كيف نحكي النزوح؟ الانفصال عن المكان؟ الشوق للمسكن وفقدان نقاط العلّام؟ تدهور اقتصادي، انهيار البنية الحاملة للعائلة والفرد؟ هو أكثر من ذلك. خذلان وقلة حيلة ولكن أيضاً خلل في تمثل الزمن، يشعر المرء بعد ترك بيته بأن الوقت يمرّ بطيئاً جداً، يصبح لامتناهياً ببطئه بسبب تغيّر الإطار المعيش. يتخشب النازح ويفقد حس المبادرة. ولكن كل ذلك لا يكفي لنحكي النزوح. ها هنا منمنمات حكايات لأناس تركوا أماكنهم ونزحوا، تشكّل مجتمعةً لوحة "اللامكان" أو "الجسور المعلقة" بإيجابياتها وآلامها. الكثير من الألم والمرارة ولكن أحياناً بذور جديدة تنتش اخضراراً تحت الرماد لتستمر الحياة.
أم أحمد: "في طريق عالديابية؟"
"أم أحمد"، "آمنة"، من مواليد طبرية. وُلدت في خيمة بعد أن رحل والداها عن قضاء صفد في فلسطين. عاشت في طبرية سبع سنواتٍ قبل أن تُجبر مع أهلها مرة أخرى على النزوح في عام 1967. ما تتذكره أم أحمد من تلك الرحلة هو اضطرارها مع إخوتها وأهلها للأكل من الشجر، ووصولهم حفاة إلى أبواب دمشق وأصوات الجنود الإسرائيليين وهم يملون عليهم الأوامر "دمشق! دمشق!". حين وصلوا إلى دمشق استقروا في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في ريف العاصمة. وليكتمل قدر النزوح كوصمة دائمة تزوجت آمنة من أحد أبناء الجولان السوري، "النازحين" كما يطلق عليهم في اللهجة السورية الدارجة. أنجبت منه تسعة أولاد واضطرت لتساعد في إعالتهم أن تعمل في تنظيف أدراج الأبنية وتنظيف البيوت. تنقّلت مع عائلتها من مخيم الوافدين قرب عدرا بدايةً لتستقر بعد "شقى العمر" في الديابية ، إحدى المناطق الجنوبية العشوائية المهملة. ولكنّها كانت سعيدة جداً بما أنجزته، علّمت أطفالها التسعة، على الأقل حتى سن البكالوريا والبعض حصل على شهادات عليا، وبنت مع زوجها بيتهما (المخالف) الكبير والذي يتسع "للبنات والصبيان" بخصوصية مقبولة لكلٍ منهم على حد تعبيرها. مع بدء الثورة السورية وانخراط المنطقة الجنوبية لدمشق في التظاهرات ومن بعد بالمقاومة المسلحة، كانت أم أحمد تعبّر عن قلقها الشديد مما يحدث في مكان سكنها، الكثير من السوريين البسطاء كانوا يملكون حدساً مبكراً عما يمكن للنظام أن يقترفه إذا تم تحديه على السلطة والحكم، وكانوا يعرفون تمام المعرفة أنهم الأكثر انكشافاً والأكثر عرضة لدفع الثمن الأعلى وأن لا حصانة بالمطلق على مصائرهم، لذلك لم يصطّفوا الى جانب الثورة علناً وبقوا صامتين خائفين. كانت أم أحمد غيورة على مكتسبات عائلتها البسيطة وخائفة من أن يندثر كلُّ شيء مثل حلم عابر.
