المرأة والأصولية والإرهاب: أصداء من بلاد آشور القديمة

عندما أفادت تقارير أن مقاتلي ما يُسمّى "الدولة الإسلامية" أقدموا على تفجير موقع نمرود الآشوري القديم وجرفه ما أدّى إلى تدميره دماراً كاملاً، أجمع العالم على إدانة هذه الممارسات. وقد صرّح أحد مقاتلي التنظيم الذين شاركوا في تدمير الآثار الآشورية في متحف الموصل، أمام عدسة الكاميرا: "لقد تلقّينا أوامر من نبيّنا بإسقاط الأصنام وتدميرها".[i]

رفضُ "الدولة الإسلامية" المعلَن لحضارات ما قبل الإسلام على غرار الحضارة الآشورية لم يمنعها من استغلال تجارة الآثار الآشورية المهرَّبة كمصدر للإيرادات. لكنها ليست المفارقة الأكبر في هذا الوضع المؤسف الذي آلت إليه الأمور. فمن بين كل الأمبراطوريات التي ازدهرت في الشرق الأوسط على امتداد التاريخ البشري، لعل الآشوريين القدامى من أكثر الشعوب التي يمتلك تنظيم "الدولة الإسلامية" قواسم مشتركة معها.

تشمل هذه القواسم المشتركة المعاملة الهمجية للنساء؛ واستخدام الإرهاب لتحقيق مآرب سياسية؛ والتعصّب الديني. أتوقّف في هذا المقال عند الروابط التي يمكن إقامتها بين هذه الظواهر في سياق آشور القديمة، وأشير إلى أن نقاط التشابه والترابط بين ظروف وجود الآشوريين القدامى و"الدولة الإسلامية" ليست ضعيفة بقدر ما قد يُخيَّل إلينا للوهلة الأولى.

وضعُ المرأة في بلاد آشور القديمة

الأدلة عن أسلوب عيش النساء في الشرق الأوسط القديم قليلة ومبعثرة. لم يكن هناك ببساطة ما يستدعي تسجيل تفاصيل الحياة التي كانت تعيشها النساء العاديات – أو أيضاً الرجال العاديون، لكننا نملك معلومات أوفر عن حياة الرجال لأن عدداً أكبر منهم كان يتولّى مناصب سلطة ونفوذ. الأدلّة الأساسية التي نمتلكها عن وضع النساء في بلاد آشور القديمة مصدرها وثائق إدارية ومدوّنات قانونية، والصورة التي ترسمها عن المرأة هي أنها كانت خاضعة للرجل في مختلف ميادين الحياة. يمكننا أن نقول، انطلاقاً من الأدلة المتوافرة لنا، أن دور المرأة في آشور القديمة، التي كانت تمتدّ على الجزء الأكبر من الأراضي التي يتكوّن منها شمال العراق حالياً، لم يكن مختلفاً إلى حد كبير عن دور المرأة في بابل (في جنوب العراق)، أو في مناطق مجاورة أخرى. لكن يبدو أن معاملتها في القانون وعلى أيدي الرجال كانت أكثر همجية إلى حد كبير.

المصدر الأفضل للاطّلاع على وضع المرأة الآشورية مدوّنة قانونية تعود إلى حكم الملك العظيم تغلاث فلاصر الأول (1115-1077 ق.م.) في الحقبة الآشورية الوسطى. موضوع المدوّنة هو المرأة حصراً، وترسم صورة قاتمة عن وضعها.[ii] نظراً إلى طبيعة الأدلّة غير المكتملة، من الصعب أن نحدّد بالضبط إلى أي درجة كان القانون أشدّ قسوةً على النساء من الرجال، غير أن أحكام المدوّنة القانونية عن المرأة تُظهر بوضوح أن القوانين كانت فعلاً أشدّ قسوة على النساء. كان يمكن أن تتعرّض المرأة للعقاب ليس فقط عن تجاوزات ترتكبها بنفسها إنما أيضاً عن جرائم يرتكبها أنسباؤها وذلك عملاً بمبدأ "العين بالعين" (ius talionis).

