الثورة واللغة

في مَيْل اللغة إلى تدمير ذاتها

1

"لاتُوقِفُ السُّلطة إلا سُلطة مماثلة"، جملة كان غرض مونتسكيو منها سياسيَّاً يتماهى والغرض نفسه في عموم كتابه (روح القوانين 1734- 1748)، إذ يميل الإنسان – إن مُنِحَ سلطة مطلقة – إلى أن يسيء استخدامها، ومن ثم وجب فصل السلطات الثلاث (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) بعضها عن بعض حتى تتوفر الحرية للأمة. والجملة نفسها قد تفسح في المجال لقراءتها في اتجاهات ومجالات عديدة ومتعدِّدة، فقراءتها في (عالم اللغة) مثلاً قد تفضي إلى كشف كان غائباً عن الأذهان، وعندما تكون اللغة "عالماً"، هذا يعني أنها واسعة وشاسعة إلى الدرجة التي يصعب عندها اختزالها إلى مجرد وظيفة نقل تقوم بدور الوصل والتواصل، أو إلى مجرد أداة للتعبير عن الأفكار والتصوُّرات، كونها الكائن الحيّ الذي يُولَد، يموت، ينمو، يتطوَّر، ينبثق، يعيد تشكيل الذهن، يعقل، يفكِّر، يشعر، يحدس، يستدل، يغامر، يثور، ينتصر، ينهزم ويخسر، يدمَّر ويدمِّر. وعلى هذا فإن اللغة المتسلِّطة، سياسية كانت، أم دينية، أم اجتماعية ثقافية، أم فكرية، تبدو كأنها تعمل،عبر تسلُّطها ومن حيث لا تدري، على تدمير ذاتها من خلال تشكيل لغة مضادَّة مماثلة لها في القوة والسلطة من شأنها إيقاف تسلّطها وتدميره، وهذا ما يمكن أن نسميه انتحاراً لغوياً قد تُقدِم عليه السلطة. انتحار لغوي يسبق موتها الواقعيّ/ الفعليّ. 

2

إنْ أردنا أن نفهم في زمن "الربيع العربي" كيف تدمِّر اللغة ذاتها من خلال توليد لغة ثائرة عليها، فقد يكون السبيل الأهم إلى ذلك هو التفكُّر مليّاً في شعارات الشعوب الثائرة باعتبارها شعارات مثَّلت لغة مقابلة في قوتها وسلطانها للغة الأنظمة الحاكمة المتسلِّطة والمتعنِّتة. وقد لا نجانب الصواب إن قلنا إن الثورة السورية،على وجه الخصوص، هي ثورة لغة بامتياز، إضافة إلى كونها ثورة جسد انعَتَق. فمن بئر بضع كلمات خطَّها أطفال من درعا في جنوب البلاد، على جدران مدرستهم (الشعب يريد إسقاط النظام) فاضت ثورة شعبية طاولت شرق البلاد وغربها، وجنوبها وشمالها. ولأول مرَّة، بعد عقود طويلة من غربة واغتراب، وجد السوريُّ نفسه متحدِّثاً بلغته الخاصة وبمنطقه الخاص، من قلب الشارع كفضاء عام لدولة سُلِبّت منه حتى أمسى فيها غريب الدِّيار، ليبدأ بعدها رحلة تبديد لغة السلطة أو لغة العائلة التي حكمته بحديد ونار اللغة ليس الفعل فحسب. إنها اللغة "الرسميَّة/ الأمنيَّة" التي لا يتعرَّف المجتمع فيها على أحلامه بل على مناهجه. فهي اللغة المتعجرفة، تامة الانغلاق، اللئيمة، الباعثة على العبوس والتجهُّم والخوف، والمُحَمَّلة بأيديولوجية طوباوية أثقلت كاهل العقل والنفس والوجدان بفصام الأمة العربية الواحدة/ ذات الرسالة الخالدة، وبشعارات صمود وتصدٍّ، ومقاومة وممانعة مزيَّفة. فكان لا بدَّ، في المقابل، من لغة توازيها قوة وتحدِّياً. إنها لغة الثورة، لغة (الشعب يريد...). والنار، على ما يبدو، لا يطفئها إلا النار، ففي حين جابهت السلطة الثائرين عليها بلغة حرق ودماء (الأسد أو نحرق البلد) أو (يا بشار لا تِهْتَمْ عِنْدَكْ شعب بيشرب دم)، فإن الذكاء اللغوي الثوري واجهها بنيران لغة من شأنها الإنارة لا الحرق، فأن يكون (الشعب يريد إسقاط النظام) لغة مقابلة للغة الحرق والدم، معناه أن ثمة من يريد الحرية والعدالة والكرامة عبر إسقاط من يريد حرق البلد وإسالة الدماء فيه. هكذا فإن لغة السلطة هنا بدت كأنها تدمِّر ذاتها عبر تشبُّعها بمفردات من شأنها الإضرام وشرب الدماء. مفردات عملت على توليد لغة مقابلة من شأنها تحدِّيها والعزم على إسقاطها. وما حدث على الصعيد اللغوي، انتقل إلى الأرض، فاستحال الحرق والدم فعلاً بعد أن كانا لغة، ومن ثم استحال سقوط النظام وتهاويه، في المقابل، فعلاً تدريجيَّاً بعد أن كان لغة أيضاً.

