاغتيال"، فيما يقول مبارك "الجزيرة".

وفي الحالات التي تمكنت فيها "الجزيرة" من تركيب عشرات الكاميرات للبث المباشر، عززت التغطية المتواصلة على مدار الساعة للحشود الضخمة من الروح الشعبية. والأهم أنها قدّمت حماية للحشود المصورة أثناء قيامها بثوراتها السلمية والمنقولة صورها إلى العالم بأسره، فهي شلّت القدرة العاتية لأجهزة الأمن، فأي قمع للمحتجين سيراه العالم. وجذب التصوير المباشر لمئات الآلاف من المحتجين المصرين والسلميين اهتمام العالم ودعمه، ما أحرج القوى الغربية التي لطالما دعمت الأنظمة المتهاوية، خصوصاً في تونس ومصر، ودفعها إلى تغيير سياساتها ودعم الحركات المعادية للأنظمة.

لكن في الحالات التي تحولت فيها الثورات إلى فوضوية ودموية، خصوصاً في ليبيا ومصر، كان الدور المركزي لـ"الجزيرة" في الربيع العربي ليتقلص كثيراً لولا وصول الوسائط الاجتماعية، مثل "فايسبوك" و"تويتر"، والهواتف النقالة. وسرعان من حُظِر مراسلو "الجزيرة" من دخول هذه البلدان حيث كانت الاحتجاجات تتفاقم بسرعة، لكن مقاومة الأنظمة تمكنت من الحفاظ على ثباتها، خصوصاً في ما يتعلق بتحكم الأنظمة في نشاط الوسائط الإعلامية داخل حدود بلدانها. وأعلنت "الجزيرة"، المستعدة والمختبِرة جداً لهذا التدبير النموذجي للحكومات العربية، عشرات الأرقام الهاتفية لتلقي الاتصالات والرسائل النصية من الشوارع، وأسست مواقع إلكترونية مخصصة لتلقي مقاطع الفيديو التي يصورها أشخاص عاديون. وكانت هذه التغذيات الساخنة التي تصل خلال لحظات، تُبَث فوراً، ما يقدّم للثوار خدمة مزدوجة: كانت الأحداث الصغيرة والكبيرة تُبرَز وتصل إلى الكتلة السكانية كلها، وكانت الكتلة السكانية نفسها تعرف أين تحتشد وتتجمع. وعلى المنوال نفسه، لو لم يمكن بث هذه التغذيات الساخنة على أوسع نطاق، لتصل إلى جمهور يعد بالملايين من الأشخاص عبر "الجزيرة"، لكان تأثير هذا النوع من الوسائط الاجتماعية في هذه الثورات ضئيلاً. فبسبب الفقر والمعدلات العالية في شكل فاضح للأمية في العالم العربي، فإن معدلات انتشار الكمبيوترات والإنترنت متدنية ولا يُعتمَد عليها خصوصاً في عمليات الحشد. لكن الجميع يملكون وصولاً إلى التلفزيون.


ليس كل شيء وردياً

لكن السعي الطموح لقطر إلى قيادة إقليمية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، يواجه تحديات ومتحدّين. ففي الحالة الأولى، ثمة مسألة المصداقية. ففي أعين المنتقدين، قطر دولة غير ديمقراطية تتسم خطواتها نحو الإصلاح الدستوري ببطء محبط. لذلك يُنظَر بتشكيك إلى قيادة قطر الدعم لقلب أنظمة تسلطية في المنطقة. وفي حالات الربيع العربي كلها تقريباً، هاجم المنتقدون قطر للترويج خارجياً للنظام الديمقراطي الذي تفتقده داخلياً. ويستند الرد القطري على هذه التهمة إلى فكرة أن الأغلبية الساحقة من شعب البلاد، على خلاف الجماهير في بلدان الربيع العربي وعلى غرار معظم بلدان مجلس التعاون الخليجي، قانعة بالوضع القائم، أقله الآن. وصحيح أن البحرين وعُمان والمنطقة الشرقية في السعودية شهدت مستويات مختلفة من الاضطرابات، بقيت كلها بعيدة جداً من الوصول إلى نقطة اللاعودة حيث يحتشد الشعب كله ضد النخبة الحاكمة.

