فيلة اسمها مونيكا

حتى بعد عقود من المناقشة والبحث والدردشة، لا يزال معنى العولمة في الظلام. تتعدد الأعراض، وتتراكم الشروط الأخرى، وتُطلَق التفسيرات التاريخية وتُرفَض فوراً، ويجري تفكير بالجداول المالية والثقافة والإنترنت – لكن معنى العولمة يبقى غير واضح في أغلب الأحيان. ويتجادل الخبراء حول إن كانت العولمة مجرد ظاهرة جديدة لا يزيد عمرها عن بضعة عقود، أو إن كانت قد بدأت قبل قرون، أو إن كانت موجودة كل الوقت.

تشكّل العولمة مسرحاً لتسليط مخاوفنا وآمالنا السياسية الخاصة، ويُوصَى بها أحيانا كوسيلة للخلاص من كل الشرور تقريباً، كالتخلف، والبطالة والفقر الجماعيَّين، وتُعتبَر في أوقات أخرى المشكلة الرئيسية للسياسة العالمية، فهي تخلق كل الشرور تقريباً أو تعززها. لقد باتت العولمة مسألة إيمان، وصيغة إيجابية أو سلبية من صيغ الاعتراف، وبياناً من بيانات النقاش السياسي، يجتمع في ظله أصحاب الإيمان الحقيقي. لقد أصبح مصطلح العولمة مشحوناً بالعاطفة بطريقة تعرقل تحليل الظاهرة الحقيقية. يتمثل أحد الأسباب وراء فشلنا في التعامل مع مصطلح العولمة في غموض الاختلاف بين شكله ومحتواه

. ففيما يتضمن جوهر العولمة على الأرجح الوصول إلى مرحلة جديدة من الرأسمالية، حيث تعتمد الاقتصادات الوطنية أخيراً وبشكل غير قابل للنقض على الأسواق العالمية (مع ما يحمله ذلك من نتائج سياسية وثقافية واضحة)، لا يحكم ذلك بشكل مسبق الشكل المفترض بهذه الأسواق العالمية: كما في الأوقات السابقة، حين يمكن للاقتصادات الوطنية أن تُنظَّم كأنظمة رفاهية اجتماعية بالإضافة إلى مطابقتها لأنماط رأسمالية مانشستر، يمكن أيضاً للعولمة أن تُنظَّم بطرق مختلفة تؤدي إلى نتائج اجتماعية مختلفة. وكثيراً ما يُخلَط بين الحقيقة اللبرالية الجديدة المتعلّقة بإلغاء قيود التنظيم في العالم وبين العولمة نفسها، على الرغم من أن العولمة قد تكون مدعومة اجتماعياً أو منظّمة كدولة رفاه عالمية.

الثقافة في السوق العالمية تبدو الصورة نفسها تقريباً عندما يتعلق الأمر بالعولمة الثقافية. فشروط العولمة تعزز على ما يبدو الاتجاه الفعلي إلى ثقافة عالمية موحدة، إذ تتراجع الصفة المحلية لأنماط الاستهلاك، وموسيقى البوب، والأفلام، والتلفزيون، لكنها تبقى جزءاً من السوق الثقافية العالمية. بهذا يجيء تغيير شامل من القيم غير الجديد بدوره، لكنه يتطور بطريقة أعمق وأسرع. إن إضعاف الأنماط المحلية للقيم والمعايير أو إلغاءها، والعملية المستمرة لاستئصال اللغات والإثنيات المحلية، أمور تجري بالتوازي مع تعزيز عناصر القيم الجديدة والعالمية. ففي قلب سريلانكا، وفيما هم راكبون على ظهر فيلة، يكشف أولاد قرويون أنهم أسموا فيلتهم "مونيكا ليوينسكي"، فيدرك المرء الاختلاف الواضح بين ذوقهم وشكل تعبيرهم عن ذلك العائد إلى آبائهم وأجدادهم، لكنه يدرك أيضاً الانتشار العريض للمعرفة المتعلقة بمراكز السياسة العالمية. يبدو هذا التغيير الثقافي للعديد من المشاهدين كـ"أمركة" للثقافة العالمية. ويستأنف المصطلح "McDonaldization" حالاً الهيمنة الثقافية للولايات المتحدة و"خلوّها من الثقافة". إن شبهة الأمركة التي تطال الثقافة العالمية تعود بشكل رئيسي إلى حقيقة أن الكثير من الرموز الثقافية للعولمة تأتي أصلاً من الولايات المتحدة أو تُعتبَر شبه أميركية، أي الكوكاكولا، والماكدونالدز، وسي إن إن، والإنترنت، وهوليود وحتى اللغة الإنكليزية بوصفها اللغة العالمية.