3

وكما أن لغة السلطة أسهمت في تشكيل لغة ثائرة عليها، فإن لغة الثورة أسهمت أيضاً في تشكيل لغة سلطة متأثِّرة بالثورة، فتطايرت قدرات اللغة بحيث أصبحت الكلمة تُنتِج وتَستَهلِك. لكن الفارق بين الحالتين قد توضحه استعارة قوات النظام بعض كلمات الثورة أو جُمَلها أو أسلوب طرحها ولحنها وإيقاعها، كما يبدو مثلاً في الشطر الأول من عبارة (الشعب يريد/ ترباية من جديد) التي كتبها الجنود على الجدران في منطقتي "كفرسوسة" و"داريا" في دمشق وريفها(1). تشي العبارة بالطريقة التي تفكِّر السلطة من خلالها بـ"شعبها"، أي الطريقة التي تنظر إلى الشعب كأطفال قاصرين يلزمهم تربية، ووصاية دائمة عليهم، وهي نظرة تتطابق، على أية حال، مع نظرة المُسْتَعْمِر للشعوب الأصليّة، الذي يعمل على "تَذْويت"(2) الشعوب المستَعْمّرة بأنْ يسمِّيهم هَمَجاً، أطفالاً، برّيين، غير متحضِّرين، غير عقلانيّين، حثالة، ورعاعاً...إلخ. إذ تُظهِر العبارة السابقة بوضوح تام التَّعالي الأرستقراطي حيال كل ما هو شعبيّ. بيد أنها تشير، في الوقت عينه، إلى تأثُّر السلطة بالثورة سواء وَعَتْ لذلك أم لم تعِ، ويُرجَّح عدم الوعي. فالجملة هنا تبيِّن أن الثورة باتت من القوة بحيث تفرض على السلطة لغتها، وحضورها اللغوي. هذا من جهة. وتُفصِح، من جهة أخرى، عن تناقض السلطة وضعفها وتفسُّخها حين يستعمل جنودها لغة الثورة، كون العبارة تعترف، في الشق الأول منها، بإرادة الشعب الذي صار "يريد" (الشعب يريد..)، وفي الشق الثاني ( ترباية من جديد) يظهر نَهَم السلطة إلى تركيع الشعب، وترجيعه إلى ما كان عليه قبل أن "يريد"، وعبر هذا التناقض بين شقّي الجملة تكون لغة السلطة قد عَمَدت إلى تدمير ذاتها. غير أن الشعب كذلك الأمر اعتبر أن السلطة التي تحكمه منذ عقود ليست إلا استعماراً أو احتلالاً، وقد عبَّر عن ذلك بلغته الخاصة (سوريا لِينَا وما هِي لَبيت الأسد)، وهي لغة ثائرة على لغة جعلت من سوريا (سورية الأسد)، ما يعني إمعان لغة السلطة في تدمير ذاتها، عبر تشكيل لغة مضادة تخلخلها كلمة بكلمة، وعبارة بعبارة ، وأسلوب بأسلوب. وللكلمات المستعمَلة في كتابة تاريخ جديد، يكتبه بين الشعار والتظاهر شعبٌ طامحٌ إلى استعادة دولته وتحريرها من قبضة المُحتَل (سوريا لِينا..)، لتلك الكلمات ذاكرة أخرى تغوص في عمق الدلالات الجديدة بطريقة عجيبة، فما كان عَرَضاً أصبح جوهراً، وغدت "الكتابة الثورية" كأنها مصالحة بين الحرية والذكرى. إنها تلك الحرية المتذكِّرة التي لا تكون حرية إلا في حركة الاختيار الشعبي، وعليه أيضاً: فإن لغة (الله سوريا حرية وبَس) و(ما مِنْحِبَّكْ) قد تفتَّحت من وسط الدمار الذي ألحقته بنفسها لغة (الله سوريا بشار وبَس) و(مِنْحِبَّكْ). ضعضعت لغة الثورة لغة السلطة التي اختصرت الوطن بشخص ووضتعه بموازاة ماهيَّة روحيَّة كليَّة، أي بموازاة (الله)، وبدت اللغة الثائرة كأنها لغِّمَت اللغة حين أحلَّت الحرية مكان شخص، ما قد يعني تحطيم الغاية العلائقيَّة في اللغة ليحلَّ محلّها تفجُّر الكلمات. وحيث إن اللسان واللغة هما نتاج طبيعيّ للزمان وللشَّخص البيولوجيّ، فإن الهوية الشَّكليَّة للثائر المتمثلة بلغته، أو بـ"الكتابة الثورية لتاريخ جديد" لا تتوطَّد حقاً إلا بعيداً عن المعايير اللغويَّة للسلطة وثوابتها ومُطْلَقاتها. وبهذا، يحدث أخطر أنواع القطيعة مع السلطة، أي القطيعة اللغوية. ليبدأ، من ثم، الفرز بين الحقيقي والزائف في اللغة كما لو أن الفعل الثوري الواضح الجليّ لا يلد إبداعاً يكرِّسه المجتمع إلا عندما ينجح في تبديد الترسُّب اللغوي لديمومةٍ ظَّلت حتى لحظة اندلاع الثورة من دون دلالة. 