وأُثيرَت مسألة المصداقية بقوة أيضاً حين فشلت "الجزيرة" في أن تغطي في شكل كامل الانتفاضة في البحرين المجاورة، ناهيك عن دعمها، فهذه الانتفاضة أثبتت أنها أصعب حالات الربيع العربي بالنسبة إلى القطريين. وصُوِّرت الاحتجاجات البحرينية على أنها بقيادة مجموعات شيعية تدعمها إيران ضد العائلة الحاكمة السنية المدعومة من السعودية. وبالنسبة إلى السعودية المجاورة، كانت البحرين خطاً أحمر عريضاً، فأي احتمال لوقوع البلاد في أيدي الأغلبية الشيعية يُعتبَر دائماً تهديداً حقيقياً للأمن القومي. وفي الواقع لم يخاطر السعوديون قط مع الاحتجاجات البحرينية، فحين بدا أن التطورات في البلاد تتطور إلى مرحلة خارجة عن سيطرة النظام، أرسلت الرياض قوات عسكرية تحت رعاية مجلس التعاون وأخمدت الانتفاضة. وأقرت قطر الخطوات السعودية وحيّدت نفسها على ما يبدو إزاء المسألة البحرينية، ربما بسبب الحساسية الزائدة للمسألة وقربها الجغرافي. كذلك وفي وقت كانت فيه قطر منخرطة جداً بقضايا أخرى تتعلق بالربيع العربي، كانت تمنع نفسها عقلانياً من أن تتعرض إلى ضغط شديد، خصوصاً في منطقة الخليج، وأبقت السعوديين بعيدين من دون معاداة السعوديين في البحرين.

وتدور مجموعة أخرى من الانتقادات حول تهمة أن قطر تعمل في الواقع كدمية أميركية في المنطقة. ويشير المنتقدون إلى استضافة قطر القاعدة العسكرية الأميركية الأكبر وسياسة الباب المفتوح التي تعتمدها البلاد مع إسرائيل. وخلال الربيع العربي، تضيف نظرية الوكيل الأميركي، كانت واشنطن تسأل الدوحة أن تتخذ خطوات أساسية تسهّل تطبيق السياسات الأميركية التي ستلي. والمفارقة أن كثيراً من هذه الاتهامات يكررها مؤيدون للأنظمة المتهاوية في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، والأنظمة الثلاث الأولى كانت تُعتبَر حليفة وثيقة للولايات المتحدة، والنظامان الأخيران كانا يبذلان أفضل جهودهما لنيل علاقات قوية مع الأميركيين. لكن الأهم أن نظرة أقرب إلى السياسة القطرية والسياسة الأميركية في المنطقة، تكشف اختلافات وتقاربات معينة بين الاثنتين. فالعلاقات الدافئة بين الدوحة وحماس (وحزب الله قبلاً) من بين الحركات الإسلامية الأخرى، كانت دائماً مصدر توتر مع واشنطن. وتعرضت الزيارة الأخيرة إلى غزة للأمير وزوجته ووفد كبير، إلى انتقادات شديدة من تل أبيب، وتجاهلٍ ذي معنى من واشنطن. ويبدو أن القطريين كانوا واعين في شأن خلق فضاء خاص بهم للمناورة، على الرغم من علاقاتهم القوية بالولايات المتحدة. ويمكن للمرء أن يحدد تاريخاً لبدء الابتعاد التدريجي لقطر عن السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة بالحرب على أفغانستان في 2001، وبلغ التوتر ذروته أحياناً، خصوصاً بسبب التغطية الناقدة لـ"الجزيرة" لـ"الحرب على الإرهاب" التي شنها جورج دبليو بوش في أفغانستان أولاً ثم في العراق في 2003. واتهم مسؤولون أميركيون رفيعو المستوى آنذاك، بمن فيهم وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، "الجزيرة" بأنها لسان حال "القاعدة" وزعيمها أسامة بن لادن.

واستمرت الاختلافات بين الموقفين الأميركي والقطري حول المسائل الإقليمية خلال الربيع العربي. ففي الأسبوعين الأولين للاحتجاجات التونسية والمصرية ضد نظامي زين العابدين بن علي وحسني مبارك، كانت ردود فعل واشنطن والدوحة مختلفة. فالدوحة حشدت ترسانتها الإعلامية وراء الثوار، فيما كانت واشنطن أكثر حذراً على أمل الحفاظ على الوضع القائم باستثناء تطبيق إصلاحات جدية. وكان التقارب القوي، الوحيد ربما، بين المقاربتين حول الحالة الليبية التي نالت اتفاقاً عالمياً، ما جعل الموقف القطري – الأميركي المشترك غير مفاجئ.

