التعليم في سوريا... من البعث إلى الثورة

مدرسة تم تدميرها من قبل جيش الأسد
Teaser Image Caption
مدرسة تم تدميرها من قبل جيش الأسد
في عام 2002، أصدر وزير الدفاع السابق العماد أول مصطفى طلاس كتاباً يسرد فيه أحداث مرحلة حرجة من تاريخ الصراع على السلطة بين حافظ الأسد وأخوه رفعت، وينتصر طلاس من بداية الكتاب لآخره "لحكمة" حافظ الأسد مقابل فضح المساوئ وسوء استخدام السلطة التي مارسها رفعت قبل دفعه للخروج من سوريا. وفي سياق السرد يضرب طلاس بعض الأمثلة  عن علاقة رفعت بالجامعة، فيقول إنه في عام 1975 "عندما كان العميد رفعت منتسباً إلى الجامعة (قسم التاريخ) شكا لي رئيس القسم الدكتور محمد خير فارس بأن رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس إلى الجامعة أيام الامتحان ولا أحد يجرؤ من المراقبين أن يقول له شيئاً فماذا أفعل؟ قلت له: لا تفعل شيئاً لأنه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ"[1].

 

فرض الهيمنة على الفضاء الجامعي لم يقتصر على سلوك فردي لشخصية تحتل موقع سلطوي، وإنما شمل على تأسيس النظام الحاكم لجهاز متكامل من السيطرة الفكرية والأمنية داخل الحرم الجامعي والمؤسسات التربوية عموماً. ففي عام 1974، حذا النظام البعثي حذو انظمة شمولية أخرى بتكوين منظمة تعمل على حقن السوريين من الصغر بعقيدة الحزب الواحد، وقد سميت (طلائع البعث). كما تم إنشاء اتحاد شبيبة الثورة والذي "تحول من منظمة للشباب البعثيين الى منظمة إلزامية للشبان السوريين جميعاً، وأصبح الانتساب لحزب البعث في المرحلة الثانوية أشبه بالممر الإجباري، عبر الترهيب والترغيب، للانتقال إلى المرحلة الجامعية، كما للوصول إلى وظائف الدولة فيما بعد. أما في الجامعات فقد تحول الاتحاد الوطني لطلبة سوريا إلى منظمة بعثية بالكامل تم من خلالها تدشين مرحلة عسكرة الجامعة وتوطين المظاهر العسكرية في قلب الحياة الجامعية بإدخال مادة التدريب العسكري (التي خُصص لها دوام يوم كامل ضمن الأسبوع) والمعسكرات الجامعية الصيفية التي يتم احتسابها جزءاً من الخدمة الإلزامية فيما بعد ونوعاً من التجهيز العقائدي للشباب الجامعي"[2].

في عام 2002، أصدر وزير الدفاع السابق العماد أول مصطفى طلاس كتاباً يسرد فيه أحداث مرحلة حرجة من تاريخ الصراع على السلطة بين حافظ الأسد وأخوه رفعت، وينتصر طلاس من بداية الكتاب لآخره "لحكمة" حافظ الأسد مقابل فضح المساوئ وسوء استخدام السلطة التي مارسها رفعت قبل دفعه للخروج من سوريا. وفي سياق السرد يضرب طلاس بعض الأمثلة  عن علاقة رفعت بالجامعة، فيقول إنه في عام 1975 "عندما كان العميد رفعت منتسباً إلى الجامعة (قسم التاريخ) شكا لي رئيس القسم الدكتور محمد خير فارس بأن رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس إلى الجامعة أيام الامتحان ولا أحد يجرؤ من المراقبين أن يقول له شيئاً فماذا أفعل؟ قلت له: لا تفعل شيئاً لأنه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ"[1].

