"هل كان ماهر الأسد حاضراً في القاعة الكبيرة؟ هل استمع إلى خطاب القسم؟ لم نره! لم نلمحه. وفاروق الشرع! أيضاً لم يكن حاضراً. لا بدّ أنهم صفّوه".
هذا ما شغل بال الكثير من نشطاء "فايسبوك" خلال الأسابيع الماضية التي تلت خطاب القسم لبشار الأسد في الخامس عشر من تموز (يوليو) الماضي. كما انشغل عدد منهم قبل ذلك بظهور ماهر الأسد بصحبة المغني اللبناني من أصل سوري جورج وسوف. أحد النشطاء ذهب إلى مكان أبعد إذ قرّر أن الصورة ليست حديثة، لأن جورج وسّوف مقعد حالياً ولا يستطيع الوقوف إلا بمساعدة شخصين يمسكان به لالتقاط الصورة ثم يعيدانه إلى الكرسي.
قبل عامين، انشغل كثيرون، من نشطاء بل ومسؤولين غربيين، بتفجير "خلية الأزمة" الذي قتل فيه العماد آصف شوكت مدير المخابرات العسكرية ثم نائب وزير الدفاع وزوج بشرى الأسد. قيل حينها إن ماهر كان حاضراً، وقتل مع الآخرين. ثم أشيع خبر إقلاع طائرة خاصة من مطار المزة العسكري في دمشق. وقيل إن ماهر بداخلها بصحبة مرافقيه، في طريقهم إلى موسكو للعلاج. ولا ننسى أيضاً، الإشاعة التي انتشرت حتى بين أوساط مسؤولين عرب وأجانب عن فرار وزير الدفاع السابق العماد علي حبيب إلى باريس لتحضيره لمرحلة انتقالية تطيح ببشار الأسد وتأتي به رئيساً علوياً "متفقاً" عليه كرجل سلطة معتدل رفض تغميس يديه بدم الشعب السوري السنّي تحديداً، معارضاً دخول الجيش إلى مدينة حماة في العام ٢٠١١ عندما كانت الثورة سلمية تعتمد على التظاهرات.
تلك الحكايات وحكايات أخرى كثيرة، تداولها نشطاء معارضون وثوّار، تدلّ على أمر واحد فقط، أن النظام السوري لايزال حاضراً ومحفوراً في ذهن الناس كما كان قبل الثورة. لايزال محافظاً على وظيفته التي اشتغل عليها لعقود، كشبح وطيف وفكرة مجرّدة وأسطورة غير محسوسة تحيط بها الشائعات وتحاك حولها الخرافات. النظام الأمني لا يزال غير مخترق، لا بل وقادر على اللهو بيوميات الثورة، فتصبح قصص ماهر هي الشغل الشاغل لكثيرين بينما يتفرّغ النظام للقتل الممنهج والتعذيب والخطف والمنع.
ذلك الاشتغال الذي مارسه النظام لعقود، جعل من العائلة الحاكمة والمقرّبين منها، صوراً و "أيقونات"، بحيث تصيب الناس دهشة إن لمحوا أحدهم صدفة في المطعم أو في السيارة. والدهشة تعني هنا عدم التصديق.
ثمة موروث ومخزون جمعي يغلّف الذاكرة السورية حول "قدسية" الحاكم نظاماً عسكرياً كان أو دينياً، رئيساً أو مدير فرع مخابرات. غياب القانون هو أحد تلك الأسباب ومحرّض ذلك الوهم. وأيضاً قلة الحيلة وعدم القدرة على التحليل والافتقار إلى المنطق واستسهال إطلاق الأحكام وتصديقها في ظل غياب عقلية فكرية مرافقة للثورة على الأرض.
