إذا كانت أوروبا حصناً، فجدرانها مليئة إذاً بالتصدعات: حالة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء في المغرب

المحطة المرحلية: المكان الأمثل لمراقبة ما يُسمّى "الترانزيت" وفهمه

الهجرات العابرة للأوطان

نراهم يومياً في نشرات الأخبار. حشودٌ من الأجساد السوداء تكتظّ بها مراكب غير صالحة للإبحار، أجساد مغطّاة بخِرَقٍ تتمدّد، بلا حيل ولا قوة، منهوكة القوى، على الرمال البيضاء. لا وجوه. لا أسماء. تُعيد هذه الصور، مراراً وتكراراً، توليد تخيّلات عن اجتياح أوروبا من "الآخر" المتشدّد؛ تخيّلات تبرّر بدورها الإجراءات الاستثنائية المتمثّلة في الإدارة العسكريتارية والاعتباطية للهجرة. هنا أيضاً، تتشابه الصور وتتماهى: سفنٌ عسكرية، رادارات طوّافة، عناصر يرتدون بزّاتهم ويضعون قفّازات يعترضون الأجساد اليائسة. غالباً ما نرى هذه الصور. لم يبقَ ما نراه أو نفكّر فيه؛ أو نفعله: يبدو وكأنه يتعذّر وقف "تدفّق" هؤلاء الأشخاص والرد العنيف من الدول على عبور حدودها. اقلبوا الصفحة، غيِّروا المحطة. ومع ذلك، هذا "التدفق" للأشخاص هو ما سعيت بالضبط إلى تصويره بطريقة مختلفة: سوف أحاول أن أُبيِّن أن الهجرة العابرة للأوطان لسكّان أفريقيا جنوب الصحراء الذين يمرّون عبر المغرب العربي ليست "اجتياحاً" أحادي الاتجاه وعنيفاً وحاشداً، بل تطوّرت وفقاً لأنماط معقّدة، على امتداد سنوات عدّة في معظم الأحيان، وتطبعها أشكال متعدّدة من النشاط والتعاون من جانب المهاجرين.

منذ تسعينيات القرن العشرين، وبدفعٍ من منظومة التأشيرات في منطقة شنغن وما تفرضه من قيود، تحوّلت الهجرة العابرة للأوطان التي تتم على مراحل، إلى تجربة منتظمة بالنسبة إلى المهاجرين الأفارقة الذي شقّوا طرقات جديدة للهجرة من أفريقيا جنوب الصحراء عبر المغرب العربي وصولاً إلى أوروبا، أو أعادوا فتح طرقات قديمة.[i] في حين أن الحاجة إلى اليد العاملة المهاجرة في عدد كبير من القطاعات لا تزال مرتفعة في أوروبا، فإنّ سياسات الهجرة التي تفرض قيوداً متزايدة تنطبع بالتناقض، وقد شجّعت إلى حد ما عدداً من الأفارقة على الانطلاق في ما يسمّونه "المغامرة"، وما تسمّيه وسائل الإعلام والسياسيون "الهجرة غير الشرعية" أو "الهجرة الممرحَلة". وفي حين أن هذه الحاجة ليست العامل الوحيد الذي يحدّد طبيعة الهجرة، كان عدد كبير من هؤلاء المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء ليتوجّه مباشرةً إلى أوروبا لو كان قادراً على ذلك. غير أن الاتحاد الأوروبي ليس حصناً منيعاً ولا منخلاً. فأعداد الأشخاص، من رجال ونساء، الذين ينجحون بطريقة شرعية أو غير شرعية، في عبور الحدود، وأعداد مَن يبقون عالقين في الطريق، في بلدانٍ لم يكونوا يخططون أصلاً للاستقرار فيها، تعطينا فكرةً عن تعقيدات الهجرة حيث لا بد من أن تؤخَذ في الاعتبار العوالم التي يصبو إليها هؤلاء المهاجرون، والطموحات المحيطة بها.

