تخبرني أختي التي لم أرها منذ أكثر من سنتين بأنها ستعبر البحر في قارب مطاطي، تغلق الهاتف ولاتريد سماع رأيي. تكتفي بكلمات عاطفية عميقة، وتوصي بأبنائها الثلاثة في حال غرقها. بعد دقائق حاولت الاتصال بالرقم التركي الغريب لكنه كان مغلقاً. تداعت إلى ذاكرتي مئات من صور طفولتنا، إذ ليس سهلاً وداع نصف قرن من عمرك، وانتظار غرق من تحبهم. شعرت بأطرافي باردة، ورأسي فارغا، ولاقدرة لي على النقاش أصلاً. ماذا تستطيع أن تقدم لإمرأة خسرت منزلها وكل ماتملك، ولاتريد خسارة أبنائها، فحملتهم في رحلة شتات في المدن التركية باحثة عن مأوى آمن، والوضع في تركيا لم يكن سهلاً لإمرأة مثلها تشبه ملايين السوريات ولاتملك مهارات خاصة، لم يبق سوى أمل اللجوء حتى لو كان ذلك يقتضي عبور البحر في قوارب مطاطية، كأنها تعلمني ماأعرفه بأنه لاأمل للسوريين سوى البحر.
قد تكون أختي محظوظة، لأنها لم تغرق، ووجدت من ساعدها من أصدقائنا في اليونان، وباقي المدن التي عبرتها، لكنها بالتأكيد لن تتحدث عن القصص المؤلمة التي عاشتها مع مهربين نهبوا أموالها القليلة، وتركوها فريسة للضياع على أرصفة المطارات، ومع ذلك وصلت إلى هدفها أخيراً ووجدت في الدانمرك مجموعة من أصدقاء قدمت لها يد العون، بينما غرق باقي المغامرين في لحظة لايمكن تخيل مرارتها، قد تكون للموت ألوان كثيرة لكن أكثرها دكنة وسواداً هو الموت غرقاً: أن تتحول إلى طعام لأسماك البحر، وتذوب كملح في حوض ماء.
في الأيام التالية تلقيت الإتصالات نفسها من أخي الأصغر، الذي خرج من منزله في حلب إلى مرسين، حيث ترك عائلته، وركب البحر وحيداً في رحلة شاقة امتدت إلى اليونان ثم إيطاليا ليصل أخيراً إلى السويد، ولم تتوقف الإتصالات نفسها من أقرباء مقربين كأبناء أخواتي وأخوتي وأصدقاء يخبرونني فيها بأنهم في الطريق إلى البحر، لم أعد أسأل عن تفاصيل الرحلة أو الدجول في نقاش معهم، حيث صرت أتمنى لهم السلامة ورجاء طمأنتنا عن سلامتهم، مئات الآلاف من السوريين يفكرون بالطريقة ذاتها، وفي المقاهي في المدن التركية يتبادلون أرقام المهربين، والمعلومات عن أفضل الطرق، وينشرون ذلك علناً في الفيس بوك وعبر مجموعات مفتوحة ومغلقة، لقد اصبح الحديث علنياً.
أتذكر أنني سافرت في صيف 2015 من دمشق إلى استنبول عبر مطار بيروت، فأثار إنتباهي نوعية الركاب الذين ينتمون جميعهم إلى شكل واحد تقريباً، مجموعة كبيرة من الشبان الذين لم يتجاوزوا العشرين من عمرهم، ومجموعة نساء وحيدات مع أولادهن، بدوا لي بأنهم رفاق طفولة أو أقرباء، فقد كان واضحا من أسئلتهم بأنهم يسافرون للمرة الأولى خارج الحدود، بعد مغادرة الطائرة مطار دمشق تنفسوا الصعداء، وبدأوا يتحدثون بصوت عال عن الخطط المقبلة، إنهم مسافرون إلى استنبول ثم سيتجهون في طيارة أخرى إلى أقرب مدينة من الحدود اليونانية، أغلب أولئك الشبان كانوا هاربين من الخدمة العسكرية، ويتمتعون برفاهية ركوب الطائرة للمرة الأولى، ويبدو أن أمرهم كان معداً بشكل مسبق، حيث لاحظت وجود رجل أربعيني زودهم بالتعليمات الضرورية بعد إقلاع الطائرة من مطار دمشق إلى مطار بيروت، وفي ترانزيت مطار بيروت تكرر الأمر نفسه، حيث كانت النسوة يتلقين التعليمات نفسها، فكرت في هؤلاء اليافعين الذين لم يبق لديهم أي أمل في الخلاص سوى ركوب البحر، الأمر لم يكن غريباً علي لكنه طريف رغم ألمه الشديد، أن تقرر مجموعة أصدقاء الهجرة بشكل جماعي، تذكرت أحلامنا حين كنا صغاراً نتواعد كمجموعة أصدقاء على الإخلاص الأبدي، ونخطط لحياتنا بشكل جماعي، وهؤلاء الشباب قرروا العيش معاً أو الموت معاً، عيونهم تشي بالخوف لكنهم كجماعة كانوا أكثر شجاعة، تأملتهم في بحثهم عن المؤازرة في مواجهة الوحش المقبل.
