الشرق الأوسط يحترق، وكما العادة فإن الأنظار تتجه نحو واشنطن. بالنظر إلى سجل الولايات المتحدة السيء حول غزو العراق، فإن الولايات المتحدة تتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية إزاء الأزمة الحالية. ولكن أسلوب الشماتة أو "قلنا لكم ذلك" غير لائق باستراتيجية السياسة الخارجية، وخاصة على إثر الخسارة المريعة في الأرواح التي نشهدها. سواء أعجبنا ذلك أم لا، إن تفجر العنف الحالي في الشرق الأوسط والفوز الكاسح للدولة الإسلامية بالسيطرة على مناطق جديدة هو مشكلة أوروبا أيضاً. ما الذي تستعد ألمانيا للمساهمة به في إدارة الأزمة في العراق؟ بالنظر إلى ردود الفعل الأولية للقادة السياسيين في ألمانيا، فإن الجواب لا يقتصر فقط على من تسأل بل أيضاً على أي يوم من الأسبوع تختار للسؤال، فالمناظرات العلنية التي تجري في ألمانيا حالياً تشهد تحول بسيط لكن مهم في السياسة الخارجية الألمانية.
على مر الشهور الماضية، كُتبَ الكثير حول المبادرة المنظمة من قبل قياديين في السياسة الألمانية بما يبشر بتحول مبدأي في النموذج الذي تحتذيه البلاد في سياستها الخارجية. لقد أشار العديد من المعلقين، بشكل صحيح، إلى أن النقاش حول محور السياسة الخارجية المرتجى قد اختُزِل في كثير من الأحيان إلى السؤال حول التدخل العسكري. بالفعل، إن المبادرين لهذه الحملة؛ وزير الخارجية شتاينماير، وزيرة الدفاع فان در لاين، والرئيس غوك لم يطرحوا إطلاقاً أنه على ألمانيا التخلي فجأة عن موقفها المتردد حيال التدخل العسكري. عوضاً عن ذلك، طرحوا توجهاً أكثر شمولية لزيادة المسؤولية التي تتحملها ألمانيا في إدارة الأزمات والنزعات الدولية. بطريقة ما، إن عملية المراجعة هذه تشبه النقاش حول التوازن بين الدبلوماسية، التنمية، والدفاع في واشنطن المنهكة من الحرب. غني عن القول، أن مثل هذه العمليات يأخذ وقتاً، وخصوصاً بالأخذ بعين الإعتبار الشك الشعبي المتجذر في ألمانيا إزاء سياسة خارجية أكثر استباقية وبالتالي أكثر خصومة. مع ذلك، النقاش الحالي حول استجابة ألمانيا إلى الأزمة العراقية يطرح سؤالاً فيما إذا سيتصدر شتاينمر وفون در لاين إلى التحدي الذي يواجههما وينأيان بالسياسة الخارجية للبلاد عن مآزقها التقليدية.
ردود الفعل تجاه أزمة العراق المنتشرة من قبل سياسيين ألمان على مد الطيف السياسي تشير إلى عملية مبدئية من إعادة التوجه السياسي قيد الإعداد حالياً. وبالطبع، من الملائم أن يتم طرح نقاش إشكالي عندما تفكر الحكومة بردها على أزمة أمنية معقدة مثل الأزمة الجارية حالياً في العراق. في الواقع، فيما يتعلق باستجابة ألمانيا إلى الحرب في سوريا، مضى الوقت على نقاش علني أكثر صخباً وديناميكية. غير أن النشاز في التصريحات وما تبعها من تغيرات في الهوى الذي عبر عنه السياسون الألمان في الأسبوع الماضي حول أزمة العراق يظهر إلى أي مدى ما زال المجتمع المحلي للسياسة الخارجية يعاني من أجل صياغة رد واضح وحازم إزاء النزاعات العنيفة.
