بعيداً في الماضي الضبابي أذكر جيداً شعوراً دافئاً انتابني حين أمسكت بكاميرا التصوير الفوتوغرافي لأول مرة.
كأني رأيت حينها نبوءة أنه ذات يوم سأستعمل هذه الأداة لحد الاستنزاف. حملتها كحامل صولجان الحكم حينها، أما اليوم فأحمل الكاميرا كحامل الدرع ...
أذكر تماماً متى قمت بذلك حرفياً للمرة الأولى وكيف احتفظت بتلك الحالة إلى الآن. نسيت الكثير من التواريخ والأحداث لكن ذلك اليوم حفر في الذاكرة السادس والعشرين من شهر حزيران ٢٠١٢. في نهاية يوم طويل ومتعب ساقتني قدماي - مسيرا غير مخير- إلى الساحة التي سبقتني إليها جثث ضحايا المجزرة. لم يكن من مشافي ولا كهرباء. الجثث تفترش رصيفاً كان يوماً ما مدخلاً لقاعة أعراس. معركة اقتحام دوما كانت ما تزال تدور رحاها. كانت الكاميرا الوحيدة هي تلك التي في يدي.
أذهلتني الثواني الأولى لم أستطع أن أثبت عيني على المشهد. قطع اللحم المتناثرة والرائحة النافذة كادت تدوخني. أشحت بعيني للأسفل لأجد شاشة الكاميرا.
يومها اختبأت خلفها لأول مرة، وصرت أتعاطى مع الواقع من خلال شاشتها وكأني أتابع فيلماً من على كرسيّ الوثير بعيداً في كوخي الجبلي الآمن. فيلم رعب عن وحش أو كارثة طبيعية تركت عشرات الضحايا من كل الأجناس والأعمار.
الصورة خط الدفاع الأخير ضد الزمن. وخط دفاعي أنا ضد الواقع. وسيلتي للمحافظة على اتزاني وطريقة للتهرب من سؤال ما أنت بفاعل؟
عدستي درعي الذي يحميني لا من أخطار الإنفجارات والشظايا والرصاص، بل من مخاطر التوغل في التفكير واليأس أو الاستسلام.
إن رأيت مبنى محطم أقنعت نفسي بأنه لو التقطت الصورة المناسبة له لربما صار لسقوطه معنى وجدوى.
كثيراً ما أرى نفسي أنا العدسة و أنا أحملها. أنا الشهيد المسجى على الأكتاف وأنا الشجرة المحترقة في قلب البرد. أنا الطفل الضاحك دوماً رغم كل الأسى أركض خلف ظلي.
والآن باتت متلازمة. إن دفعني شعور حقيقي للضحك يرافقه شعور بأنه علي التصوير، وإن فجعت بخبر ما، ألتقط عدستي. إن أردت توديع أحدهم ألتقط له صورة، وإن أردت استقبال أحدهم ألتقط له صورة. حين يرتفع صوت القصف ويتزاحم الرصاص أتناول درعي و أجري نحو المجزرة.
بت أرى كل شيء داخل كوادر، ولا أفهم الواقع جيداً إن لم أضعه ضمن إطار. ربما هذا الأمر بحاجة للعلاج في المستقبل ولا أعلم إن كان نوعا من الجنون؟ لكنه الآن، الشيء الوحيد الذي يقيني من الجنون.
وكما كانت مجزرة هي من أطلق هذه الحالة، فمجزرة أخرى هي من كرس الفكرة.
دارت الأيام بسرعة، وشاهدت الكثير ونسيت الكثير إلى أن أتت تجربة جعلت كل التجارب السابقة كلعبة.
قبيل عيد الفطر تعرفت على معنى السلاح الكيميائي. كانت الذكرى أقصى من أن أحفظها أو من ان أعترف بأنني أحفظها جيداً.
شلل كامل أصابني في لحظات الحدث الأولى، ثم رحلة غامضة من جوبر إلى دوما، مروراً بمدينة زملكا بعيد الثالثة صباحاً. بدت زملكا كمدينة أشباح. التوقف بالقرب من البناء الذي أطلق الصرخة. الظلام الدامس الذي غطى المكان وجعل التصوير غير ممكن. خطانا المتسارعة، لي ولصديقي ونحن نصعد الدرج. قرع باب الطابق الأول وما من مجيب! مرة ثم ثانية ثم ثالثة! الأحذية أمام البيت تشير إلى عائلة في الداخل. رفسة واحدة لم تكف ولا اثنتان، الثالثة كسرته.
