"الجامِع الثائِر".. من منظور سايكولوجيّ ومفاهيميّ/ لُغَويّ

"الجامِع الثائِر".. من منظور سايكولوجيّ ومفاهيميّ/ لُغَويّ

وقامت قيامة سوريا..! القيامة التي شغلت العالم بأسره؛ وقامت معها قيامة العقل، اهتزّ، ارتفعَ، اتّسعَ..؛ واندلعت المفاهيم، مفاهيم باتت تتبلور أكثر فأكثر مع كل حدَث ينبعث عن الجسد الثائر، وعن الكلمة الحرَّة المدوِّية. وفي كل مرّة كانت تخرج فيها الناس من الجوامع محتجّة (في بدايات الثورة)، كانت ثمة سِمَة أخرى تُضاف إلى ما قبلها فيتعمّق مفهوم جديد لـ "الجامع"، يبدِّد القديم ليرتسم له تصوُّر آخر. وقد حال تجذُّر التصوّر القديم للجامع في ذهن البعض من "العَلمانيّين" الذين تبيّن أن بعضهم يعاني أزمة مغالاة وتشدُّد تجاه المتديِّنين وتجاه كل مظاهر التديُّن، حال دون إمكانيّة استيعابهم أي تصوّر حديث للجامع؛ فعَابوا على التَّظاهرات خروجها من الجوامع، كون الجامع مرتبط في أذهانهم بالتعبُّد والطاعة العمياء، وبالتطرّف والتكفير والتخلّف. لكن هل كان لزاماً على المتظاهرين أن يتجشَّموا عناء إقناعهم بأنَّ الجامع اليوم هو بؤرة تحرير روحيّ وجسديّ يهيّئ المرء للخروج منه محتجّاً معترِضاً لا ذليلاً؟، وأنَّ الجامع سهّل خروج التظاهرات إلى الشوارع بعد أن مكَّن الناس من الاحتشاد والتجمّع؟، وأن بعضاً من العَلمانيين واليساريين، والدروز والمسيحيين، ومن مختلف المناهِل الثقافيّة والمَذهبيَة والدينيّة والقوميّة، كانوا يذهبون إلى الجوامع بقصد التظاهر؛ لأنه في "مملكة الرُّعب" لا يقدر حتى ثلاثة أو أربعة أشخاص على الاجتماع بعضهم مع بعض في أيٍّ من شوارعها أو ساحاتها أو أزقَّتها وزواياها؟، وأنه ببساطة شديدة هم "مسلمون"؟. يبدو أنه لم يكن هناك وقت لإضاعته في "الإقناع"، ولا كانت المجازَفة في أية التفاتة إلى الخلف من شأنها عرقلة جريان سيل الثورة الجارف الهادر، واردة أو مطروحة.

بيدَ أن السلطة، كانت أدهى ربما من ذاك "العلمانيّ البائس"، فقد كانت تدرك أن "الجامع" اليوم ما عاد مؤسسة من مؤسساتها الأمنيّة، وأنه صار حرّاً من خُطبها وخِطاباتها، ومن عِظات رجال الدين "المعيَّنين" عندها. وحيث إن الجامع بات بؤرة تحرير روحيّ وجسديّ كما أسلفنا؛ فإن الجسد الذي طالما كان راكعاً في الصلاة، كان على ما يبدو يأخذ جرعة معنويّة تؤهِّله للخروج إلى الشارع حرَّاً، منتصِب القامة، مرفوع الرأس. حتى إنه الأصحّ الحديث عن الناس الخارجة من الجوامع كـ"جماعات ثوريّة" لا "حشود". هكذا سارعت السلطة إلى تقويض انتصاب الجسد عبر تقديم مشهد يسجد فيه البعض لصورة الرئيس كسيِّد أعظم، أو أب خالق فاطر، أو إله. وعليه يمكن فهم دلالة الشعار الثوريّ (ما رح نركع/ غير لله ما رح نركع) الذي مثِّل ردّاً سياسيّاً وأخلاقيّاً على سلطة تريد تركيع الناس، وإجهاض ثورة تعتبرها كُفراً وتجديفاً.