رد الفعل الأولي: لا صادرات سلاح ألمانية إلى مناطق النزاع
في الإستجابة الأولية للحكومة إلى مأساة الإزيديين العراقيين الذين هروبوا إلى قمة جبل سنجار، تعهدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل(اتحاد المسيحيين الديمقراطي) بمساعدة إنسانية عاجلة فيما أشارت من جهة أخرى إلى المبادئ التوجيهية التي أقرتها حكومة الإئتلاف السابقة المؤلفة من حزب الشعب الديمقراطي وحزب الخضر (التحالف 90/حزب الخضر) منذ أربع عشرة عام. إن المبادئ التوجيهية لتقييد الصادرات تقول بأن "يجب عدم إعطاء أي موافقة لصادرات السلاح وأي من المعدات الحربية الفتاكة إلى البلدان المنخرطة في نزاعات مسلحة، أو حيث أن نزاعاً مسلحاً على وشك الإندلاع، أو حيث أن هذه الصادرات ستفاقم أو تطيل توتراً أو نزاعاً قائماً." في يوم الإثنين، الحادي عشر من آب، أكد المتحدث باسم الحكومة ستيفن سايبرت أن " من حيث المبدأ، لن يتم منح نقل أسلحة إلى الأقاليم التي تشهد أزمات أو نزاعات. هذا مبدأٌ تستمر الحكومة بشعورها بالإلتزام به."
تم دعم هذا الموقف من عدة سياسيين من مختلف الأحزاب الحاكمة، مثل رئيس مجلس لجنة العلاقات الخارجية نوربرت روتغن (اتحاد المسيحيين الديمقراطي) الذي قال في مقابلة له مع ولت آم سونتاغ- (Welt am Sonntag) أن تقديم السلاح إلى البشمركة "لن يساهم بأي شكل من الأشكال بحل الأزمة." الأمينة العامة لحزب الشعب الديمقراطي ياسمين فهمي صرحت يوم الإثنين أن الحزب سيستمر في الإعتماد على "الحوار والديبلوماسية". إن تقديم السلاح، تقول فهمي، "لم يكن خياراً مطروحاً." إن فهمي وروتغن عكسا النقاش الشائع حول الحرب في سوريا واصطفا مع أغلبية الرأي العام الألماني، بوضع تصدير السلاح والحل السياسي في موقعين متناقضين، عوضاً عن هيكلتهما معاً بما يرجح تشكيلهما وجهان لعملة واحدة.
غير أن أعضاء آخرين في الحزب عارضوا ذلك علانيةً. على سبيل المثال قال كارل جورج فلمان، عضو اتحاد المسيحيين الديمقراطي وعضو لجنة العلاقات الخارجية، على راديو ألمانيا العام "يجب أن ندعم الأكراد الذين يقاتلون ببسالة دولة الإرهاب حديثة العهد، وأن نقدم لهم أشياء هم بحاجتها لبسط سيطرتهم" منتقداً بحدة رد الحكومة الألمانية بوصفه "محرجاً" قائلاً أنه فيما تنفذ الولايات المتحدة عمليات جوية، في أوروبا فقط بريطانيا وفرنسا تقدمان العون، "ونحن نقول أننا سنقدم بضع خيم، نتبرع بمليون، ونستقبل بعضاً من اللاجئين الذين تمكنوا من الفرار من فرق الموت."
سياسة حزبية عكسية
إن الهجوم العلني ضمن الحزب الواحد، بالطبع، ليس بالغريب أو المستنكر. قد يتفاجئ العديد أنه حتى غريغور غيزي، رئيس الكتلة البرلمانية عن اليسار، طالب الحكومة الألمانية برد أكثر حزماً: "عادةً، أنا ضد تصدير السلاح الألماني بشدة، ولكن بما أن ألمانيا مصدر سلاح هام، وفي هذه الحالة الخاصة، يصبح تصدير السلاح مشروعاً في حال تعذرت بلدان أخرى عن القيام بذلك." ليس مفاجئاً على الإطلاق، هذا التناقض، الذي تمثل في استنكاره للغارات الأمريكية على مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والذي تزامن مع هذه التصريحات.
