مجرد قناع شكلي: رياء مقلق في مقاربة حزب البعث لحقوق المرأة والعلمانية في سوريا

لم يحسم النظام البعثي في سوريا يوماً الجدل حول مسألة علمانية الدولة. ورغم ادّعائه الدائم بالعلمانية عبر خطابه الإعلامي والرسمي، فهذا يتناقض بصورة مستمرة مع سلوكه وطريقة إدارة الدولة. يتفاخر حزب البعث الذي يسيطر على البلاد منذ أكثر من نصف قرن، بدستوره العلماني، غير أنه لم يكن قادراً على إقناع أحد بجدّية علمانيته. في الثمانينيات، عندما كانت قوات رفعت الأسد، عم الرئيس الحالي، تنزع الحجاب بالقوة عن رؤوس النساء في دمشق، كان التلفزيون السوري يواظب على نقل صلاة الجمعة أسبوعياً. وفي التسعينيات، عندما كان آلاف المعتقلين الإسلاميين يقبعون في سجون النظام، كانت أعداد الجوامع تزداد، ومعاهد تحفيظ القرآن المدارة أمنياً تفتح أبوابها لآلاف الطلاب الجدد الذين يقاتل قسم كبير منهم اليوم مع المجموعات الإسلامية ضد نظام الحكم في دمشق.

حقوق المرأة؟ ليست شأناً عاماً

الشيء الوحيد الذي لم يكن من الممكن الادّعاء من خلاله بأن الدولة علمانية، كان قوانين المرأة التي هي قوانين دينية خالصة مع وجود ثمانية قوانين للأحوال الشخصية تعتمد على الأديان والمذاهب في السيطرة على شؤون النساء. كان الوجه الذي أظهره النظام السوري للعالم الخارجي يختلف تماماً عن وجهه من الداخل، وهذا ينطبق أيضاً على موقفه من المسائل الجندرية. لقد عمل النظام على منع النساء المحجّبات من أي ظهور في مواقع إعلامية أو سياسية، في محاولة لإظهار الوجه العلماني الذي يدّعيه النظام. وحتى العام 2011، لم تكن هناك وزيرة واحدة محجبة أو سفيرة أو حتى مذيعة محجّبة، لكن هذا لم يعكس واقع النساء الحقيقي، فقد كانت مؤسسات الدولة ووزاراتها تعجّ بالنساء المحجبات، ما يعني أن العلمانية كانت مجرد قناع تضعه الدولة لا أكثر.

لم يعمد النظام البعثي، منذ نشوئه في العام 1963، إلى تغيير مادة واحدة في أي من قوانين الأحوال الشخصية، الإسلامية أو المسيحية أو سواها، كي تخرج النساء السوريات من سلطة الأديان في ميادين متعددة، مثل الزواج والطلاق والإرث، الولاية والوصاية وسواها. كما أنّ التغيير لم يطل أياً من القوانين الأخرى المتعلقة بحقوق المرأة كقانون العقوبات العام وقانون الجنسية. وكل التعديلات التي شهدتها "الدولة العلمانية" كانت مجرد رتوش بسيطة سعت من ورائها، في تكتيك استراتيجي، إلى الإيحاء بأنها ترغب في منح النساء مزيداً من الحقوق لكنها مغلوبة على أمرها في مواجهة المرجعيات الدينية للطوائف التي كانت تحاول أن تُبقي على شؤون المرأة وحقوقها تحت وصايتها. لقد تعمدت الدولة أن تُبقي لرجال الدين، ومن مختلف الطوائف، على دور ما في الفضاء العام، فكان هذا الدور هو منحهم القدرة على التأثير في حقوق المرأة التي أصبحت المجال الوحيد الذي يُسمَح فيه لهم بإبداء الاعتراضات.

بتاريخ 8 آب/أغسطس 2009، صدر عن القيادة القطرية لحزب البعث تعميماً توضح فيه موقف الحزب من واحدة من أسوأ الجماعات الدينية وأكثرها تخلفاً، وهي جماعة الشيخ عبد الهادي الباني. كان أبرز أفكار هذه الجماعة أنها لا تؤمن بتحرير المرأة، وترفض اختلاط النساء والرجال، وتقف ضد عمل المرأة خارج المنزل، وتعتبر وجود التلفزيون محرّماً. كما تسعى هذه المجموعة إلى إقامة أمة إسلامية لا عربية، ما يعني أن أهدافها تتناقض كلياً مع أي دستور علماني أو حتى نصف علماني. يقول التعميم إن حزب البعث ليس له أي موقف سلبي من هذه الجماعة الدينية طالما بقيت في مجال المعتقد الديني.

