خبث السلطة: الاعتقالات في سوريا كجزء من منطق سياسي وإقتصادي

"لقد صدمت حين علمت ان ناصر قد اعتقل. لم أكن أريد أن أصدق ذلك في البداية. الاعتقال هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لك في سوريا. مهما كانت طريقة الموت - الشيء الرئيسي هو عدم الموت بهذه الطريقة – وهذا ما سيقوله معظم السوريين. ‘أنا بحاجة للحصول على إحدى هذه الحبوب التي تقتل على الفور'، كان قد أخبرني ناصر قبل فترة وجيزة من اعتقاله. كان يخطط مسبقاً لكيفية الإفلات من الاعتقال ثم تم القاء القبض عليه في مكتب تسجيل الأجانب كونه يحمل الجنسية الفلسطينية. وقالت سميرة، "مرت على ذهني فوراً صور الجثث التي تعرضت للتعذيب. ولكن طمأنني عمي أن ناصر سيخرج حراً في غضون أيام قليلة مضيفاً أنه على صلة بأحد من الداخل. بدأنا بجمع الأموال المطلوبة منا بينما يملؤنا أمل كبير. هذا ما جرى في شهر تشرين أول/أكتوبر 2014 الماضي. كان من المفترض أن ندفع مبلغ قدره 4,000 دولار أمريكي أولاً ثم ازداد إلى 20,000 دولار وفي النهاية تضاعف المبلغ إلى 60,000 دولار. ولم نتمكن من معرفة مكانه منذ شهر كانون الثاني/يناير 2015. وعلى الرغم من أنهم ما زالوا يطالبوننا بمزيد من المال إلا أننا لا نعلم حتى إذا كان ناصر لا يزال على قيد الحياة".

إن عدد الذين اعتقلوا في سوريا منذ عام 2011 غير واضح. وتقدر منظمة حقوق الإنسان السورية، مركز توثيق الانتهاكات، أن العدد يبلغ نحو 200,000 شخص. ونتيجة عدم إصدار أي مذكرة توقيف بحقهم وعدم إبلاغ عائلات المعتقلين، يصبح المصطلح المستخدم لهذه الاعتقالات هو "الاختفاء القسري". ويشكل الشبان في عمر العشرينيات والثلاثينيات  العدد الأكبر من الذين اختفوا إلا أن مركز توثيق الانتهاكات في سوريا وثق حالات اعتقال لقصار من البنات والشبان. وبدأ النظام السوري في عام 2011 بملاحقة من يخطط لاحتجاجات مناهضة للنظام. وكلما ازداد العنف في خوض النزاع وساءت ظروف التزويد بالحاجات، كلما أثر ذلك على الموظفين في المجالين الإنساني والطبي. ويقول عامر، الضابط السابق في الجيش السوري، "يُقدر حتى الآن أن 90% من الذين اعتقلهم النظام أو ميليشيا تابعة للنظام ليس لهم أيأي علاقة بالثورة". ويحصي تقرير "سيزر" – الذي سمي بذلك تيمناً بمصور الجيش السوري المنشق- أن 11,000 شخص لقوا حتفهم في مراكز الاحتجاز، إما جراء التعذيب أو نتيجة ظروف السجن الكارثية عمداً.

ويختفي الناس إما في مكاتب تابعة للحكومة أو على حواجز الجيش أو الجيش الشعبي، وهو عبارة عن وحدات شبه عسكرية تتكون من مدنيين مسلحين تم تجهيزهم من قبل النظام. وقد اشتهروا في البداية باسم "الشبيحة" وانضموا إلى الجيش السوري بشكل غير رسمي منذ ذلك الحين. وهذه هي المجموعات الأولى ضمن سلسلة طويلة من المستفيدين من تجارة الاعتقالات في سوريا.

وتجري الاعتقالات في الوقت الحالي على نطاق واسع ويتم إحضار المعتقلين إلى السجون الرسمية المكتظة من قبل بدء الثورة وإلى مراكز الاستجواب السرية التابعة لمختلف أجهزة المخابرات. ويعبر العدد المتزايد للاعتقالات عن نظام يتخذ اجراءات قوية ضد المدنيين، ليس هذا فحسب بل يظهر كذلك تعويل هذا النظام  من البداية على "حل آمن" وهو العنف بدلاً من السياسة.   