4

وكي نفهم دلالة شعار (سيِّدْنا مُحَمَّد/ قائِدْنا للأبد)، يبدو أنه علينا أن نفهم كيف يُستخلَص ما يؤسِّس الأنطولوجيا على السيكولوجيا، ويمضي من واحدتهما إلى الأخرى بمعونة مَلَكَة سيكولوجيَّة وأنطولوجيَّة، ذاتيَّة وموضوعيَّة في آنٍ معاً تتبدَّى في الثائر من دون أن تتبع له حصراً. فاللجوء هنا إلى لغة أنطولوجيَّة (وجوديَّة) تجلَّت في تعبيرات أبدية غيبية دينيّة روحيَّة، هو بمثابة رد فعل أسَّسَ أنطولوجيَّة اللغة على حالة الثائر السيكولوجيَّة (النفسيَّة) الساخطة على لغة "الأبديَّة" في السلطة، أي اللغة التي تجعل من الرئيس أو القائد أو الزعيم، حاكماً أبدياً. فقد وُرِّثت الأبدية في اللغة من الأب (حافظ الأسد) الذي فرض وجوده على أنه وجود أبدي، إلى الابن (بشار) ليكمل من بعده مسيرة الأبدية، حتى أن تسمية الحفيد بـ(حافظ) تبدو كأنها من أدوات"سياسة الأبد" تلك. إن استبدال قائد "أبدي" حيّ ذهنيَّاً (الأب) وحيّ واقعيَّاً (الابن)، بقائد "أبدي" مِّيت واقعيَّاً، وحيّ ذهنيّاً (النبي محمد)، إن هذا الاستبدال يشير إلى أن لغة الأبد لا تبدِّدها إلا لغة أبدٍ مماثلة. على أنه يتعيَّن علينا، من هذا المنظور، أن نميِّز بدقة بين طرح الشعار نفسه على أساس دينيّ بحت، وبين طرحه على أساس نفسي. إذ عموم السوريين من المسلمين "السُّنَّة" ليسوا بمتطرفين في تديُّنهم، ومناخ المجتمع السوري وتاريخه لا يشكِّل تربة خصبة للتطرُّف الديني. لذلك ينبغي، عند محاولة تفسير الشعار، عدم تجاهل زمنه ، فهو لم يُطرَح إلا بعد مرور أشهر طويلة على اندلاع الثورة، وبعد أن أوغَّلت السلطة وأمعنت في القتل والمجازر والتدمير، والتعنيف على أساس طائفي. ما يعني أن لغة الشعار ليست داخلة في تكوين الثورة وأسسها وغاياتها، بل نجمت عن ضغط انفعالي. ومن طبيعة الإنسان، حين يمرُّ بظروف عصيبة وبتجارب قاسية ومأساوية، أن يلجأ إلى شخصيَّة رمزيَّة يعتبرها قدوة له ويستمدُّ منها القوة والصبر الذي يعينه على الخلاص من المأساة. فاللجوء إلى شخصية معينة تنطوي في ذهن اللاجىء إليها على كل الأسباب التي تدفعه إلى اللجوء، يُعتبر كثافة في مواجهة خواء الإنسان، كما يُعتبَر ملء فراغٍ روحيّ وعقليّ وعاطفيّ ووجدانيّ ناجم عن التمرُّد على سلطة متوحِّشة، ومستبدَّة أفرغت حياة الإنسان فرداً وجماعة من كل معنى. وفي أوقات المِحَن ينتعش المخيال الديني، وقد يكون في ذلك عَوْنَاً، وهَدْيَاَ يقلِّص من حجم الهَوْل والرُّعب.