لكن في حين أن حركة الهجرة هذه تبدأ بطرق متنوعة، لناحية المكان والسبب والوضع، عندما ينطلق هؤلاء الأشخاص في مشروعهم الشخصي للهجرة، يعيدون تنظيم أنفسهم جماعياً في المحطات المرحلية التي تتخلّلها رحلتهم. بغية الارتباط مع هذه الحيّزات، على المهاجرين أن يعوّضوا جماعياً[ii] عن غياب الأرض عبر قنونة رغبتهم الفردية في تحقيق الحرَكية أو القدرة على التنقل. إذاً، بعد اجتياز أفريقيا من جنوبها إلى شمالها، يدخل آلاف المهاجرين المترحّلين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى المغرب العربي سنوياً فينتقلون جماعياً إلى مكان جديد ويستقرّون في محطات مرحلية. استمرت هذه المحطات، منذ إنشائها في تسعينيات القرن العشرين، في تشكيل بؤر مرحلية للوافدين الجدد، وتكوَّن شيئاً فشيئاً تاريخٌ اجتماعي حول مسارات الهجرة. هذه المعارف المستندة إلى تجارب المهاجرين المترحّلين الأوائل الذين تنظّموا في إطار جماعات تعاونية، جرى تمريرها وتشارُكها عبر شبكة الهجرة، وتُعوِّل على المهارات الاجتماعية القوية للمهاجرين والقدرة على تعلّم مهارات جديدة.

لقد أتاحت هذه الشبكة الهجرة عبر الأوطان وجعلتها ممكنة: إنها البنية العلائقية التي تتيح توجيه مشروع الهجرة والمسارات المشتقّة منه، فتنسج العلاقات المنسلخة عن الأرض على أساس عالمٍ مشترك يصبون إليه في تفكيرهم. وهكذا يضع المهاجرون المنتقِلون من منطقة خاضعة للتنظيمات إلى أخرى، بالاستناد إلى تجاربهم الفردية، شارات على الطريق ليستدلّ بها مَن يسيرون على خطاهم لاحقاً. بيد أن ذلك يعني أن الشارات الموضوعة على هذه الطرقات يستطيع الجميع التعرف عليها؛ بعبارة أخرى، يربط عالمٌ جماعي منشود بين جميع هؤلاء الأشخاص، ما يتيح للمعنيين تفسير الرموز التي باتوا يفهمونها. "تُرسَم" الطرقات أيضاً بالمعنى الاجتماعي، عن طريق التكرار المتواصل لرحلات الهجرة: فهم يتركون، على غرار الشخصية الخرافية "عقلة الإصبع"، علامات صغيرة خلفهم ليستدلّ بها الآخرون. يُتيح نشر المعلومات بهذه الطريقة للمهاجرين اكتساب بعدٍ من أبعاد الدراية البدوية، ألا وهو إنشاء وسيلة تواصل من خلال ترسيم الطرقات أو شقّ طرقات جديدة ليكون بالإمكان العثور عليها من جديد ولمساعدة المهاجرين الجدد على الاستدلال. هؤلاء "المغامِرون"[1] هم بدو من الزمن الحديث أسمّيهم "مهاجرين مترحّلين".

الترانزيت، مفهوم صنعته سياسات الهجرة الأوروبية

من أجل أن تستمر هذه المعلومات في التدفق، ثمة حاجة إلى بؤر مرحلية يحطّ فيها هؤلاء "المغامِرون" رحالهم لتصويب بوصلتهم والعثور على كل المعلومات والروابط والموارد (الاقتصادية والاجتماعية والرمزية) الضرورية من أجل البقاء والاستعداد للمرحلة المقبلة في رحلتهم. في حالة الأفارقة الذين وصلوا إلى المغرب من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء ويريدون الذهاب إلى أوروبا لكنهم يشعرون بأنهم "عالقون"، قد تُعطى الأولوية، من الناحية السوسيولوجية، لمشاريع الهجرة الأولى أو على الأقل لمشاريع الهجرة المعروفة من الأشخاص. وقد يكون هناك ميلٌ أيضاً إلى تحويل هذا النوع من الهجرة إلى مجرد "ترانزيت" والحديث عن المغرب بأنه "محطة ترانزيت"، وعن هذه الحركة بأنها "هجرة ترانزيت"، وعن هؤلاء الأشخاص بأنهم "مهاجرون ترانزيت أو عابِرون". لكن من الأجدى بنا، في هذا السياق البحثي، أن نبتعد عن هذه المصطلحات التي تُعتبَر، من ناحية فهمنا السوسيولوجي، غير مُرضية إنما أيضاً مبهَمة سياسياً إلى درجة كافية لتضليل الباحث.