وحول الثورة السورية، برزت اختلافات وتقاربات بين الاثنين، مع ميل الميزان أكثر ربما إلى الاختلافات، فالدوحة أيدت تدخلاً عسكرياً عربياً تحت مظلة جامعة الدول العربية، فيما لم تقبل واشنطن قط الفكرة أو أي شكل آخر من التدخل العسكري؛ وكانت اللغة المستخدمة من المسؤولين القطريين تصف الوضع في سوريا بحرب الإبادة الجماعية التي يشنها النظام على شعبه، فيما بقي الخطاب الرسمي الأميركي أكثر حذراً بكثير وأقرب إلى رؤية الوضع كحرب أهلية؛ وأيدت الدوحة المجلس الوطني السوري منذ تأسيسه، على عكس واشنطن وتشكيكها المتزايد في شمولية المجلس وفاعليته؛ وأخيراً دفعت الدوحة باتجاه تعزيز نوعية الأسلحة التي يجب أن تصل إلى المجموعات المسلحة، فيما عارضت واشنطن حتى الآن أي خطوة في هذا الاتجاه، آخذة في شكل معمّق في حسبان سياستها الأمن المستقبلي لدولة إسرائيل وأي تهديدات محتملة للدولة العبرية يمكن أن تلي سقوط نظام الأسد. لكن حدة بعض هذه الاختلافات تراجعت بعد اجتماعات الدوحة لمجموعات المعارضة السورية في تشرين الثاني/نوفمبر ونتائجها. فقد بدا أن الدوحة وواشنطن اتفقتا ورحبتا ببروز هيئة تمثيلية أعرض، بعد محادثات طويلة ومرّة ولي أذرع، غير المجلس الوطني السوري، إذ تأمل واشنطن في أن يكون "المكوّن الإسلامي" للتشكيل الجديد أقل تأثيراً مما كان عليه في المجلس الوطني السوري.

ومن التحديات الرئيسية الأخرى بروز نظرة في بلدان الحالات "الناجحة" للربيع العربي إلى أن القطريين يتدخلون في الشؤون الداخلية لهذه البلدان بعد ثوراتها. ففي البلدان الثلاثة حيث دعمت قطر بقوة قلب الأنظمة القديمة، أي تونس ومصر وليبيا، ثمة أصوات متنامية تنتقد السياسات القطرية بدعوى أن قطر تفضّل قوة معينة، هي الإسلاميين عموماً، على القوى الأخرى. وفي الواقع يتحيّر مراقبون كثيرون أمام هذه النظرة إلى أن قطر تؤيد الأحزاب الإسلامية، خصوصاً أحزاب الإخوان المسلمين، في هذه البلدان. فلا تزال غائبة الإجابة على التساؤل حول أسباب حصر القطريين نفوذهم في الإسلاميين وبالتالي إيجاد أعداء غير ضروريين في وقت يمكنهم فيه التمتع بنفوذ أقوى على معظم الأحزاب إن بقوا غير منحازين وعلى علاقة صداقة مع القوى كلها في الديمقراطيات الناشئة حديثاً عن الربيع العربي.

وبعد قول هذا كله، يُشار إلى أن الدور القطري الجازم في المنطقة، وربما خارجها، لبى مطلباً قديماً لعرب كثيرين بأن مصير المنطقة يجب ألا يُترَك لقوى أجنبية لتقرر في شأنه، وأن مستقبل الشعب يمكن ويجب أن يكون في يديه ومقرراً وفق المصالح العربية أولاً.

وفيما يصح أن صعود لاعب سياسي صلب وجازم يخلق خصوماً وأعداء، خصوصاً حين يبدو أن اللاعب الصاعد كان دائماً صغيراً وتحت سيطرة آخرين، لا يصح الأمر بالضرورة بعد الآن، نظراً إلى التناقض الحاد بين السياسة القطرية الخارجية الفاعلة والسياسات غير الفاعلة تقريباً لـ"شقيقاتها الأكبر" المجاورات واللواتي تخلفن كثيراً وبخمول، خلال الربيع العربي وبعده في الوقت نفسه.

النص الأصلي باللغة الأنجليزية
ترجمة عبد الرحمن أياس

-----------------------------------------------------------------------------

[i] من الاستثناءات لدبلوماسية جاهلة كهذه النجاح النسبي للسعوديين في الربيع اليمني الذي اندلع ضد الحكم التسلطي للرئيس السابق علي عبد الله صالح. فالسعوديون توسطوا في تسوية تنازل من خلالها صالح عن الحكم في مقابل ضمانات منحته حصانة من أي مقاضاة في المستقبل. ولا تزال بنود التسوية تخضع لنقاش ساخن، ولا يزال الجدل يحيط بالصفقة، خصوصاً لأن كثيراً من المواقع الأساسية في الجيش والدولة بقيت في أيدي شخصيات مؤيدة لصالح. ودفعت الانخراط السعودي في المستنقع اليمني مخاوف من أن تصل أمواج الانتفاضات الإقليمية إلى الشواطئ السعودية، لذلك يجب اعتبار هذا الانخراط عملاً دفاعياً أكثر منه دبلوماسية مبادِرة.