مدينة بلا شاطئ : رم كولهاس، الدالية وتمهيد ساحل بيروت

جنون التعهدات محى الشاطئ الطبيعي للبنان، مستبدلاً إياه بمراسٍ إسفلتية ومنتجعات فارهة ليست بمتناول العامة. والآن يضع المتعهدون عينهم على القسم الأخير من واجهة بيروت البحرية.

 يقود الصياد علي عيتاني سيارته الهوندا أكورد المهترئة في طريق ترابي يعانق المتوسط. يشير إلى منحدرات الحجر الجيري والبحيرات الطبيعية حيث اصطاد كل حياته. ذات مرة ساق جده ٢٠٠ خروف في الهضاب الرملية القريبة المحاطة بأشجار الصبار والتين. تقول عائلة عيتاني أنها استقرت هنا منذ أكثر من قرن مضى، يعيشون في الكهوف والأكواخ البحرية، حين كانت بيروت مليئة بالبساتين وبيوت الحجر الريفية.

 خارج ذلك الكوخ والواح التوتيا (القصدير) المرقع بألواح الخشب القديمة واللافتات الإعلانية المرمية، تناول عيتاني وجبة طعام مع بعض أصدقاء عمره. المزاج في المجموعة كئيب. إذ إنهم يعرفون أن هذه الجلسة قد تكون إحدى جلساتهم الأخيرة هنا. اليوم شبه الجزيرة الصخرية هذه بحجم بضعة ملاعب كرة قدم والمعروفة باسم دالية الروشة هي آخر رأس بحري طبيعي في المدينة. يسيجها أبراج زجاجية فاخرة حيث تبدأ أسعار الشقق بملايين الدولارات. على طول الشريط الساحلي لبيروت، الأمر ذاته، جنون التعهدات الذي غير وجه المدينة، يمحو معظم الشاطئ الصخري الطبيعي ويسبتدله بمراسي إسفلتية ومنتجعات فارهة.

منطقة الدالية تعد الناجية النادرة التي تجذب إليها الحشود من عائلات الطبقة العاملة في بيروت ليسبحوا في  أحواضها الطبيعية ويتنزهوا على هضباتها العشبية. لكن هذا الموقع سيج الصيف الماضي بالأسلاك الشائكة ماعدا بضعة منافذ صغيرة.

في هذه الأثناء، تم تسريب أخبار أن المهندس المعماري الهولندي  المشهور رم كولهاس فوّض برسم خطط لمشروع كبير على مساحة 100.000كم٢ تقريبا برقعة تمتد على معظم مساحة هذا الموقع الطبيعي . أتت الأخبار صادمة لجميع من اعتقد أن الدالية كانت رسمياً محمية طبيعية- والمعقل الأخير من الساحل الطبيعي في المدينة.

كانت الأرض أساساً مملوكة من قبل عدة أسر بيروتية كانوا أوصياءها منذ العهد العثماني. لم يكن مسموح بالبناء وكانت الأرض متاحة للعامة للصيد والزراعة. وفي التسعينيات تضامنوا آل  الحريري المتبوئين المناصب السياسية لشراء الأرض.

عندما سربت أخبار كولهاس العام الماضي، رد  بسرعة تحالف واسع من المعماريين، أساتذة الجامعات، والمهنيين من الشباب ممثلين بالحملة المدنية لحماية الدالية. نظموا الإحتجاجات الأسبوعية،  المحاضرات الجامعية، والعروض الموسيقية على طول منحدرات الدالية الصخرية، كما شجعوا متابعي الفيسبوك على نشر صور أبيض وأسود لمسابقات الغطس والإجتماعات العائلية.

كما أنهم رفعوا قضية ضد الحكومة يدعون فيها أن قانون التعهدات أقر خلال فوضى الحرب الأهلية وباع إرث بيروت الطبيعي. ركزت القضية على القرار ١٦٩ من عام ١٩٨٩ والذي ألغى قيوداً سابقة على التعهدات في الدالية والمنطقة الساحلية المحيطة بها بما فيها صخرة الحمام (الروشة) الشهيرة وشاطئ بيروت العام الوحيد. محاموهم يقولون أن القانون لم يعلن أو يصادق عليه من قبل هيئات حكومية أخرى، والعديد منها لم يكن موجوداً في الجلسة أثناء الحرب. كما يقولون أن المتعهدين كان لهم علاقات وثيقة مع السياسيين الذين أقروا القرار: رفيق الحريري نفسه، الذي كان لاعباً مهماً على ساحة العقارات ورئيس الوزراء لعدة سنوات.

كما طالب الناشطون في رسالة مفتوحة إلى كولهاس أن يشرح ويعطي أسباب مشروعه المقترح. واقتبسوا دراسات أعدتها الحكومة اللبنانية تطالب بحماية جرف الدالية والمغارات كموطن طبيعي وموقع أثري (تم العثور على أدوات صوان تعود إلى العصر الحجري القديم والعصر البرونزي). رد كالهوس معبراً عن تقديره لجهودهم قائلاً أن عملاءه قد "أظهروا وعياً لإستخدامات الدالية، تاريخها، جمالها وأنهم بالطبع يتوقعون منه الحفاظ على هذه المقومات في تطوير الأفكار... إن نيتنا هي في الواقع تحسين وصول العامة إلى الموقع".