تُعتبر الحرية المطلقة في الحكم فيما يتعلق بالاعتقالات إحدى السبل التي يُمَكِّن النظام من خلالها عدة أجزاء من أجهزة الأمن إثراء أنفسهم بأنفسهم. وبهذه الطريقة، يؤمن النظام الدعم لنشاطاته في أوقات الانحطاط الاقتصادي. أما الذين يُتركون لمعاناتهم فهم آلاف السوريين المفقودين وعائلاتهم. ومن ناحية، فإن القضية هي قضية فساد حقيقي يُستَخدَم فيها المال كوسيلة للحصول على خدمة، ومن ناحية أخرى تُعتبر عملية نصب تامة حيث يُوعد الشخص بأداء الخدمة مقابل مبلغ من المال ولكن لا يتحقق الوعد.  

وقال أمجد وهو أحد النشطاء، "عند بدء الاعتقالات كان الناس يرهبون بشكل أكبر طلب دفع الفدية مقابل أحد أفراد عائلتهم. وكانت الاعتقالات في عام 2011 موجهة بشكل أدق، أما في الوقت الحاضر فيمكن اعتقال أي شخص. كذلك كان من الممكن في السابق الحكم على الشخص بالبراءة، أما الآن يمكن نهب الشخص على الحاجز ومن ثم اخفاءه".

 

أرباح لذوي المراتب المتدنية مقابل ولائهم

يوجد عدة طرق ل"الاختفاء" في سوريا. على سبيل المثال، إذا جرى تفتيش منزل ما أو مكتب، يتم أخذ جميع الموجودين. ولا يتم إعلام عائلات المعتقلين. وإذا تمكنت العائلة من معرفة المكان الأخير للمفقود يمكن معرفة أي جهاز أمني ألقى القبض عليه. فيسيطر كل فرع من أجهزة الأمن على مناطق معينة من المدينة، كما تُحفظ المعلومات حول أي جهاز يسيطر على أي أجزاء من المدينة في مخزن معلومات لكثير من السوريين أو يمكن التحري عنها. ولكن أكثر الاعتقالات شيوعاً وعشوائية تحصل عند الحواجز. تُضرب هذه الحواجز عند مداخل كل قرية وحتى عند نقاط الوصول لكل منطقة في المدن. وصرحت لمى، الناشطة في مجال حقوق الإنسان: "تسيطر وحدة الاستخبارات للقوات الجوية على معظم الحواجز عند مداخل قرية جرمانا، إلا أن الشبيحة يسيطرون على المنطقة من الداخل". وكانت لمى نفسها مسجونة لمدة طويلة حيث تقول، "كنت سعيدة حين تم اعتقالي عند حاجز رسمي تابع للنظام. فبهذه الطريقة تم أخذي واعتُقل زوجي في المنزل ولكن على الأقل لم يتم نهب منزلنا واغتصاب ابنتي".

بعد فترة وجيزة من الاعتقال، يؤخذ الشخص إلى مراكز الاستجواب التابعة لمختلف فروع الأمن. ويوجد بنية منتظمة للموظفين في معظم الفروع تتألف من المدير وقائد القسم والقائمين على عمليات الاستجواب. بالإضافة إلى ذلك، يوجد العديد من مراكز الاعتقال السرية كما يوجد سجون خاصة ل"الجيش الشعبي" الذين يمارسون اعتقالات عشوائية تكون أحياناً استجابة لأوامر فروع الأمن. كما يوجد مكان سيىء السمعة على وجه الخصوص وهو مخيم الاعتقال السري للشبيحة في شارع نسرين الواقع في منطقة تضامن في دمشق. وفقاً للقانون السوري، تكون الفروع مسؤولة عن كشف الجرائم وجمع الأدلة المتعلقة بها. أما من الناحية العملية، تشكل الفروع محور غرف التعذيب لجهاز الأمن. وينتج عن بعض هذه الفروع، مثل فرع 215،صور وحشية بصورة خاصة للتعذيب بين السوريين. وحرصاً على الظهور بصورة حكومة إدارية حديثة، قام النظام السوري بتنظيم آلية الحبس ضمن إطارها القانوني. فمن الناحية النظرية، يُسمح للفرع باحتجاز السجين لمدة أقصاها 60 يوم بالنظر إلى أن مذكرة التوقيف تتجدد كل 48 ساعة، يمثل بعدها السجين أمام المحكمة. ولكن يشرح المحامي جمال أنه "لا يلتزم أحد بهذه القوانين؛ في الواقع يختفي الشخص بمجرد إحضاره إلى الفرع ولا يحصل على أي مساعدة قانونية ولا يمكن لأي محام فعل شيء أو حتى معرفة مكان الشخص المعتقل". وقد غادر جمال سوريا في آذار/مارس 2015. 