 

فرض الهيمنة على الفضاء الجامعي لم يقتصر على سلوك فردي لشخصية تحتل موقع سلطوي، وإنما شمل على تأسيس النظام الحاكم لجهاز متكامل من السيطرة الفكرية والأمنية داخل الحرم الجامعي والمؤسسات التربوية عموماً. ففي عام 1974، حذا النظام البعثي حذو انظمة شمولية أخرى بتكوين منظمة تعمل على حقن السوريين من الصغر بعقيدة الحزب الواحد، وقد سميت (طلائع البعث). كما تم إنشاء اتحاد شبيبة الثورة والذي "تحول من منظمة للشباب البعثيين الى منظمة إلزامية للشبان السوريين جميعاً، وأصبح الانتساب لحزب البعث في المرحلة الثانوية أشبه بالممر الإجباري، عبر الترهيب والترغيب، للانتقال إلى المرحلة الجامعية، كما للوصول إلى وظائف الدولة فيما بعد. أما في الجامعات فقد تحول الاتحاد الوطني لطلبة سوريا إلى منظمة بعثية بالكامل تم من خلالها تدشين مرحلة عسكرة الجامعة وتوطين المظاهر العسكرية في قلب الحياة الجامعية بإدخال مادة التدريب العسكري (التي خُصص لها دوام يوم كامل ضمن الأسبوع) والمعسكرات الجامعية الصيفية التي يتم احتسابها جزءاً من الخدمة الإلزامية فيما بعد ونوعاً من التجهيز العقائدي للشباب الجامعي"[2].

 

هذا يمكن تلخيص اهتمام السلطة الحاكمة بالتعليم في سوريا منذ أربعة عقود وإلى اليوم، بما هو اهتمام ذو طبيعة سلبية ومتناقضة في جوهرها. ففي الوقت الذي كان فيه التعليم، بمراحله كافة، من آخر أولويات الدولة من حيث الميزانية والإنفاق الحكومي، أو من باب الاهتمام بتحديث المناهج وخلق المناخ المناسب للبحث العلمي ، ركزت السلطة قبل كل شيء على مراقبة المؤسسات التعليمية و"رعايتها" أمنياً، وزرع ثقافة الخضوع والخوف وعبادة (القائد الرمز)، وخنق المبادرات الفردية وحرية التعبير، ونشر الأيديولوجيا العقائدية لحزب البعث، وإرفاق الحس الأمني للطالب بنمط حياته ونمائه الفيزيائي والعقلي والنفسي.

 

على هذه الأرضية العامة ساد ما يمكن تسميته (بمجتمع الخوف) و"ازدهر فن كتابة التقارير والوشاية، وأضحى الواشي مثال المواطن الصالح، كما فُرض نوع من التطابق بين الوطنية والولاء للسلطة"[3]. ومن خلال الاستمرار الزمني لتلك الأسس وبناء "العقد الاجتماعي" عليها طيلة عهد الأسرة الأسدية الحاكمة، يصبح من الممكن تفسير الوشاية الأمنية التي قام بها مدير المدرسة في درعا ضد ثمانية عشر تلميذاً [4] كتبوا على حائط مدرستهم شعارات إسقاط النظام، ويمكن في الوقت ذاته فهم الرد الوحشي للأمن الذي قام باعتقالهم بتاريخ 27 شباط 2011 وتحويلهم فيما بعد إلى دمشق ليتم تعذيبهم وقلع أظافرهم هناك.

على هذه الأرضية العامة ساد ما يمكن تسميته (بمجتمع الخوف) و"ازدهر فن كتابة التقارير والوشاية، وأضحى الواشي مثال المواطن الصالح، كما فُرض نوع من التطابق بين الوطنية والولاء للسلطة"[3]. ومن خلال الاستمرار الزمني لتلك الأسس وبناء "العقد الاجتماعي" عليها طيلة عهد الأسرة الأسدية الحاكمة، يصبح من الممكن تفسير الوشاية الأمنية التي قام بها مدير المدرسة في درعا ضد ثمانية عشر تلميذاً [4] كتبوا على حائط مدرستهم شعارات إسقاط النظام، ويمكن في الوقت ذاته فهم الرد الوحشي للأمن الذي قام باعتقالهم بتاريخ 27 شباط 2011 وتحويلهم فيما بعد إلى دمشق ليتم تعذيبهم وقلع أظافرهم هناك.