 وقد أرسل حزب البعث آنذاك أحد أعضائه لزيارة الصحف الرسمية كي يبرّر موقف الحزب من هذا التعميم، إلا أن الصحافيين العاملين في الإعلام الرسمي لم يتجرأوا على توجيه أي سؤال لهذا المسؤول عن مدى انسجام هذا التعميم مع موقف الحزب العلماني. بالتأكيد لو أن التعميم صدر عن أي نظام علماني بكل ما للكلمة من معنى، لكان بمثابة فضيحة كبرى، لكن من المعلوم أن العلمانية السورية هي مجرد قشور، ووسيلة دعائية للنظام لا أكثر.

القبيسيات مثالٌ آخر على تحالف النظام مع أشد الحركات الدينية تخلفاً. تعمل جماعة القبيسيات بموافقة النظام وأجهزته الأمنية، وينظر إليها العلمانيون بأنها من أخطر المجموعات الدينية كونها تستهدف نساء الطبقات العليا وتحولهن إلى تابعات مخلصات لزعيمة المجموعة الشيخة منيرة القبيسي. كما أن للجماعة عدداً كبيراً من رياض الأطفال التي تعتمد فكرة التنشئة الإسلامية للأطفال، وتلتزم هذه الجماعة بالدعاء المستمر للرئيس الأسد كما كانت تفعل تماماً مع أبيه من قبله. على الأرجح أن القبيسيات هي اليوم الجماعة الإسلامية الأكثر تأييداً لنظام الحكم في دمشق، ولا يزلن يمارسن نشاطهن الإسلامي والدعوى علانيةً على بعد مئات الأمتار فقط من مقر حزب البعث "العلماني".  

خمسون عاماً من الشلل

انطلاقاً من هذه المعطيات، ليس مفاجئاً ربماً أنه طوال خمسة عقود من حكم البعث، كان هناك جمود تام على صعيد حقوق المرأة، وكان هذا الجمود انعكاساً لصورة النظام السياسي نفسه. لقد تم إيجاد منظمة حكومية تُسمّى الاتحاد النسائي العام وتتبع لحزب البعث، وهي الوحيدة المسموح لها بالعمل في أوساط النساء. يعمل الاتحاد في مجال محو الأمية ورياض الأطفال والصحة الإنجابية، لكن حقوق المرأة لم تُدرَج يوماً على قائمة مهامه. 

لم تكن الحياة العامة في سوريا قادرة على إنتاج مجتمع مدني حقيقي أو حركة حقوق إنسان جادة بسبب القمع الأمني واحتكار العمل الأهلي من قبل السلطة، وقد قامت الدولة بفرض وصايتها وشروطها على كل شيء. فهي منعت الترخيص لأي منظمة حقوقية على الإطلاق، وخلقت منظمات "الغونغوز" التي كانت مرتبطة بشكل كامل بالسلطة، وتركت حقوق المرأة تحت رحمة مرجعيات دينية.

 بدأت الدولة تعيين نساء في مناصب وزارية، وفي مجلس الشعب، وفي السلك الدبلوماسي بنسبة ثابتة نادراً ما يتم تخطّيها. كانت هناك على الدوام وزيرتان في الحكومات المتتالية تتسلمان وزارات غير سيادية، ولم يُسجَّل أن تسلمت النساء حقيبة وزارية سيادية ولو لمرة واحدة، كما أن الكوتا النسائية في البرلمان حُدِّدت بثلاثين نائبة من أصل 250، أو ما نسبته 12% وهي نسبة ثابتة دائماً. وطوال فترة حكم البعث، فشلت النساء في الوصول إلى البرلمان كمرشحات مستقلات ذلك أن النظام الانتخابي للبرلمان كان يوصل قوائم يرشحها البعث نفسه بعد ترك عدد قليل من المقاعد للمستقلين، الاستثناء جاء مرة واحدة عندما تمكنت سيدة من الوصول بشكل مستقل. الأمر ذاته ينطبق على النساء في السلك الدبلوماسي، فالكوتا النسائية لهذه المواقع لم تكن نابعة من أية اعتبارات تتعلق بالكفاءة أو من الرغبة في تعزيز حقوق المرأة، بل إن العامل الوحيد الذي يؤخَذ في الاعتبار عند تعيين النساء، كما الرجال، في هذه المناصب، هو الولاء ولا شيء سواه.