وتتزامن الحالة مع الدور المهيمن للولايات المتحدة في العالم والمتسم، ليس فقط بقوتها الاقتصادية بل أيضاً بتفوقها العسكري والسياسي. فالولايات المتحدة، من خلال نفوذها السياسي الهائل، لعبت أيضاً دوراً مهماً في تنظيم عملية العولمة، وكانت نشطة بشكل خاص في دفع سياسة إلغاء قيود التنظيم. وقد دفع المزج بين التفوق السياسي ورموز الهيمنة الثقافية للولايات المتحدة العديد من البلدان إلى الاشتباه بأن العولمة مشروع هيمنة أميركي. في الحقيقة، إن ما تعنيه العولمة الثقافية فعلاً ليس أمركة العالم، بل تعزيز هيمنة قيم السوق. إن الكفاءة، والعقلانية، والاستهلاك، وحسابات فاعلية الكلفة، والأفكار المتعلقة بالحركة والتقدم، وقيم أخرى تحجب العديد من القيم التقليدية وتقوّض استقرار الصلات الاجتماعية والحقائق القديمة. لكن هذه القيم الجديدة كلها ليست "أميركية"، بل تتعلق بالسوق. إن قيم العولمة هي إلى مدى كبير قيم الرأسمالية وليست فقط قيم بلد واحد، مهما كان هذا البلد قوياً. فلمجرّد لأن الولايات المتحدة تأخذ مثل هذه المكانة المهمة في النظام الدولي يظهر هذا التشوّش. والأمور التي تشبه الأمركة معقدة أكثر ولها سمات مختلفة: حتى الفيلة مونيكا لا تبدي ببساطة إعجاباً بالثقافة الأميركية، فهي أيضاً بمثابة تعليق ساخر على الدسائس الغريبة في البيت الأبيض.

كثيراً ما يتحوّل رفض الهيمنة الأميركية إلى شكل من أشكال المعاداة الثقافية لأميركا: الاستياء من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في الاقتصاد العالمي، والإحباط من أزمة إقليمية تطال أمراً ذا دلالة رمزية كبرى – مثل فلسطين، والغضب من الفساد وعجز النخب المحلية، والغربة واليأس في العديد من بلدان العالم الثالث، والتغيير المذكور في المعيار التقليدي وأنظمة القيم، وأخيراً تجربة القوة السياسية والثقافية الأميركية. كلها أمور يمكن أن تمتزج في خليط متفجر في عقول العديد من الناس، وتكون النتيجة ردود أفعال معادية للعولمة، ونقداً للاضطرابات الاجتماعية والسياسية، وموقفاً دفاعياً عن الثقافة. وهي أمور يمكن أن تمتزج في رأي معاد للأميركيين. ويشكّل هذا عقبة أمام بروز رد فعل إيجابي ومبدع على العولمة بقدر ما هو رد فعل ملائم على سماتها الثقافية، فهو يعيد خلط المستويات المختلفة من المشكلات المتباينة ما يجعل حلها مستحيلاً بشكل واضح. يتمثل الجواب في فضل المشكلات المستعجلة والحقيقية للعولمة الثقافية والسياسية والاقتصادية عن تحريفاتها العقائدية. كذلك، تبدو المشكلة الحقيقية للسياسة الخارجية الأميركية في العالم حساسة وصعبة بما فيه الكفاية – إن تضخيمها من خلال نظريات المؤامرة الثقافية والسياسية أو التخيلات المتعلقة بالقدرة الكلية يجعلها أصعب أكثر على التعامل.

وفيما تقدم العولمة الثقافية الفرص، هي أيضا مليئة بالمخاطر. ويجب على المرء أن يطور بذهن صاف المفاهيم والأجوبة في ما يتعلق بكل من الفرص والأخطار – إن إضفاء الغموض على عملية العولمة ليس أكثر من عقبة أمام مثل هذا المشروع