إضافة إلى ما سبق، فإن استبدال قائد "أبدي عياني مُشَخَّص" بقائد "أبدي رمزيّ روحيّ نظري"، قد يدلِّل على حقد دفين له علاقة ربما بشعور عميق بالاضطهاد يوجع المسلم "السُّنَّي". فالمسلمون السُّنة ربما يشعرون بأنه تم تغييبهم مع أنهم يشكِّلون أكثر من70% من نسبة سكان سوريا، عدا عن كونهم شكَّلوا الفاعل الأكبر والأوسع في ثورة الحرية والكرامة. وهم، أي، الثائرون من المسلمين السُّنَّة، أكثر من تعرَّض إلى كل أشكال العنف والتمييز والقهر، وعُومِلوا "كإرهابيين، وأصوليين، وتكفيريين"، وذاقوا مرارات المجازر ذات الصبغة الطائفيَّة التي ارتكبتها بحقهم سلطة طائفية اتخذت من "الطائفة العلوية" درعاً بشرياً، مثل: (مجزرة "كرم الزيتون" في ريف حمص12/3/2012. ومجزرة "الحولة" في ريف حمص25/5/2012، ومجزرة "القبير" في ريف حماة7/6/2012)، ما دفعهم إلى التشبُّث بدينهم ونبيِّهم أكثر فأكثر.

أما في محاولة القراءة السياسيَّة الآنيَّة للشعار، فيمكن تفسيره بردِّه إلى شعور الثائر – والغالبية العظمى من الثائرين في الشارع هم من المسلمين السُّنَّة- بالألم والغضب نتيجة عدم وجود قائد يقود الثورة إلى برِّ الأمان، بعد أن طالت مدة القتل والاعتقال والتدمير والتجويع والتشريد والتهجير والذبح والاغتصاب والسلب والنهب، وبعد فشل كل مساعي المعارضين السياسيين التقليديين، وعجزهم عن توحيد الجهد من أجل تشكيل بديل جدِّي عن السلطة الحالية، حتى بعد مرور أشهر طويلة جداً على اندلاع الثورة! فالسلطة الديكتاتورية المستبدة من شأنها على ما يبدو ألا تسمح بإمكانية تشكيل بديل نظري عنها، فكيف ببديل فعلي؟. وكنوع من التعويض ، لجأ الثائر إلى شخصية رمزية يحبُّها ويحترمها، وأعلنها قائداً يملأ الفراغ السياسي الحاصل، وعبر ملء هذا الفراغ يكون قد وجد ما يمكِّنه نفسياً من مواصلة ثورته التي تكاد تقترب من "معجزة".

