الانتهاكات ترتكب، بس في أمل

الانتهاكات ترتكب، بس في أمل

"الهيئة الشرعية صارت جوية"[1]، هو شعار أطلقه عدد من المتظاهرين في أحد أحياء حلب أمام مقر الهيئة الشرعية[2] احتجاجاً على إعدام الطفل محمد قطّاع،15 عاماً، قتلاً بالرصاص بتاريخ 9 حزيران 2013. القصة بدأت حين سمع مجموعة من الأشخاص مجهولي الهوية، تم التداول بأنهم تابعون للهيئة الشرعية[3]، الطفل محمد يقول " إذا بينزل محمد ما رح أدين"، وذلك خلال بيعه القهوة في حي الشعار الواقع على أطراف مدينة حلب. أعتقلت المجموعة الطفل بتهمة الكفر واخذوه معهم لكنهم ما لبثوا أن عادوا به الى نفس المكان وقميصه على وجهه وعلى جسده اثار الجلد الواضح. تجمع الناس حوله، فقال احد عناصر المجموعة باللغة العربية الفصحى "يا أهالي حلب الكرام الكفر بالله شرك وسب النبي شرك ومن سب مرة سيعاقب مثل هذا " واطلق النار عليه من بارودة آلية طلقة في الرأس وطلقة في العنق امام حشد من الناس. بعدها ركبوا السيارة وغادروا المكان تاركين الوالدين لحزنهما.

ليست هذه هي الحادثة الأولى التي يتم بها ممارسة انتهاكات من قبل جهات غير محسوية على نظام الأسد. ففي الرسالة العلنية[4] التي وجهتها منظمة هيومن رايتس ووتش بتاريخ 20/03/2012 إلى مختلف جماعات المعارضة السورية البارزة أشارت إلى أن عناصر من الكتائب المسلحة ارتكبت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان شملت عمليات اختطاف واحتجاز وتعذيب وإعدامات ميدانية لعناصر من قوات الأمن ومؤيدين للحكومة وشبيحة. غير أن ردود الفعل من قبل معظم الثوار كانت سلبية وأتهمت المنظمة بالانحياز للنظام ومحاولة تشويه الثورة. في حين تراوحت ردود فعل آخرين بين الاقرار بوجود انتهاكات لكن لايجب الحديث عنها مرحلياً، وبين الاقرار بوجود انتهاكات والعمل على تسليط الضوء عليها لان الثورة قامت على النظام لا لكي تكون صورة عنه، وما بني على باطل فهو باطل لذلك يجب ان تكون وسائل إنجاح الثورة بنبل أهدافها. غير أن معظم أصحاب الاتجاه الأخير تم تهميشهم وتخوينهم في حالات عدة.

مع تضخم أعداد الجيش الحر وتزايد المجموعات المقاتلة بالتنسيق معه، توسعت رقعة المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. في هذه المرحلة انتشرت ظاهرة تشكيل جماعات مسلحة على أساس عائلي أو على أساس مصالحي. أدت هذه الظاهرة بالإضافة إلى مجموعة من العوامل منها (غياب آلية المحاسبة، انتشار عقلية الغنائم[5]، غياب نظام قضائي مدني فاعل، ازديار الفقر ونقص السلاح، ازدهار الفتاوي الخاطئة، تراجع الحراك المدني وغيرها) إلى انتشار واسع للانتهاكات من قبل بعض المجموعات المسلحة. لم تقتصر هذه الانتهاكات على المؤيدين للنظام فقط بل شملت في كثير من الحالات المؤيدين للثورة وذلك لقاء منفعة مادية. فلوحظ بكثرة انتشار عمليات الخطف والسرقة والقتل تحت غطاء تهمة التشبيح. فكما كانت تهمة معارضة نظام الأسد كافية لقتل واعتقال وتعذيب عائلات بكاملها، فإن تهمة التشبيح كافية لانتهاك جميع حقوق الافراد. فكثير من الأفراد خطفو وكثير من السيارات والمعامل والأموال سرقت من أشخاص معروفين بدعمهم للثورة أو بحياديتهم بتهمة التشبيح بدون أي دليل. وفي حالات أخرى تم خطف صحفيين داعمين للثورة وقمع مظاهرات مناهضة للنظام بسبب نقد الانتهاكات الممارسة من قبل الكتائب المعارضة. كما أنتشر نوع آخر من من الانتهاكات التي مورست بأسم تطبيق الشريعة كحادثة الجلد التي طبقت في سراقب الواقعة في ريف إدلب، على شخصين لقيامهما بما "يخالف الشرع" في أمور تتعلق بالزواج[6]. وذلك رغم أن معظم دعاة السلفية يتفقون على أن تنفيذ القصاص أو الأحكام الشرعية يكون بعد قيام الدولة الإسلامية.