نظام شمولي متعالٍ
خلق النطام السوري عبر عقود، عالماً منفصلاً يعيش فيه. وربما يكون عالم بشار الأسد وزوجته أسماء الأخرس، أشدّ انفصالاً عن الواقع مما كان عليه عالم والده حافظ الأسد وأمه أنيسة مخلوف، رغم كل المحاولات الشكلانية التي جرت لإعطاء الانطباع المغاير لذلك. العائلة ومن يحيط بها يعيشون في مكان يجهله الناس. الإحاطة الأمنية التي ترافق حياتهم محكمة ومبالغ فيها، مع أنهم يعيشون في بلد مسالم يفتقر للحياة السياسية حيث لا وجود لا لأحزاب مستقلة ولا لمؤسسات ولا لمعارضين فاعلين ولا لخصوم علنيين يمتلكون أدوات قانونية ودستورية وشرعية للإطاحة بآل الأسد. كان ثمة إيحاء دائم بأن العائلة مستهدفة وملاحقة وبالتالي، تتخفّى وتتحرّك بإيقاع مدروس عبر قطع الشوارع وإيقاف السير وتعطيل الحركة في المكان الذي تعبره أو تمرّ فيه. وكانت الإيعاذات الكاذبة، أمر رائج. كأن يقال لدورية ما، إن "السيد الرئيس" سيمرّ من هذا الطريق، ثم يختاروا له طريقاً آخر للتمويه! الفروع الأمنية مزنّرة بجدران إسمنتية تعلوها أسيجة شائكة أو مكهربة، وكأنها مستهدفة أو معرّضة لعدوان وشيك. كل تلك المظاهر، عزّزت من "أسطورية" النظام ما ساهم بترويج الإشاعات حوله: كيف يعيش، ماذا يأكل، كيف يقضي أوقات فراغه، هل ينام؟ أنسنة النظام باتت أمراً عصياً. كيف لا وهو مسوّر بالإسمنت ومختبئ خلف زجاج السيارة المعتم وفي قصوره العديدة.
حاول بشار وزوجته بطريقة استعلائية بعد العام ٢٠٠٠، أن "يؤنسنا" صورة "السيد الرئيس". إلا أن ظهورهما وأولادهما "العفوي" في مكان ما، كان حدثاً بحدّ ذاته. ظهور مشغول بعناية فائقة لا تسهو عن أي تفصيل. اختيار المكان الذي سيظهرون فيه لتمضية عطلة العيد مثلاً، واختيار الأشخاص الذين سيقصدون المنتجع ذاته "بالصدفة" أيضاً! تجهيز المكان والفعاليات المرافقة لتلك الإقامة القصيرة، كلها أمور مشغولة مسبقاً ومدروسة. ثم توزّع الصور على صفحة وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" ولاحقاً على صفحات الـ"فايسبوك" المحجوب والذي لا يمكن الدخول إليه إلا عن طريق البروكسي. نوع الحياة هذا، جعل الناس تشهق في الشارع عندما تلمح بشار أو أسماء الأسد كأنهما نجمان سينمائيان وليسا رئيساً وزوجته. ثمة جملة شهيرة منقولة عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، في إحدى الأمسيات التي أحياها في دمشق حيث لاقى كعادته تصفيقاً مهولاً، فامتعض بعد الأمسية وباح لأحد الأصدقاء: "ما بحب هيك.. شو أنا راغب علامة!".
بات هم بشار وزوجته أن يظهرا "الأجمل" و "الأذكى" و "الأكثر لياقة". ألم تقنع الماكينة الإعلامية مجلة "فوغ" في بداية ٢٠١١، أي قبل أيام من الثورة، بأن أسماء عبارة عن "زهرة في الصحراء"!
ذلك الانفصال الذي عاشه النظام السوري، جعله أسير الصورة المعلقة على زجاج السيارة وعلى جدران الدوائر الرسمية وفي الشوارع وعلى عواميد الكهرباء وجذوع الأشجار وفي كل مكان يتاح فيه تعليق صورة للرئيس وزوجته وأولاده. والصور ليست سوى ورقة كرتونية مجرّدة، تحتمل زخماً من الخيال لا تحتمله الصورة الواقعية للفرد/الرئيس. الرئيس ليس فرداً في سورية، كما هو حال الشعب. ليس ثمة أفراد أو مواطنين. ثمة حاكم ومحكوم، رئيس ومرؤوس، جلاد وضحية. المسافة بين تلك المتضادات، هي المسافة بين الحياة والموت. مسافة من الخيال الخصب الذي يغذيه الخوف والهلع. شعور الخوف، تحوّل في سورية عبر عقود من القمع والحجب والتهميش إلى فعل مسبق. أي أن الخوف لا يصيب الإنسان جراء وقوع المصيبة، بل جراء الخوف من وقوعها. ربما تقع وربما لا تقع، لكن الخوف، شعور دائم، حتى يكاد يكون جينياً ومتوارثاً.
