اخرجوا من هنا حالاً- إنهم قادمون لقتلنا

منزل مهجور في بيروت
Teaser Image Caption
منزل مهجور في بيروت

1975 عامٌ محفور في روحي وذاكرتي للأبد.

1975، بداية الحرب الأهلية في لبنان، مازلت أذكر ما حدث ذاك اليوم في أيلول/سبتمبر

كنا نعيش في بيروت الشرقية، في عين الرمانة، حيث بدأت الحرب الأهلية في الثالث عشر من نيسان/أبريل ذاك العام مع حادث باص عين الرمانة. بقيت الحرب محصورة في تلك المنطقة لأربع أو خمسة أشهر قبل أن تمتد إلى كافة أنحاء لبنان.

كان الوقت أيلول/سبتمبر، وكنت طفلة الثماني سنوات حين كانت الحرب دائرة في الشوارع لخمسة أشهر تقريباً.

كان القناصة يحاوطون المنطقة منتظرين حصاد أرواح من يجرؤون على الخروج لقضاء حاجياتهم.

كنا نتاول إفطارنا في الصباح الباكر من ذاك اليوم أيلول/سبتمبر، جميع نساء العائلة كنّ يجلسن إلى المائدة يتناولن طعامهن. اصطحب والدي أخي معه إلى قريتنا في وادي البقاع للأعتناء بأراضينا هناك. وفيما تصاعدت حدة القتال في شوارع حيّنا، لم تعد العودة إلى بيروت بالنسبة لهم آمنة. معظم العائلات غادرت خوفاً من القتال الدائر. كان القناصة من المجموعات المختلفة منتشرون فوق الأبنية العالية، وأذكر أنه كلما أرسلتني أمي لشراء الخبز، كانت تطلب مني أن أركض وألا أمشي بسبب القناصة.

كنا من بين آخر من بقي في تلك المنطقة، وكان ذلك لسببين؛ أولهما أننا لم نكن نعتقد أن القتال سيستمر، وقناعتنا بأن الحياة ستعود إلى مجراها الطبيعي قريباً. وهذا بحد ذاته لم يكن غريباً، إذ لم يتصور اللبنانيون في أسوأ كوابيسهم أن هذه ستكون بداية حرب طويلة وباهظة الثمن لهم. وأن جيلاً كاملاً من الأطفال سيكبرون وينضجون قبل أن تنتهي الحرب عام 1990. السبب الثاني، أننا كنا نعيش في المبنى المحاذي لمستشفى الحياة حيث كان الأطباء يناضلون لمساعدة الجرحى، وبسبب خلفية والدي الطبية، فقد ساعد بمداواة المصابين والجرحى. كان فقط ذلك الأسبوع الذي اضطر فيه للذهاب إلى وادي البقاع للإعتناء بأراضينا هناك.

ذلك الصباح سمعنا الجرس متبوعاً بطرق عنيف على الباب. كان ذاك الشخص مستعجلاً، هرعت أمي وسألت من خلف الباب. جاء الجواب بصوت مألوف: "هذا أنا، جورج". انفرجت أسارير أمي أنه كان جارنا وفتحت الباب. كان مضطرباً، وشعرت أمي أن خطباً ما قد حدث.

وقف في الباب وقال: "خالتي، يجب أن تخرجوا من هنا، غادروا المنزل، من الخطر جداً البقاء، فمنظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية قادمون الليلة وسيقتلونا جميعاً". أدار ظهره تاركاً أمي في حالة من الذهول. التفتت إلينا وقالت: "كيف يمكننا الرحيل؟ نحن لا نملك سيارة."

في ذلك الوقت لم أفهم ما كان يقول أو من كان هؤلاء الناس، كل ما أدركته هو الخوف في وجه أمي. جلَسَت لبرهة تفكر ما العمل، ثم رأيتها تمسك سماعة الهاتف وتتصل بأحدهم، كانت قد همت بإخباره ما حصل حين رأيت وجهها فجأة يسترخي قليلاً. الرجل على الخط كان صديقاً قديماً للعائلة وجاراً يعيش على بعد مجمعين سكنيين من منزلنا.