مصطلح "ترانزيت" غير ملائم فعلاً لسوسيولوجيا الهجرة نظراً إلى تعريفه الضيّق إلى حد ما من وجهة نظر مكانية-زمانية. في رأينا، "الترانزيت" هو في شكل أساسي الوقت الذي تمضيه في التطواف. مثالٌ على ذلك عندما تنتظر انطلاق الطائرة في مبنى مطارٍ دولي، فتتجوّل تائهاً ومشوَّشاً بسبب فارق الوقت، وتحدّق مدهوشاً عبر واجهات المتاجر في المنطقة الحرة. يفترض هذا المصطلح أيضاً حقائق ذاتية تختلف بحسب ما إذا كنت مهاجراً أو صحافياً أو سياسياً أو محامياً، أو حتى وفقاً للبلد الذي تجد نفسك فيه. هذا الفهم الضيّق للترانزيت يتطابق مع المكانة التي يشغلها اليوم في مجتمعاتنا، سواءً كموضوع للنقاش من جانب "الخبراء" أو كمسألة مطروحة على النقاش العام.[iii] مثلاً، في أوروبا، يُستعمَل مصطلح "بلاد الترانزيت" عادةً، وبطريقة مثيرة للاستغراب، للإشارة إلى تلك البلدان الواقعة على أطراف الاتحاد الأوروبي، ما يعزّز أكثر فأكثر الافتراض بأن هذه البلدان غريبة عن الاتحاد، كما يعزّز فكرة أن هناك حدوداً "طبيعية" تفصل الاتحاد الأوروبي عن باقي العالم. لكن لا بد من أن نتذكّر أن بلداناً على غرار إسبانيا وإيطاليا كانت تُعتبَر محطات ترانزيت في التسعينيات قبل أن تصبح مراكز مهمة لاستقبال المهاجرين. كما أن بلداناً كانت تُعرَف سابقاً ببلدان "الترانزيت"، مثل قبرص ومالطة، تغيّر وضعها لمجرد انضمامها إلى الاتحاد، فتحوّلت إلى "بلدان المحطة الأولى لدخول الاتحاد الأوروبي"، على الرغم من أننا نعلم أن أكثرية المهاجرين لا يرغبون في الاستقرار هناك ويحاولون دخول منطقة شنغن!

لهذا السبب من جملة أسباب أخرى نفضّل مفهوم المحطة المرحلية لأنه يعبّر في شكل أفضل عن تعقيدات طرقات الهجرة، ولا يختصر عملية الانتظار بـ"لا مكان" حيث يكون التفاعل ضئيلاً قبل انتقال المهاجر إلى وجهته النهائية. بل إن المحطة المرحلية هي فترة زمنية أطول وأكثر تعقيداً تمتلك التفاعلات الاجتماعية والاندماج الاجتماعي خلالها القدرة على إحداث تحوّل لدى المهاجرين والمراقبين على السواء، أو على الأقل التأثير فيهم. تجمع هذه المحطات بين أشخاص لا يعرفون بعضهم بعضاً؛ أشخاص طوّروا مشروع الهجرة الخاص بهم بصورة فردية ومستقلة داخل بيئتهم الاجتماعية، إنما ينبغي عليهم الآن التفاوض والتنظّم جماعياً. تجمع هذه المحطات معاً جميع الأفرقاء في العملية الذين يمكن التمييز بينهم من خلال أصولهم وتطلعاتهم: هكذا تتحول الهجرة الممرحَلة العابرة للأوطان إلى أداة للقيمة حيث ينبغي على الأفرقاء المتنقّلين تحقيق التماسك؛ لأنه مثلما أن الحياة والمسارات البيوغرافية مصنوعة من انتكاسات ومطبّات وإحباطات وتكيّفات، ليست مسارات الهجرة سهلة وسلسة وغالباً ما تعترضها عوائق. في الحالة التي تعنينا في هذا المقام، هذه المسارات تحكمها شبكات عابرة للأوطان تتأثّر بسياسات ضبط الحدود التي تنتهجها البلدان، لا سيما الأوروبية منها. لذلك على المهاجرين أن يتنظّموا من جديد، ويستنبطوا استراتيجيات خلال إقامتهم في المحطات المرحلية من أجل التصدّي للسياسات الرادعة، فيكشفون بالتالي عن قوة شبكاتهم الاجتماعية. في هذه المحطات، من الضروري أن يكتسب المهاجرون من أفريقيا جنوب الصحراء الذين هم أشبه بالبدو والذين يُعزَلون عن المجتمعات التي ينتقلون إليها، الدراية والمهارات الاجتماعية خلال عملية الانسلاخ عن الأرض (de-territorialisation) والإقامة في أرض جديدة (re-territorialisation)، وعملية الانخراط في علاقات اجتماعية جديدة وفك الارتباط عنها. يُشجّع ذلك على الابتعاد نوعاً ما عما يُسمّى الانتماء "الإثني"، الذي غالباً ما يعتبر الباحثون أنه مُبرَم لا رجوع عنه ولا يمكن تخطّيه.