وقد يتماهى الشعار ذاته، أخيراً، مع بعض ما اتَّسمت به الثورة أحياناً من طرافة وظرافة، وسخرية من شخص "الرئيس" فالثائر الذي انتخب النبي محمد قائداً أبدياً عليه، بدا كأنه "عَمْبِجاكِر" كما يُقال بالعاميَّة. فهو يبعث إلى "القائد الأبديّ الحاليّ" رسالة يوميَّة مفادها: " مثلكَ غير لائق بقيادتنا، بل إن سيدنا وقائدنا الحقيقي والأبدي هو النبي محمد، وعلى الرغم من أنه ميِّت منذ قرون، إلا أنه يمتلك كل الأسباب التي تجعله يحيا في عقولنا وقلوبنا ووجداناتنا ". واستناداً إلى التحليل السابق ذاته يمكن تفسير شعارات أخرى من قبيل: (حرية للأبد/غَصِبْ عَنَّكْ يا أسد) حيث تتم هنا مواجهة العبودية الأبدية لشخص، بنزوع أبدي إلى الحرية. وهنا أيضاً يتوضَّح كيف أن لغة السلطة أسهمت في تشكيل لغة من جنسها، إن جاز التعبير، تثور عليها، وبهذا تكون قد دمَّرت ذاتها بذاتها.

اللغة الثائرة والتَّعرِيَة

1

حين يزمجر الشعب مُريداً إسقاط النظام لا يفضح الخطأ فحسب، بل ينزع عنه سمة "الطبيعيّ" أيضاً، السّمة التي طالما برّر النظام من خلالها الخطأ الكارثيّ. ويخبرنا ( رولان بارت) بـأنّ ثمة "تَعْمِيَة" حاصلة، وهي نوع من الخداع الذي يمارسه البعض في خطاباتهم السلطويّة التآمريّة، كأن يُقال: "طبيعيّ" أن تحصل أخطاء، والغرض اللاأخلاقي هنا هو إعطاء الظواهر التاريخيّة أو الثقافيّة مظهر الظواهر الطبيعيّة، والرّدّ الوحيد على التَّعْمِيَة هو فَضْحُهَا(3). و(الفضح) أو (التَّعرِية) ربما تكون الدور الأهم الذي مارسته اللغة في الثورة السورية، فقد عرَّت "الطبيعيَّة" التي أسبغها النظام السوري على "أخطائه" في محاولة منه لتبريرها، واحتواء غضب الشارع وامتصاصه، والتفلُّت تالياً من المسؤولية، والتهرُّب من الملاحقة والمحاسبة على اعتبار أن ما حصل هو مجرَّد "أخطاء طبيعيَّة"، وهذا ما قصد إليه بشار الأسد حين صرَّح بتاريخ 18مايو/أيار 2011 بكلام قدَّمه على أنه إقرار بأن: "قوات الأمن ارتكبت بعض الأخطاء في تعاملها مع المحتجين وأن ذلك مرده إلى ضعف التدريب". لكن الشعب الثائر قالها صراحة:(إلّي بيقتل شعبو خاين)، وكانت اللغة في هذا الشعار، وسيلة من وسائل التنوير الاجتماعي والسياسي؛ فقد بيَّنت أنه لا يجوز منطقيَّاً وواقعيَّاً وأخلاقيَّاً أن يكون (الخطأ) وصفاً للجرائم التي ارتُكِبَت بحق الشعب الثائر، والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية! وقد بَدَت اللغة المتجلِّية في عبارةٍ تخوِّن من يقتل شعبه، بدت كأنها تطال كل أنواع القتل وأزمنته، فقتل السلطة السورية لشعبها ليس حديث العهد، ولم يبدأ مع اندلاع الثورة الشعبية عام 2011، بل هو قديم قِدَمَ تبوِّئها مقاليد الحكم المطلق في سوريا، إذ هناك قتلٌ يوميّ طال العقل، والنفس، والأخلاق، والقيم، والجمال، وكل ما يمكن أن يمنح للحياة الإنسانية، والاجتماعية معنى. هكذا فإن لغة الشعار السابق مارَسَتْ أدواراً عدَّة في آنٍ معاً، فهي أخذت على عاتقها أولاً: القيام بدور تذكيريّ يعود بالأذهان إلى الماضي القمعي للسلطة، خاصة وأن الذاكرة مازلت نشطة فيما يخصّ الجرائم التي ارتكبتها السلطة نفسها بحق السوريين في محافظة "حماة" مثلاً في زمن الرئيس الأب في بدايات الثمانينيات من القرن المنصرم. وثانياً: لعبت دوراً احترازيَّاً يأخذ بعين الاعتبار مستقبل البلاد ويتَّخذ من الماضي درساً للتعلُّم منه، فما كان في السابق  يُعتبَر"خطأ طبيعيَّاً"، سوف لن يكون كذلك في المستقبل. وأي تجاوز للقانون في سوريا الثورة والحرية ستتم محاسبته ومعاقبته، ولن يكون مجرَّد "خطأ طبيعي". 