"في كثير من الأحيان تقوم الفروع بإلقاء القبض على الشخص وإبقائه رهن الاحتجاز لمدة أربعة أو خمسة أيام. ويطلبون أرقام هواتف أفراد العائلة ثم تبدأ عمليات الابتزاز"، كما يخبرنا فراس، وهو أيضاً محامي من دمشق يعيش حالياً في بيروت. كما أن دفع مبلغ من المال ليس ضمانة للإفراج عن القريب أو أحد أفراد العائلة. فبعد استغلال العائلة مادياً، كثيراً ما يقوم الشبيحة بتسليم السجين إلى المخابرات. وبالتالي فإن البنى الرسمية وغير الرسمية للمخابرات السورية لا تتعايش فقط بل تتعاون بشكل مباشر.

ويشكل كل ذلك جزء من تجارة شريرة. وتقول العالمة السياسية روان:"نتيجة معرفتنا لما يحصل للمعتقلين، تكون العائلات دائماً على استعداد للدفع ولو اضطروا إلى بيع منزلهم لتحصيل المال. وبذلك يشترون الأمل بأن أقاربهم لن يموتوا من جراء التعذيب – ولو كان من الواضح لهم أنه لن يتم الإفراج عنهم". فتغتنم العائلة أي فرصة أخيرة متاحة. والقضية ليست مجرد قضية الفساد الذي يحصل داخل المنظومة. فللنظام مصلحة في خلق مساحة للفساد والابتزاز وإثراء الذات في الوقت الراهن أكثر من قبل بدء التمرد. وحتى قبل عام 2011 كان النظام السوري يملك أكثر أجهزة الأمن شمولية في المنطقة. وتضاعف نطاق الجهاز منذ بدء الثورة عن طريق الحواجز المتعددة وإنشاء ميليشيات متنوعة تدعم النظام. وفي الوقت عينه، أصبح الوضع الاقتصادي مدمراً مما يعني عجز النظام عن تغطية ازدياد النفقات لقطاع الأمن فقط من أموال الدولة. وأصبح الدخل الحالي للضابط العادي في جهاز أمن النظام يساوي 100 دولار أي ما يساوي 20,000 ليرة سورية. ويوضح أمجد، الناشط الإعلامي، أن "سعر حزمة القهوة يساوي حوالي 2,000 ليرة سورية وشراء الديزل الذي يكفي ليومين يكلف 5,000 ليرة سورية". ويضيف قائلاً "بينما يسهل النظام عمليات الاعتقالات وابتزاز العائلات، يصبح بإمكان الشبيحة والجنود العاديين للنظام إنتاج دخل ثانوي، فالجنود فقدوا الثقة بالنظام وأصبحوا يغتنمون الفرصة لتحقيق الربح".       