بقيت في بيتها لمدة سنة ونصف تحت هطل القذائف، حتى رمضان 2012، فقد بيتها جداراً ونوافذ وجزءاً من السطح. حين اشتداد الحملة العسكرية على الديابية والحجيرة والست زينب، اضطرت لأن تخرج مع بناتها ومن ثم لحق بهنّ الأب والشابان إلى دمشق، إلى بيت أهل الوالد. ما تقوله أم أحمد عن تلك الرحلة الصباحية أنها كانت أكثر مرارة وصعوبة من رحلتها من طبرية إلى دمشق وأنها تتمنى أن تموت قبل "الحرب القادمة". وكأنّ الحرب والتغريبة طقس موسمي ينبغي أن يمر به كل مشرقي! إلا أن رحلة العذاب الحقيقية بدأت في ما بعد، رحلة البحث عن سكن جديد. حاولت أم بشار أن تقنع بناتها بالتوجه إلى مركز إيواء في إحدى مدارس دمشق ولكنهن رفضن رفضاً قاطعاً، لم يردن خوض هذه التجربة المضنية، خاصةً أنهن مدرّسات "ذات يسار"، لديهن رواتب. بدأت الرحلة في مساكن برزة ثم في جرمانا ثم في "حرنة" قرب التل لتنتهي في مساكن برزة مرة أخرى. لم تنتم أم أحمد لأي مكان بعد بيتها، في كل مرّة كانت تتذرع بسبب ملموس ما لتترك البيت وتحاول العودة لبيتها في الذيابية، مرّة الماء المقطوعة ومرّة الطقس الجاف البارد ومرة قلة أثاث البيت ومرة غلاء الإيجار وتجبر عائلتها على الارتحال، قلقة، غير مستقرة. وبين ذريعة وذريعة تذهب صباحاً إلى كراج الست زينب وتسأل سائقي الميكروباصات: "في طريق على الذيابية؟"، وفي كل مرة يؤكدون لها أنه لا طريق وأن معظم الذيابية مدمّر ومنهوب، ولكنها ما زالت تعيد المحاولة. منذ رحيلها عن منزلها لم تصبغ شعرها وتقول إنها كبرت عشرين سنة. الكثير من الذين سردوا نزوحهم قالوا إنهم كبروا بالسن عشرات السنين والكثير منهم أيضاً تحدث عن القلق وعدم الاستقرار.
الانسحاب من الحياة العامة
على المستوى الحياتي اليومي، النزوح مع ارتفاع الأسعار الملتهب لم يبقِ مجالاً لأحد لأن ينخرط فعلياً أو يعيد انخراطه بأي فعل جماعي (هذا إن وُجد سابقاً)، النزوح هو انسحاب من العام للملمة الخاص المتشظي، ومن أهم جوانب هذه المعاناة هو تأمين إيجار المسكن، المتعذر غالباً في دمشق المدينة، ما يضطرّ النازحين إلى الخروج إلى ضواحي أخرى لم تُدمر وهي بالنتيجة بعيدة عن ضاحيتهم الأصلية، أي مواصلات أكثر وساعات طويلة على الحواجز للوصول من نقطة إلى أخرى، وبالتالي تعرّض أكثر للاضطهاد بسبب هوياتهم الصادرة من قيود نفوس المناطق الثائرة. تروي أم أحمد مثلاً كيف اعتُقل ابنها على حاجز حرنة/التل بسبب تشابه أسماء، هو الذي لم ينخرط علناً بأي فعل ثوري صغير، وكيف قضى شهرين في سجون النظام دون أن تعرف عنه شيئاً، وكيف اضطرت للتسول والدَّين لتؤمّن مبلغاً تخفف به معاناة ابنها في المعتقل وتسرّع بإجراءات إطلاق سراحه، فابتزاز أهالي المعتقلين أصبح أسلوباً ممنهجاً في تمويل الآلة القمعية.
نخطئ كثيراً في تصور الوضع السوري إن فكّرنا بأن كل من خرج من بيته هرباً من الحرب والدمار والموت يملك أحلاماً كبيرة وأملاً لا يقبل الانكسار، أم أحمد وهي حالة من آلاف الحالات لا تحلم حالياً إلا بالعودة إلى بقايا بيتها. لم تكن طرائق العيش المرافقة للفقر والتهميش والاستبداد تدع مجالاً دائماً للانخراط في شأن عام، إلا في حالات الانتفاضة العفوية الغاضبة التي رأيناها في المناطق الثائرة، ولكنّ الدمار الحالي جعل الكثيرين ممن تركوا بيئاتهم الأولى ينكفئون بقوة لتدبير شؤونهم اليومية والبقاء على قيد الحياة مع الأحباب دون جنوح المَعيش إلى تشرد كبير أو انحلال قيم عائلية.
نسمة المعلقة في الهواء بانتظار "حموصتها"
"صبيحة مجزرة الساعة في حمص، في نيسان 2011، نهضت "نسمة" من سريرها متعبة، ولكن مصمّمة على ترتيب البيت وتنظيفه حتى آخر ميليمتر منه، وظلت تعاود الكرّة بهوس لافت طوال أشهر، وكأنها تريد إعادة ترميم حياة مدينتها بترتيب فضائها الخاص، كانت تشعر بأن فناء المحيط يسارع في تقدمها بالعمر. نسمة سيدة حمصية تنتمي إلى برجوازية المدينة، ذاكرتها المتوارثة العائلية لا يمكن فصلها عن حمص، وهي تعبّر عن ذلك بقولها إنها قد تختنق خارج حمص. في البداية كانت تقول إنه من غير الممكن بالنسبة لها أن تهجر حمص، مهما حصل. في النهاية، وبعد صمود عشرة أشهر اضطرت في نهاية شباط 2012، بعد حصار بابا عمرو، لأن تترك حمص وتنزح إلى دمشق. منذئذ وهي لا تتوقف عن البحث عن نقاط علاّم حياتها المهددة والمقلوبة رأساً على عقب. من حينها وهي تشعر مثل كل الحماصنة الذين اضطروا إلى مغادرة مدينتهم الأم بأنها معلقة في الهواء، في حالة انعدام وزن، تحاول أن تفهم حالتها النباتية في كثير من الأحيان، دون جدوى.