السرّية مصيراً مشتركاً: المواجهة العنيفة بين المهاجر والدولة

أولاً، لا يسعنا سوى أن نبدأ بالتشديد على أن تيارات الهجرة التي نواجهها اليوم في أجزاء مختلفة من العالم يجب أن تُفهَم على ضوء التأكّل الصاعق للحدود السياسية للديمقراطية، وهي حدود يثير وجود المهاجرين الأجانب علامات استفهام حولها. على مستوى الكرة الأرضية، الرغبة في التحرر الفردي والمنطقيات الكامنة خلفها، وكذلك الاستراتيجيات التي توضَع لتحقيق تلك الرغبة، تُظهر درجة إعادة صياغة المنظومة الاجتماعية التي أرستها الدول القومية. فهذه المنظومة خضعت لتغييرات عميقة بحكم الديناميات، كما يطبعها النزوع المتزايد نحو الفردانية في الحياة الاجتماعية، وتكوين أشكال مدمَجة جديدة للحياة الجماعية، حيث تتقاطع المنطقيات الجماعية والفردية في أماكن تزداد تعقيداً، خارج المؤسسات الوطنية وأطر إنتاج الهوية في معظم الأحيان. في ما يختص بالهجرة العابرة للأوطان في حالة المهاجرين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، يجب أن نضع نصب أعيننا أننا في حضرة منطقَين متعارضَين يخوضان مواجهة حقيقية: منطق الدولة في تناقض مباشر مع منطق التحرر الفردي. في وجه منطقيات الأمن والسيادة التي تفرضها الدولة "من فوق"، يشعر الأفراد بالحافز للتصرّف بعيداً من الإملاءات، من القواعد التي يعتبرون أنها مفروضة عليهم. وفي خطوةٍ تتعارض مع سيادة القانون التي تطبّقها الدولة، تعتبر جماعات المهاجرين المترحلين أنه من حقّها استخدام المساحات التي تركتها الدولة شاغرة ولم تفرض سيطرتها عليها، أقلّه خلال الفترة الزمنية التي يحتاجون إليها لإعادة التنظّم والبدء من جديد. يُفلت هؤلاء المهاجرون المترحلون إلى حد ما من العزلة التي تفرضها عليهم الدولة عبر تعلّم عبور الحدود، جميع الحدود: تلك التي ترسمها الدول السيادية، كما تلك التي تحدّدها العلاقات الاجتماعية. يبدو المهاجرون المترحلون المعروفون بـ"المهاجرين خلسةً"، الذين لا يمكن اختزالهم بمنطق الانتماء إلى محلّة معينة ومنطق الحالة السوّية، وكأنهم مصدر تهديد في عيون الدولة القومية التي تستند سلطتها إلى الأرض والمركزية والركون في مكان واحد.