لدى بشار الأسد وزوجته أسماء ثلاثة أطفال. لا أبالغ بالقول إن معظم السوريين عاشوا ثلاث تجارب طويلة ومرهقة من الشائعات مع إنجاب الرئيس وزوجته لكل طفل من أطفالهما. هل هو ذكر أم أنثى؟ أشقر أم أسمر؟ طبيعي أم متخلف؟ هل سمّوه إسماً تقليدياً أم من تلك الأسماء الموديرن؟ وذلك الإرباك المتعلق بأطفالهما الثلاثة، يعود إلى موضوع الوراثة على ما أعتقد. إذ كان من الصعب تصديق أن عائلة الأسد سترحل عن الحكم في يوم من الأيام. هي خالدة في الصور، كما في الروح، كما في ذاكرة كل "مواطن". وبالتالي، قدوم ابن جديد، يعني قدوم وريث "شرعي". مما جعل من حافظ الأسد الصغير، كائناً مكروهاً، حتى قبل أن يكبر، ومجرماً، حتى قبل أن ينمو جسده، ومتورطاً، حتى قبل أن يعرف معنى التورط. يحكى هنا أن رجال الأسر الثرية في دمشق، كانوا يتداولون وراء الجدران الدعاء والصلوات بأن يكون حافظ ابن بشار "شخصاً جيداً لأنه سيكون رئيسنا في المستقبل"! هذا في دولة يفترض أنها "جمهورية" وليس ملكية.
البطش وحياة الأقبية
في الوقت الذي كان يومئ السوريون إلى الأعلى رافعين السبابة بشكل مستقيم إلى فوق، إشارة إلى ذلك الكائن مجهول الملامح والهوية الذي يسيّر أمورنا ويتسبّب لنا بالشقاء ويمنع كتبنا من النشر وأفلامنا من العرض ويسجن أصدقاءنا، كان ثمة حياة أخرى يعرف السوري أنها موجودة تحت الأرض، في أقبية النظام. وثمة شائعات حول امتداد تلك الأقبية واتساعها على بعضها البعض، لتصل فرعاً أمنياً بآخر. مشروع "أنفاق الميترو" مثلاً الذي كان من المفروض أن ينفّذ قبل انطلاق الثورة بسنوات، ليس سوى برهان بالنسبة إلى البعض المهجوس بالشائعات. فيقولون إن النظام يمتلك جوف الأرض، كما يمتلك الأرض وما فوقها وسماءها.
تلك الحياة "التحتانية" كانت تعيش بمعزل عمّن هم فوق الأرض. الأسرار تحيط بسكّانها الذين لم يروا النور منذ أيام أو أشهر أو ربما سنوات طويلة. هوياتهم مجهولة وانتماءاتهم غالباً، وروائحهم وأمزجتهم وذائقتهم وكل ما يمت للأنسنة بصلة. كائنات هلامية مسجونة تحت الأرض، تحت مكتب رئيس فرع الأمن الفلاني حيث يستقبل ضيوفه ويشرب معهم القهوة والشاي، ويأكل، ويستحم، وربما يدعو صاحبته لتمضية مساء المناوبة معه!
ذلك البطش وتلك الوحشية التي يتعامل فيها الـ"فوق" المجهول الذي نومئ إليه برؤوسنا، مع الـ"تحت" المجهول أيضاً والذي قد يكون جارنا أو صديقنا أو قريبنا، تجعل من آلة النظام، آلة وهمية، غير مدركة، ولا محسوسة، ولا يمكن إبصارها بالعين المجردة. وبالتالي، يصبح النظام الأمني بهذا المعنى، حاضنة خصبة لترويج الشائعات، لا بل وتصديقها.
عدم معرفة الآخر
لم يتوقف النظام ولا للحظة واحدة طوال وجوده، عن الترويج لفكرة التآخي والسلام واحتضان الآخر. حتى بات التآخي، فرضاً يعيشه السوري قسراً وخوفاً من المحاسبة. الحديث الطائفي ممنوع ومستهجن إلى حد الجهل. الإشاعات والخرافات تحاك حول الأديان والطوائف. والأقليات، تدافع عن أقلويتها بديانات باطنية وغير معلنة. فيصبح الدرزي، كائناً له "ذنب" يخفيه وراء ملابسه، ويعبد العجل! أما الاسماعيلي فيعبد فرج المرأة! والعلوي، كافر لا يصلي ولا يصوم ويقرب الخمر. والنساء العلويات عاهرات، يبعن أجسادهن.
