مقالات مختارة من العدد العاشر لمجلّة "وجهات نظر"

الافتتاحية

عندما أعلن تنظيم "داعش" عن إنشاء ما يُسمّى "الدولة الإسلامية"، أثار ذلك نقاشات حول ما إذا كانت هذه الخطوة تعني بداية "نهاية سايكس-بيكو" – أي الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية بصورة مصطنعة في مستهل القرن العشرين. بيد أن الحدود هي أكثر من مجرد "خطوط في الرمال": إنها أداة للتقسيم. في حين أن القلّة المحظيّة قد تعبر الحدود بطريقة شرعية بمجرد إبراز جواز سفرها، تُشكّل هذه الحدود، بالنسبة إلى الأكثرية، عوائق صعبة لا بل مستعصية. يحاول أشخاصٌ هارِبون من الحرب أو التغير المناخي أو المشقّات الاقتصادية، عبور المتوسط لكن كثراً يغرقون أثناء محاولتهم القيام بذلك.

يزداد عبور الحدود بطريقة شرعية صعوبةً، ما يترك أعداداً كبيرة من الأشخاص الذين يتملّكهم يأسٌ شديد، تحت رحمة المهرِّبين أـو المتاجرين بالبشر؛ وفي هذه المعادلة، الضحايا هم من يتعرّضون في أغلب الأحيان للملاحقة القانونية والعقاب والترحيل، وليس الأشخاص الذين يتقاضون منهم المال مقابل الركوب على متن زوارق بالكاد تصلح للإبحار.

إذاً علامَ هي مقبلةٌ هذه المنطقة من العالم؟ يناقش الكاتب السوري حايد حايد إذا كان تقسيم سوريا خياراً ممكناً، ما يطرح بالضرورة المسألة المتعلقة بمستقبل الأكراد، والتي اكتسبت أهمية متزايدة إبان التدخل التركي في سوريا. ويستكشف بكر صدقي، من جهته، إذا كان ما هو مطروحٌ على المحك يتعلق بالحكم الذاتي أو الفدرالية أو شيء مختلف تماماً.

في حين أن الحدود بين الدول قد تكون الأفضل توثيقاً، ثمة عددٌ كبير من خطوط التقسيم الأخرى: خطوط اجتماعية، وإثنية، ودينية، وأيديولوجية. مدى صلابة التقسيمات أو قابليتها للاختراق عرضة للتغيير، غير أن الحدود، أياً تكن، تحمل في طيّاتها ذكرى مؤلمة عن أنها ليست خياراً يتّخذه الفرد لتحديد الجهة التي يقف فيها.

انضمت هناء إدور، العضو في الحزب الشيوعي العراقي، إلى قوات المقاومة العراقية، البشمركة، في ثمانينيات القرن العشرين. تعيدنا إدور إلى زمن طوّرت فيه مع رفاقها رؤيةً عن كيفية تجاوز الحدود التي تفرضها الإثنية والدين والطبقة والجندر.

ينظر الفنانون اللبنانيون في مجموعة "كنوز روم" الإعلامية في وضع الأشخاص الذين يعيشون في جماعات تتأثّر في شكل خاص بترسيم الحدود – وفي هذا العدد، تضيء تمارا قبلاوي، من المجموعة، على هذا المشروع الذي شاركت في تصميمه.

يناقش محمد ديبو العلاقة بين عالمٍ آخذ في التقلّص عملياً والتحدّيات الجديدة التي تطرحها العولمة على الهوية. في عالمنا حيث يحظى البعض بفرصة التنقّل ويُضطرّ البعض الآخر إلى الهجرة، يتحوّل الأشخاص إلى بدو عصريين؛ هذه هي على الأقل المقاربة التي يعتمدها الرسّام محمد العولي والرسّامة الألمانية كارين ستروبل في مشروعهما "حدود مرنة". يشكّل المغرب محطة عبور أو ترانزيت للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء، ونظراً إلى تجاوُر بعض حدوده مع القارة الأوروبية، يتأثّر على وجه الخصوص بالتنظيمات الحدودية.

تهزأ المجلة الأردنية الساخرة "الحدود" بالجهود التي تبذلها أوروبا لإغلاق حدودها، فيما يقول الكاتب المغربي مهدي عليوة عن "جدران الحصن الأوروبي" بأنها مليئة بالتصدّعات التي تفسح في المجال أمام ارتكاب تجاوزات انتقائية وملتبسة. وبالطريقة عينها، ينظر خالد منى إلى مدينة طنجة وكيف تشوّش الهجرة وتجارة المخدرات مفهوم ضبط الحدود كوسيلة من وسائل تعزيز الأمن.

أبراهام زيتون يجري مقابلة مع الممثلة سوسن بو خالد عن فهمها للحدود الخفيّة للجسم والفنون.

أخيراً، الرسوم التصويرية في هذا العدد من إعداد الرسّامة اللبنانية نادين بكداش التي تبدي رأيها في المساحة والحدود والتجاوزات.