ثانياً، لا بد من التذكر أنه على مستوى سياسة الدولة، يتم عادةً تجاهل البعد الفردي للهجرة. تبدو رغبات المهاجرين وطموحاتهم ومشاريعهم واستراتيجياتهم غير مهمة، في سياسات الهجرة (تلك المتعلقة بالتوظيف والدخول)، كما في السياسات التقييدية التي تسعى إلى وقف الهجرة أو تنظيمها. غالباً ما نميل إلى النظر إلى الهجرة بأنها ظاهرة محض جماعية. تمتلئ اللغة اليومية بعبارات تشير إلى "التدفقات" و"الموجات" و"الاجتياحات" و"الأفواج" و"الاعتداءات". لكن على غرار عدد كبير من الظواهر البشرية الأخرى، يُنظَر إلى الهجرة في البداية بأنها مشروع فردي. لاحقاً، تصبح الهجرة نتيجةً من نتائج تفاعل متواصل بين القرارات الفردية والطموحات الشخصية؛ بين ظهور مشروع الهجرة من جهة، والقيود الاجتماعية التي تلقي بعبئها على هذا المشروع والبيئة التي يحدث فيها من جهة أخرى. ليس الكائن البشري أبداً مجرد بيدق على لوحة لعب لا يُسيطر عليها؛ ليس الكائن البشري أبداً مجرد ضحية. إنه أيضاً مخطِّط استراتيجي لنفسه ولأحبّائه، في سعيٍ مستمر وراء الخطوة التالية التي ستساهم في تحسين أوضاعه. يحاول بلا كلل أن يحصل على موقع له بحسب منطقيات الفعل الذي لا يمكن فهمه بدقّة انطلاقاً فقط من واقع الولاء للمنظومات الاجتماعية القائمة، أو الولاء لمنظومات أخرى مدرَجة في الدستور: فهذه المنطقيات ليست منطقيات الهرميات المحلية للدولة القومية فقط، ولا منطقيات إعادة تكوين الأرض والعولمة الاقتصادية للرأسمالية.

تسلّط هذه المقاربة الضوء على خاصّية من خصائص الهجرة تزداد انتشاراً على المستوى العالمي، وتتمثّل في الهجرة خلسةً بوصفها غاية مشتركة. السياسات المنهجية لقمع ما يُسمّى الهجرة "غير النظامية" لا تُحرّك ساكناً لتلبية الاحتياجات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعبّر عنها هؤلاء الفاعلون المتنقّلون، حتى إنها تنكر أحياناً حقوقهم الأساسية، لا بل تفتقر أيضاً إلى الفاعلية نظراً إلى أن المهاجرين المترحّلين يعرفون كيف يستخدمون الحدود لتنظيم شبكات عبور، أو تأسيس أنشطة تجارية سرّية. فالمهاجرون المترحّلون يواجهون السياسات القمعية من خلال معارفهم وقدرتهم على التكيّف مع أدوات السيطرة عبر إعادة تنظيم أنماط تحرّكهم، و"درايتهم في عبور الحدود". غالباً ما تساهم هذه السياسات القمعية في دفع المعابر الحدودية نحو الخلف، فتجعلها أبعد مسافةً عبر إضفاء طابع خارجي على الضوابط. وهكذا يصبح "عبور الحدود" ممارسة محفوفة بالمخاطر باطّراد وتتوالى فصولاً حتى بعد اجتياز الحدود الأوروبية، ما يتسبّب بزيادة حصيلة الضحايا: فأعداد من يقضون نحبهم وأولئك الذين يتعرّضون للإصابات تصل إلى الآلاف. تفرض أوروبا حجراً صحياً على أفريقيا. وهكذا يقع المهاجرون المترحّلون ضحايا سياسات مفروضة "من علُ"، على أيدي تكنوقراط لا يفهمونهم ويعاملونهم كالمنبوذين غير المرغوب فيهم. إنهم ضحايا الأسيجة التي تزداد علوّاً، وضحايا التكنولوجيات والقوى البشرية التي تعترض طريقهم. باختصار، إنهم ضحايا حربٍ تُشَنّ ضدهم.

من هذا المنطلق، وبدلاً من أن تحاول السلطات تطبيق السياسات القمعية للحكومة المركزية، تلجأ إلى ضبط حركة المهاجرين بصورة محدّدة: يُمنَحون، بطريقة غير شرعية، فرصة القيام بعمل غير نظامي. وهكذا يواجه هؤلاء وضعاً قانونياً واجتماعياً هشّاً يتيح للقطاع الزراعي استغلالهم بطريقة أفضل، من دون أن تتكبّد الدولة تكلفة كبيرة، لكن يُصوَّر هذا الواقع بأنه يُقدّم فرصة للمهاجرين الذين لا يملكون أوراقاً قانونية. إذاً ليس عبور المهاجرين العامل الوحيد الذي يؤدّي إلى تقويض حدود الاتحاد الأوروبي إنما أيضاً عبور أفرقاء آخرين تتعارض مصالحهم مع مصالح الدولة. والنتيجة التي تُفضي إليها هذه التناقضات هي ضم المهاجرين عن طريق الوجود السرّي غير الشرعي، بدلاً من وضع حد نهائي لترحالهم.