علمانية شكلية بعيداً عن الجوهر

قبل أيام فقط من تسلمها وزارة التعليم العالي في تسعينيات القرن الماضي، كانت د. صالحة سنقر ترتدي حجاباً، وما إن تلقت قرار تعيينها كوزيرة في حكومة البعث حتى وصلتها تعليمات ضمنية من الأجهزة الأمنية بأن الحجاب ليس مرحَّباً به ليرافقها في مهمتها كوزيرة. خلعت الوزيرة الجديدة الحجاب، ولم تجلبه معها إلى وزارتها لكنها جلبت معها أفكارها الدينية وخلفيتها المحافظة. هكذا كانت علمانية البعث، علمانية شكلية فقط أما في العمق فكانت شيئاً مختلفاً تماماً.

 وزيرة الثقافة الأزلية نجاح العطار مثالٌ آخر عن هذه الظاهرة، فقد بقيت وزيرةً للثقافة لعقود طويلة جداً ليس لأنها تتمتع بكفاءات فريدة من نوعها بل لأنها شقيقة أحد ألدّ أعداء النظام، وهو مرشد الإخوان المسلمين السوريين سابقاً عصام العطار. عندما أرسل النظام استخباراته لاغتيال عصام العطار في العام 1982 أثناء وجوده في المنفى في ألمانيا (لم يعثروا عليه، وقتلوا زوجته بدلاً منه)، سُلِّمت الحقيبة الوزارية إلى شقيقته مكافأةً لها على ولائها.

أراد النظام، من خلال ذلك، أن يُظهر أنه يستطيع الوصول إلى معارضيه أينما كانوا، أما أنصاره فيُكافأون على ولائهم له. الوزيرة العطار هي اليوم نائب رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية. إنها المرة الأولى التي تتسلّم فيها سيدة منصب نائب لرئيس الجمهورية، لكن يبدو أنه من متطلبات "البروباغاندا العلمانية" في هذه الأوقات أن تكون سيدة بهذا المنصب.  

بالتأكيد يمكن الاستشهاد بالكثير من الأمور المشابهة التي تدل على أن العلمانية ليست سوى شعار فارغ يستعين به النظام للانقضاض على معارضيه الإسلاميين. الادعاء بعلمانية الدولة والتظاهر بتأييد حقوق النساء من أهم ركائز النظام، لكن واقع النساء الفعلي شيء مختلف، فهنّ يتعرّضن للتعنيف  في المنزل ويُغتصَبن ويُقتَلن بحجة الشرف ويُحرَمن من الميراث ويُمنَعن من حق اختيار الزوج، وذلك بعيداً عن أعين الإعلام والرأي العام.

"جرائم الشرف" والعنف ضد المرأة

الجرائم المسمّاة "جرائم الشرف" من أسوأ أشكال الظلم اللاحق بالنساء في سوريا. يتمتّع القتلة الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم بالحماية التي يؤمّنها لهم قانون العقوبات. تُزهَق أرواح النساء بسبب الاشتباه في سلوكهن أو إقدامهن على الزواج من رجل من طائفة أخرى. ويُقتَلن أحياناً لمطالبتهن بحقهن في الميراث. على الرغم من التعديلات التي أُدرِجَت في المادة 548 من قانون العقوبات، والتي تنص على أن عقوبة جريمة الشرف يجب ألا تقل عن السجن لمدّة خمس إلى سبع سنوات، فإن الصلاحيات الاستنسابية الممنوحة للقضاة تتيح للقتلة، حتى يومنا هذا، الإفلات من العقاب.

كان يُمنَع تغطية كل ما له علاقة بهذه القضية وسواها من القضايا المماثلة في الإعلام الرسمي حتى وقت قريب. وعندما قرر النظام الانضمام إلى اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" (CEDAW) في العام 2002، رفع المنع عن تغطية بعض المسائل المتعلقة بحقوق المرأة في الإعلام الرسمي، خاصة وأن الأجهزة الأمنية لم تصنّف حركة حقوق المرأة في سورية على أنها حركة سياسية خالصة كما هو الحال في إيران مثلاً، ما أتاح المجال فجأةً أمام فتح الطريق لمناقشة بعض القضايا مثل العنف ضد المرأة.

وللمرة الأولى في تاريخه، أجرى الاتحاد العام النسائي، وهو جسم حكومي، في العام 2005 دراسة عن العنف ضد المرأة بمساعدة خبيرات مستقلات، خلص فيها إلى أن واحدة من بين أربع نساء سوريات تتعرض لأحد أشكال العنف. للأسف لم يتبع هذه الدراسة أي اعتراف رسمي بأن العنف ضد النساء هو مشكلة مجتمعية، ولم تُتَّخَذ أية إجراءات أو قوانين للحد من العنف. لم يُقر النظام أي قانون يتعلق بالعنف المنزلي رغم أن هناك مشروع قانون مرمياً منذ سنوات في أدراج مكتب رئيس الوزراء قامت ناشطات وقانونيات سوريات بإعداده، كما لم يتم افتتاح مراكز جديدة لاستقبال النساء المعنّفات. فقد كان هناك ملجآن فقط يتبعان للكنيسة، واحد في دمشق والآخر في حلب، لكنهما لم يعودا قادرين على استيعاب مزيد من النساء، والمركز الوحيد الذي ترعاه وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل هو بمثابة سجن وليس مركز حماية.