وبعد مرور أكثر من عامين على بدء الثورة لم يتم تناول هذه الانتهاكات من قبل جهات المعارضة السياسية والعسكرية بشكل عميق وموضوعي لدراسة أسبابها والعمل على تلافي تكرارها. حيث أقتصرت معالجة هذه الحالات على محاسبة أفراد أحياناً[7] والتغاضي عن معظم الانتهاكات أحياناً أخرى. ومن المفيد التنويه هنا إلى أن معظم الحالات التي تم التغاضي عنها تعود إلى مجموعات مسلحة تقوم بالانتهاكات بشكل ممنهج. ولكي لايتم فهم الموضوع هنا على أنه تواطىء المعارضة مع هذه المجموعات، لابد من التوضيح بأن سبب التغاضي، كما ورد على لسان بعض القادة العسكريين، هو بسبب أولوية التركيز على معركة اسقاط النظام وعدم الانشغال في معارك هامشية. لكن يبدو أن هذا التفسير لم يكن كافياً للحاضن الشعبي للمعارضة المسلحة الأمر الذي بدا واضحاً في الهتافات التي بدأت بالانتشار في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، كشعار " كل الجيش حرامي أسدي، وحر، وإسلامي" ، وشعار " يا حيف جيش الاحرار، شبيحة وصارو ثوار"، بالإضافة للشعارات التي تطالب الجيش الحر بمغادرة المناطق المدنية المحررة والانتقال إلى جبهات القتال.

وعلى الرغم من أن العديد من الجماعات المسلحة المعارضة للحكومة التي ظهرت تقارير عن ارتكابها انتهاكات لا يبدو أنها تنتمي إلى هيكل قيادة منظم أو أنها تتبع أوامر المجالس العسكرية. فالمعارضة العسكرية مهددة لحد كبير بخسارة حاضنتها الشعبية كما خسرت المعارضة السياسية من قبل قاعدتها الشعبية. ومن هنا تنبع الحاجة الملحة لكي تقوم قيادة المعارضة السورية السياسية والعسكرية بمسؤوليتها من خلال العمل على دراسة أسباب أنتشار الظاهر ومن ثم إيجاد آليات للحد من انتشارها. كما لابد من إنعاش الحراك المدني وتفعيل دوره كرقيب لكافة الانتهاكات المرتكبة. فالشعب السوري لم يعد يقنع بالرضوخ كآلية للتعايش مع مضطهديه. وإن تحويل إعدام الطفل محمد قطّاع من مجرد رقم يضاف إلى قائمة القتلى اليومية إلى قضية وطنية تخص كل سوريّ، هي الخطوة الأولى لبناء سوريا ما بعد الثورة*.

* لا بد من التوضيح ختاماً بأن الانتهاكات الممارسة من قبل المجموعات غير المحسوبة على نظام الأسد، إنما تم تناولها من مبدأ النقد للحد من الأخطاء التي يتم ارتكابها بأسم الثورة، وأن نظام الأسد وآلته القمعية هما المنتهك الحقيقي لحقوق الشعب السوري، كما أنهما يتحملان المسؤولية الأساسية والمباشرة عن خلق الظروف المناسبة لانتشار مثل هذه الانتهاكات.

----------------

[1] يُشبه المتظاهرون الهيئة الشرعية بفرع المخابرات الجوية السورية ذائع السيط بوحشيته.

[2] تشكلت الهيئة في شهر أيار 2013 باتفاق بين أكبر أربعة ألوية بحلب، هي: لواء التوحيد وأحرار الشام وجبهة النصرة وصقور الشام، ثم ما لبثت أن انضم إليها غالبية الألوية والفصائل الأخرى. وتتكون الهيئة من مكتب رئاسة ينبثق عنه عدة مكاتب، من بينها: مكتب التربية والتعليم ومكتب الإفتاء وشؤون المساجد والمكتب الخدمي والمكتب الطبي والمكتب القضائي ومكتب الحبوب وإدارة المطاحن، ولكل مكتب مهام محددة.

[3] نفت كل من الهيئة الشرعية بحلب والهيئة الشرعية لجبهة النصرة مسؤوليتم عن قتل الطفل.

[4] رسالة مفتوحة إلى قيادات المعارضة السورية، منظمة هيومن رايتس ووتش، http://www.hrw.org/ar/news/2012/03/20-0

[5] يقوم مبدأ الغنيمة على مبدأ أحقية المقاتل المنتصر بأموال المقاتل المهزوم لتعويض خسائر الحرب. ما يقصد بعقلية الغنائم هنا يتجاوز مفهوم الغنيمة التقليدي بحيث يشمل الحق بأمتلاك كل أملاك المؤيدين وحتى المحايدين في بعض الأحيان. وتخول هذه العقلية أصحابها بسرقة الأملاك العامة والخاصة بعد التكبير عليها ثلاث مرات بحجة امتلاكها من قبل شبيحة.

[6] الحادثة وقعت بسبب تزويج امرأة من رجل آخر قبل انتهاء مدة العدة الشرعية ( الفترة الزمنية التي يجب أن تقضيها المرأة بعد الطلاق أو وفاة الزوج بدون رؤية أي رجل لمدة أربع اشهر وعشرة أيام. وهي في الأساس وجدت من أجل معرفة فيما إذا كانت المرأة حامل قبل الزواج من رجل آخر) ومن المفيد التنويه هنا بأن العدة غير مطبقة في معظم المجتمع السوري.

[7] قامت بعض المجموعات الثورية المقاتلة بعدة محاولات للحد من الانتهاكات لكن اقتصرت معظم هذه المحاولات على معالجة النتائج بدون القدرة على الوصول لجذر المشكلة.