قطر والفلسطينيون

وقت القراءة: %count دقائق

قطر والفلسطينيون

ليس لزيارة أمير قطر، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، إلى قطاع غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2012، تفسير بسيط، سواء على صعيد التوقيت أم المضمون. فكما في أحيان كثيرة حين يتعلق الأمر بالسياسة الفلسطينية، تبلورت بسرعة شروح وتفسيرات مرتجلة. وهكذا فإن قطر إما سعت إلى ضمان دعم قادة حماس في غزة لإعادة انتخاب خالد مشعل لقيادة المكتب السياسي للحركة الإسلامية، و/أو استخدام نفوذها المهم لدى الإخوان المسلمين للمساعدة في تحويل رفح إلى معبر حدودي مطبّع ومنظّم بين مصر وفلسطين، و/أو المطالبة بحقوق في احتياطات الغاز في البحر المتوسط على أساس تفاهمات غير رسمية بين حماس وإسرائيل، و/أو دعم التنمية في قطاع غزة المعدم بمبلغ يساوي 400 مليون دولار وبهدف زيادة كلفة الحالة القتالية في القطاع في شكل كبير، و/أو دعم مخطط أميركي – إسرائيلي لمأسسة الانقسام الفلسطيني في شكل نهائي من خلال إرساء أسس دبلوماسية للكيان الفلسطيني المقتصر على قطاع غزة، و/أو تحدي ولمرة إضافية الهيمنة المصرية على الجهود المتعلقة بالتفاوض على مصالحة وطنية فلسطينية.

في مرحلة ما، ربما يحتوي كل ما ورد أعلاه عنصراً أو بعض عنصر من الصحة. لكن في المرحلة المحددة هذه، ربما ينطوي الأمر على أن فلسطين ليست مركز الكون – أو ليست المركز الوحيد. بل إن الشيخ حمد، بوصفه راعياً بارزاً لتغيير النظام السوري، ذهب إلى غزة ليزيد من عزلة الرئيس السوري بشار الأسد من خلال السخرية من دعواه بأنه الراعي الوحيد المتبقي في المنطقة للمقاومة الفلسطينية المستمرة وذلك بأوضح طريقة ممكنة. ففي نهاية المطاف، كان حمد الوهابي، لا بشار البعثي، الزعيم العربي الأول الذي أطلق موكباً من رفح إلى مدينة غزة. وبذلك جعل الفصل بين حماس ودمشق نهائياً وتاماً.

ويعكس استمرار تكاثر النظريات العديدة جداً حول الزيارة القطرية، النفوذ الاستثنائي الذي تمكنت الإمارة الصغيرة من مدّه في فلسطين. وهذا النفوذ لم يأتِ فجأة، بل هو غذِّي لسنوات كثيرة. فحتى منتصف التسعينيات، كان موقع قطر في الوعي السياسي لمعظم الفلسطينيين يعكس بدقة إلى حد ما حجمها وكتلتها السكانية الصغيرين جداً. وتحددت سياسات قطر بسياسات السعودية ورعاتها الأجانب ولم تتميز عنها، وكانت المكان حيث شكّل أحد القادة الأقل بروزاً لفتح، محمود عباس، علاقة خاصة مع العائلة الحاكمة على خلفية إقامته هناك منذ الخمسينيات ودوره في خدمتها المجانية.

وعلى غرار كثير من الشؤون القطرية الأخرى، بدأ هذا الوضع يتغير بعدما خلع الشيخ حمد والده في 1995، وأطلق، خصوصاً بعدما رعى السعوديون والمصريون مخططاً فاشلاً لإعادة الوالد إلى الحكم، جهداً مصمماً للخروج من ظل الرياض وتحدي صدارتها وصدارة مصر في الشؤون العربية. وكانت القاطرتان الرئيسيتان في ذلك، "الجزيرة" والإخوان المسلمون، وكان الاثنان منذ البداية ظاهرتين مترابطتين.

وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام العربية تمتعت تقليدياً بهامش أكبر لانتقاد القادة الفلسطينيين مقارنة بأي من نظرائهم العرب، وضعت "الجزيرة" معايير جديدة، مهنية وسياسية أيضاً، في هذا المجال. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى على أنقاض اتفاقية أوسلو في آخر 2000، كانت "الجزيرة" القناة الأكثر شعبية بأشواط في فلسطين، وفي المنطقة في مجال الشؤون الفلسطينية. فتغطيتها الشاملة، والمعمقة، والمباشرة في الأغلب، والشجاعة أحياناً كثيرة، لكل جانب من الانتفاضة وللجهود الغاضبة لإسرائيل لاستعادة الوضع القائم، أضافت في شكل كبير إلى رأس المال السياسي للدوحة في صفوف الفلسطينيين.

