أسئلة برسم انقاذ بنايتي عريضة والأونيون

في كلّ مرّةٍ نفتح فيها  موضوع العمارة والتراث في لبنان ننزلقُ نحو الحزنِ نفسه. لا لأنّنا بكائيون بالفطرة ولا لأنّنا متطلبون  أكثرَ من  سوانا، بل لأنّ  و اقعَنا مريرٌ فعلاً وقد  بلغ أعلى الدرجات سوءًا. انطفأت حربٌ واشتعلت اثرها حروبٌ أُخرى، استنزفت الجبال والوديان والغابات وغيّرت معالم المدن قاضية على أحيائها القديمة المُتبقيّة، حيث قلبتها رأسًا على عقب مطيحةً بكلّ انسجامٍ كان قائمًا داخل النسيج المديني. ثم راحت علنًا تحارب هذا الانسجام مُجاهرةً بحملتهاعلى القديم "النّتِن". هكذا تكون قد داست التّاريخ والذّاكرة معًا. حين تشتعل حروبٌ مِحورها الترّاث الذي اختُصر بنمطٍ معماريٍ واحدٍ سُمي  "البيت اللبناني"، وحين تحبط حروبُ السّلمِ كلَّ محاولة لتصحيح قوانين البناء وأُسس التنظيم المدني البالية، رادعة أيّة مبادرةٍ تطالب بقانونٍ صارمٍ يحمي الأبنية التراثيّة، وحين تنكفىء حربُ السلاح مُخلّفةً وراءها هيستيرا التدمير، لا بُدّ لنا ساعتئذٍ أن نعترفَ أنّنا نعيشُ حالةِ حربٍ جديدة مفتوحةً  لا نعرف عواقبها.

هي حربٌ أعتى من حرب البارود لأنّ الأكثرية قد تخدّرت بفعل احتدام العصبيّات والتحريض الفئويّ، وانْ كانت ستشعر بها في المدى البعيد. هي حربٌ أخطر لأنّها تتغلف بأكثر من غطاء منه القانوني الذي يُشرّعُ للمصلحة الخّاصة ما لا يُشرّعه للعام. الى  الغطاء الاحتيالي الرّخيص الذي يبدأ بالترويج لمشاريع الأبراج ويروحُ يُنادي بأساليب عيشها المثالية وينتهي بزجِّ اسم بيروت أو أيِّ حيٍ كان تُراثيًا فيها، ساعيًا لاكتساب عطف شعبوي بَخسٍ. هي حربٌ شعواء لأنّها حربُ الاستثمار الصّافي الشّرس الذي يرى في أيِّ بقعةٍ من أرضِ الوطن ورقةً بيضاء ملساءَ جديدة، لا تاريخ ولا خصائص طبيعيّة لها ولا ارتباط بينها وبين محيطها المبني وغير المبني، ورقةٌ فارغة ومساحةٌ شاغرة للشرّاء وللبيع. انّها حربٌ شعواء لأنّها الغاءٌ مُمنهج للنسيج العمراني بل لمعنى المكان عينِه.

   
ماذا يعني اليوم أن تُهدّدَ بناية الأونيون بالهدم وهي من أبرز معالم الحداثة في بيروت ان لم نقل أبرزها على الاطلاق؟ ماذا يعني أن يطال الاستثمار المُبتذل بناية عريضة  القريبة هي أيضًا؟ من سمع بروّاد المعماريين كأنطون تابت مصمّم بناية الأونيون عام 1952 وبجورج الريّس وتيو كنعان مصممي بناية عريضة عام 1951 يُدرك جيدًا فداحة الكارثة. أمّا من لم يتعمّق بتاريخ المباني وقصص تصاميمها فقد ينفعلُ بدوره لما يُسلبُ منه من صورةِ الحي التي ترسّخت بالأذهان منذ عقودٍ. لكنّ من يتجرّأ على طرح هذا الموضوع كمسألة معيشيّة بحتة؟ من يُعلنُ أنّ هذه حملة أكبرُ بكثير من قضيّة المُحافظة على التُراث وأبعد من أن تكون مجرّد مُطالبة بتحصيلِ شيءٍ من ذاكرة الوطن وكرامته بدءاَ بوعي المكان؟ ألم يحن الوقت لأن نستدركَ أنّ ما يجري من استباحةٍ للتاريخ وللذاكرة والهويّة هو نتيجة جهلنا بحقوقنا المدنيّة واستهتارنا بالأذى المُتمادي اللاحق بنسيجنا الاجتماعي؟ ألم تدقّ السّاعة لكي نتّخذ قرارًا تاريخيًا واحدًا، فنخلعَ عن التّراث المعماري العمراني صفته النُخبويّة، و نسعى لنُدرجهُ على قائمة أولويّاتنا الحياتيّة، لأنّ موتَ المدينة الفعلي بات وشيكًا؟