في أول أيام وصولها لدمشق، كادت نسمة أن تُصاب بانفصام. لم تفهم كيف يمكن أن يجول الناس بالشوارع دون أدنى شعور بالتعاطف مع حمص، كيف يمكنهم ارتياد المطاعم والمقاهي ومدينتها مدمرة؟ كيف يمكنهم المساهمة في إضفاء مصداقية على مقولة "خلصت وسوريا بخير"؟ كيف؟ لم تفهم بسمة كيف يمكن للوطن أن يكون "كبسولات"، كل كبسولة في جملة زمنية وجغرافية مختلفة. بعد فترة أصبحت تدرك أن الناس وحدات ضمن جموع أكبر، وأن كل وحدة ترتكس أكثر لهمها الخاص جداً الذي يمس منظومتها دون نفي التعاطف والفهم المتبادل. ولكن هذا الأمر بحد ذاته يهدّئ من روع المهجر ويجعله يستكين لقوانين الجملة الجديدة. اليوم تشاء الظروف أن تنتقل نسمة في ترحالها إلى باريس، حين تتحدث عن نفسها تقول إن نزوحها "سوبر دولوكس"، لم تتأثر حياتها على الصعيد المادي على الإطلاق، بل على العكس فقد انتقلت نحو ظروف أفضل، لم تضطر لأن تدرج نفسها في خانة اللاجئ الإنساني، فقد تزوجت من مواطن فرنسي تعرفه من قبل وتسكن في حي راقٍ في الدائرة السادسة عشرة في باريس، ولكنها أتعس بما لا يقاس عما كانت عليه في "حموصتها". [1]
هويّات متلاصقة متنابذة
مع تصاعد العمليات العسكرية في ريف دمشق ونزوح الآلاف إلى مدارس مركز مدينة دمشق، كان بعض الناشطين العاملين في الإغاثة يشتكون من تخشب الوافدين وعدم إقدامهم على أي عمل جماعي مفيد ومتضامن داخل المدرسة، اشتكوا كذلك من نزوع اللاجئين إلى هدر الموارد دون إحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، يقول المختصون النفسيون عند سؤالهم إن النازح يرفض لا شعورياً الانتماء إلى الفضاء الجديد، يرفض بالكثير من المرارة والأمل في الوقت نفسه بأن يعود إلى داره وأحياناً يرفض مع القليل من الحقد على الآخرين العاملين بالإغاثة والذين لم يفقدوا أمكنتهم بعد. الظلم العنيف المتراكم يدفع الإنسان إلى البحث عن العدل المطلق حتى لو كان عدل الخراب والرماد. يخبرنا ناشطون ممن دخلوا الغوطة الشرقية مؤخراً للمساهمة مع الناس في إيجاد حلول بديلة للحياة هناك أن الكثير من الثوار، حتى أكثرهم ابتعاداً عن العمل الحربي المباشر، لا يأبهون على الإطلاق لمدينة دمشق ورمزيتها ولا يأبهون لتخطيط عسكري ينأى بدمشق عن الدمار ولو حتى بأوابدها أو إرثها المادي. كيف يمكن أن نطلب من أم فقدت عائلتها في قصف عشوائي وفقدت بيتها بصاروخ فراغي أو فقدت ابناً توفي تحت التعذيب أن تأبه لفسيفساء الجامع الأموي؟ كيف؟
المدرسة أو مركز الإيواء هو أيضاً عينة صافية مركّزة من العنف المجتمعي الذي كان يختبئ داخل البيوت ويتبعثر على امتداد البلد. في البدء مركز الإيواء عنف لأنه يقلّص المساحة الحيوية للفرد إلى ما تحت الحد الأدنى من الخصوصية، يُبتذل الإنسان في حياته اليومية أمام عيون الآخر المراقبة، في وقت ينحو فيه نتيجة الأهوال التي عاشها إلى العزلة. نموذج للحياة البشرية يكاد يماثل السجن، الأقوى والأعنف هو الذي يحظى بفرص أكبر للنجاة والمزايا والأكل إلخ. المرأة والطفل مستضعفان من ذويهما ولكن أيضاً من العائلات الأخرى، سمعنا الكثير عن حوادث تحرش حصلت في مراكز الإيواء، في أحد مراكز مساكن برزة اعتدى أحد الرجال ضرباً على زوجة رجل آخر لا يعرفه لأنه قدّر أنها "وقحة"!