 

على هذه الأرضية العامة ساد ما يمكن تسميته (بمجتمع الخوف) و"ازدهر فن كتابة التقارير والوشاية، وأضحى الواشي مثال المواطن الصالح، كما فُرض نوع من التطابق بين الوطنية والولاء للسلطة"[3]. ومن خلال الاستمرار الزمني لتلك الأسس وبناء "العقد الاجتماعي" عليها طيلة عهد الأسرة الأسدية الحاكمة، يصبح من الممكن تفسير الوشاية الأمنية التي قام بها مدير المدرسة في درعا ضد ثمانية عشر تلميذاً [4] كتبوا على حائط مدرستهم شعارات إسقاط النظام، ويمكن في الوقت ذاته فهم الرد الوحشي للأمن الذي قام باعتقالهم بتاريخ 27 شباط 2011 وتحويلهم فيما بعد إلى دمشق ليتم تعذيبهم وقلع أظافرهم هناك.

اليوم، وبعد مرور عامين على بداية الثورة السورية، يبدو واضحاً كيف أن الإستراتيجية الأمنية التي اعتمدها النظام مع أطفال درعا كانت إستراتيجية شاملة طالت جميع البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لسوريا، وكم هي إستراتيجية محكومة بعدمية سياسية لخصها شعار "الأسد أو نحرق البلد"؛ وهو الشعار الوحيد الذي أثبت فاعليته وصدقه أمام كل الشعارات الجوفاء التي رفعها النظام السوري وحزب البعث منذ استلامه السلطة في سوريا؛ فليست آثار الدمار الذي تعرضت له البنى التحتية والاقتصادية للبلد بأكبر من أثر الدمار الذي حل بالمجتمع السوري، وليست إعادة ترميم ما يقدر بـ 60% من البنية العمرانية لسوريا بأصعب من إعادة ترميم الخراب النفسي والعقلي والجسدي لما يقدر بستة ملايين إنسان مهجر ونازح ومشرد، و160 ألف معتقل، وأكثر من مليون شخص ذاقوا طعم الاعتقال التعسفي منذ بداية الثورة، وأكثر من 60 ألف مفقود، و250 ألف جريح ومصاب منهم عشرون ألف إعاقة دائمة [5].

مدارس سوريا والأزمة المستمرة: 
ان الرد الأمني العنيف على الحراك السلمي لقطاع واسع من السوريين الذين خرجوا بداية للمطالبة بالإصلاح حوّل الثورة السورية إلى أزمة مستدامة طالت جميع مناحي الحياة ومن ضمنها التعليم. فقد كان الأثر المباشر على العملية التعليمية كارثياً، حيث خسر الكثير من الطلاب والمعلمين حياتهم، ومن بين خمسة ملايين تلميذ و365 ألف مدرس وموظف لم يلتحق بالدراسة لعام 2012 سوى 22.8% منهم؛ بحسب التقرير الذي أعده المركز السوري لبحوث السياسات[6]؛ ومن بين 22 ألف مدرسة في سوريا تم تدمير 2362 مدرسة بشكل كلي أو جزئي وبكلفة تقارب 5.7 مليار ليرة سورية، وتجدر الإشارة إلى أن الإنفاق العام على التعليم انخفض من 35.4 مليار ليرة سورية في عام 2010 إلى 26 مليار ليرة سورية في عام 2011 ويقدر أنه وصل في 2012 إلى 19.5 مليار ليرة سورية. كما تشير وزارة التربية والتعليم إلى استخدام 1956 مدرسة كملاجئ للأسر النازحة[7]. ولذلك صرحت المتحدثة باسم اليونيسيف ماريكسي مركادو في شهر أيلول/سبتمبر الماضي "إن ضمان الدراسة للأولاد في سوريا سيكون تحدياً هائلاً بعد ثمانية عشرة شهراً على بدء الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام"[8].

تقع الغالبية العظمى من المدارس المدمرة في المناطق التي تشهد عمليات عسكرية، وقد توزعت تلك المدارس في المحافظات السورية على الشكل التالي:

 

درعا 393 مدرسة، إدلب 610 مدارس، دمشق 196 مدرسة، حمص 227 مدرسة، ريف دمشق 200 مدرسة، الحسكة 59 مدرسة، دير الزور 49 مدرسة، حلب 103 مدارس، طرطوس 30 مدرسة، اللاذقية 20 مدرسة، حماه 157 مدرسة، الرقة 4 مدارس، القنيطرة 24 مدرسة[9]. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في حلب وريف دمشق تحديداً هناك تزايد مستمر في عدد المدارس المتضررة نتيجة لكثافة العمليات العسكرية في هاتين المنطقتين. أما في دمشق فقد أضافت شبكة سانا الثورة عدداً من المدارس التي تحولت إلى مراكز اعتقال أو تم قصفها وإغلاقها مؤخراً وكانت الإحصائية توثيق 78 مدرسة على الشكل التالي:

 

منطقة الحجر الأسود 17 مدرسة، حي القدم 13 مدرسة، حي التضامن 9 مدارس، حي الزاهرة 9 مدارس، حي القابون 8 مدارس، كفرسوسة 6 مدارس، مخيم اليرموك 6 مدارس، حي العسالي 5 مدارس، حي برزة 2 مدرسة، حي المزة 2 مدرسة، دمر 1 مدرسة[10].

أدى التدهور الأمني إلى تأرجح معدل حضور الطلاب للمدارس بحسب المحافظات وحتى ضمن المحافظة الواحدة، ومن المتوقع أن يرتفع معدل التسرب الدراسي نتيجة عدة عوامل وعلى رأسها المدارس المتضررة والمخاطر الأمنية التي دفعت العديد من الأهالي إلى عدم إرسال أطفالهم إلى المدارس وخصوصاً البنات منهم. ففي مجتمع محافظ بأغلبيته وأمام الانتشار الواسع لحالات الاغتصاب والخطف والاعتقال الذي تتعرض له فتيات سوريا في غير مكان، يغدوا مفسراً ما يقوم به الأهالي بعدم إرسال بناتهم للمدارس. وتواجه أسر اللاجئين والنازحين الكبيرة صعوبات في تسجيل أطفالهم في أماكن تواجدهم الجديدة بسبب القدرة المحدودة لتلك المدارس على استيعابهم أو بسبب المصاعب المالية. وفي العاصمة دمشق أقفلت جميع المدارس التابعة لوكالة الغوث "أونروا" أبوابها، وهي المدارس الخاصة بتعليم اللاجئين الفلسطينيين، ولاسيما بعد أحداث مخيم اليرموك والمناطق المحيطة به في شهر كانون الأول/ديسمبر 2012. وقد ذكر لنا (م. س) الناشط والعامل بوزارة التربية في دمشق أن معظم التلاميذ والطلبة الفلسطينيين في منطقة المخيم تغيبوا عن امتحانات الفصل الأول للعام الدراسي 2012/2013 بينما التحق بعضهم بمدارس أخرى في دمشق، مشيراً إلى وجود تعقيدات إدارية كبيرة تضعها وزارة التربية أمامهم، فمعظم الطلاب لا يملكون أوراق ثبوتية نتيجة لتعرض مدارسهم للقصف، وبعدم حيازة هذه الأوراق ترفض المدارس استقبالهم، كما رفضت المدارس إجراء امتحان سبر معلومات للطلاب الجدد (وهو امتحان تقييم شكلي لمعرفة معلومات يمتلكها الطالب لوضعه في الصف المناسب له) من أجل التحاق طلاب وكالة الغوث الفلسطينيين بمدارس الدولة وتم الرفض بقرار وزاري، وذلك على الرغم من أن معظم الطلاب المهجرين الآخرين الذين تقدموا بطلبات من مدارس أخرى أجرو سبر معلومات والتحقوا بمدارس جديدة، وتبدو الطبيعة السياسية للقرار الوزاري كرد فعل من قبل السلطة على مشاركة الفلسطينيين في الثورة السورية حيث جاء على لسان المتحدث السابق لوزارة الخارجية السورية جهاد مقدسي أن "الفلسطينيين ضيوف يسيئون الأدب، وعليهم احترام كرم الضيافة الذي تقدمه السلطة السورية"[11]، على الرغم من أن القانون رقم 260 الذي أقره مجلس النواب السوري بالإجماع وأصدره رئيس الجمهورية شكري القوتلي بتاريخ 10/7/1956 ومازال معمولاً به إلى اليوم تنصُّ المادة الأولى منه على أنه: "يعتبر الفلسطينيون المقيمون على أراضي الجمهورية السورية بتاريخ نشر هذا القانون كالسوريين أصلاً في جميع ما نصت عليه القوانين والأنظمة النافذة المتعلقة بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية"[12].