توقيع اتفاقية "سيداو" – تغيير في مجال حقوق المرأة؟

في العام 2002، وقّعت الحكومة السورية على اتفاقية مناهضة كافة أشكال التمييز ضد المرأة المسماة "سيداو"، لكنها تحفظت على أبرز بنودها[i] لتحولها إلى اتفاقية لا قيمة لها. وبعد سنوات، تحديداً في العام 2009، ظهر التناقض الأبرز بين واجهة الدولة العلمانية ومضمونها الديني عندما تم تكليف لجنة سرّية من الشيوخ (بينهم شيخ معروف بمحافظيته) بإعداد مشروع جديد للأحوال الشخصية، وكانت النتيجة وضع مشروع متخلّف يعتبر المرأة مخلوقاً ناقص الأهلية وتابعاً للرجل. للمرة الأولى نجحت جمعيات حقوقية ونشطاء في المجتمع الأهلي السوري في منع تمرير هذا القانون.

مع قيام الثورة السورية في العام 2011، استخدم النظام العلمانية في آلته الدعائية لمخاطبة الرأي العالمي، مسلِّطاً الضوء في شكل أساسي على دوره في محاربة الإرهاب. لكنه في الداخل واصل سياساته الخطيرة ضد النساء، واستخدمهن وسيلةً للضغط على العائلات المعارضة ودفعها إلى الرضوخ، وقد تم توثيق آلاف الاعتقالات لنساء وأطفال واحتجاز عدد كبير منهم كرهائن من أجل الضغط على الرجال لتسليم أنفسهم. وكذلك تم توثيق حالات اغتصاب وتعذيب نساء للغرض نفسه، ولم تنجُ النساء المواليات من هذه الانتهاكات، فقد سُجِّلت عمليات استغلال جنسي ضد زوجات العسكريين والمدنيين الذين قُتِلوا دفاعاً عن النظام نفسه، عبر استغلال أوضاعهن الاقتصادية الهشّة أو بذريعة حمايتهن بعدما أصبحن أرامل.

في الحرب الأهلية الدائرة في سوريا، يعوّل النظام المسمّى "علمانياً" بشدّة على ميليشيات طائفية. واللافت أيضاً أنه في الصراع الذي يخوضه النظام من أجل الإيحاء بأنه علماني، عمد في الوقت نفسه إلى تأسيس مجموعات عسكرية نسوية أطلق عليها اسم "لبوات الأسد". تتداول وسائل الإعلام صور هؤلاء النساء على نطاق واسع، لكنها تمتنع عن إظهارهن في ساحات المعارك. في الجانب السياسي، يقوم النظام أيضاً بانعطافة كاملة. فقبل العام 2011، حاول النظام أن يثبت علمانيته عبر إبقاء النساء المحجّبات بعيدات عن الأنظار. أما الآن فيسعى إلى إخفاء طبيعته العلمانية عبر تعمّد تعيين وزيرة محجّبة في الحكومة رداً على التقارير التي تعتبر أن الحرب تُشَن بطريقة تؤدّي إلى تغيير الطبيعة الديمغرافية السورية على حساب الأكثرية.

الخطاب والممارسة

لطالما كان هناك تضاربٌ بين علمانية النظام المزعومة وممارساته الفعلية، منذ أيام حافظ الأسد. فقد قرّر هذا الأخير، على الرغم من الخطاب الذي كان يروّج له، أن يُدير ظهره للعروبة ويتحالف مع إيران بعدما كانت قد أصبحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتبنّى أجندة مذهبية واضحة. بيد أن النظام بحاجة الآن إلى مظهره العلماني أكثر من أي وقت مضى، مع التركيز على صورة حقوق المرأة وحرياتها. فهذه إحدى الطرائق القليلة المتاحة أمامه للتمايز بطريقة إيجابية عن الإسلاميين الذين يشكّلون مصدر القلق الأكبر للغرب. لكن على ضوء الانتهاكات السافرة لحقوق المرأة في سياق سحق الثورة السورية، يواجه النظام صعوبة متزايدة في الإبقاء على هذا الوهم والاستمرار في ترويجه.

 

[i] البنود 2، 9، 15، 16 و29، لمزيد من المعلومات، انظر أيضاً: http://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/econvention.htm#article1