النظام الذي ادّعى التآخي، كان في الحقيقة وفي العمق يساهم بقمع كل طائفة أقلوية على حدا. يمنع تقاليدها وأعرافها ونموّها الطبيعي في محيطها كأي طائفة أخرى في أي مكان من العالم. ذلك الجهل بالآخر، ساهم أيضاً بجعل الطوائف أيقونات محرّمة ومقدّسة والخوض في تاريخها محرّم. وبالتالي تحيط بها الشائعات، ومعظمها غير حقيقي. ورأينا ما شهدته الثورة خلال الأعوام الماضية من تنميط يندرج في إطار الشائعات التي يعشقها النظام. فبات كل علوي موال، وكل سنّي معارض، والأقليات الأخرى مشكوك بأمرها ومتهمة إلى أن تستميت بإثبات العكس عبر الشتائم والتمرّد والكراهية، وليس عبر فكر متوازن وواعٍ يرافق الحراك الشعبي. من جهة أخرى، طال ذلك التعميم، من كان موظفاً في مراكز ومؤسسات ودوائر حكومية قبل الثورة! وكأننا كنا نعيش في فرنسا والوظائف المستقلة متاحة وكثيرة.
اليأس
معمّر القذافي، أخرج من نفقه، واقتيد إلى سيارة لم يدخلها إلا ميتاً. كان يلمس رأسه، ثم ينظر إلى أصابعه ويتعجّب من الدماء تسيل منه. لم يصدق أنه ينزف! هو معمّر القذافي. ونحن لم نصدق أيضاً أن الطاغية يموت. بالضبط كما حدث بعد إعدام صدام حسين في العراق. حتى يومنا هذا، نصادف أشخاصاً غير مقتنغين بأن صدام حسين أعدم. يشاع أن شبيهه هو الذي أعدم، وأنه لايزال حياً يرزق في أحد أنفاق في بغداد. يصعب على الكثيرين تصديق الخبر. ويخاف كثيرون أن يصدّقوه ويتجرأوا على التعبير، فيظهر لهم فجأة من تحت الأرض ويحاسبهم. هنا أيضاً، يعيش الفرد الموهوم تجربة الخوف المسبق.
بعد مقتل معمّر القذافي، اقتنع معظم السوريين أن التخلص من بشار الأسد وعائلته، ليس حلماً وضرباً من الخيال. وباتت الشائعات حول مقتله، تملأ صفحات التواصل الاجتماعي. هو يأمر بقصف منطقة ما، وهم يتداولون خبر موته! استهدف موكبه وقتل. أمسكوا به على طريق المطار الدولي، أثناء محاولته الهروب إلى روسيا. دخلوا إلى قصره واغتالوه. قصفوا قصر الشعب. ويبدأ الناس بلوم من نفّذ عملية الاغتيال، فكان الأجدر به الاحتفاظ بالرئيس حياً، كي يحاكم! ومن نفذ الاغتيال مجهول أيضاً، يسمّى بالـ"جيش الحر" تارة، وبالـ"نصرة" تارة أخرى. عناصر (فكرة مجرّدة) تغتال رئيساً (فكرة مجرّدة).
ومع مرور ثلاث سنوات، وتراكم الإحباطات وتحوّل مناطق سورية كثيرة إلى مقابر جماعية، تحوّلت الإشاعات إلى مورفين مؤقت يتبادله النشطاء على صفحات التواصل الاجتماعي، لإحياء بعض الأمل في نفوس السوريين. وبات خبر "سقوط النظام" أو "موت الرئيس" أو حتى "موت أم الرئيس"، مزحة سمجة في ظلّ استمرار النظام بسياسة القتل والتدمير والاعتقال. وبات مطلوباً من السوريين وأعني المثقفين والنشطاء والمعارضين والمقاتلين على الأرض، العثور على الأمل في أماكن أكثر نفعاً من الإشاعة. بات عليهم استثمار اليأس والإحباط في خلق بدائل وآليات لمرحلة مقبلة، صعبة للغاية ومعقدة في وجه أعداء كثر، بعد أن كان النظام السوري هو العدو الوحيد.
النظام يروج أنه بمجرد قبول بشار بوجود "مرشّح" آخر في "انتخابات" رئاسية عبارة عن مسرحية، هو "تنازل" كبير. وبعض المعارضين يقول إن "أهم إنجاز" للثورة بعد ١٧٠ ألف قتيلاً وملايين اللاجئين والنازحين وعشرات آلاف الجرحى والمعتقلين أن بشار تحوّل من "إله" إلى "رئيس".