"إذا أمسك رجل بالقوة بعذراء تقيم في منزل والدها، واغتصبها... يأخذ والد العذراء زوجة المغتصِب ويسلّمها للاغتصاب؛ ولا يُعيدها إلى زوجها، بل يتّخذها لنفسه".[iii]

وكانت ضحية الاغتصاب تُرغَم على الزواج بمغتصبها.

ومن العقوبات التي تُفرَض على العديد من الجنح الأخرى التي قد ترتكبها المرأة قطع أذنها و/أو أنفها، وربما اقتلاع عينَيها أو سلخ حلمتَيها، مع أنه لا يمكن تأكيد هاتَين العقوبتين نظراً إلى التلف اللاحق بالنص.[iv] في غياب معلومات أفضل، لا يمكننا أن نحدّد إذا كان الرجال يخضعون لعقوبات مماثلة وعن أية جرائم. غير أن القانون نفسه يذكر بوضوح أن صحة المرأة الجسدية رهنٌ بأهواء زوجها. فقد نص القانون على ما يأتي: "إلى جانب العقوبات التي تُفرَض على الزوجة [المشار إليها آنفاً]... بإمكان الرجل أن يجلد زوجته، أو يقتلع شعرها، أو يبتر أذنَيها، أو يضربها؛ لا تترتّب أي عقوبات عن سلوكه هذا".[v]

لم يحرم القانون في بلاد آشور القديمة المرأة بالمطلق من حقوقها كاملة، لكنها كانت فعلياً مواطِنة من الدرجة الثانية. كما في مجتمعاتٍ كثيرة يتوغّل فيها النظام الأبوي حتى العظم، كانت قيمة المرأة، بحسب تصوّرهم، تكمن في شكل أساسي في دورها المفترَض كحاضِنة لبذور الرجل.[vi] بناءً عليه، كانت حياتها الجنسية تخضع لرقابة مُحكَمة من أسرتها؛ فطهارتها وإخلاصها مسألةٌ مرتبطة بشرف العائلة. وفي هذه النقطة، تملك بلاد آشور القديمة قواسم مشتركة كثيرة مع ممالك أخرى في تلك الحقبة. لكن، وكما تُبيِّن هذه الأمثلة، كانت بلاد آشور تتفرّد بالهمجية التي تُفرَض فيها هذه الشروط.

حياة النساء الآشوريات الثريات

الأدلة عن الحياة التي عاشتها النساء فعلياً في بلاد آشور مستمدّة من الوثائق القديمة التي تتضمّن روايات لا تعبّر في الجزء الأكبر منها عن مختلف شرائح المجتمع. فغالبية النساء المذكورات في نصوص آشورية قديمة مرتبطات بالبلاط الملكي. خلال الحقبة النيو-آشورية أو الحقبة الآشورية الجديدة (883-608 ق.م.)، كانت نساء العائلة المالكة يعشن بالتأكيد حياة مختلفة جداً عن معظم النساء الأخريات. ثمة أدلّة بأنهن كنّ ثريات بطريقة مستقلّة، وكان بإمكانهن شراء الأراضي، ونعرف أيضاً أن كثراً منهن كنّ يبعثن الرسائل ويتلقّينها.

كانت الملكة شخصية مهمة في الحقبة الآشورية الجديدة، بيد أن أهميتها كانت تنبع في شكل أساسي من كونها والدة الملك العتيد. نعرف أسماء عشر ملكات من الحقبة الآشورية الجديدة، لكننا نملك معلومات وافية عن ثلاثة منهن فقط، وإحداهن تُدعى سامو-رامات، التي عُرِفت لاحقاً باسم سميراميس، وهي الترجمة اليونانية لاسمها الأصلي. كانت سميراميس عقيلة شمشي أدد الخامس (824-811 ق.م.)، وكانت صاحبة نفوذ واسع غير معهود في الأعوام الخمسة الأولى من حكم نجلها الشاب أدد نيراري الثالث بين عامَي 811 و783 ق.م. كانت مكانتها استثنائية بالنظر إلى الدور المعهود للنساء في تلك الحقبة إلى درجة أنها تحوّلت إلى شخصية خيالية شبه أسطورية في الروايات التي تناقلها الإغريق والأرمن لاحقاً.