المعمارية عبير سقسوق ساسو، إحدى منظمات الحملة، تقول يجب عليك فقط النظر إلى التاريخ لتخمن مايمكن أن يحدث. إذ تتبع ساحل بيروت المتغير على سلسلة من الخرائط التاريخية، مظهراً كيف تم تقسيم الشواطئ التي كانت محمية تدريجياً، كما ارتفع مستوى استغلال الأرض، وتم محو التشكيلات الطبيعية بالأرصفة البحرية المصطنعة وفنادق الخمس نجوم.

“مهما يكن المشروع المزمع إنجازه، فإنه ينفذ في ظل إطار قانوني حالي صيغ بما يتناسب مع مصالح ملاكي الأرض والسياسيين وأصحاب العقارات". وتضيف" أي مشروع سيدمر الملامح الطبيعية لمنظر الموقع، من البيئة الحيوية إلى الجيولوجية والأثرية. نريد للدالية أن تبقى المكان الطبيعي المجاني غير المقيد الذي لطالما عهدناه" شركة كالهوس رفضت إصدار أي تعليق آخر بهذا الخصوص.

على مسافة قصيرة من الشاطئ مثال جيد كيف تبدأ التعهدات الساحلية عادة في بيروت. كلف المعماري الأمريكي ستيفن هول لتصميم مرسى المدينة الجديد، الذي يطلق عليه اس زيتونا باي والذي يملكه جزئياً وزير المالية الأسبق محمد صفدي،  وتم افتتاحه بصخب إعلامي كبير في ٢٠١١.

تم ترويج المشروع للعامة كمبادرة خاصة لتيسير الوصول إلى الواجهة البحرية. الرسومات صورت الناس يتنقلون في الممرات، يركبون الدراجات وينزهون الكلاب. لكن اليوم، مجمع البازلت المينيمالي يكتظ بلافتات تمنع كل هذه الأنشطة، والنزهات أو حتى عزف الموسيقى. عوضاً عن ذلك يمكن للزوار التمتع بقطاع من المطاعم الفارهة (الممتدحة من قبل النيويورك تايمز) حيث يمكن للوجبة العائلية أن تتخطى الحد الأدنى الشهري للأجور في لبنان. المرسى مرصع بعشرات اليخوت التى تساوي عدة ملايين دولار، فيما ينشر موقع زيتونا باي  ما مفاده أن العديد من مطاعمه "سيقدم لك الوجبات على قاربك!” إن الممر وجميع مداخل المرسى تقع تحت مراقبة وثيقة من الأمن الخاص.

في مقايضة للحقوق لتعهد هذا الموقع، وافقت الشركة التي تدير المرسى أن تدفع للحكومة أجراً سنوياً لمدة ٥٠ عاماً فقط بقيمة 1.6 دولار للمتر المربع من أصل 66.000 متر مربع. “ بينما أجور الرسو ليخت واحد فقط قد تغطى الأجر السنوي للحكومة" يقول محمد زبيب، محرر في الصحيفة اليومية الأخبار، والذى أثار قصة الأجر. في 2013، نزل زبيب مع مجوعة من المحتجين الى ممر زيتونا باي حاملين لافتات مكتوب عليها: "تحرير الملكية العامة واجب وطني" ومطالبين "المحتلين" أن يزجوا في السجن.

لكن زيتونا باي هو جزء من مشروع واجهة بحرية عملاق: بمحاولة لإستعادة حوالي 800.000 متر مربع من أرض بيروت من البحر. المشروع الذي شارف على الإنتهاء ينفذ من قبل سوليدير، أكبر شركة تعهدات في لبنان والتي لم يؤسسها أحد سوى رفيق الحريري. مع سهولة الوصول إلى زيتونا باي ومرسى يخوت آخر، لا شك أن هذه الأراضي ستصبح من الأغلى في المدينة.

الملكية البحرية هي أرض عامة وفقاً للدستور اللبناني. غير أن سلسلة من الإستثناءات أعطت سوليدير الحق بتعهد "منطقة أعمال الواجهة البحرية" الجديد هذا فيما إذا وافقت على بناء الطرقات وحديقة. تظهر المستندات من التسعينيات أن كانت تنوي استثمار ٤٧٥ مليون دولار في إعادة بناء وسط بيروت (لقد حولوا المنطقة المليئة بالأنقاض إلى منطقة راقية وبراقة) وتعهد الواجهة البحرية. الأراضي التي كسبتها في إعادة الإعمار تساوي اليوم ٨ بليون دولار وأكثر. ولأن صفقات بينتها التحتية وحدها ترفع من قيمة أراضي سوليدير، يقول النقاد أن الحكومة حصلت فقط على مساوئ هذه الصفقة.