إنارة أضواء اللدات التي تعمل على البطارية. في نهاية الممر قدم كانت تظهر ممتدة على الأرض بدت كأنها قدم امرأة. مشهد هادئ لإمرأة في أواخر العشرينات تنام بوجه هادئ على أرض الحمام، ورجل من ذات العمر تقريباً، ينام أيضاً إلى جانب حوض الاستحمام، بينما طفل، في الثانية أو الثالثة من العمر، يطفو في حوض الاستحمام. باءت محاولات إيقاظهم جميعها بالفشل. اكتشفت بصعوبة أنهم لن يصحو أبدا.......
صوت صديقي أن أخرج بسرعة - بدأ يشعر أن السم في الهواء سيطرحنا نائمين نحن الاثنيين أيضا - آثار الدوار بانت على محياه إذ لاقيته عند الباب. كانت بيديه طفلة نائمة، قال إنها ما تزال تتنفس.
صور متقطعة، لم أجرأ إلى الآن على التمعن فيها، والتفكير الجدي باجترارها. قلت دع ذلك للشيخوخة إن كتب لنا عمر.
لكن ما أذكرة جيداً، أنه عندما وصلنا إلى مدينة دوما تعرفنا على حجم الكارثة. المئات افترشوا الطريق أمام إحدى النقاط الطبية وسيارتا اطفاء كانتا ترشان الجميع بالمياه.
أدخلنا الطفلة الى الداخل. "لا زالت تتنفس" قلت للطبيب، وعصف بي دوار قوي، كاد يطرحني أرضاً. قام مسعف بتنبيهي أن لا أنام، وإلا فإنني لن أصحو، أتبع ذلك بضربي بإبرة ثم ثانية ثم ثالثة.
"عليك بالاستحمام جيداً واحرق ثيابك وحاول أن لاتنام اليوم"، قالها وكأن الأمر بهذ السهولة. عندها أصبحت أحسد الموتى.... كم بدى مرتاحاً ذلك النائم بهناء! لا شعورياً بت أحسده، إذ بدى مرتاحاً وبلا هموم! ...وتأكدت من أنه لا ينجو من المجزرة، إلا من مات .....
لنشغل أنفسنا عن النوم كرسنا وقتنا للإسعاف. في تلك الساعات العصيبة لم أصور شيئا، لا أعلم لماذا؟ ربما لأني رأيت عدداً كبيراً من الكاميرات تتكاثر على المأساة. أو ربما لأني أحسست أن في الأمر هروباً من المواجهة.
قلت سأواجه هذه المرة عارياً ولم أصور أية صورة. إلى أن وجدنا الصاروخ، و كانت تلك هي الصور الأولى التي تلتقط في الغوطة الشرقية للصاروخ المحمل بالمصيبة.
الفكرة الأساسية التي تمعنت فيها. أن مشاعري كانت قليلة. الدرع الذي تمرنت على أن أحمي نفسي من خلفه والعدسة بيدي صمد دونها.
هنا لا مكان لترف الأحساسيس، وإلا ستجرفك المشاعر إلى الجنون ربما، وإلى الاستسلام غالباً.
مع ذلك، بينت لي تلك التجربة، أنني أكثر هدوءاً واتزاناً والعدسة بيدي. صوتي يمسي أثخن ولهجتي تمسي آمرة، و حتى خطاي تمسي واثقة.
أنا عين الراغب بالتعرف على ما جرى ويجري، لذا تراني أقف بصمت وأتحرك بهدوء. بت جيداً في الأمر، لدرجة أني أمسي خفياً حين أمسك الكاميرا.
هنالك الكثير لتحليله، والكثير لمناقشته، واليأس عادةً ما يتسرب من كثرة التفكير.
التفكير بمن رحلوا وبمن على خطاهم سائرين. التفكير بمن يئسوا واستسلموا وبالغد الضبابي.
أمسح كل ذلك من ذهني وأبدله بجواب بسيط: عندما يأتي الغد سأكون هنا، أنا وعدستي بانتظاره، فما من شيء يمكن لعدستي التقاطه ولا يمكنني احتماله.
أحرص أن يكون كرت الكاميرا فارغاً والبطارية ممتلئة، وأنام بقربها قرير العين، فأنا إذ ذاك مستعد لأي شيء ولكل شيء.