قال لها أنه سيقلنا "لن أتتركم لتقتلوا، لا تحزمي أي أمتعة، لا وقت لذلك ولا أستطيع الإنتظار في السيارة طويلاً، تعلمين أن هذا خطر جداً." أقفلت أمي السماعة والتفتت إلينا وقالت أنه علينا المغادرة حالاً.

هرعت إلى غرف نومنا وحزمت بعض الأشياء، ثم اتجهت نحو غرفتها ووضعت القليل من الملابس في حقيبة صغيرة، ثم ذهبت إلى المطبخ وغسلت الصحون. كان جلياً أن الكتائب كانوا يخبرون الجميع عبر مقاتليهم بضرورة الرحيل عن المنطقة، كانت الكتائب هي الحزب المسيطر في حينا وأرادوا إعلامنا أن العدو قادم.

لم نستطع إحضار أي شيء معنا سوى الحاجات الأساسية. أستطيع أن أذكر بوضوح حين بكيت "لم لا أستطيع أخذ ألعابي المفضلة والمزيد من الملابس معي؟" حين كانت أمي تدفعنا خارج المنزل، مسرعة وصارخة بنا "فقط اذهبوا!" عندما وصلنا إلى درج المبنى، قالت لي "أركضي بسرعة، اختبئي في السيارة، وأبقي رأسك منحنياً، لاتظهري رأسك، هل سمعتني جيداً؟" نظرت إليها وقلت "نعم." كررت الشيء ذاته مع أختي وأخيراً فعلت هي المثل.

غادرنا مسرعين في الشارع، وطلقات الرصاص تخطؤنا، كان القناصون يحاولون إصابة السيارة لكن الله كان يرعانا ذلك اليوم إذ تمكنا من الهروب من المنطقة بأمان. غاردنا باتجاه مدينة عاليه حيث بقينا في منزل خالي. وغادر صديق والدي إلى قريته في منطقة الشوف في نبع الصفا. في اليوم التالي، أتى أبي إلى عاليه وأخذنا إلى قريتنا في وادي البقاع.

كانت أمي تحمل الراديو قربها طيلة الوقت تستمتع إلى الأخبار، لكن لم يحدث شيء خاص ذلك اليوم. استمر القتال، وحدث اعتداء على الحي بعد وقت قصير. غير أنه كان قتالاً بين الأحزاب المختلفة المعنية ذلك الوقت، وكما طبيعة هذه النزاعات، فقد وقع الضحايا بين صفوف المقاتلين والمدنيين، غير أن القتال لم يكن حول المنازل الخاصة أو ذبح المدنيين كما تم إرهابنا.

عندما تم التوصل إلى وقف إطلاق نار بين الفصائل في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1975، قررنا العودة إلى المنزل. لكن مع اندلاع القتال بين الفينة والأخرى، كنا نقضي الوقت بين وادي البقاع وبيروت حتى أيار 1976 عندما توضح أن الجيش السوري سيتدخل ضد الحركة الوطنية اللبنانية. حينها قرر والداي إخلاء المنزل في بيروت ونقل كل ممتلاكتنا إلى قريتنا. توقف القتال أخيراً في تشرين الأول/أوكتوبر 1976 عندما نجح الجيش السوري باحتواء المقاومة. لسوء الحظ، لم نستطع العودة إلى منزلنا أبداً إذ تم احتلاله من قبل الجيش السوري. كان منزلاً مستأجراً، لكننا عدنا إلى بيروت وبسبب التقسيم انتقلنا إلى منطقة أخرى.

لم ينتشر التهديد بشكل مباشر، كان يعمم فقط كإشاعة. لكنه كان من المستحيل معرفة فيما إذا كان حقيقياً أم لا، وعندما تكون حياتك وحياة عائلتك على المحك، فإنك لا تريد المجازفة بذلك. لحسن حظنا لم يحدث شيء ذلك اليوم. غير أن تلك الشائعة تركت أثراً في حياتي، إذ لن أنسى يوماً الرعب على وجه أمي والذعر في نفسي من هؤلاء الوحوش القادمين لقتلنا.

---

ترجمة علا صالح من الانجليزية

---

للمزيد من المقالات في ملف "الشائعات