ونتيجة للضغط الحاصل قامت وزارة التربية بإجراء برنامج الدوامين (صباحي ومسائي) إلا أن نسبة الطلاب المتسربين بقيت عالية جداً، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مدرسة محمد كرد علي /للإناث/ وهي إحدى مدارس حي القدم الدمشقي فاقت نسبة التسرب فيها 80%، كما تحولت مدرسة القاعة المهنية في حي الميدان إلى مركزاً للجيش، بينما أصبحت مدرسة طلحة بن عبد الله مركزاً لإيواء اللاجئين. وتشير المسؤولة عن قسم الامتحانات في وزارة التربية (ر.م) إلى وجود تعقيدات إدارية خاصة بطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية حيث هناك أوراق ثبوتية يجب رفعها من المدرسة إلى قسم الامتحانات ليتم تسجيل الطالب، إلا أنه بعد التهجير والتدمير لا يعرف أياً من الطلاب شيئاً عن مصير أوراقهم. أما بالنسبة للمدرسين فقد حصل خللاً كبيراً في كوادر التدريس ولاسيما بعد أن فتحت الوزارة باب النقل تحت مسمى /تحديد مركز عمل/ لكل راغب وأينما أراد، "فقد أصدر وزير التربية السوري هزوان الوز قراراً بنقل 4484 عاملاً من مختلف الفئات في وزارة التربية إلى محافظاتهم، منهم 2533 طلباً للالتحاق بالزوج و1798 طلباً لمن أتم الخمس سنوات، وشمل القرار أيضاً نقل 44 عاملاً من ذوي الشهداء و109 من العاملين الحاصلين على موافقات وزارية وموافقات بالتفويض على النقل[13].

ونتيجة للضغط الحاصل قامت وزارة التربية بإجراء برنامج الدوامين (صباحي ومسائي) إلا أن نسبة الطلاب المتسربين بقيت عالية جداً، وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مدرسة محمد كرد علي /للإناث/ وهي إحدى مدارس حي القدم الدمشقي فاقت نسبة التسرب فيها 80%، كما تحولت مدرسة القاعة المهنية في حي الميدان إلى مركزاً للجيش، بينما أصبحت مدرسة طلحة بن عبد الله مركزاً لإيواء اللاجئين. وتشير المسؤولة عن قسم الامتحانات في وزارة التربية (ر.م) إلى وجود تعقيدات إدارية خاصة بطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية حيث هناك أوراق ثبوتية يجب رفعها من المدرسة إلى قسم الامتحانات ليتم تسجيل الطالب، إلا أنه بعد التهجير والتدمير لا يعرف أياً من الطلاب شيئاً عن مصير أوراقهم. أما بالنسبة للمدرسين فقد حصل خللاً كبيراً في كوادر التدريس ولاسيما بعد أن فتحت الوزارة باب النقل تحت مسمى /تحديد مركز عمل/ لكل راغب وأينما أراد، "فقد أصدر وزير التربية السوري هزوان الوز قراراً بنقل 4484 عاملاً من مختلف الفئات في وزارة التربية إلى محافظاتهم، منهم 2533 طلباً للالتحاق بالزوج و1798 طلباً لمن أتم الخمس سنوات، وشمل القرار أيضاً نقل 44 عاملاً من ذوي الشهداء و109 من العاملين الحاصلين على موافقات وزارية وموافقات بالتفويض على النقل[13].

الجامعات السورية والحراك الثوري..  
تكرَّست السيطرة الامنية على مؤسسات العلم في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، حيث جرى اعتقال الكثير من طلاب الجامعات على خلفية آرائهم وانتماءاتهم الحزبية المعارضة. وكانوا يجزون في السجون لسنوات طويلة من دون محاكمة، ومنهم من كانوا يمنعون من إتمام الدراسات العليا بعد الإفراج عنهم نتيجة حرمانهم من الحقوق المدنية. ولم يتغير الوضع كثيراً بعد "الانفتاح" المزمع لعهد الأسد الابن الذي ورث الحكم عن والده بعد وفاته في عام 2000. بل إن القبول الجامعي المستند إلى معايير أيديولوجية وأمنية في عهد الأب أصبح يستند إلى معايير طبقية في عهد الابن دون التخلي عن الحضور الأمني في الجامعة وخضوعها للسلطة الأمنية والحزبية المستمرة [14].