عمدت السلطة إلى التعاطي مع الجامع عبر الخَيار العسكريّ/الأمنيّ نفسه الذي اختارته لـ"تأديب" المتظاهرين السِّلميِّين، بمعنى أنها تعاطت مع (الجامع) الذي هو مادة صمَّاء من حجر وإسمنت، كأنه كائن بشريّ يعقل ويفكِّر ويشعر، يثور ضدّها ويهدِّد وجودها. وعلى هذا يصبح تعبير"الجامع الثائر" ابتكاراً لغويّاً يعكس تعامل السلطة مع الجامع كـ"ثائر" ضدها. ثائر "سنّي/ أصوليّ/إرهابيّ، وقتله فرضٌ وواجب". وما يصعب على السوريّ أن ينساه هو مَشاهد قصف الجوامع، لا سيّما مآذنها، كقصف المآذن في حماة (مثلاً)، مئذنة جامع "السرجاوي" في١-٨-٢٠١١- مئذنة جامع "الصحن" في ٧-٨-٢٠١١- مئذنة جامع "الرحمة"- مئذنة جامع "الحسنيات"..؛ وغيرها من المآذن التي وثّق قصْفَها ناشطون عبر كاميرات هواتفهم الجوّالة، وحمّلوها على شبكة الإنترنت. كان ذلك بعد اقتحام دبابات الجيش العربي السوري مدينة حماة في آب/رمضان2011 ، على إثر تظاهرات سلميّة دامت أشهراً. تظاهرات قُدِّرَ عدد المشاركين فيها بمئات الألوف، وشكّلت في حينها مشهداً أسطوريّاً/ملحميّاً مهيباً في ساحة العاصي، تلك الساحة التي عَلا فيها صوت المغنّي (ابراهيم القاشوش) الذي هزَّ عرش السلطة بكلمات أغنيته الثوريّة " يا الله ارحل يا بشار"، وكان الثمن، انتزاع حنجرته، ثم رميه في نهر العاصي جثّة هامدة.

يُحيلنا قصف مآذن الجوامع على سؤال أساسيّ: لماذا تعمّد النظام قصف المآذن، وما الدلالة السايكولوجية على ذلك؟ قد تثير المئذنة، من خلال عاموديَّتها الحادّة والصّلبة، التفكَّر بالعضو الذكريّ المنتصِب، وتوحي بخيالات جنسيّة يُستحضَر فيها (الإيلاج)، فتصبح المئذنة في المخيِّلة كأنها عضو يخترق جسد البلاد. وبعبارة أوضح، قد تثير المئذنة في ذهن السلطة خيالات تدفعها لأن ترى في المئذنة عضواً ذكريّاً يقتحم جسدها المحرَّم/المقدَّس. ما يعني أن قصفها قد يدلِّل، من الناحية النفسيّة/السايكولوجيّة، على رغبة القاصِف في النَّيْل من ذكورة المقصوف عبر (الإخصاء). والمقصوف هنا، أي المئذنة، هو رمز الثائر المنتفِض، المنتصِب، الواقف، رَّافض الرّكوع، الذي تعتبره السلطة عازماً على (اغتصابها). ولو فكرنا في الرُّجوع إلى (الحِيَل الدفاعيّة اللاشعوريّة Mechanisms) التي أشار إليها مؤسس التحليل النفسي (سيغموند فرويد 1856-1939)، وتحديداً الرجوع إلى آليَّة "الإسقاط"، قد نكتشف أن السلطة هنا تخلع على الثائِر ضدَّها ما فيها من نقائص، وتفسِّر سلوكه بما يجري في داخلها، أو انطلاقاً مما هي عليه أصلاً، فمن اغتصب البلاد وخانَها حتماً سيعمَد إلى تخوين الآخرين، متَّهماً إياهم بالاغتصاب وبالعَمَالة والتآمُر. أحد الأمثلة التي قد تعزِّز ما نذهب إليه في تحليلنا هنا، تعذيب رجال الأمن والمخابرات للمعتقلين على خلفيَّة "تهمة" التظاهر عبر صعق العضو الذكريّ للمعتقل بالكهرباء(1)؛ وقد يكون هذا المثال برهاناً على خوف السلطة من قوة الثائِر ورجولته، ورغبتها الدفينة في تهشيم هذه الرجولة وبترها، ودَفْعِ الثائِر تالياً إلى الكفِّ عن التفكير في "اغتصابها"، عبر شلّ أي " انتصاب" من شأنه أن "يَلِجَ" أي صَرْح من صروحها "الأبديّة المقدَّسة".

