بساعتين فقط، يمكن الانتقال بالسيارة من دمشق إلى بيروت. أي أنها أقرب إليها من حمص في الظروف الطبيعية. فكيف في وضع يتطلب فيه العبور بين العاصمة السورية ووسط البلاد، المرور عبر الكثير من الحواجز الأمنية والتعرض لمخاطر متأتية من القصف الجوي والغارات والمواجهات بين قوات النظام والمعارضة.
الطريق بين دمشق والعاصمة اللبنانية الذي يشق الجبال صاعداً، متعرجاً، ثم مطلاً على بحر بيروت وأبنيتها المتراصة وسمائها الواطئة، انطبع في ذاكرتي كطريق إلى الخلاص. وأظن أن الأمر لا يخصني وحدي. "جيل الثورة" حالياً، و"طلائع البعث" (التنظيم السياسي الذي كان يخصّصه النظام الشمولي في سورية للأطفال والشبيبة) سابقاً، معني بهذه الذاكرة مثلي بالضبط.
العيش في بيروت، لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات، كان حلماً بالنسبة إلى جيل من الكتّاب والرسامين والممثلين والمخرجين والموسيقيين الشباب. ثمة أسباب كثيرة تجعل من بيروت مدينة مشتهاة بالنسبة إلى هذا الجيل. فهي تشبههم أكثر من دمشق. تشبه أحلامهم. تفهم مشاريعهم وتحترمها وتقدم لها الدعم اللازم. وتنظم اختلافاتهم وعقائدهم. فيما يعيشون في دمشق على هامش الحياة، أعمالهم مشبعة بالإحباط. الاختلاف غير مقبول. عقيدة ثقافية واحدة فوق الأرض، وأصحاب العقائد المختلفة مكانهم تحت الأرض في السجون.
الاختلاف يعني التهميش والمعاناة الاجتماعية والإنسانية والسياسية. الطريق الوحيد إلى الارتقاء الثقافي، هو المرور إن أمكن عبر الحواجز الأمنية. وحده الطريق المتعرج إلى بيروت، يعطي معنى إلى وجودهم. يمنحهم هوية مؤقتة يسافرون عبرها إلى العالم. كانت بيروت بمثابة الحدود الإبداعية لسورية. بعد بدء الثورة السورية قبل عامين ونصف عام، تحوّلت بيروت من حلم جميل إلى ضرورة لا بدّ منها. لم تعد خياراً بل تكاد تكون المكان الوحيد المتاح أمام "جيل الثورة". حتى وإن لم يتخذها البعض مكاناً للإقامة، إلا أنها شكلت وطناً بديلاً مؤقتاً، أو معبراً إلى أوروبا وتركيا ومصر والخليج. جاء إليها ذلك الجيل الحالم مجبراً هذه المرة وليس سائحاً... ولا طامحاً للنهل من ثقافتها كما حصل مع جيل الأوائل في العقود السابقة.
شارع الجميزة الذي سرق قبل سنوات ألق شارع الحمرا وأزقة الـ"داون تاون" (مركز المدينة)، وهرب بعض سكانه من الضجيج والصخب، تحول إلى شارع فني يغصّ بصالات العرض الفني. وليس صدفة أن تلك الـ"غاليريات" لم تزدهر إلا بعد السنة الأولى من بدء الثورة السورية. حيث جاء كثير من الفنانين الشباب ليقيموا معارض فردية أو جماعية. وكان معظم تلك الـ"غاليريات" حريصاً على عدم ملامسة الثورة السورية بالعمق، للبقاء على قيد الحياة، قدر المستطاع. في النهاية، تبقى السياسة لعبة "وسخة" على حد تعبير أحد أصحاب تلك الأماكن. "التدخل في السياسة، سيحدث ضجة آنية سرعان ما تزول ولن يتبقى من المكان حينها سوى ذكرى بعيدة وغير مجدية".
عثر الفنانون الشباب في بيروت على فسحة لعرض أعمالهم وكسب العيش. في المقابل، ومن حيث لا يدرون، ساهموا في تغيير الصورة النمطية التي أحاطت بالسوري في لبنان طوال السنوات الماضية. كان ثمة نظرة فوقية إن لم نقل عنصرية لازمت السوري، مهما علا شأنه الثقافي أو الإبداعي. السوري في النهاية ليس سوى عامل بناء بالنسبة إلى معظم اللبنانيين، أو عنصر مخابرات رخيص أو جندي بهندام عسكري متواضع.