إلا أن تجربة النزوح ومراكز الإيواء من جهة أخرى أرغمت "المجتمع" الآخر من سوريا، ذلك الذي بقي غاضاً بصره متجاهلاً ومنكراً لما يحدث ولفترة طويلة، أرغمته أن يرى. في شارع برنية في ركن الدين وهو حي نسيجه الاجتماعي أقرب إلى الطبقة الغنية الدمشقية أو لنقل المتوسطة العليا، يفترش عدد من نازحي المنطقة الجنوبية الطرق على عدة نقاط من الشارع الطويل ولا يقبلون اللجوء إلى مركز إيواء قريب، ربما بهدف التسول عند الشارع الذي يعجّ بالسيارات على مدار اليوم ولكن وكأنهم يقولون للآخر في شارع برنية: "لا تريد أن ترى؟!، لن أريحك، أنا باق هنا لأذكّرك وأنغص عليك "رغد" عيشك بمخلفاتي وأولادي وما افترشته من ملحقات!"
تروي لنا إحدى ساكنات حي ركن الدين مشهداً تفصيلياً حدث في إحدى حدائق ركن الدين، نجده شديد البلاغة، ليس مؤلماً على الإطلاق، ولكنه يشي بأن "هوية" جديدة للسوريين لا بد ستتشكل يوماً من رحم تلك الأهوال، هوية حقيقية وليست هوية منافقة كاذبة اعتنقتها الأجيال السورية على مدى عقود دون مساءلة أو مكاشفة ومصارحة صادقة: تجلس إحدى مرتادات الحديقة من الحي على أحد المقاعد فتقترب إحدى نزيلات الحديقة من النازحين مع ابنتها وتجلس على المقعد نفسه، تبتعد ابنة الحي إلى طرف المقعد وتتكور، فلا تتردد النازحة بأن تقترب أكثر من المرأة الأولى دون وجل أو شعور بأنها تتطفل. لم يعد بالإمكان إلا أن يتطفل السوري على السوري ليتساءلا معاً ما هي هويتنا؟ القديمة والجديدة.
النزوح بهذا المعنى أفرز تساؤلات كبيرة وأفرز كسراً قسرياً، بحكم الظروف، لبعض التابوهات الاجتماعية. يروي أيمن الدوماني أن والدته حين تركت دوما نهائياً خلال عيد الأضحى من عام 2012 اضطرت لأن تقيم حيثما يتوافر المسكن، وتوافر لها المكان في منطقة مختلطة طائفياً: مسيحية ودرزية أساساً. في نهاية الأسبوع الأول لإقامتها بدأت أم أيمن بالخروج الى حديقة المنزل متخليةً عن الغطاء المتشدد الذي كانت تضعه عادةً. كثير من النساء اضطررن لإعالة عائلاتهن بعد فقدان المعيل. أم رؤى، امرأة زبدانية أجبرها أهلها على الزواج في سن مبكرة جداً ولم تكمل دراستها على الرغم من تفوقها الدراسي، طُلّقت، ثم عادت وتزوجت من رجل من داريا، وجدت نفسها في آب 2012، بعد مجزرة داريا، وحيدةً مع ثلاثة أطفال، ثمرة الزواجين، ولا تعرف "أراضي زوجها". اضطهدتها عائلة زوجها لعدم قدرتها على احتوائها مع أطفالها وكذلك فعلت عائلتها. في تلك اللحظات الرهيبة التي عاشتها، شتاء 2012، في أعلى بيت من البيوت العشوائية في حي الأكراد في ركن الدين، دون طعام ودون تدفئة ودون مورد، وفي اللحظات التي فكّرت بأن تنتحر فيها لتنتهي من عذابها، كان العنصر الإنساني الذي جاورته في نزوحها هو إحدى الثغرات في جدارها المسدود. استطاع البعض من جيرانها أن يدخلها إلى ممكنات أخرى، عمل بسيط، إعادة إدماج بناتها في المدارس، إعادة تأهيلها دراسياً. اليوم تقول أم رؤى إنها لا يمكن أن تقبل بعد اليوم أن تنصاع لرغبات أهلها أو زوجها في تقرير مصيرها. اليوم تقول: "ما في شي بيرجع لورا، هديك الأيام انتهت!"