بالإضافة إلى ذلك، فإن المئذنة المتَّجهة صوب السماء، قد توحي بالتَّوق والانشداد إلى شيء ما، والرَّغبة في الصعود إليه، وهذا ما لا يريده نظام استبداديّ/ قمعيّ، يسعى إلى الاقتصاص من كل ما من شأنه ارتقاء الإنسان. هكذا، فإن قصف المئذنة قد يعني أيضاً قصف الشموخ والطموح والجموح لدى الثائِر. ثم إن مئذنة الجامع فيها مكبِّرات للصوت، وهي مصدر الصوت العالي، والرأي الذي يمكن سماعه، وهذا ما لا يطيقه نظام لطالما تعيَّش على كَمِّ الأفواه، وقمْع الرأي عبر " تربية أطفاله"، أي الشعب، على التكلُّم هَمْساً، والعزوف عن التصريح والتعبير إلا ضمن ما يُشرعِنه النظام ويسمح به. وحيث إن المئذنة سابقاً كانت مكبِّرة لصوته هو، أي النظام، فهي اليوم باتت مكبِّرة لصوت آخر، هو صوت ثائِر يريد الانعتاق من صوت النظام الواحد الأحد. كل ذلك وأكثر قد يجيب عن السؤال المطروح آنفاً، وقد يدفع تالياً آليّة اللّغة بكليَّتها إلى الحركة لتعميق مفهوم جديد للجامع، المفهوم الجديد الذي أصبح وجوداً يسهم في صياغة لغة جديدة من شأنها إعادة تشكيل الذهن، وما حمله من تصوُّرات ومفاهيم تقليديّة، لأنه: " يمكن لكلمة أن تكون فجراً/ وأكثر من هذا أن تكون ملجأ أميناً " كما يقول (إدموند فاندر كامن) في هذا البيت من الشِّعر.

يبدو الجامع في مفهومه الجديد كأنه بات متَّصِلاً بالجسد بمقدار اتصاله بالروح، وربما لم يعد مكاناً للتعبّد يتغرّب فيه الشخص عن حياته اليوميّة وهمومه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة لصالح السَّماء؛ لذلك ثمة ما يسمح بالحديث عن (جَدَل الدَّاخِل والخارِج)، فالدخول إلى الجامع وقد تحرَّر من "المَأسسة"، بعد خَرْقِ السَّطوة الاستبداديّة/الأمنيّة التي لوّثت جوانب الحياة الإنسانيّة كافة في سوريا، بما فيها الجانب الدينيّ، صار يعني تفتّحاً للروح، وإطلالة المرء على نفسه وعلى العالم، فتغدو مهمَّة الجامع هنا مهمة أنطولوجيّة يصبح المرء معها ممتلئاً بإيمان حقيقيّ صادق، بعد أن كان مجرَّد إطار خاوٍ من أي معنى ويعاني أزمة روحيّة. إذ ثقافة الاستبداد هي ثقافة " أُطُر"، وشعارات فارغة، مثلما هي ثقافة دين مُسيَّس، وإيمان مسيَّس يعتقل الروح. وفي داخل "الجامع الثائِر" سيتمُّ تحضير القاع الحميم لدى الدَّاخِل إليه، ما يعني عودة المرء إلى ذاك السَّلام الداخليّ الذي يُحيي تواصل المؤمِن مع ربِّه على أساس من الحُبّ ينتفي فيه الخوف، كما تنتفي فيه المصلحة والنفعيّة التي تشوّه العلاقة الإيمانيّة الروحانيّة الخالصة مع الله. ولعلّ الشعار الذي ردَّده المتظاهرون مراراً وتكراراً (هي لله هي لله/لا للسلطة ولا للجاه) هو شعار تبدّت فيه تلك الروحيّة المنعتِقة من النفعيّة كونه يفصِح عن جانب مشبع بروح صوفيَّة لدى المتظاهرين، فيغدون مع ذلك الشعار أشبه بالمتصوِّفة الذين وصفهم (ذو النون المصري) بقوله: "هم قوم آثروا الله على كل شيء، فآثرهم الله على كل شيء".