يؤتى على ذكر نساء أخريات أيضاً في أرشيف البلاط الملكي. يبدو أن النساء المسؤولات أدّين أدواراً مهمة في إدارة منازل سيدات العائلة المالكة، وربما سيدات أخريات أيضاً.[vii] على الرغم من عدم وجود أدلّة جازمة عن أن النساء كنّ يعشن معزولات في البلاطات الملكية الآشورية، إلا أنه ربما استُخدِمت النساء المسؤولات لحماية طهارة النساء المنتميات إلى العائلة المالكة؛ يُشار إلى أنه في حقبة لاحقة تمت الاستعانة بالذكور المخصيين لتولّي هذه المهمّة.

خارج القصور، يطغى حضور المعابد في معظم الحالات التي يؤتى فيها على ذكر النساء. من الواضح أن المرأة كانت تؤدّي أدواراً مهمة  في العبادة. تشهد النصوص على وجود عدد كبير من النبيّات اللواتي كنّ يُعلنّ كلام الآلهة في العديد من مراكز العبادة المهمة في مختلف أنحاء الأمبراطورية. وكانت النساء يعملن أيضاً كاهنات. على الرغم من الاعتقاد السائد، ليست هناك أدلة كافية عن وجود عاهرات في المعابد في بلاد ما بين النهرين القديمة. يبدو أن هذا الادّعاء اخترعه كاتب يوناني في مرحلة لاحقة جداً مستخدِماً فكرة الدعارة في المعابد لإظهار الانحطاط الأخلاقي في بابل.[viii]

تأتي النصوص على ذكر عدد قليل من النساء الأخريات غير المرتبطات بالبلاط الملكي أو المعبد. وتشير إليهنّ بكلمة "حريمتو" (harimtu)، التي تُرجِمت لفترة طويلة بـ"عاهر"، لكن يبدو الآن أن المعنى يميل أكثر إلى الإشارة إلى امرأة عازبة ذات وجود اجتماعي مستقل، غير مرتبطة لا بزوج ولا بوالد ولا بمؤسسة. يبدو أن معظم الـ"حريمتو" كنّ فقيرات، على الرغم من بعض الاستثناءات اللافتة. للمصطلح دلالات سلبية في نصوص عدّة، حيث يُستخدَم بمثابة إهانة. يؤشّر ذلك على الأرجح إلى هشاشة النساء في المجتمع الآشوري القديم في غياب الحماية من العائلة أو الملاذ الذي تؤمّنه مؤسسة ما؛ لكنه يعني أنه بالإمكان أن يكون هناك وجود مستقل للنساء، ولو كان هشاً.[ix]

الصورة التي ترتسم عن وضع المرأة في بلاد آشور القديمة هي في الجزء الأكبر منها صورة امرأة تابعة، فوجودها الاجتماعي خاضعٌ إلى حد كبير لوجود الرجل في حياتها. كان ذلك شائعاً في مختلف أنحاء بلاد ما بين النهرين القديمة، لا بل في العالم القديم بأسره. وكما أشرنا آنفاً، كانت بلاد آشور تنفرد فقط بالهمجية التي كانت تُطبَّق بها هذه المنظومة الاجتماعية، والتي يمكن أن تُعزى، في رأيي، إلى الثقافة السياسية الفريدة التي كانت سائدة في آشور.