اليوم، أصبحَ التّراث المعماري في لبنان مُرادفًا لهدمِهِ. وأصبحَ الحديثُ عن التّراث فصلاً ثابتًا من مأساةٍ لبنانيّةٍ بامتياز تُختصرُ بالتالي: استخفاف فاضحٌ بعقول المواطنين وبحقوقهم من قبل المؤسّسات التي يُفترضُ بها أن تكونَ راعيةً للثقافة وللحقوق المدنيةِ الدُنيا. فمنذُ متى كان تحديدُ تاريخ المدينة ومستقبلها يستندُ على المامٍ بدائيٍ بأنماط العمارة يختصر  القول في كلّ مرّة  بأنّ أبنية الاسمنت لا قيمةَ لها! هل يُدركُ فعلاً من يُروّج لهذه المقولة أنّ نيّته بالتخلّص من عبءِ الأبنيةِ التراثية باتَ واضحًا اذ أنّ مُجمل ما بقي من ارثنا في بيروت مبنيٌ من الاسمنت؟ هل يُدركُ من يتقاعس عن الدفاع عن قضيّة التراث أنّ التاريخَ بات يُؤرّخُ لأسوأ مرحلةٍ من تحولات لبنان الحديث؟ هل يعي من يتوانى عن مُساندة المُطالبين بقانونٍ يحمي هويّة المدينة أنّ التغيير الجذري الحاصل لا يُضربُ فقط ارث المدينة وتاريخها بل مُستقبلها ومستقبل سكّان اليوم؟ وأخيرًا هل سنعرفُ حقًا أنّ مُطالبتنا بتحسين الأوضاع المعيشيّة لا يُمكنُ الّا أن تنذر بكارثة الاستثمار وفورة العمران الهمجيّة التي تزيدُ بل تُضاعفُ المشاكل الاقتصاديّة لدى الطبقة المتوسطة ومن دونها؟ 

عادَ بنا الحديثُ تلقائيًا الى المرارة نفسها لأنّنا وعينا أنّ هويتنا تُجرفُ مع الأيّام وأنّ الخمولَ الذي ابتلينا به في السّابق مهّد الطريق الى وضعنا الكارثي الآن. هل تردعنا الخيبات المُتتالية عن التحرّك اليوم ولو بالكلمة؟ هل ستنطفىء كلماتنا مع انتهاء كلّ ندوةٍ أكاديميّة أو لقاءٍ اعلامي أو مقالٍ كهذا المقال؟ يقولُ فيكتور هوغو أنّ المبنى هو ملكٌ خاصٌ أمّا جماليته فهي للجميع. أن لم نرتكز في انتفاضتنا هذه على القيمة الجمالية والتناسق بين الأبنية في شارع سبيرس حيثُ بناية الأونيون أوفي غيره من الشوارع، واذا ما رُحنا الى فكرة أنّ أيّ مبنىً أو أي معلم في بيروت وفي لبنان هو قابلٌ للهدم للأهداف عينها، فنحن حتماَ واصلون الى الكارثة. ألم نعِ بعد أنه حان لنا أن نُوحّد الجهود للمطالبة بحقٍ مهدور؟

 
عوضًا من أن ننصرفَ فقط الى تعداد مآثر العمارة في بيروت ربّما الأجدى أن نلتفّ حولَ بعضنا لجان أحياء ومُهندسين ومُحامين واقتصاديين وخُبراء في أسواق العقارات من المتعاونين في هذه القضيّة، لنطرحَ بشكلٍ قاطع أحقيّة مطلبنا بالمحافظة على تُراثنا الثقافي المعماري العمراني. لا مكانَ للتقاعس عن الواجب بعد الآن فصمتنا سيكون قاتلاً. فلنتخلَّ عن التشاؤم انّ بصيص الأمل محدودٌ قد نتوه عنه انْ تشاءمنا. 
 

 

 
 
Image removed.

نبذة

مازن حيدر

 

  مهندس معماري تخرج من جامعة لاسبيانزا- La Spienza، روما، إيطاليا حيث عاش  هناك لأكثر من عشر سنوات. يشارك حاليا في العديد من المشاريع التي تعنى بالحفاظ على الإرث المعماري في لبنان ويُدرسّ في الجامعة اللبنانية الأميركية والجامعة الأميركية في بيروت.  كما يساهم دوريًا في نشر مقالات  عن الهندسة المعمارية والثقافة  في العديد من الصحف والمجلات المحلية. له العديد من المؤلفات: " مدينة وذاكرة "- Città e memoria، بيروت، برلينو - Berlino، سراييفو (ميلانو: برونو موندادوري، 2006).