جاء الفنانون السوريون من رسامين وموسيقيين وكتّاب وممثلين ليغيّروا تلك النظرة. وشكّل وجودهم، على الرغم من تذمّر بعض اللبنانيين، صدمة بالنسبة إلى الكثيرين. ساعدت الثورة السورية في قطع أشواط بالعلاقة مع الآخر وفي وقت قصير جداً. أعادت السنتان ونصف السنة إلى السوري، مكانته كمواطن وإنسان. حتى أنها أنصفت العامل السوري. لم يعد مجرد عامل. صار مواطناً يتعرّض للاضطهاد والقمع والقتل والدمار.
اكتشف اللبنانيون أن السوريين ليسوا أفضل حالاً منهم. وأنهم عاشوا تحت ظل الحذاء العسكري السوري مثلهم مثل اللبنانيين. والأهم من كل ذلك، أنهم شعب جبّار وشجاع. لم يكن اللبناني يعتقد يوماً أن السوري قد يخرج عن صمته ويتمرد ويعرّض حياته للموت. إنه في صورته النمطية: شعب خنوع، جبان، مطيع ومطواع، عامل بناء أو عنصر أمن، سطحي وأحادي التفكير. إنه مثقف السلطة أو مثقف المعارضة. الأول في دمشق والثاني خارج سورية.
فنانون وُلدوا من الفراغ
قد تكون الفكرة قاسية بعض الشيء. لكن معظم الفنانين السوريين الشباب، وُلدوا من الفراغ. جيل آبائهم كان منهمكاً بالكآبة والإحباط وإحصاء الخسارات. بينما تربّى هذا الجيل وحيداً في المدارس السورية التي تشبه معامل التعليب. حيث يتم بوعي ودراية، وهو أخطر من أن يكون حصل بلا وعي، قتل مواهب الطلاب، وتأطيرها في منظومة الحزب الواحد والقائد الواحد، (منذ وصول حزب "البعث" إلى الحكم العام 1963) وتشجيع الطلاب يقتصر على هذا الجانب.
المبدع في الموسيقى هو من يعزف أغانيَ "وطنية" تمجّد القائد، وفي الغناء من يغني للقائد وفي الرسم من يرسم القائد وفي التمثيل من يمثل مسرحيات عن حال الناس بعد "الحركة التصحيحية" (التي تسلّم الرئيس حافظ الأسد الحكم في إثرها عام 1970) مثلاً. الكاتب من يكتب قصائد أو مقالات عن عظمة سورية في عهد القائد "الخالد". وذلك الجيل لا يعرف أصلاً رئيساً سوى هذا القائد. ومع الأخذ في عين الاعتبار كل تلك الظروف، يصبح الإبداع بمعناه الأوسع أمراً يستدعي التأمل.
إذ كيف استطاع هذا الجيل المعلّب، أن ينتج فنانين وصلت أهمية بعضهم إلى أماكن بعيدة؟ كيف استطاع بعضهم الإفلات من تلك الذاكرة العنيفة والتسرّب من إرث ممجوج؟ والمفاجأة أن إبداع الكثيرين منهم جاء متخففاً من تلك الذاكرة وكأنه لم يعشها يوماً. إلا أنه عاشها. ويبدو أنه لم يعشها بصمت. بل راكم تلك الكآبة والوحشة، ليصنع عالماً موازياً ووطناً بديلاً وهوية مؤقتة في انتظار هذه اللحظة ربما: الثورة. في بيروت، لم يعد يسهل تمييز التجربتين السورية واللبنانية في الفن عموماً. ولم تعد المسرحية السورية التي تُعرض على منصات مسارح "المدينة" أو "بابل" أو "دوار الشمس" وغيرها من المسارح، هي مسرحية زائرة كما كان يحدث قبل سنوات. بات الأمر مفروغاً منه. بيروت تحتضن تجارب السوريين بالقدر ربما الذي تحتضن فيه تجارب اللبنانيين. وليست المضايقات التي يتعرض لها بعض الفنانين السوريين أكثر بكثير من المضايقات التي يتعرض لها اللبناني. ثمة نديّة. إنهم يتقاسمون المواطنة إن لم نقل الوطن وإن اعتبرنا أن لبنان مجرد مكان مؤقت ريثما تهدأ الأوضاع في سورية.