الإرهاب سلاحاً حربياً

عندما كتب بيرون: "بدا الآشوريون مثل ذئب ينقضّ على القطيع" في قصيدته الشهيرة "دمار سنحاريب" عام 1815، أوجز بدقّة ما كان العالم يعرفه عن الأمبراطورية الآشورية القديمة في ذلك الوقت، والذي كان مستمدّاً من الصورة السلبية جداً عن آشور في الكتاب المقدّس. وقد أضافات الحفريات الأثرية التي بدأت بعد ذلك بوقت قصير في العراق وفكّ رموز الخط الآشوري في وقت لاحق في ذلك القرن، قدراً كبيراً من التفاصيل إلى تلك الصورة، لكنها لم تغيّر كثيراً في ملامحها: تمجيد همجية الآشوريين القدامى. تمعّنوا جيداً في جدران النقوش من الحقبة الآشورية الجديدة في متاحف عدّة حول العالم، وسوف تجدون على الأرجح أدلّةً مباشرة عن هذا التمجيد. تروي تلك النقوش نسخاً مختلفة من القصّة نفسها: يُكتَب النصر للملك الآشوري الجبّار على رأس جيشه. ومن يقاومونه يُعامَلون بهمجية. يلقى كثرٌ مصرعهم في أرض المعركة، ويُداسون تحت الأقدام، وتخترق السهام أجسادهم، وتُدمِّر آلة الحصار الآشورية جدران المدينة. ومن يُلقى القبض عليهم أحياءً، تُقطَع رؤوسهم أو يُسلَخ جلدهم عن عظمهم وهم أحياء. ثم تُنقَل الغنائم - أغراض قيّمة، وتماثيل للآلهة، ومجسّمات معدنية، وحيوانات، وشعوب بأسرها – إلى آشور، بحسب ما دوّنه الكتبة الآشوريون، فيما يستريح الجنود في الجوار ويلعبون بتقاذف الرؤوس المقطوعة وكأنّها كرات.

من أوائل الملوك الذين استخدموا الإرهاب سلاحاً من أسلحة الدولة في آشور الملك تغلاث فلاصر الأول الذي حكم البلاد في المرحلة الآشورية الوسطى، بين عامَي 1114-1076 ق.م.، والذي صدرت المدونة القانونية عن المرأة في عهده؛ يبدو أنه زرع الخوف، عن سابق تصوّر وتصميم، لدى رعاياه وأعدائه على السواء.

بيد أن الملوك الذين حكموا في مراحل لاحقة خلال الحقبة الآشورية الجديدة ذهبوا أبعد من ذلك. تتباهى حوليات آشور-ناصر-بال الثاني (883-859 ق.م.)، المعروف في شكل عام بمؤسّس الأمبراطورية الآشورية الجديدة، بالفظائع التي ارتكبها بحق السجناء: "قطعتُ أقدام البعض وأياديهم؛ وآذان البعض الآخر وأنوفهم وشفاههم؛ وصنعت كومةً من آذان الشبّان؛ ومئذنةً من رؤوس الرجال المتقدّمين في السن. عرضت رؤوسهم بمثابة نصب تذكاري أمام مدينتهم".[x] في نص آخر، يروي آشور-ناصر-بال الثاني كيف سُلِخ جلد النبلاء في إحدى المدن المتمرّدة واستُخدِم لتغطية جدرانها.[xi] تُصوِّر نقوش آشور بانيبال (668-627 ق.م.) ملكاً عربياً مهزوماً وقد أُقحِم طوق كلبٍ في فكّه وأُرغِم على العيش داخل وجار.[xii]

لم تكن همجية غاشمة؛ بل حرب نفسية مدروسة الهدف منها ترهيب الأشخاص. وقد كانت لهذا الترهيب قيمة عسكرية وسياسية حقيقية. فالخوف من العواقب التي يمكن أن تترتّب عن الوقوف في وجه الجبروت العسكري لبلاد آشور قلّص من الاحتمالات التي ربما كانت لتفرض استخدام ذلك الجبروت. كان المرؤوسون يفكّرون ملياً قبل اتخاذ القرار بالتمرد، وكان الأعداء ينهارون ويستسلمون في مرحلة مبكرة أملاً في أن يلقوا معاملة أكثر تساهلاً. يرد في حوليات الملك الآشوري سرجون الثاني (722-705 ق.م.) أنه خلال حملة واسعة شنّها ضد مملكة أرارات الواقعة عند حدوده الشمالية، شعر السكّان بذعر شديد إلى درجة أنهم لم يحاولوا المقاومة، وقد تخلّى عدد كبير من القوات التابعة لمملكة أرارات عن ثكناتهم مع تقدّم الجيش الآشوري باتجاهها.[xiii]