رنا، السيدة الأرملة المسؤولة عن تنشئة أولادها الأربعة بعد وفاة زوجها، تروي كيف تتآلف نساء نازحات من مناطق مختلفة ومن مذاهب ومواقف سياسية مختلفة في مشروع حياكة تقوم فيه النساء بحياكة ثياب لنازحين آخرين ويتلقين أجوراً بسيطة لقاء عملهن. تضطر النساء في هذا العمل للتعايش واستمرار حياتهن ويضطررن لقبول بعضهن. التواجد في مكان واحد، ضيق في معظم الحالات (مركز الإيواء، بيت الأهل الذي يستقبل عائلات الأولاد جميعها) بدأ يفرز آليات جديدة في التعايش، قد تحمل المرارة والشعور بالظلم وعدم الإفصاح ولكنها لا بد ستبلور تساؤلات ومن ثم صيغاً ملموسة للمواطنة.
في حالات أخرى، كان النزوح القسري إلى كنف الأهل، استعادةً لنزاعات نفسية بين الأجيال والسلطة الأبوية، كانت قد أُجّلت ولم تحل بزواج الأولاد وابتعادهم عن بيت أهاليهم. عند خروج جميلة من بيتها في برزة البلد، رجعت مع عائلتها وزوجها وولديها إلى بيت أهلها. بقيت عدة أشهر تتناوب هي وأبوها على المكوث في البيت، تجنباً للمشاجرة على كل تفصيل حياتي. أحد جوانب الزواج كما تروي جميلة هو قطع الصلة مع الأهل وصنع القرار الشخصي بمعزل عما يريده الوالدان. النزوح أرجعها لتلك الدائرة المغلقة ولـ"السلطة" بالمعنى البطريركي للكلمة. الحرب الطاحنة في سوريا جعلت الناس تعيد جدولة مخاوفها، كل المخاوف التقليدية من الأب والزوج وزعل "فلان وعلتان" أصبحت ثانوية أمام اجتياح الموت الجامح للحياة.
جسور
بين مكانين، النزوح هو اللامكان. قد تجسّر المسافة وقد لا تجسّر. قد تجسر بالإرادات والتصميم على الحياة والبدء من جديد وقد تُجسّر بالأكفان. بعد خروج أم أيمن من دوما بأشهر، توفي زوجها الثمانيني، لم يستطع تحمل البعد عن مدينته طويلاً. قضى فيها عمراً طويلاً دون فراق. توفي وكأنه نوى إنهاء تغريبته وأوصى بأن يُدفن في دوما. لم يستطع أهله مرافقته إلى مثواه الأخير أو تشييعه من بيته الأصلي، ولكنهم استطاعوا أن يأتمنوا سائقاً يستطيع دخول دوما على الجثمان. اتكأ رأس أبو أيمن على زجاج السيارة في رحلته الأخيرة من دمشق إلى دوما، كان جسراً أعاد وصل محبيه من الذين نزحوا خارج دوما بمحبيه المحاصرين داخل دوما، استلموه ودفنوه كما أراد تماماً.
ويبقى أن الأصعب والأكثر إيلاماً هو بناء الجسر بين "البلد" وخارج البلد. لا تفارقني هذه الأيام ذكرى المرأة الكمبودية الباحثة في تاريخ الفن التي التقيتها في بيروت ومن ثمّ في دمشق منذ بضع سنوات، كانت تلقي محاضرات متتالية عن ثيمة "الجسر"، جسور خشبية وفولاذية وإسمنتية معلقة، الجسر الأكثر إشكالية كان الجسر الخزفي. شرحت الباحثة الفرنسية من أصل كمبودي سبب اهتمامها بالجسور كموضوع فني، كان أهلها من الناجين من مجازر الخمير الحمر، قطعوا حدود كمبوديا مشياً على الأقدام لينقذوا أولادهم من المجازر. كان الجسر الذي عبر عليه الأولاد نحو حياة أخرى وموطن آخر، جسراً خزفياً يتكسّر من وطء الأقدام دون أن يكترث كثيراً لمستقبله، شرط وجوده الأول هو إتاحة المستقبل للأطفال. هل سيأتي قريباً اليوم الذي سأضطر معه لأكون جسراً خزفياً؟
أي سؤال؟ سبقني إلى الخزف المكسّر ملايين السوريين.
---------
[1] كنت قد نشرت جزءاً من شهادة نسمة، السيدة الحمصية في عدد 3/4 شتاء 2013 من فصلية "بدايات" تحت عنوان " إعدام المكان الميداني"