ومع نهاية علم 2012 كان اقتصاد البلاد قد عان من خسارة 1.5  مليون فرصة عمل. ويعلق العالم السياسي صبر درويش قائلاً: "أصبح الاقتصاد السوري مدمراً […]. وقد تطور بالكامل تقريباً ليصبح اقتصاد في زمن الحرب يتكون من الجريمة والتهريب وتجارة الأسلحة والناس فضلاً عن سرقة الإعانات وغيرها. وقد ظهرت فئة صغيرة من الناس تمكنت من تحقيق الربح في سياق الاقتصاد الحالي بينما يبقى الشباب في الوقت عينه عاطلين عن العمل وعاجزين عن إعالة عائلاتهم". إن السماح في تفشي الفساد والابتزاز هو قرار استراتيجي اتخذه النظام – أي أنه تعديل لمنظومته في ضوء الظروف المتغيرة.

يؤكد المحاميان جمال وفراس أن المدة التي يتحتم على السجين تحملها في الفرع غير مؤكدة. يتم نقل السجناء من الفرع إلى أحد السجون. "تكون حالة الذين يتم إحضارهم إلى السجون المركزية من الفرع مزرية"، علم جمال ذلك بعد أن شهد عملية نقل ثلاثين سجين بينما كان متوجهاً إلى المحكمة. ويضيف قائلاً: "لا يزيد وزنهم عن ال40 كيلوغرام. وكانت الرائحة لا تطاق حتى من مسافة بعيدة، كما كان يرتدي أفراد الأمن أقنعة غاز. وكانت جروح المساجين واضحة جراء الحروق نتيجة الكهرباء وعلامات إطفاء السجائر...وبالطبع كان يرفض القضاة في كل مرة طلبنا بتوثيق ذلك وحاجتنا إلى طبيب مجاز قانونياً. ومن غير الممكن الإفراج عن أحد في تلك الحالة. لذلك استنتجت ان السجون هي بمثابة وقفة على طريق المعافاة. كذلك الظروف في السجون أيضاً مروعة – لكنها لا تقارن بتلك التي في الفروع".

كما يستلزم النقل إلى السجن المركزي تغييراً في المسؤولين عن السجناء داخل المنظومة، وبالتالي تحصل مجموعة أخرى من المستفيدين على فرصة لابتزاز عائلات السجناء. وتتيح عملية النقل حصول الفساد حيث علمت الناشطة كفاح أنه "في بعض الحالات يتصل ضباط الفروع بالعائلات ويعدونهم بنقل ابنهم إلى السجن المركزي مقابل مبلغ معين من المال، على الرغم من أنه يكون سبق وتم نقله". وليس بالإمكان معرفة إلى أي محكمة تم إرسال السجين. ويشرح المحاميان أنه "أحياناً يتم اعتقال خمسة أشخاص مختلفين وتُوجه إليهم تهمة بالجريمة نفسها – ولكن يتم إرسالهم إلى محاكم مختلفة".

ويمكن أن تصيب الاعتقالات التعسفية أي أحد، حيث تخبرنا لمى التي كرست نفسها لتجارب السجينات بعد أن كانت هي نفسها سجينة: "نحن على علم ببعض الحالات حيث داهم الشبيحة منطقتنا واعتقلوا الشبان ببساطة بغض النظر عن خلفياتهم. وهذا ما يفسر وجود الشبان المؤيدين فعلاً للنظام في السجن أيضاً".

الحرب النفسية والآمال الخائبة

وتقول روان "إن المنطق وراء ذلك ليس مجرد الثراء المادي؛ هي حرب الأعصاب. ومن ناحية، يتم تعديل الأسعار في ظل الفساد للعائلات الفقيرة. ولكن من ناحية أخرى، يتم عصر الأموال من العائلات على كافة الأصعدة. كما يتم مجاراتهم وتأجيلهم مراراً وتكراراً حيث يوعدون بالإفراج عن ابنهم من السجن عند دفعهم مبلغ معين من المال، إلا أنهم يحصلون على جثة هامدة في المقابل. وفي بعض الحالات تكون العائلات على استعداد لدفع ثمن معرفة مكان المقبرة الجماعية التي دُفن فيها ابنهم. وليس بإمكانهم حتى الذهاب إلى هناك". حين يبلغ العائلات خبر وفاة ابنهم في السجن، يقومون بالتوقيع على وثيقة تظهر أن سبب الوفاة هي "أسباب طبية" أو "فشل القلب" على سبيل المثال. كما يمكن أن يوقعوا على بيان يفيد أن "القوات المسلحة" كانت السبب. هكذا يضمن النظام من خلال ضمانة العائلة أنه غير مسؤول عن ارتكاب جريمة. 