 

ظهرت نتائج هذا التاريخ الأمني الطويل بوضوح صارخ بعد اندلاع الثورة السورية وخروج المظاهرات السلمية في الجامعات العامة والخاصة ولاسيما جامعتي دمشق وحلب، حيث تحول العدد الأكبر من الكليات والأقسام إلى مراكز للاعتقال والتعذيب، وأصبح "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" هو المركز الأساسي لتجمع الشبيحة وتسليحهم وتمويلهم، وإعدادهم لقمع التظاهرات، وتعذيب الطلاب وحتى قتلهم، إن اقتضى الأمر.

 وردَّاً على الدور سيئ السمعة للمنظمة البعثية المسماة "الاتحاد الوطني لطلبة سوريا" قام طلاب سوريون بتشكيل "اتحاد طلبة سوريا الأحرار" بغية تنسيق العمل الطلابي المدني في التظاهر والاعتصام ورعاية النشاطات المدنية المتنوعة، كتوزيع المنشورات وكتابة اللافتات وإصدار البيانات، وتوثيق (ما يمكن توثيقه) من جرائم قوات الأمن السورية المرتكبة بحق الطلاب، ومتابعة أسماء المعاقبين والمفصولين من جامعاتهم، وإنشاء صفحات على شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي للإعلان عن المعتقلين ومتابعة أماكن وظروف اعتقالهم..الخ. وقد استطاع فرع الاتحاد الجديد في دمشق أن يوثق74 طالباً وطالبة بالاسم والكنية هو عدد الذين تم فصلهم من جامعة دمشق، أو حرمانهم من متابعة الدراسة بقرار رسمي من رئاسة الجامعة، كما تم توثيق 97 شهيداً بالاسم والكنية وتاريخ الولادة، بالإضافة لتوثيق خمسة شهداء قتلوا تحت التعذيب، وفق ما أكدته الناشطة (س.ق) وهي عضو في اتحاد الطلبة الأحرار.

 

أما في جامعة حلب والتي أطلق عليها الناشطون اسم "جامعة الثورة" نتيجة لنشاطها المتميز جداً منذ بداية الثورة السورية، خرجت أولى المظاهرات في كلية الآداب بتاريخ 14/4/2011، وفي 3 أيار/مايو 2012 وبعد أن زاد عدد الطلاب المتظاهرين عن خمسة آلاف متظاهر، قامت قوات الأمن باقتحام الجامعة وإطلاق الرصاص الحي فقتلت 4 طلاب وجرحت 28 آخرين، وتم اعتقال ما يزيد عن 200 طالب وطالبة وإحراق عدد من الوحدات السكنية انتقاماً، وطرد مئات الطلبة الجامعيين خارج المساكن الجامعية التي تحول بعضها إلى ثكنات عسكرية ومرتعاً للشبيحة، واستخدم بعضها كمناطق لإطلاق القذائف والصورايخ على الأحياء المعارضة للنظام، ثم أُغلقت الجامعة بشكل مؤقت بقرار صدر عن رئيسها [16]. وفي 15 كانون الثاني 2113 قام الطيران الحربي السوري وبالتزامن مع أول يوم في امتحانات الجامعة بقصف كلية الهندسة المعمارية ما أدى إلى وقوع مجزرة مروعة راح ضحيتها 82 طالباً وطالبة بحسب اتحاد طلبة سوريا الأحرار[17]. ومع استمرار الثورة السورية، ما تزال عمليات القتل والاعتقال والتصفية والتهجير جارية وما يزال "العجز" والانقسام الدولي تجاه الجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق المدنيين هو سيد الموقف.