يبدأ الجَدَلُ مع "الدَّاخِل" عند "خُروج" الناس من "الجامع الثائر"؛ فالإيمان الخالص الذي كان عليه المرء في داخل الجامع، سيستحيل عملاً ونضالاً من أجل حياة حرّة كريمة بعد خروجه منه، وستبدأ الناس في تظاهرات يهتفون فيها للعدالة الاجتماعيّة، وللحرية والكرامة، مندِّدين بالظلم والفساد والاستبداد والاستعباد. ما يعني أن (الجَدَلَ بين دخول الجامع والخروج منه) ليس إلا حواراً منتِجاً بين الروح والجسد، وبين العاطفة والعقل، وبين الإيمان والبرهان. فـ"الجامع الثائر" هنا هزّ الوعي بالشكل الذي دفع الناس إلى تحويل ما كانوا عليه في داخل الجامع من " لطافة روحيّة" إلى " كثافة جسديّة" بعد الخروج منه. ربما يشرح هذا الكلام ما ذكرناه آنفاً حول اتصال الجامع ،في مفهومه الجديد، بالجسد بمقدار اتصاله بالروح، إذ يجعل الاغتراب بين الجسد والروح ينكمش ويتقلَّص. وعلى هذا يكون "الجامع الثائر" ممرَّاً لتأسيس "إنسانيّة عيانيّة"، لأنه (جَمَع) بين الروح والجسد، وبين الحياة الروحانيّة التأمليّة الخالصة وبين الحياة العمليّة، لذا تبدو مفردة "جَامِع" أهم وأكثر انسجاماً مع ثورة الحرية والكرامة من مفردة "مَسْجِد".

--------------------------

هوامش:

في الرابط أدناه تقرير لمنظمة "Human Rights Watch"، وهي إحدى المنظمات العالميّة المستقلّة الأساسيّة المعنيّة بالدفاع عن حقوق الإنسان، ومقرّها نيويورك. توثِّق "هيومن رايتس ووتش" في هذا التقرير العديد من الانتهاكات الجنسيّة، حصلت عليها عبر مقابلات واستجوابات أجرتها مع أشخاص تعرَّضوا لاعتداءات جنسيّة في أثناء اعتقالهم، أو احتجازهم، أو خلال مداهَمات البيوت، على خلفيَّة الثورة الشعبيّة ضدّ الأسد ونظامه. والآتي: واحد من هذه الاستجوابات، التي ذُكرت في التقرير.

" تم استجواب سليم (علماً بأننا غيّرنا كافة الأسماء لحماية هويّة من قابلناهم)، وهو جندي احتُجز في يونيو/حزيران 2011 في أثناء إجازته، بمقر فرع المخابرات الجوية في اللاذقية، بشأن دور أخيه وأبيه في التظاهرات. فقال لـ هيومن رايتس ووتش: بدأوا تعذيبي هنا (مشيراً إلى عضوه التناسلي) [بالكهرباء]. كانوا أيضاً يضربونني وكان هناك حارس خلفي يشغّل الكهرباء. فقدت الوعي. كانوا يضربونني ويصعقونني. كان المحقق يضربني بسلك على جسمي كله. كنت لم أزل بدون أي ثياب...وكانوا يسألونني كل 30 دقيقة إن كنت سأعترف".

http://www.hrw.org/ar/news/2012/06/15-1