"تكون العائلات على استعداد لدفع المال مقابل أي تفصيل صغير من المعلومات: هل ما زال ابنهم على قيد الحياة، كيف هو حاله؟" عند اختفاء الابن تبذل عائلته قصارى جهدها لمعرفة مكانه. ويتعرض كل شخص يسأل الأسئلة إلى الاحتيال أو إلى خطر التهديد لسلامته. كما تُعقَد جميع أنواع الوعود للعائلات، وفي نهاية المطاف يقرر مدير الفرع إذا سيتم الافراج عن الشخص ومتى سيحصل ذلك.

وتُحرم العائلات التي أجبرت على اختيار هذا الطريق من أي شكل من أشكال الضمانات – باستثناء خيار اللجوء إلى البحث عن معلومات إضافية عبر قنوات أخرى. أما العنصر الوحيد الذي يحول دون السيطرة الكاملة للنظام فيكون على شكل تقارير يعطيها السجناء. لهذا السبب نشأت شبكة من الناشطين في مجال حقوق الإنسان والمحامين حيث يقوم الأفراد من خلالها بتسجيل شهادات المفرج عنهم من السجن، مثل مركز توثيق الانتهاكات في سوريا أو مجموعة سوريا المفقودة. ويحفط السجناء عن ظهر قلب أسماء أفراد عائلة زملائهم في السجن وأرقام هواتفهم. وتبين لنشطاء سوريا المفقودة أنه نتيحة اكتظاظ الزنزانات بشكل ميؤوس، يحفظ السجناء في كثير من الحالات على الأقل سبعين اسم ورقم هاتف على الأقل. وعند الإفراج عنهم يقومون إما بالاتصال بالعائلات مباشرةً أو بمشاركة معلوماتهم عبر منظمات حقوق الإنسان. ومن هنا تلعب الشخصيات العامة السورية دوراً مهماً مثل يارا صبري. تعتبر يارا موضع للثقة وتقوم بالاتصال بالعائلات. كما تنشر على صفحتها على الفايسبوك لائحة بأسماء الأشخاص المفقودين بشكل يومي.  وفي كثير من الأحيان، ساعدت اللائحة التي نشرتها يارا صبري العائلات في التعرف على هوية المبتزين. وفي حال علمت العائلة أنه بالإمكان الإفراج عن أحد أفراد عائلتهم من الفرع عبر دفع مبلغ من المال إلا أن يارا أعلمتهم عن تواجد ابنهم في مكان آخر مؤخراً، يمكنهم تجميد الدفعة.

 وكذلك يوجد حالات كثيرة في السجون المركزية يفترض أنها منسية، ومن هنا يخرج "المفقودين" من طي النسيان. فتوضع قوائم محدثة في المحاكم بشكل علني يومياً بأسماء الذين تجري محاكمتهم. "لقد تم اعتقالي نتيجة نشري لهذه السجلات على الإنترنت في محاولة لمحاربة الفساد واستغلال العائلات. واتصلت بالعائلات وأعلمتهم بالتهم التي سوف يواجهها أولادهم. وفي بعض الحالات يبدو جلياً بعد الاطلاع على التهم أنه سيتم الافراج عن المتهمين بشكل فوري – فإذا خرجت هذه المعلومات إلى العلن وأصبح من السهل الوصول إليها، لن يتمكن أحد من ابتزاز العائلات للحصول على المال. إن التوضيح جزء كبير من عملنا كمحامين صادقين". 

كما تقاس قيمة المحامي بحسب معارفه. فيكشفا جمال وفراس: "حين يتعلق الامر بإطلاق سراح شخص في المحكمة متهم بانتهاك ما يصنفه النظام على أنه جريمة خطرة، يصبح هناك حاجة إلى ما يشبه السمسار. يكون هذا السمسار محام يضمن حرية موكليه عبر دفع المال والمعارف. وبالتالي يمكن بشكل سريع أن تتحول التهمة بتهريب 10 طن من المتفجرات إلى تهمة بتهريب 10 ليتر من الديزل".