فتح تصدّعات في منظومة الهجرة الأوروبية-الأفريقية

لقد تسبّبت الأشكال المختلفة من الحراك السياسي العابر للأوطان في اتّساع التصدّعات في منظومة الهجرة الأوروبية-الأفريقية. والسبب هو أنه فضلاً عن عولمة الاقتصاد والهجرة، يتصدّى تحوّل أساسي آخر في العلاقات الدولية لقدرة الدولة على ضبط الهجرة، ويتمثّل في العدد والنفوذ المتزايدَين للنُّظم القضائية المعنية بحقوق الإنسان، وفي النضال المستمر للنشطاء الذين يسعون جاهدين لفرض هذه النظم على الدول الممانِعة.[iv] إذا انزلقت حدود الاتحاد الأوروبي المتبدِّلة نحو المغرب العربي، مجرِّدةً عدداً كبير من المهاجرين من حقّهم في التمتّع بالحقوق، فإن حركتهم في ذاتها تفسح في المجال أمام إمكانية مقاومة هذه الحدود بفاعلية والاعتراض عليها، وسوف يتم ذلك في معظم الأحيان عبر استخدام القيم الديمقراطية التي ينادي بها الاتحاد الأوروبي. يؤدّي المهاجرون الذين نتحدّث عنهم في هذا المقام، والذين أسمّيهم المهاجرين المترحّلين، دوراً محورياً في هذه التعبئة العابرة للأوطان، فمنذ هدم المخيمات غير النظامية وترحيل أعداد كبيرة عام 2005، عمدوا بصورة مطّردة إلى التنظّم على المستوى السياسي، وهذه خطوة سهلة نسبياً لأنهم كانوا منظَّمين اجتماعياً. وقد شكّلوا جمعيات نضالية على غرار "مجلس مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء في المغرب" (ARCOM) أو "تعاونية اللاجئين".[v] عبر الحفاظ على روابط وطيدة خارج الحدود، مثلاً عن طريق المراسلات الإلكترونية، شكّل المهاجرون المترحّلون من أفريقيا جنوب الصحراء، والنشطاء الأوروبيون شبكة مقاومة عابِرة للأوطان.[vi] في إطار هذه الشبكات المنظَّمة حول هدف سياسي مشترك، يجري تبادل المعلومات والخدمات من أجل تعزيز احترام حقوق الإنسان وقانون اللجوء، والمطالبة بالحق في حرية التنقّل. يُسلّط ذلك الضوء على إعادة تشكيل سياسية اجتماعية أخرى تتبلور داخل العولمة: تظهر أشكال جديدة من الانتماء والعمل السياسي حول قيم حقوق الإنسان وفي تجربة النضال المشترك للحصول عليها، وذلك في مواجهة المواطنة المرتبطة بالوطن وبإقليم معيّن وعبرها وأبعد منها.