الدين في خدمة الدولة

برّر الآشوريون أنفسهم هذا العنف بما يمكن وصفه باللاهوت السياسي. كان الدين في بلاد ما بين النهرين يقوم على الإيمان بآلهة عدّة؛ كانوا يؤمنون بوجود عدد كبير من الآلهة التي تمتلك صفات وقدرات متعددة تتخطى كلها بأشواط صفات البشر وقدراتهم. كان عدد كبير من المدن أو الممالك مرتبطاً بصورة خاصة بآلهة معيّنة، وكانت تلك المدن أو الممالك تضم مراكز مهمة للعبادة مخصّصة لإله محدّد. فعلى سبيل المثال، على الرغم من عبادة عدد كبير من الآلهة في بابل، كان مردوخ إله المدينة، وكان يُنظَر إلى بابل بأنها تُقدِّم عبادته على جميع الآلهة الأخرى.

كان آشور إله بلاد آشور. وهو أيضاً اسم العاصمة الأولى لبلاد آشور، ويشكّل الجذر الذي استُمِدَّ منه اسما آشور (Assyria) وسوريا في الزمن الحديث، عن طريق اللغة اليونانية القديمة.[xiv] لقد أكّد الآشوريون أن إلههم آشور هو رئيس كل الآلهة. بناءً عليه، كانت جميع الآلهة الأخرى تخضع له، وكان على جميع الأشخاص الذين يخدمون هؤلاء الآلهة أن يخضعوا للخادم الأكبر للإله آشور على وجه الأرض، ملك بلاد آشور، على الأرض كما في السماء.

حتى إن الآشوريين تبنّوا لأنفسهم دوراً في أسطورة إنشاء بابل Enuma Elish (استوحي الاسم من الكلمتَين اللتين تُستَهلّ بهما الأسطورة ومعناهما "عند الارتفاع عالياً") بهدف ترسيخ التبرير الديني لهيمنتهم السياسية. أعادوا كتابة الملحمة التي يتولى فيها إله بابل، مردوخ، دور كبير الآلهة، وأدرجوا فيها اسم أنشار الذي كان إلهاً أساسياً في البانثيون البابلي وكانوا يساوونه بآشور.[xv]

فرض الآشوريون سلطانهم من منظار ديني واضح. فعلى النقيض من الأمبراطوريات التي ظهرت في القرون القليلة الماضية، لم ينظر الآشوريون إلى أنفسهم ورعاياهم وأعدائهم من منظار عرقي. لم يعتبروا أعداءهم أدنى منزلةً منهم ككائنات بشرية، بل اعتبروا ببساطة أنهم فاجرون لا إله لهم. وإذا كانت ظروف الوجود الاجتماعي لهؤلاء الأعداء تختلف اختلافاً جذرياً عن ظروف الآشوريين، فلا بد إذاً من أنهم أيضاً برابرة وغير متمدّنين. حتى إن الآشوريين فسّروا الرعب الذي كان جيشهم يبثّه من منظار ديني. ورد في حوليات آشور-ناصر-بال الثاني أن "الرعدة من إشعاع آشور، إلهي، كانت مسيطرة [على مدينة سورو]".[xvi]