لم يطل الوقت حتى قام رفاق غيزي الحزبيين بمهاجمته، بالشكل الأبرز من قبل سارة فيجنكنيخت، النائبة الأولى لرئيس كتلة اليسار البرلمانية، والتي قالت على تويتر أن نقل السلاح إلى البشمركة سيكون "غير مسؤول". نائب رئيس الحزب وعضو لجنة العلاقات الخارجية يان فان آكن، ذهب أبعد من ذلك بقوله أن وجود الحزب برمته تهدد بسبب أسلوب غيزي، ومن دون أي موقف مطلق ضد تصدير السلاح، قال "حزب اليسار سيفنى."
كما أن الخضر، ثاني الأحزاب المعارضة في البرلمان الألماني، كافحوا لإيجاد موقف موحد، فيما فاجؤوا العديدين بالتعليقات الجريئة التي عبر عنها بعض خبرائهم في السياسة الخارجية. حيث أن رئيس الحزب، سيم أوزديمير، كان صارخًا بترحيبه بالغارات الأمريكية ونقل السلاح إلى البشمركة في مقابلة عبر الراديو: لا يقاتل الأكراد الإسلاميين "وسجادات اليوغا تحت أذرعهم، بل يقاتلوهم بالسلاح." وطالب كل من ينتقد الولايات المتحدة لتزويدها الميليشيات الكردية بالدفاعات أن يأتي باقتراح بديل لكيفية إيقاف تقدم الدولة الإسلامية على الأرض وملاحقتهم للأقليات.
لكن أعضاء آخرين من كتلة الخضر مثل يورغين تريتن رفضوا صراحةً تصدير السلاح إلى المنطقة. وفقاً لحججهم، فإن خطر وقوع هذه الأسلحة في "أيدٍ خطأ" ببساطة مرتفع جداً. كما شككك المتحدث باسم باسم حزب الخضر للعلافات الخارجية أوميد نوريبور بنقل السلاح الألماني إلى المنطقة في مقابلة له مع شبيغل أونلاين: " برأيي؛ لا يمكن أن يكون الرد بإرسل السلاح ونأمل أن تحل المشكلة من تلقاء نفسها". واقترح عوضاً عن ذلك " يجب أن تُقيم الحكومة بالتنسيق مع المجتمع الدولي كيف يمكنها تقديم الدعم بالشكل الأمثل (...)." وتحت الضغط لتحديد مقترحه قال بأنه من الممكن أن تساعد القوات الجوية الألمانية نظريتها الأمريكية في استهداف الدولة الإسلامية من الجو. بدا نوريبور بمناقضته لسياسة الحزب التقليدية أنه ذهب أبعد من زملائه من الوسط اليميني باقتراحه دوراً للقوات الجوية الألمانية في محاربة الدولة الإسلامية في شمال العراق.
تصدير السلاح لحكومة إقليم كردستان، لا، نعم، ربما
أعلنت وزيرة الدفاع أورسلا فان در لين يوم الثلاثاء أن ألمانيا ستدعم الجيش العراقي في محاولاته لمجابهة إرهاب الدولة الإسلامية عن طريق إرسال دعم عسكري غير فتاك كالمدرعات والخوذ والمعدات الليلية وكاشفات الألغام. وفي الوقت ذاته، استمرت فان در لين برفضها لنقل السلاح إلى العراق. وبمحاولة بدت عسيرة لتبرير حجج الحكومة، قالت بأن المبادئ التوجيهية لتصدير ألمانيا السلاح إلى مناطق النزاعات موجودة "لسبب وجيه". وفي نفس الوقت، عبرت عن دعمها الصريح للتدخل العسكري الأمريكي في العراق: "إن الولايات المتحدة الأمريكية أخذت على عاتقها المسؤولية ويجب أن نقدر لهم ذلك."