ختاماً نستأذنكم قليلاً للاحتفال بصدور الطبعة العاشرة من "آفاق" عن مكاتب الشرق الأوسط العربي وشمال أفريقيا تحت عنوان "حدود"!

بنتي شيلر، دوروثيا ريشفسكي، بيتينا ماركس، ويواكيم بول.

عن حدود خفية - نقاش مع الكاتبة والمخرجة والمؤدّية سوسن أبو خالد

في عصر يوم مشمس يتخلّله نسيم عليل في أيار/مايو، تجلس سوسن أبو خالد بهدوء في زاوية أحد المقاهي في بيروت وهي تحدّق في صورة التقطتها في كينكاكو-جي، معبد الجناح الذهبي، في كيوتو. يتميز المعبد بتصميمه المرهف، فهو مغطّى بالذهب ومزيّن بأوراق مطلية بالذهب؛ والهدف من تصميمه ليس فقط التخفيف من وطأة الأفكار والمشاعر السلبية عن الموت وتبديدها، بل أيضاً توليد خلفية من الشطَط البصري. عادت سوسن للتو من اليابان، حيث شاركت في مهرجان المسرح العالمي في شيزووكا من خلال عرضها المسرحي الأخير بعنوان "أليس"، ويبدو عالمها الفني مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بروح كينكاكو-جي. تماماً كما أن فرط البريق في المعبد يُستخدَم للتشجيع على قبول الموت، تتبنّى سوسن فلسفة مشابهة في إخراجها وأدائها حيث يتم تسخير العرض البصري لتقديم الموت على المسرح. تفصل بين الاثنَين عوالم وأشكال لكن خيطاً مشتركاً يمتدّ بينهما فيشكّل الأساس لسرديات جديدة.

إذا كانت أوروبا حصناً، فجدرانها مليئة إذاً بالتصدعات: حالة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء في المغرب

نراهم يومياً في نشرات الأخبار. حشودٌ من الأجساد السوداء تكتظّ بها مراكب غير صالحة للإبحار، أجساد مغطّاة بخِرَقٍ تتمدّد، بلا حيل ولا قوة، منهوكة القوى، على الرمال البيضاء. لا وجوه. لا أسماء. تُعيد هذه الصور، مراراً وتكراراً، توليد تخيّلات عن اجتياح أوروبا من "الآخر" المتشدّد؛ تخيّلات تبرّر بدورها الإجراءات الاستثنائية المتمثّلة في الإدارة العسكريتارية والاعتباطية للهجرة. هنا أيضاً، تتشابه الصور وتتماهى: سفنٌ عسكرية، رادارات طوّافة، عناصر يرتدون بزّاتهم ويضعون قفّازات يعترضون الأجساد اليائسة. غالباً ما نرى هذه الصور. لم يبقَ ما نراه أو نفكّر فيه؛ أو نفعله: يبدو وكأنه يتعذّر وقف "تدفّق" هؤلاء الأشخاص والرد العنيف من الدول على عبور حدودها. اقلبوا الصفحة، غيِّروا المحطة. ومع ذلك، هذا "التدفق" للأشخاص هو ما سعيت بالضبط إلى تصويره بطريقة مختلفة: سوف أحاول أن أُبيِّن أن الهجرة العابرة للأوطان لسكّان أفريقيا جنوب الصحراء الذين يمرّون عبر المغرب العربي ليست "اجتياحاً" أحادي الاتجاه وعنيفاً وحاشداً، بل تطوّرت وفقاً لأنماط معقّدة، على امتداد سنوات عدّة في معظم الأحيان، وتطبعها أشكال متعدّدة من النشاط والتعاون من جانب المهاجرين.

الحدود والمخدرات والمهاجرون في شمال المغرب

على الرغم من أنه لمفهوم الحدود تاريخٌ طويل، يبقى تعريفها ملتبساً إلى حد بعيد. فهو يعتمد على مجموعة كبيرة من العناصر السياسية-الاجتماعية والاقتصادية المعقّدة التي تتناقض في بعض الأحيان. والسبب الأساسي هو صعوبة تحديد شكل الحدود ووظيفتها، بما أنها تتغير وتتطور باستمرار. وهكذا يتغيّر مفهوم الحدود عند الانتقال من اختصاص أكاديمي إلى آخر. ثمة عددٌ من المقاربات المتنوّعة للمفهوم، ويستخدم كل ميدان أفكاراً وفلسفات خاصة به؛ فسواءً في الميدان التاريخي أو الجغرافي أو السياسي أو السوسيولوجي أو الأنثروبولوجي أو النفسي أو غير ذلك، من الواضح أنه ليس هناك تعريفٌ واحد للحدود. بيد أن مفهوم الحدود يعتمد إلى حد كبير على مفهوم جون لوك (John Locke) عن القانون الطبيعي وترسيم حقوق الملكية الخاصة. يقع هذا المفهوم في صلب إنتاج المعارف في العلوم الاجتماعية، وهو متداوَل أيضاً بكثرة في العلاقات الدولية.