محكمة مكافحة الإرهاب

تقول روان: "تمثل محكمة مكافحة الإرهاب أوضح أشكال التعبير عن هذا النظام الفاسد والمتجارة بالسجناء". تأسست بأمر رئاسي وتعمل بانتظام منذ عام 2012، وهي تمنع المتهمين من حق الدفاع. ويتم تعيين القضاة بموجب مرسوم حيث يتمتعون بتمام قوة السلطة بشكل جلي. ويشرح جمال أن "بعض هؤلاء القضاة هم في الواقع على قناعة أن المتهمين إرهابيون؛ فمعظمهم اشتروا مراكزهم كقضاة بالمال". ويكمل فراس "وحيث يكون كل شيء تحت تصرفه، يصبح الشخص وكأنه مدعو إلى الفساد". ويوضح أيضاَ قائلاً: "ستصدر المحكمة هذا الشهر أحكاماً في 3000 قضية، وهذا رقم هائل. وتُعتبر آلية التوثيق المستخدمة بدائية ينتج عنها حالة لا نعرف فيها عدد الأشخاص المدانين وعدد الذين رفعت عنهم التهم". ويحصي مركز توثيق الانتهاكات في سوريا 70,000 قضية أُحيلت إلى هذه المحكمة حتى عام 2014.

تُعتبر محكمة مكافحة الإرهاب سلطة قضائية لنظام يدعي أنه يقود حرباً ضد الإرهابيين منذ آذار/مارس عام 2011، الأمر الذي يجعله رمز قوي للنزعة التالية في صفوف النظام: لقد تخلى ذوي المناصب الرئيسية منذ وقت طويل عن دوافعهم في الدفاع عن النظام المناهض للامبريالية والاشتراكي المزعوم. في الواقع يتغلب الاهتمام بالمصالح الخاصة على الدوافع السياسية. وقد خلق النظام بنية دقيقة من المستفيدين الذين لديهم مصلحة أنانية، لا أيديولوجية، في بقاء النظام.

وتبين السلطة المطلقة لهذه المحكمة أن الفساد في تجارة الحياة والموت لا يقتصر على الرتب الدنيا وحسب: ففي هذه الحالة، القضاة هم المستفيدون في سلسة المستفيدين. وتشكل الأحكام مع وقف الإنفاذ سلعتهم الشخصية وأحكام العفو العام أساس الفساد الواسع النطاق. ويوجد أحكام بالعفو العام تفضي إلى إسقاط العقوبة والحكم لبعض الجزاءات، من غير التحديد مسبقاً هوية الأشخاص الذين ستصدر بحقهم هذه الأحكام. فيجري دفع الأموال للحصول على مكان على اللائحة بأسماء الذين حصلوا على حكم العفو العام. ويفصل فراس قائلاً: "تحتاج إلى وسيط قوي جداً من أجل إضافتك إلى إحدى هذه اللوائح. حالما يتم الإعلان عن الحكم بالعفو العام، يبدأ الضباط بربط الوعود للعائلات بوضع أسماء أولادهم على اللائحة. ولكن ما لا يدركه الكثيرون أنه، بغض النظر عن الفساد، لا تصلح أحكام العفو العام إلا في السجون وليس في الفروع".