ومع تقدم الأسبوع، عبّر عدد متزايد من البرلمانيين عن موقفهم الداعم لتصدير ألمانيا السلاح إلى البشمركة تحت شرط قيام حلفاء ألمانيا وحكومة إقليم كردستان بطلب مثل هذا الدعم. وأخيراً، قال شتاينماير وزير الخارجية يوم الأربعاء أن ألمانيا من حيث المبدأ مستعدة للتساهل في سياساتها الحازمة حول صادرات السلاح بتسليح المقاتلين الأكراد الذين يواجهون الدولة الإسلامية في شمال العراق. كانت هذه التصريحات لمحطة ألمانية عامة كالتفلزيون الألماني الثاني، الأكثر جرأةً من قِبل مسؤول حكومي رفيع المستوى حتى الآن.
فيما بدأت الحكومة تدريجياً بتغيير موقفها نحو رد أكثر حزماً، استمر بعض أعضاء مجلس الوزراء بعدم موافقتهم العلنية على ذلك. حيث قال وزير التنمية الإقتصادية جيرد موللر (الإتحاد الإجتماعي المسيحي، الجناح البافاري لإتحاد المسيحيين الديمقراطي الحاكم) على سبيل المثال في مقابلة له يوم الخميس أنه ثابتٌ على موقفه من تصدير ألمانيا السلاح إلى العراق: "أنا مع تقديم الدواء، المستشفيات الميدانية، سيارات الإسعاف، وأشياء أخرى كثيرة، لكن لا سلاح."
طريق طويل مرتقب
ومع نهاية الأسبوع الذي اتسم بالتذبذب السياسي في الطيف الحزبي، زادت وزيرة الدفاع فان در لاين هذا الإرباك حين صرحت لصحيفة بيلد زايتونغ أنه "إن كانت الطريقة الوحيدة للحيلولة دون وقوع مجزرة هي عن طريق السلاح الألماني، يجب أن نقدم المساعدة." إن هذا السيناريو مستبعد الحدوث بالتأكيد ويفشل بعكس المسؤولية إزاء تأمين الحماية الذي تبنته السيدة فان در لاين. إن الزعم بأن ألمانيا يجب أن تتدخل في حال عدم قدرة أي بلد آخر على القيام بذلك لا يتماشى مع اعتبارات الحلفاء الراسخة بما يتعلق بتوجه ألمانيا نحو مشاركة العبء في الإستجابة للنزاعات الدولية.
على الرغم من أن الرد الألماني الأولي على أزمة العراق اتسم إلى حد كبير بالموقف التقليدي- التدخل "من دوننا"، غير أن النقاش العام كان صدىً لتغيير مبدئي في النموذج الألماني للخطاب في السياسة الخارجية. على الرغم من ذلك، فإن العديد من المناظرات ستبقى حامية إلى أن تتخلص ألمانيا من عدم ارتياحها باتخاذ دور قيادي مع شركائها الأوروبيين والأطلسيين في الإستجابة للأزمات الدولية. لنكون واضحين، إن الإرتقاء بالمسؤوليات الدولية لألمانيا لا يعني استبدال الدبلوماسية ومنع الأزمات بإرسال السلاح الألماني عبر العالم. وقرار استخدام وسائل عسكرية كإجراء أخير يجب أن يتخذ كجزء من إطار أوسع يتم تحديده حصراً بما يتناسب مع كل حالة. ستكون هذه النقاشات جدلية وفي بعض الأحيان مشوشة لكن مما لاشك فيه أنها ضرورية لضمان عدم خسارة الرأي العام الألماني. نهايةً، الدعوة إلى تغيير مبدأي في النموذج الألماني للسياسة الخارجية أسهل من تقديم نتائج ملموسة عندما تقتضي الحاجة. وحتى نصل إلى تلك النقطة، يجب على الإزيديين في العالم عدم الإعتماد علينا للقدوم لنجدتهم.
---
ترجمته من اللغة الإنكليزية علا صالح. تحرير حايد حايد