الجيش والأمبراطورية

نظراً إلى حماسة الدولة الآشورية للحرب، لعله ليس مفاجئاً أن الجيش كان المؤسسة الرئيسة والأداة الأساسية لبناء الدولة. كانت بلاد آشور الواقعة في الأراضي الخصبة في شمال العراق على ضفاف الروافد الوسطى لنهر دجلة، قادرة على إعالة العدد الكبير من السكّان، وكانت تشكّل وحدة جغرافية متراصّة ومتماسكة نسبياً وتسهل السيطرة عليها. كانت تحيط بها ممالك قوية تتمثّل في الممالك الكبرى الأخرى التي كانت قائمة في الألفية الثانية ق.م. ومطلع الألفية الأولى ق.م. – أي ممالك مصر وميتاني والحثيين وأرارات وبابل وعيلام، ولاحقاً، مملكة الميديين. لذلك كانت بلاد آشور معرَّضة للمخاطر في مراحل ضعفها نظراً إلى أنها كانت محاطة بممالك قوية من مختلف الجهات. أما في مراحل القوة، فكانت أيضاً في موقع متقدّم للسيطرة على المنطقة.

نالت بلاد آشور استقلالها من جارتها الشمالية، مملكة ميتاني، في أواخر الألفية الثانية بقوّة السلاح، وقامت في نهاية المطاف بضم الجزء الأكبر من مملكة ميتاني، وفي معرض ذلك، دافعت عن نفسها في مواجهة الحثيين والبابليين. كان الجيش بمثابة الحصن الذي نجح في حماية معاقل المملكة الآشورية من الاضطرابات الإقليمية التي أدّت إلى انهيار معظم الممالك في المرحلة الأخيرة من العصر البرونزي في أواخر الألفية الثانية ق.م. تُوِّجت الحملات العسكرية التي شُنَّت في عهد العديد من الملوك الذين تعاقبوا على الحكم، بتسلّم آشور-ناصر-بال الثاني ونجله شلمنصر الثالث سدّة الحكم، عندما أصبحت آشور القوة الأبرز في المنطقة.

بيد أن التمرّد الذي اندلع في نهاية حكم شلمنصر الثالث والحرب الأهلية المطوّلة تسبّبا بانحطاط نسبي في ظل ملوك ضعفاء على امتداد قرنٍ من الزمن. ثم عام 745 ق.م.، استولى حاكم نمرود على العرش في انقلاب دموي، وقتلَ العائلة المالكة. وقد تسلّم العرش تحت اسم تغلاث فلاصر الثالث، وحكَم بين عامَي 745 و727 ق.م.، وأصبح من أعظم الغزاة في التاريخ. خلال حياته، استولت جيوشه على الجزء الأكبر من العالم الذي كان معروفاً من سكّان بلاد ما بين النهرين في تلك الحقبة. وقد قام خلفاؤه بتوسيع الأمبراطورية التي أنشأها، حتى إنهم ضمّوا مصر إلى الأراضي الآشورية الشاسعة.

يكمن مفتاح النجاح الذي حققه تغلاث فلاصر في الإصلاحات التي أجراها في الدولة والجيش الآشوريَّين: فقد طبّق مركزية السلطة، وجعل الجيش مؤسسة نظامية محترفة، وفي معرض قيامه بذلك، أنشأ هيكلية وُصِفت بأنها الهيكلية الأمبراطورية الحقيقية الأولى في التاريخ. لقد اعتمدت الأمبراطوريات السابقة على فرق صغيرة من الجنود النظاميين وأعداد كبيرة من العناصر الذين يجري تجنيدهم موسمياً، وشنّت حملات للنهب والاستيلاء على الغنائم، وحملت أعداءها على الاستسلام عبر ترهيبهم وزرع الذعر في نفوسهم. أما الهيكليات البيروقراطية والعسكرية التي أنشأها تغلاث فلاصر الثالث فكانت رصينة في فاعليتها – ومنهجية في همجيتها. لقد أشرف فريق متفانٍ من المديرين على مصادرة الفائض من الشعوب التي تم غزوها، بغية دعم الجيش النظامي المؤلف من مهنيين عسكريين يعملون بدوام كامل، والذين كانوا من الآشوريين ومن الشعوب الخاضِعة للأمبراطورية.