2

لقد شكّل لغة الثورة عناءٌ مزمنٌ من الكذب والضعة المتستِّرة وراء كبرياء من عاثوا بالبلاد فساداً ولصوصيَّة، وازدراء المواطن والفزع منه إن كان فاضلاً ومتنوِّراً، مع الاستهزاء الدائم من الفضيلة ومعتنقيها. وشكَّلها شعور عارم بالسُّخط على أن يكون "أكابر" الدولة فاقدي الأمانة، وذوو الصلاح أصاغرها، ومنبوذوها ومهمَّشوها. وشكَّلها إحساس بالنقمة تعاظمَ طيلة عقود، حيال خيانة النظام ممثَّلاً بالعائلة الحاكمة/المالكة. النظام ورئيسه الذي نسَبَ إلى نفسه دور البطل المقاوِم الممانِع، وخَدَعَ شعبه، وحاكَ المؤامرات، وتخلِّى عن الوعود، وباع الأرض والعرض. إن ذلك الواقع هو الذي أسهم في تشكيل لغة من قبيل: (إبْن الحرام باع الجولان) مثلاً، وفي هذا الشعار مارست اللغة دور التعرية بجدارة، بعد أن بيَّنت هنا أن نضال الشعب السوري أنتج أنماط اللغة الأكثر صفاء، حتى بدا كأنه حدثاً لفظيَّاً صرفاً يجتثُّ التجربة الوجودية من جذورها! ومن المعلوم أن "ابن الحرام" هو ابن علاقة جنسيَّة غير شرعية، ما يعني أن الشعب الثائر لا يعتبر رئيساً باع الأرض ابناً شرعياً للبلاد، على اعتبار أن ابن البلد لا يبيع الأرض. عدا عن ذلك، فإن لغة الشعار التي أشارت إلى الرئيس كـ"ابن حرام" تنطوي على رسائل مفادها: إن رئاسة الابن الذي لم يأتِ إلى السلطة بانتخابات شعبية (شرعية)، إنما ورث حكم البلاد عن أبيه، هي رئاسة لا شرعية، ومثلها رئاسة الأب الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري. هكذا فإن قتل الشعب، وبيع الأرض والتفريط بها، وخيانة الوطن ليست "أخطاء طبيعيَّة"، بل هي جرائم بكل ما تعنيه المفردة من معانِ!