التأثير على جميع مستويات الحياة

يشكل الخوف الشديد من الاعتقالات والمعرفة بمستوى العنف الذي يحصل بعد الاعتقال أحد القوى الدافعة التي تجبر العائلات على دفع مبالغ مالية تضعهم بدورها في وضع مالي وخيم. ويروي أمجد كيف أثّر اعتقال عمه على العائلة كلها حيث تعرض لاعتقال عشوائي على حاجز ولم تقدم بحقه أي اتهامات كما لم يتم تفتيشه من قبل. ويروي أمجد قائلاً: "بعد أن تم اعتقال عمي خرجت للبحث عن ’مفتاح‘  في محاولة لمعرفة مكان احتجازه. طالب ضابط رفيع المستوى في البداية بمبلغ قدره 60,000 ليرة سوري أي ما يساوي 300 دولار. وأبلغنا عند تلقيه المبلغ بمكان وجود عمي في القسم رقم 720، ثم طالب بمبلغ فدره 340,000 ليرة سوري أي ما يساوي 2,600 دولار في ذلك الوقت. فقمنا بجمع المال سوياً حيث قمنا ببيع سيارته وجميع مجوهرات عمتي. ولم يكن لدينا ما يضمن الإفراج عن عمي فعلاً، لذلك تم إيداع المال عند جهة ثالثة. لا نعلم ما هي رتبة هذا الضابط ولكن من الواضح أنه كان لديه معارف. وبالفعل تم الإفراج عن عمي من الفرع في اليوم التالي وتم نقله على الفور إلى عدرا، السجن المركزي في دمشق. وقبل الضابط المال وكان يتحلى بالجرأة الكافية ليدعي أن ذلك كان الاتفاق. وسُمح لعمتي بزيارته في السجن، ولكن على الرغم من أنها تملك حق الزيارة، احتاجت إلى أن تقوم برشوة الموظفين لرؤيته. وكان يبدو مرهقاً نتيجة تعرضه للتعذيب الشديد. ولم يكن أمامنا اي خيار سوى طلب المساعدة مرة أخرى من الضابط نفسه، فطالب هذا المرة بمبلغ إصافي قدره 1,500 دولار. فبدأ الجميع في العائلة ببيع الممتلكات وتم الإفراج عن عمي بعد أسبوعين بعد أن فقد ممتلاكاته وأصبح عاطل عن العمل.

المعضلة الأخلاقية – "هذا ما نزلنا إلى الشارع ضده"

على الرغم من إدراك روان لممارسات التعذيب في السجون إلا أنها ليست على استعداد لدفع المال من أجل زوجها المسجون منذ عام 2012 والذي تم نقله إلى السجن المركزي في غضون ذلك، والسبب هو بالتحديد أن زوجها كان ناشط سياسياً. وهي تؤمن أن الفساد السائد في العامين الماضيين أدى إلى منظومة فاسدة بشكل أكبر وأنه قام بتغذية ديناميكية الاعتقالات المتزايدة كبديل عن الدخل الاعتيادي. فتقول: "الفساد يبدأ بنا. نحن السبب. نزلنا إلى الشارع في آذار/مارس 2011 وتظاهرنا ضد الفساد في سوريا...ولكن حالما بدأت الاعتقالات، كنا أول المستعدين لدفع المال. نحن أعطينا النظام هذه السلطة. إذا دفعت المال أكون فقط قد ساهمت في تقوية النظام. كان يتوجب علينا أن نأخذ موقفاً من البداية والامتناع عن الرشوة...ولكن بدلاً من ذلك، ازدادت كمية الرشاوى حتى أصبحت اليوم مقبولة على نطاق أوسع. فإذا اعتبرتها مشروعة اليوم، لما تظاهرت ضدها في البداية؟" تمرر روان حكمها النقدي على الذين يدعمون الفساد في محاولة لإنقاذ حياة أقاربهم. ومع ذلك تدرك أن المستهدفين ليسوا فقط من النشطاء السياسيين، فهناك "العديد من المارة الذين اعتُقلوا على الحواجز – وبالطبع أتفهم رغبة عائلاتهم بإطلاق سراحهم" تقول روان وتضيف: "العائلات هم الضحايا ولكن النظام يسحبهم في دوامة الفساد من أجل بقائه من خلال هذه الاعتقالات؛ وهذا هو خبث سلطته".  

إنها معضلة أخلاقية لا يمكن للمرء الانسحاب منها في ظروف أصبحت الوفاة في مراكز التحقيق والسجون حدثاً يومياً. "أنقذ الباقين"، يقول فراس، في دوره كمحام، في إشارة إلى حملة للمجتمع المدني السوري، حيث تُعتبر قضية المفقودين أكثر من مجرد ملف سياسي واقتصادي. تقول إحدى النشرات التي توزع سرا في دمشق: "ليس كل من تحت الأرض ميت، يوجد الآلاف من الأرواح بانتظار انقاذها".