في الموسيقى أيضاً، باتت فرق الـ"راب" على سبيل المثال، تضمّ السوري إلى جانب اللبناني. ولم يعد من الأهمية في مكان، معرفة جنسية العازفين. يشبهون بعضهم البعض، يحملون الهواجس ذاتها ويتقاسمون الأحلام نفسها وإحباطات جيل يعيش في بلدين. يتحدثون اللغة الموسيقية ذاتها وتعنيهم المواضيع الإنسانية نفسها. الكل يغني عن الفقر والجوع والأنظمة العسكرية الديكتاتورية وحكم الشريعة والدمار والقتل والتعذيب. وليست الفكرة بهذه البساطة. لا يمكن القول بشكل مكرّر وممجوج إن الموسيقى تجمع الموسيقيين تحت سقف واحد. كلا. نتحدث هنا عن السوري واللبناني تحديداً. رحيل نظام الأسد لم يعد أمراً يخصّ السوريين وحدهم. اللبناني أيضاً، ليس أي لبناني بالطبع، يحلم بسقوط النظام ويدافع عن الثورة ويغنّي شعاراتها. إضافة إلى ذلك التعاون الفني بين الموسيقيين أو المسرحيين، هنالك تعاون من نوع آخر. ذلك التعاون يتيح للمراقب معرفة التوجهات السياسية لأصحاب الأماكن الثقافية من مسارح وصالات عرض. وأعتقد أن التوجهات السياسية لم تعد العبارة الأنسب. لأن الأمر تعدّى السياسة وبات دافعاً إنسانياً يعبّر عن الضمير. الوقوف في صف النظام السوري، يعني الوقوف إلى جانب القاتل.
بعض المشرفين على أماكن العرض الثقافية، وإن لم يكن معنياً بالسياسة مباشرة، يتضامن مع ثورة الشعب السوري "الشقيق"، عبر تقديم التسهيلات له. كمنحه صالة لعرض أفلام وثائقية أنجزها ناشطون في الثورة في الداخل أو في الخارج، أو كتقديم المسرح لإنجاز التدريبات على مسرحية ما أو حتى كتخصيص ريع بعض النشاطات الثقافية لدعم اللاجئين السوريين في المخيمات اللبنانية. في المقابل، هناك مسارح رفض أصحابها منذ البداية استضافة أي نشاط يتعلق بالثورة وإن بشكل غير مباشر. وهذا الأمر بات مستهجناً الآن بعد سنتين ونصف سنة من القتل المستمر والاحتفاء بالموت.
الفن السوري يتحرر من ماضيه
روى لي الفنان السوري محمد عمران مرة، قصة من قصص الخوف المستمر الذي عاشه في طفولته "طفولة طلائع البعث". قد تكون تلك القصة من أجمل القصص التي أسمعها عن الخوف الذي حمل وطأته جيلي ولا بدّ أنه حفر عميقاً في وجداننا وتسّلل إلى لاوعينا. روى لي كيف أن مرحلة الثمانينيات لها لون أصفر باهت ومغبرّ في ذاكرته. ما إن يسمع عن تلك الحقبة حتى يرى صورة يكسوها الأصفر الباهت.
كان محمد عمران يخاف من نشرة الأخبار عندما يطلّ المذيع من الشاشة الصغيرة ليعلن عن افتتاح منشأة ما. المذيع يقرأ الخبر بينما تبث الشاشة صور الافتتاح. (برعاية السيد الرئيس... قام محافظ.. أو عضو القيادة القطرية.. بافتتاح منشأة كذا...). تظهر على الشاشة صور أشخاص يقفون متراصّين. يشبهون بعضهم البعض، الملامح ذاتها، السوالف، الشوارب، بدلة "السفاري" الباهتة، النظارات الشمسية الداكنة.. ويبدأون بالتصفيق بصمت.. من دون صوت.