3

إن الكلمة الثائرة باعتبارها حرية قد لا تدوم سوى لحظة، لكن هذه اللحظة من أكثر لحظات التاريخ جلاء، خاصة وأنها قد تحرِّض على التفكُّر في بعض المفاهيم، وتعيد بعضها إلى نصابه، وتسهم في نَحْتِ بعضها الآخر. ومفهوم (الخطأ) هو أحد المفاهيم الذي أعادته اللغة الثائرة إلى نصابه، خاصة وأنه، أي الخطأ، ينطوي على إيجابيات تتَّصل بكونه مؤسِّساً للصَّح ويسبقه زمنياً، وهذا ما عناه فيلسوف الخطأ، الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962) حين اعتبر أن (ماضي العلم هو دائماً عبارة عن أخطاء العلم). وكلُّنا على دراية بالمحتوى القمعي الدائم لكلمة نظام، فكيف لنظام مثل النظام السوري أن يسمح بخطأ من شأنه التحريض على التفكُّر، والتأسيس للعلم والصَّح بالمعنى الذي ذهب إليه باشلار؟، خاصة وأن النظام السوري أشاع الخوف من كل إشكاليَّة، وعلى الأخص إن كانت إشكالية ثورية من شأنها الانهيار النهائي للأوهام. وبهذا المعنى، كان النظام على الدوام يسمح بارتكاب الجريمة بختلف أنواعها، ولا يسمح بالخطأ! وما وَصْفه لجرائمه وجرائم أجهزته بأنها "خطأ" لا قصديَّة شريرة، إلا مراوغة لغويَّة قذرة. ولعل ذاك المرسوم الذي يمنح حصانة لعناصر الأمن والاستخبارات من أية محاسبة أو ملاحقة قانونية(4)، لعله دليل دامغ على تشجيع النظام على الجريمة، وتجريمه للخطأ المثير للإشكاليَّات المهمة التي قد تنقل الناس من مران الفكر الذي يعرف، إلى مران الإرادة التي تفعل. وباللغة التي كانت ملحمة ثورية عرَّت النظام السوري، ومفاهيمه، وحذلقاته اللفظية، يقول الشعب السوري إذن: مَنْ يبيع الأرض ويدمِّر البلاد، ويقتل شعبه، هو "خايِن" و" إبن حرام" لا مخطىء، وتنبغي محاكمته كمجرم حرب ومرتكب جرائم ضد الإنسانية. 

------------------------------------------------------------------------

 

 هوامش:

https://www.facebook.com/photo.php?fbid=453170398061264&set=pb.216027635...

2- مفهوم "التَّذْويت"Subjectification- هو من المفاهيم الأساسية فيما سُمِّي بالدِّراسات ما بعد الكولونيالية، وقد نَظّرَ له الماركسي الفرنسي "لوي ألتوسير" حيث اعتبر أنّ استدخال السلطة في الذات يعني ألا يغدو أعضاء المجتمع الأفراد "ذواتاً" قبل أن "تستدعيهم" قوى المجتمع الحاكمة أو ما يدعوه ألتوسير بـ(أجهزة الدولة الإيديولوجية). ومن أجل معرفة أوسع وأشمل عن مفهوم "التذويت"، يمكن الاطلاع على دراسة "دوغلاس روبنسون" (الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة) المنشورة في مجلة "نزوى"، العدد الخامس والأربعون، ترجمة ثائر ديب. (ما الذي تعنيه ما بعد الكولونيالية؟).

3- ما ورد أعلاه جاء في مقالتي على موقع "الأوان" بعنوان (انتفاضة اللغة.. أم لغة الانتفاضة؟) منشورة بتاريخ 5أيار2011 ضمن ملف "انتفاضات العالم العربي". حاولتُ فيها تفكيك شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". وتجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من شعارات الثورة السورية لم آت على ذكرها هنا كوني تناولتها تفكيكاً وتحليلاً في مقالات سابقة مثل :"يلعن روحك يا حافظ"، "واحد واحد واحد/الشعب السوري واحد"، "الموت ولا المذلة"، " عالجنة رايحين/ شهداء بالملايين"، "هي لله هي لله/لا للسلطة ولا للجاه"، "مارح نركع/غير لله مارح نركع"، " يا الله ما إلنا غيرك يا الله".

4- المرسوم التشريعي رقم (64) لعام 2008 المتضمِّن مَنْحَ الحصانة من الملاحقة القضائية لكافة العاملين في إدارات أمن الدولة المختلفة

 

 

 

 

 

 

 
 
Image removed.

نبذه

علا شيب الدين

كاتبة سورية لديها العديد من المقالات في العديد من الصحف المحلية والعربية