حاولت عبر هذه السطور أن أُبيِّن زيف "هجرة الترانزيت" و"أسطورة الاجتياح". ليست هجرة سكّان أفريقيا جنوب الصحراء القادمين إلى المغرب العربي حركة مباشرة وعنيفة بحسب ما توحي به صورة "الاجتياح"، بل تطوّرت وفقاً لخطوط معقّدة على امتداد فترات زمنية طويلة، وقد وجدوا ملاذاً مؤقتاً في لحظات معيّنة خلال هذه العملية. وفي خضم ذلك، ولّدوا أشكالاً جديدة من التنظيم الاجتماعي المنسلخ عن الأرض والذي تنبثق منه جمعيات كوزموبوليتية جديدة. لكن لا تستطيع سياسات الهجرة، مهما كانت على قدر من العسكرة، وقف "مغامرتهم". فحرَكتهم لا تحكمها مؤسسة واحدة، بل تطبعها سياسات هجرة متعددة ومتباينة. يجب أن نستبدل صورة الإغلاق التام التي توحي بها عبارة "أوروبا الحصن" بصيغةٍ أكثر تعقيداً. إذا كان الاتحاد الأوروبي حصناً، فجدرانه مليئة إذاً بالتصدّعات، المتحرّكة والمنتشرة، الانتقائية والملتبسة؛ ووحدته يقوّضها أفرقاء متعدّدون ومتناقضون. عند تحويل تركيزنا من الهجرة نحو أشكال أخرى من الحرَكية (حركة الكائنات البشرية إنما أيضاً حركة الرساميل والسلع جنباً إلى جنب مع قمع الهجرة وقمع نشطاء حقوق الإنسان)، نرى منظومات متعددة من الحرَكية قيد العمل، وتشكّل "مناطق" مختلفة إنما متداخلة ومتقاطعة ذات بعدَين مادّي ورمزي، وهي لا تتناسب بالضرورة مع حدود الدول القومية ولا تخضع للاختصاص القضائي. علينا بالضبط أن نفكّك خيوط هذه العلاقات الفوضوية إذا أردنا أن نفهم الأفرقاء والآليات التي تحدّد مَن يستطيع التنقّل وكيف.

مراجع إضافية

 

Alioua, M. (2009) ‘Le passage au politique des transmigrants subsahariens au Maroc.’ In A. Benssaâd (éd.) Le Maghreb à l’épreuve des migrations subsahariennes, Karthala : 279-303.

Bensaâd A. (éd.) (2009) Immigration sur émigration, le Maghreb à l’épreuve des migrations subsahariennes, Karthala : 195-214.

Clochard, O. (éd) (2009) et réseau MIGREUROP, Atlas des migrants en Europe. Géographie critique des politiques migratoires. Armand Colin.

GADEM, La chasse aux migrants aux frontières Sud de l’UE: conséquence des politiques migratoires européennes. L’exemple des refoulements de décembre 2006 au Maroc. [Available to download at : http://www.migreurop.org/IMG/pdf/RAPPORT_GADEM_20_06_2007.pdf].

Glick Shiller, N., L. Bash; C. Szanton Blanc, (1995) ‘From immigrant to transmigrant: Theorizing transnational migration’, Anthropological Quarterly, 68: 54.

MIGREUROP, Guerre aux migrants. Le livre noir de Ceuta et Melilla, 2006. [Available to download at : http://www.migreurop.org/IMG/pdf/livrenoir-ceuta.pdf].

Rodier, C. (2006) Analyse de la dimension externe des politiques d'asile et d'immigration de l'ue. Synthèse et recommandations pour le Parlement européen, Direction générale pour les politiques externes de l'Union, Bruxelles, 26p.

Tarrius, A., (1989) Anthropologie du mouvement. Paradigme éd.

 

[1]  "المغامرة" هي التوصيف الذي يحلو للـ"مغامرين" إطلاقه على هجرتهم. وكونهم يصفون أنفسهم بهذه الطريقة يعزّز الطبيعة الجماعية لهذه الهجرة ويجعل من الممكن تقويمها.

 

[i]  Bredeloup, S., and O. Pliez. (ed.) (2005) Migrations entre les deux rives du Sahara, Volume 4, n°36.  Autrepart, Armand Colin et IRD-éditions.

[ii]  Alioua, M. (2005) ‘La migration transnationale des Africains subsahariens au Maghreb. L’exemple de l’étape marocaine.’ In Marges et mondialisation : Les migrations transsahariennes, n°185, Maghreb-Machrek.

[iii]  Morice, A. (2009) ‘Conceptualisation des migrations et marchandages internationaux.’ In A. Bensaâd (éd.) Immigration sur émigration, le Maghreb à l’épreuve des migrations subsahariennes. Karthala : p.195-214.

[iv]  Sassen S. (2007) A Sociology of Globalization, Contemporary Societies Series. New York: W. W. Norton & Company.

[v]  Alioua, M. (2005) ‘La migration transnationale des Africains subsahariens au Maghreb. L’exemple de l’étape marocaine.’ In Marges et mondialisation : Les migrations transsahariennes, n°185, Maghreb-Machrek.

[vi]  Urry J. (2000) Sociology Beyond Societies: Mobilities for the Twenty First Century, International Library of Sociology Series. London: Routledge.