أخيراً.. بات من الجلي أن جيلاً كاملاً من الأطفال السوريين في عمر الدراسة قد خسروا تعليمهم وأصبح مستقبلهم في خطر، وأن جيلاً آخر من الشباب المتعلم قد "هاجر" إلى الثورة (أو إلى الحرب عليها) ليصبح مقاتلاً أو نازحاً أو شهيداً أو ناشطاً في صروف الإغاثةِ والسياسةِ والإعلام. ولكن  في المقابل إن نظرة متأنية وكلية إلى المشهد وإلى تاريخ الشعوب توحي بأن المسار الذي خطَّه السوريون غير قابل للعكس أو العودة، وإن انخراط الأجيال الشابة بشكل عميق في موجة التحرر والدمقرطة التي تضرب المنطقة العربية، بعد مرورها بأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم، هو الضامن المستقبلي لكسر أي استبداد مهما كان شكل النظام السياسي القادم، فالاستبداد هو الأصل وهو البلاء.
------------------------------------------------------------------------
الهوامش:

1-  ثلاثة أشهر هزت سوريا، العماد أول مصطفى طلاس: أمريكا تستحث رفعت الأسد للوصول إلى السلطة في العام 1984، الكتاب نسخة إلكترونية "word" بدون تاريخ أو دار نشر، ص59. http://www.moustafatlass.org/index.php?d=280&id=608 وهذا رابط لصفحة خاصة بمصطفى طلاس منشور فيها الكتاب كاملاً.
أُنظر، ياسين الحاج صالح، نحو جامعة متقدمة وديمقراطية، المسألة الجامعية وقضية الطلاب في سوريا، بحث منشور في الحوار المتمدن، العدد 1332، بتاريخ 9/10/2005. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=%2047485  
2-  ياسين الحاج صالح، المصدر ذاته.
3- أسماء الأطفال الذين تم اعتقالهم في درعا بتاريخ 27 شباط 2011: 1- معاوية فيصل صياصنة 2- يوسف عدنان سويدان 3- سامر علي صياصنة 4- أحمد جهاد أبازيد 5- عيسى حسن أبو القباص 6- علاء منصور أرشيدات 7- مصطفى أنور أبازيد 8- نضال أنور أبازيد 9- أكرم أنور أبازيد 10- بشير فاروق أبازيد 11- نايف موفق أبازيد 12- أحمد ثاني رشيدات أبازيد 13- أحمد شكري الكراد 14- عبد الرحمن نايف موفق أبازيد 15- محمد أيمن منور الكراد 16- أحمد نايف الرشيدات أبازيد 17- نبيل عماد الرشيدات أبازيد 18- محمد أمين ياسين الرشيدات أبازيد.
4- الأرقام مأخوذة من موقع شهداء سوريا http://syrianshuhada.com/، كما تم نشرها في موقع كلنا شركاء http://all4syria.info/Archive/69632، تحت عنوان "بالأرقام إحصائية جديدة للثورة حتى نهاية كانون الثاني 2013.
5- المركز السوري لبحوث السياسات: الأزمة السورية- الجذور والآثار الاقتصادية والاجتماعية، كانون الثاني 2103، وهو تقريراً مفصلاً نشره المركز ضمن كتاب، نسخة الكترونية، ويمكن الاطلاع عليه عبر الرابط
http://scpr-syria.org/ar/.  6- المصدر ذاته ص 54
7-  موقع العربية. نت، http://www.alarabiya.net/default.html، "بداية مضطربة للسنة الدراسية في سوريا بسبب العنف"، الأحد 16/سبتمبر/2012م.
8- الأزمة السورية- الجذور والآثار الاقتصادية والاجتماعية: المصدر ذاته، ص53.
9-  شبكة سانا الثورة، http://www.sana-revo.com/news/، نشرت الشبكة هذه الإحصائية بتاريخ 6/2/2013.
10-  http://www.ayyam.org/arabic/?p=14114 .
11-  http://www.alawda-mag.com/default.asp?issueID=50&MenuID=106 
12- موقع  (دي برس) أخبار سوريا، التربية السورية، نقل 4484 عاملاً إلى محافظاتهم. الخبر منشور بتاريخ  14/7/2012. http://www.dp-news.com/pages/detail.aspx?articleid=126210 .
13-  ياسين الحاج صالح، المصدر ذاته.
14- أنظر، ياسين الحاج صالح، المصدر ذاته.
15-  http://www.alquds.com/news/article/view/id/352665#.UR-Dth39udc ،    الأمن السوري يقتحم جامعة حلب ويقتل ويعتقل العشرات، موقع القدس نيوز. 4/5/2012. 
https://twitter.com/mediaufss/statuses/291655737535500289، تقرير اتحاد طلبة سوريا الأحرار حول مجزرة جامعة حلب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 
 

لمحة عن ماهر مسعود