وكذلك ازداد نطاق الإمبريالية الآشورية في أواخر الحقبة الآشورية الجديدة. فقد جرى إلى حد كبير توسيع السياسات التي كان الملوك الآشوريون يطبّقونها منذ القرن الثالث عشر ق.م.، على غرار الترحيل الجماعي للشعوب بهدف نشر الهدوء في الأراضي التي يتم غزوها، وزيادة أعداد السكان في معقل الأمبراطورية. وقد زعم الملك سنحاريب (705-681 ق.م.) بأنه قام عام 701 ق.م.، إبان حملته الثالثة لقمع الثورات في ساحل المتوسط، بترحيل 208000 شخص، ولا بد من أن هذا الرقم كان يشكّل نسبة كبيرة من سكّان المنطقة في تلك الفترة.[xvii]

لكن على الرغم من هذا البناء الأمبراطوري الهائل، وجد الآشوريون صعوبة في الحفاظ على سيطرتهم على أمبراطوريتهم الشاسعة. كانت الثورات شائعة، لا سيما في الأطراف، وكثيراً ما كانت الأمبراطورية تهتزّ تحت وطأة حروبٍ أهلية تُشَنّ على خلفية الصراع للوصول إلى العرش. وعندما حان أجل الأمبراطورية، كانت النهاية سريعة. فقد اندلعت حرب أهلية للاستيلاء على العرش إبان وفاة آخر الملوك العظماء في الأمبراطورية، آشور بانيبال، وأعقبتها اضطرابات وثورات استمرّت طويلاً وأضعفت الأمبراطورية كثيراً. وقد عجز الملك الآشوري سين-شار-إيشكون (627-612 ق.م.) عن إخماد ثورةٍ اندلعت في بابل بقيادة نبوبلاصر، وذلك بسبب الثورات المتواصلة في معقل الأمبراطورية الآشورية.

بحلول عام 616 ق.م.، نجح نبوبلاصر في انتزاع السيطرة على الجزء الأكبر من بابل من قبضة الآشوريين. ثم دخل في تحالفٍ مع سياخاريس، ملك الميديين، الذين كانوا خاضعين أيضاً للسيطرة الآشورية في السابق. فدنت نهاية الأمبراطورية الآشورية. بحلول عام 612 ق.م.، كانت قد تمت السيطرة على جميع المدن في المعقل الآشوري ونهبها. وقد تمكّن آخر ملوك الحقبة الآشورية الجديدة، آشور أوباليت الثاني، من الصمود في الغرب لبضع سنوات إضافية قبل أن تصبح الأمبراطورية الآشورية حاشيةً من حواشي التاريخ.

على الرغم من أن الآشوريين استمروا حتى يومنا هذا كجماعةٍ متمايزة في العراق، إلا أنهم تحوّلوا إلى لاعبين صغار في خدمة أمبراطوريات أخرى في تيار التاريخ الكبير. فقد خدم جنود آشوريون في الجيش الفارسي الذي هزمه أبناء أثينا في معركة ماراثون عام 490 ق.م. وجنّدت الأمبراطورية الرومانية فيالق آشورية. وفي الأزمنة الحديثة، خدم الآشوريون في القوات العراقية المحلية التي استخدمها البريطانيون للسيطرة على العراق بعدما استولوا على البلاد في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وبالطبع، عانى الآشوريون، الذين اعتنقوا المسيحية في مطلع عهد الأمبراطورية الرومانية، على أيدي تنظيم "الدولة الإسلامية".

العسكريتارية والأصولية والإرهاب والمرأة

يُعيدنا ما تقدّم إلى مسألة العلاقة بين التعصّب الديني، واستخدام الإرهاب لغايات سياسية، والمعاملة الهمجية للمرأة. مما لا شك فيه أن القاسم المشترك بين الأمبراطورية الآشورية و"الدولة الإسلامية" هو أن كلَيهما أبصرا النور من رحم العنف في بيئة سياسية عنيفة وغير مستقرة، حيث كان النجاح العسكري ولا يزال شرطاً أساسياً للبقاء.