وخلال الفترة نفسها وفي استغلال فطن لتقليص حسني مبارك مصر إلى جمهورية موز وتآكل صدارة القاهرة في السياسة العربية، برزت قطر أيضاً كحلال إقليمي بارز للمشكلات. في 1999، قدّمت إلى قيادة حماس في المنفى ملجأً مؤقتاً بعد طردها من الأردن، لكنها لم تتردد في إعادتها جواً إلى عمّان حين تراجعت الأخيرة على ما يبدو عن تعهد باستقبالها مجدداً بعد فترة لا بأس بها. ولعب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني أيضاً دوراً مهماً وراء الكواليس في فك الحصار عن مقر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله خلال عملية الدرع الواقية في ربيع 2002. وكان زعماء قطر، الذين بدوا مؤيدين للانتفاضة الفلسطينية ضد إسرائيل، مرتاحين بالمقدار نفسه في لقاء نظرائهم الإسرائيليين والسماح للمكتب الإسرائيلي للارتباط في الدوحة بالاستمرار في العمل حتى أغلِق رسمياً. مرتين.

وإن بقيت قطر أبعد عن قيادة السلطة الفلسطينية وأقرب إلى حماس من كثير من العواصم العربية، نادراً ما تجاوزت الأزمات خلال مرحلة عرفات معاقبة المصالح التجارية المرتبطة بقطر، كسجن عيسى أبو عيسى في غزة. وأبو عيسى، وهو شقيق رئيس مجلس الإدارة في بنك فلسطين الدولي، عصام أبو عيسى، وسليل إحدى أبرز العائلات الفلسطينية في قطر، اعتقِل بسرعة من السلطة الفلسطينية حين كان برفقة وفد قطري رسمي إلى غزة في 2000. وكان الوفد يسعى إلى حل خلاف بين السلطة الفلسطينية، التي صادرت بنك فلسطين الدولي بعد اتهامه بمخالفات مختلفة، وبين عصام أبو عيسى، الذي رد بأن جريمته الوحيدة كانت رفضه وضع المصرف في تصرف السلطة الفلسطينية. وفقط بعدما هددت قطر بقطع التمويل والعلاقات مع السلطة الفلسطينية، سمِح للأخوين أبو عيسى بمغادرة مدينة غزة إلى الدوحة. وكانت "الجزيرة" في الأغلب خلال هذه السنوات في واجهة العلاقات الفلسطينية – القطرية، سواء من خلال الكشوف المختلفة لسياسة السلطة الفلسطينية ومخالفاتها، أو من خلال تدابير عقابية في حق "الجزيرة" – بما في ذلك هجمات عقابية على موظفيها ومواقعها.

وحوّلت خلافة عباس لعرفات في آخر 2004، بالترافق مع الانتصار الانتخابي لحماس في 2006، علاقة متوترة أصلاً إلى علاقة متسمة في الأغلب بالعداء المتبادل والصريح. من النظرة الأولى، لا تبدو الأحداث التالية لـ2005 منطقية. فالقادة الأفراد لفتح طوروا عادة علاقات خاصة مع دول عربية معينة – إلى درجة أنهم اعتبِروا ممثلين لمصالحهم الخاصة في داخل الحركة الوطنية الفلسطينية – واعتبِر عباس في هذا الصدد رجل الدوحة. وفي الواقع تمكن عباس، خلال هذه الفترة وعلى الرغم من الخلافات السياسية الحادة وفق مراقبين كثيرين، من الحفاظ على علاقات شخصية دافئة مع القيادة القطرية – في ما يشبه لاعبي الركبي الذين يضربون بعضهم بعضاً حتى منتصف الطريق إلى الموت على الملعب ثم يخرجون لاحتساء المشروبات معاً.

وبالنسبة إلى قطر، انطوت المسألة على دمج حماس في النظام السياسي الفلسطيني وتكريس نفسها الراعي السياسي للحركة الإسلامية الفلسطينية من دون منازع، لتعزيز نفوذ الدوحة أكثر ومنع الحركة الإسلامية من الالتحاق بالمعسكر الإيراني المنافس، وتحويل مسارها في هذه الأثناء في اتجاه أكثر تسووية. وبالنسبة إلى عباس، كان الهدف منع فقدان هيمنة فتح وإخضاع حماس لأجندته الخاصة.