المذيع يقرأ الخبر، وهم يظهرون على الشاشة يصفقون لكن صوت التصفيق لا نسمعه. وهذا المشهد المسحوب الصوت، كان يرعبه. ليست القصة تلك هينة. ويمكن التوقف أمامها طويلاً. أرى أن الخوف الذي عاشه السوري بات حالة تدرّس وتحلّل لاستخلاص أمراض ذلك الجيل. يصعب القول إن "جيل الثورة"، نشأ دون أمراض أو عقد. كبر وكبرت أمراضه. إلا أنه يتحلّى بشجاعة أكبر من جيل آبائه برأيي. وقد ساعدته الظروف بالتأكيد وكان الانفتاح الاجتماعي والتحرّر من العزلة السياسية ودخول الإنترنت إلى عوالمه، كلها أسباب تدعم شجاعته وتساند مشروعه. لذلك ربما، نرى جيل المبدعين الأكبر، تنحّى جانباً. وليس في فعل التنحي ذاك أي انتقاص من أهمية ذلك الجيل أو تقليل من الأثمان التي قدّمها دفاعاً عن قناعاته.
لكن الزمن تغير. لا بد للزمن أن يتغير. ومن نزل إلى الشارع، لم يكن جيل المبدعين المخضرمين والمكرّسين. ثم كان لافتاً غياب الرسامين الكبار والموسيقيين والكتّاب، في حين وقف جيل الشباب في مقدمة تلك المواجهة ليس في بيروت فحسب بل في الداخل أيضاً. وهنا يمكننا أيضاً الحديث عن فنانين جدد غير مختصين أدهشوا العالم بإبداعهم مثل "شباب كفرنبل" والمصورين الهواة الذين أنتجوا أفلاماً وثائقية من دون دراسة أكاديمية ومن دون الاستعانة بأي تقنيات حديثة تتعدّى أجهزة الهواتف الذكية أو الكاميرات البسيطة. وبذلك يأتي النتاج الثقافي بعد الثورة، متحرراً من الشعارات التي وسمت أعمال معظم مبدعي المرحلة الماضية. أفكار الجيل الشاب واضحة، تنبذ المواربة، مزدانة بالتجديد. لوحاتهم تمزج التكنولوجيا بالألوان، بالواقع، باللحظة والحدث. أعمال توثيقية لا تفقد قيمتها مع الزمن. موسيقاهم كذلك على الرغم من مواكبتها لتقنيات حديثة جداً، لا تأتي متعالية أو فوقية أو نخبوية. بالعكس تكاد تصل لكل الشرائح. أفلامهم وكتاباتهم ومسرحهم، كلها كسرت إلى جانب حاجز الخوف، الفجوة بين الثقافة والشارع.
الوجود المؤقت
في السنة الأولى من الثورة، اتّسم خروج الفنانين السوريين من دمشق وقدومهم إلى بيروت أو سفرهم إلى بلدان أخرى، بصفة المؤقت. معظم الهاربين من الاعتقال أو من الخدمة الإلزامية أو ببساطة الباحثين عن فرصة عمل، كانوا على يقين بأن الثورة ستنتصر خلال أشهر قليلة وبأنهم سيعودون إلى وطنهم قريباً جداً. وأعرف أشخاصاً تركوا ملابسهم الشتوية في دمشق عندما تركوها في الصيف أو العكس. وذلك الإحساس الممتلئ باقتراب العودة، حفز البعض على عمل حثيث لتوثيق الثورة لحظة بلحظة مثل الفنان السوري الشاب تمّام عزام المقيم في دبي أو المصوّر جابر العظمة.
بينما عجز البعض عن إكمال مشروعه في انتظار العودة القريبة جداً. اختلف الأمر بعد سنتين ونصف سنة. من جهة، لم يعد توثيق الثورة لحظة بلحظة أمراً ممكناً بسبب التعقيدات التي أحاطت بالثورة السورية وبالأطراف المتسللة إلى الصراع. ومن جهة أخرى، ثمة إحباط عام يعطّل القدرة على الخلق والإبداع. الواقع يفوق القدرة على الخيال والحلم. والظروف المعيشية الصعبة، تزيد الأمر سوءاً.
يصعب القول إن الفنانين والمبدعين السوريين مطالبون اليوم، بالبدء بمشاريعهم بمعزل عن فكرة العودة التي قد تطول أكثر مما نتصور. ولم تعد فكرة "المؤقت" تخيّم على أعمالهم. باتوا أكثر استقراراً حيثما وجدوا. وباتت أعمالهم أكثر اتساعاً من الثورة ومن اللحظة. لم يعد ثمة متسع للحظة. إنه مشروع حياة.