إن كان البناء يكلف سوليدير ٤٧٥ مليون دولار، لندفع لهم" يقول زبيب"

تشكك سوليدير بالكلفة  قائلة بأنها أنفقت ما يقارب ٩٠٠ مليون دولار أمريكي على بيروت بعد الكلف القانونية وتعويض مالكي الأرض. الشركة شهيرة بصعوبة رصد أعمالها، لكن مديرة التخطيط المدني فيها أميرة صلح، قالت مؤخراً في الجامعة الأمريكية " خلال جلسة نقاش  معنونة "مرونة الواجهات البحرية"، “هناك ثمن لتعهد شركة خاصة لإعمار وسط المدينة   [تعهد سوليدير الرائد لبيروت] وهذا الثمن هو الإعتماد على شركة خاصة لضمان الصالح العام أيضاً.

أصرت صلح أن مشاريع مثل زيتونا باي مفتوحة للعامة، وأن الواجهة البحرية الجديدة تتميز أيضاً بمكان أوسع للتنزه على شاطئ البحر. لكنها تعترف أنه هناك مساوئ للإعتماد على شركات تجارية لتعهد الفضاء العام "المصالح الخاصة تسعى للتنفع من خدماتها، وبالتالي يريدون هذه الخدمات عامة بقدر ما تنفعهم... لذا هناك حاجة للقول أن هذه الأماكن مقيدة. ،لكن حتى لندن لديها مثل هذه التقييدات على التزلج، ركوب الدراجات، إلخ".

قالت أن سوليدير تخطط لبناء عدد من المتاحف، المراكز الثقافية و٦٠ من الأماكن العامة والحدائق المميزة. باستثناء عدد من المساحات الخضراء الصغيرة و"المساحات المرصوفة" والمساحات العامة التي يجوبها الحراس، بضعة مشاريع فقط مثل سوليدير تم تنفيذها خلال العقدين الماضيين- خلال ذلك الوقت قامت الشركة ببناء أحياء كاملة مكونة من أبراج فاخرة

هل إعادة إعمار وسط بيروت الجذاب هو حقاً كما يبدو؟

في الواقع، إن الشريط الساحلي اللبناني الممتد على طول ٢٢٠ كم يزخر بالمنتجعات والمراسي الخاصة، معظمها غير قانوني، والعديد منها على الطريق. وفقاً لصحيفة الأخبار، فإن مستندات حكومية مسربة تشير إلى أكثر من 2.5 متر مربع من الشريط الساحلي  تم خصخصته، وبأكثر من مليار دولار من المخالفات والضرائب غير المدفوعة وما لا يقل عن 1000 مخالفة قانونية صريحة. هذا يعني ما يقارب 5 منتجعات مخالفة بالكيلومتر- بقايا عبثية أخرى من الحرب الأهلية التي تركت لبنان يعم بالفساد.

تعود ملكية العديد من هذه المنتجعات لسياسيين رفيعي المستوى. عّبر وزراء آخرون عن غضبهم.  وزير البيئة، محمد المشنوق نشر صوراً للدالية مسيجة بالأسلاك،  منشوراً أصبح واسع التداول على الفيسبوك، واصفاً إياها "بالفضائحية". وزير النقل السابق غازي العريضي كان أكثر جرأة في وثائقي للجزيرة العام الماضي. “هذا بلد الإستغلال التام" قال بسخط. “هذا بلد بلا شاطئ".

عند نقط معينة من جلسة النقاش، جادلت صلح أن جزء من المشكلة هي أن العامة غير معتادون على استخدام الأماكن الخاصة بشركتها. “أعتقد الأماكن العامة هي عملية تعلم المواطنة"، قالت. “المكان العام هو شيء نعتاد عليه مرة أخرى... أنا أشجع الجميع ممن لا يرتادون وسط المدينة، أن يذهبوا ويمشوا هناك، آن الأوان لنستعيد مركز المدينة".

بالعودة إلى هضاب الدالية العشبية، يستهجن علي عيتاني "لم أمشي هناك؟ في حين أستطيع المشي هنا" قال أن بعض الصيادين الآخرين دفع لهم عشرات آلاف الدولارات ليغادروا دون جلبة. إنه عرض مربح لأولئك الذين يجنون القليل، غير أن عيتاني قال أنه سيكون سعيداً بالبقاء فقط لو أن أحد يقدم لهم السباكة والحمامات المبلطة.  يقلب مجموعة من صور البولارويد المتلاشية من شبابه: تجمعات عائلية من السبعينيات قبل ظهور الأبراج، أولاده يلتقطون السمك، نستخته الشابة تميل نحو المتوسط وعلم لبنان في يده. في الخمسين يدعي أنه مازال بإمكانه  الغطس بالقفز إلى الأمام.

"بالطبع أريد البقاء، لقد ولدت هنا. حياتي هنا" يقول "إذا غادرت، سأكون سمكة خارج الماء، لن أنجو"

يقول أنه يوجد وفرة من الأسماك التي يمكن اصطيادها قرب زيتونا باي لكن الأمن الخاص يمنعه من الإقتراب. عند سؤاله ما الذي يستفيده من مشاريع كزيتونا باي ووعودهم بأنه متاح للعامة، يرفع عيتاني رأسه وبيتسم: “هذه الأماكن لم تصنع لي ولك".

---

ترجمته من الإنكليزية علا صالح