ونظراً منها إلى جسامة الأخطار، لم تكن الدبلوماسية القطرية قادرة في هذه المرحلة على تجاوز قدراتها. وفيما استمرت تغطية "الجزيرة" في الترويج الذكي للسياسة الرسمية، مع الحفاظ على المعايير المهنية التي يصعب العثور عليها في أماكن أخرى – سواء في المنطقة أم خارجها، لم يكن قادة البلاد قادرين على منافسة أي من السعودية أو مصر في شكل فاعل، على صعيد التفاوض على تفاهمات بين فتح وحماس قبل استيلاء الإسلاميين على السلطة في غزة في حزيران/يونيو 2007 أو على اتفاقيات مصالحة منذئذ. والاتفاقية الوحيدة التي تمكّنت قطر من التوسط في إبرامها بين عباس ومشعل، في 2012، ولِدت ميتة في الواقع.

لكن قطر تمكنت في السنوات التالية من دعم الرمزية الضخمة والدائمة للقضية الفلسطينية لتعزيز صورتها ودورها هي وكذلك لتمتين رعايتها لحماس. وفي وقت كانت فيه العلاقات القطرية – السورية أقرب بكثير من العلاقات بين دمشق وأي من الدول الخليجية الأخرى، نجحت الدوحة خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2008 – 2009 في تحدي جزء كبير من العالم العربي (بما فيه جامعة الدول العربية) والغرب بأن استضافت قمة طارئة لإبراز العجز العربي. وبعد سنة تمكّن نشر "الجزيرة" "الأوراق الفلسطينية" من وضع السلطة الفلسطينية وتمسكها بمعاهدة متفاوض عليها مع إسرائيل في إطار اتفاقية أوسلو في أسوأ موقف ممكن. ولم يتطلب الأمر كثيراً من الإثارة، لكن الإثارة أضيفت إلى الأمر في الواقع.

يذكَر أن سياسة قطر وأهدافها في هذا الصدد كانت مختلفة كثيراً عن تلك الخاصة بسوريا وإيران. ففيما سعت الدولتان إلى إضعاف السلطة الفلسطينية بهدف تقوية الحالة القتالية في سياق صراع بالواسطة مع إسرائيل، سعت قطر لا إلى صراع بل إلى حصة من السلام وإلى مقعد على طاولة المفاوضات – سواء مباشرة أو خلاف ذلك. وبفضل الفطنة وقدرة بدت غير محدودة على الانتهازية، تميزت قطر بوضوح عن سائر العواصم العربية. فعلى خلاف السعودية، لم تهتم قطر كثيراً بالانتماءات العقيدية لمن ترعاهم طالما أن مرعييها من منظمات ومؤسسات وأفراد – الذين كانوا على امتداد الطيف العربي المعاصر للفكر والنشاط السياسيِّين – يستطيعون تعزيز طموحاتها وأجندتها الخاصة. وهكذا وعلى خلاف مصر في عهد مبارك، كانت قطر مستعدة في استمرار للمناورة بين المعسكرات المتنافسة، والانخراط في نزاعات علنية مع الحلفاء والرعاة الأقربين، بهدف تعزيز سياساتها الخاصة.

ويبدو أن الانتفاضات التي اندلعت في المنطقة خلال 2010 دفعت السياسة القطرية إلى ذروتها. فبوصفها الراعي الأبرز للإخوان المسلمين – وراعياً يملك قدرة كبيرة على الرعاية، فإن قطر هي اليوم من دون شك في طور الصعود، على الرغم من أن ذلك أكثر مرحلية مما يفترضه كثيرون وليس على خلاف "الجزيرة". وفيما اقتربت أكثر بكثير إلى حلفائها التقليديين في مجلس التعاون الخليجي في سياق انتشار هذه الثورات، خصوصاً البحرين، والمنافسة الحادة في شكل متزايد مع إيران، رمت بثقلها وراء المعارضة السورية لحليفها السابق بشار. وبعيداً من الدعم المباشر للجيش السوري الحر، كانت المساهمة الرئيسية لقطر نجاحها في إبعاد حماس عن دمشق. فمشعل لم يعد يقيم في دمشق بل في الدوحة. وانتقل نائب رئيس المجلس السياسي موسى أبو مرزوق إلى القاهرة، وخرج قادة إسلاميون آخرون من سوريا أيضاً قبل بدء دمشق عدوانها على حليفتها الإسلامية السابقة.

فور وصوله إلى غزة، استقبِل الشيخ حمد من حماس استقبال الأبطال الفاتحين وليس كدمية صهيونية خائنة. وتبيّن فاعلية قطر في نيل خدمات من الذين تدعمهم فطنة سياساتها على صعيد الاستثمار السياسي في العقدين الماضيين. وستكون مثيرة للاهتمام المرحلة التالية التي سيفضي إليها كل هذا: دفع جديد باتجاه المصالحة الفلسطينية، أو عوضاً عن ذلك، دعم إضافي لحماس لضمان تفوقها المستمر في النظام السياسي الفلسطيني، لكن بالترافق مع برنامج سياسي لا يمكن تمييزه في نهاية المطاف عن ذلك الذي تسعى إلى الحلول محله.