في مثل هذه الظروف من الأزمة الوجودية، تُوجَّه كل الموارد نحو الهدف الفوري المتمثل في السيطرة لضمان البقاء. يصبح التبرير الأيديولوجي لهذا النضال الوجودي شبه أُخرَوي في نبرته، مستحضِراً صراعاً مانوياً بين الخير والشر.

في سياق مثل هذا المشروع السياسي، لا يتمتّع الأشخاص بحقوق، بل يُستخدَمون لأغراض معيّنة. وهذا الواقع يطال في شكل خاص النساء لأنه في بعض المجتمعات، المرأة مغلوبٌ على أمرها، أو هي على الأقل في موقع ضعف بنيوي، ولذلك هي أكثر عرضة للاستغلال – على المستوى الفردي وكمجموعة تسعى إلى تثبيت حقوقها.

هنا تتجلّى بالطبع نقاط التشابه الكامنة بين الأمبراطورية الآشورية الجديدة وتنظيم "الدولة الإسلامية": كلاهما مشروعان سياسيان عسكريتاريان تخدمهما أيديولوجيات دينية-سياسية متطرّفة تستخدم الإرهاب بمثابة مضاعِف للقوة من أجل تعزيز مآربها السياسية. وليس مفاجئاً أن وزر الأذى الأكبر في هذه المشاريع السياسية تتحمّله النساء اللواتي يشغلن المواقع الأضعف على المستوى البنيوي في المجتمعات القائمة على نظام أبوي شديد الوطأة.

---

ترجمته من الإنكليزية نسرين نادر

 

[i]  Gianluca Mezzofiore, Arij Limam, Sabine Schwab, Iraq: Isis take sledgehammers to priceless Assyrian artefacts at Mosul museum - February 26, 2015 12:34 GMT

http://www.ibtimes.co.uk/iraq-isis-take-sledgehammers-priceless-assyria….

[ii]  Marten Stol, Women in the Ancient Near East, Translated by Helen and Mervyn Richardson, 2016 Walter de Gruyter Inc., Berlin, 2016, p.662.

[iii]  المرجع نفسه، ص. 680-681.

[iv]  يصعب الجزم في هذا المجال بسبب التلف اللاحق بالنص.

[v]  Stol, p.681.

[vi]  المرجع نفسه، ص. 651.

[vii]  Stol, p.533.

[viii]  المرجع نفسه، ص. 267، 339، 427.

[ix]  Stol, pp.417-8.

[xi]  Albert Kirk Grayson, Assyrian Royal Inscriptions, Part 2: From Tiglath-pileser I to Ashur-nasir-apli II, Wiesbaden, Otto Harrassowitz, 1976, p.124.

[xii]  C.L. Crouch, War and Ethics in the Ancient Middle East: Military Violence in the Light of Cosmology and History, Walter de Gruyter GmbH & Co, Berlin, 2009, pp.152-3.

[xiii]  H.W.F. Saggs, “Assyrian Warfare in the Sargonid Period,” Iraq, Vol. 25, No. 2 (Autumn, 1963), pp.153-4.

[xiv]  Richard N. Frye, “Assyria and Syria: Synonyms.” Journal of Near Eastern Studies, 1992, http://www.journals.uchicago.edu/doi/abs/10.1086/373570?journalCode=jnes

p.281.

[xv]  Donald A. Mackenzie, Myths of Babylonia and Assyria, The Gresham Publishing Company, London, 1915, p.326.

[xvi]  K. Lawson Younger, Jr., Ancient Conquest Accounts: A Study in Ancient Near Eastern and Biblical History Writing, Sheffield Academic Press, Worcester, 1990, p.311, fn.14.

[xvii]  University of Arizona, Prism of Sennacherib: An Assyrian King’s Wars, http://www.u.arizona.edu/~afutrell/w%20civ%2002/prism.html