 الاقتصاد السياسي للاعتقالات

هل يُعتبَر الفساد الواسع الانتشار في القطاع الأمني مؤشر لتفكك الدولة أم هو أسلوب يضمن بقاء النظام؟ توجد وجهات نظر متضاربة في هذا الصدد. ويقول الخبير الاقتصادي السياسي جهاد يازجي أن "الاقتصاد غير الرسمي الذي يضم النهب والخطف والتهريب" تأسس كمصدر رئيسي للدخل بسبب سرعة تدهور الأوضاع الأمنية. ويكتب يازجي: "تنشأ شبكات أعمال تجارية جديدة كلياً، هي غير مشروعة في كثير من الأحيان، كما يجري تمكين مجموعات جديدة وأفراد على حساب الطبقة التجارية التقليدية".

مواءمةَ مع تعليقات اليزابيث بيكارد (عام 1996) عن لبنان خلال فترة الحرب الأهلية، يبدو أن اندلاع العنف ليس نتيجة ثانوية لتفكك الدولة، وإنما يشير إلى العكس: يبدو أن النظام السوري قد خلق نظام من الفساد والإثراء الذاتي في الاقتصاد السياسي للحرب كوسيلة لضمان بقائه. فتعتبر الاعتقالات والاخفاء جزء من مجموعة كاملة من آليات ما بعد عام 2011 لتسهيل إثراء الذات. بالفعل قبل عام 2011، كان ينسب الفساد إلى ما أشار إليه بسام حداد ب "رأسمالية المحاسيب". أما الأمر الجديد فهو الميليشيات، حيث يكون السماح لهم بحرية الحكم ضمانة ولائهم للنظام.

ولكن أهمية الفرط بالعنف تتجاوز المجال الإقتصادي. فهي جزء من طريقة عمل الحكومة تماشياً مع الحقبة التي سبقت عام 2011 حيث يجري نشر المعلومات من أعماق غرف التعذيب بين السكان، وبهذه الطريقة يصبح الناس خاضعين من دون الاستخدام المباشر للعنف الجسدي. ويحل مبدأ الطاعة في مكان مبدأ التقدير والتخويف في مكان الشرعية من أجل ضمان استمرارية عهد النظام. وفي الوقت عينه، إن الفساد الواضح على جميع المستويات دون استثناء - وخاصة على مستوى محكمة مكافحة الإرهاب - يشير إلى تضاؤل عمل مسؤولي النظام المبني على أسباب أيديولوجية إلى مستوى أقل فأقل.

"إن النظام لا ينهار، ولكنه ببساطة تطور إلى نظام من الزمر. فقد أصبحت المؤسسات العسكرية والأمنية في الوقت الحالي ميليشيات وعصابات. وقد تم تعيين كل زعيم عصابة من قبل النظام. كما لم يعد يملك النظام السيطرة الكاملة على هذه المجموعات"، هذا هو التقييم الذي قدمه الناشط والمحلل السياسي كفاح. ويضيف: "ومع ذلك، يمكن للنظام إيقاف عمل الميليشيات بسهولة إذا قرروا ذلك. أصبح بشار الأسد ببساطة مجرد زعيم لأكبر ميليشيا".

 يُكرس هذا النص إلى جميع المعتقلين والمفقودين في سوريا.

يستند هذا المقال على اتصال شخصي بالموضوع وعلى 11 مقابلة نوعية مع المتضررين والناشطين والقانونيين المتمرسين. وتشكل وجهة النظر الشخصية للأشخاص وتجاربهم النقطة المحورية، ذلك بأنه على الرغم من أن نظام الفساد هو جزء من اقتصاد سياسي على نطاق أوسع، يؤثر كل اعتقال وكل اختفاء بشكل كبير ليس فقط على حياة الشخص المفقود بل كذلك على حياة أفراد عائلته.

---

ترجمته من الإنكليزية لارا عزّام