لقد غادر أغلب اصدقائي البلاد، وأصبحوا لاجئين، ولم يبق لي سوى البحث عن أسماء المفقودين والغرقى، ومتابعة عناوين رفاقي الجديدة. كلما غرق مركب أجدني أدور كالمجنون في مكاني، وأبحث عن أية معلومة، عن قوائم الأشخاص الغرقى وعن أي معلومة عنهم، مدنهم، قراهم، أسماء عائلاتهم، صورهم، وفي ذلك العام 2015 أستعدت نفس هستيريا البحث عن وجوه أصدقائي المعتقلين في صور الموتى المسربة من داخل سجون النظام، والتي عرفت بإسم صور القيصر، أدقق في الوجوه الغائبة، لدي عشرات الأصدقاء المفقودين الذين لانعرف أي شيء عنهم، لاخبر، لارسالة شفوية، لاأحد رأهم أو يمتلك أية معلومة عنهم، أدقق في الصور، وحين ينتابني الشك أحاول تذكر باقي التفاصيل، شامة على الخد، جرح في الركبة، لكن أيضاً لاجدوى، البحث عن الغرقى أو الموتى وانتظار عودة المعتقلين فعل عبث لايضاهيه سوى فعل العيش في مدن تنتظر دورها في التدمير.
لم تتوقف أسراب المغادرين، إلى درجة بأننا في عامي 2013 و2014 كنا ننظم حفلات وداع جماعية لأصدقائنا الذين سيتركوننا إلى المجهول، لم نعد لنقاش الخيارات، أو تقديم خبراتنا في المدن التي نعرفها، أصبح الخروج من البلاد وباء اجتاح حياتنا، بدأت الأمكنة تفرغ من روادها، كل شيء يتغير بسرعة شديدة، شوارع المدينة أصبحت خاوية، والنوافذ منطفئة الأضواء، والهواتف لاتجيب، كل شيء ينذر بكارثة مقبلة، يتحسسها الجميع، أصبحت أعاني من فقدان عميق لأصدقائي، لكن لاجدوى، أنا ومن تبقى في الداخل منشغلون بالحفاظ على حياتنا، لم نعد نفكر بمن سيرحل، بل تحول السؤال إلى متى سترحل؟، أو أما زلت هنا؟ لأول مرة نشعر بطعم الفراق الجماعي.
في بادئ الأمر لم أكن أصدق بأنهم لن يعودوا جميعاً، كنت أعتقد بأن خروجهم سيكون مؤقتاً لكنني الآن بعد هذه السنوات رتبت حياتي على غيابهم، فقد امتلأت مساحة الفراغ الذي تركوه بفراغ آخر، لم أعد أفكر في صورتهم الجديدة، إذ لايمكن لأحد مثلي يعيش طوال الوقت مع شخصيات يخترعها على الورق، ويمجد الخيال، ان يشعر بالعجز، إلى درجة أنني ازددت تمسكاً بحياتي هنا، بدأت أخاف من عدوى وباء النزوح التي تفشت مع اليأس الذي أراه كل صباح في وجوه الناس، أسأل نفسي لو دمر بيتي هل سأبقى هنا، لاأعرف جواباً لكنني في الآونة الأخيرة بدأت أتأقلم مع الفكرة، نعم سأبقى، ولكن لماذا؟، لا أعرف الجواب، أو أخجل من حقيقة أنني أريد التشبث بالمكان الذي أعرف رائحته جيداً، إنها في النهاية أوهام كاتب وحيد، لم يعد لديه مايخسره بعد تأمل طويل لخسارات شعب حاول أن يستعيد بلده فخسره بالكامل، كأن ضريبة استعادته لحريته وكرامته تدفع عن كل حجر وكل ركن وكل شجرة، لايمكن للسوريين إذن إستعادة بلدهم من أنياب الديكتاتورية التي عاشوا خمسن عاماً في ظلها، وأبدعوا طرقاً لامتناهية لمقاومتها، للتعايش مع صدئها، أقلها الصمت، والإنتظار، مدافعين عن ثقافة مدنية عمرها آلاف السنين.
في السنوات الماضية تلقيت دعوات كثيرة وسافرت عبر العالم، والتقيت سوريين مهاجرين منذ سنوات طويلة، تأملت حياتهم وأيقنت بأن اللاجئ يخسر هويته لكنه لايكتسب هوية جديدة، وكانت فكرة التخلي عن مجموعة عادات صغيرة تشكل سعادة شخصية بالنسبة لي شيئا غير محتمل، أفكر بقهوتي الصباحية في منزلي، أو في المقهى مع أصدقائي قبل الذهاب الى العمل، الثرثرة، روائح المدينة، العشاءات، روائح المطر في الخريف، كل هذه الأشياء كان أصدقائي اللاجئون الجدد يقدسونها، لكنهم تخلوا عنها، وفي الأشهر الأخيرة بدأت هواتفنا ورسائلنا عبر الفيس بوك والايميل تتباعد. لم يعد هطول أول مطر في دمشق مهرجان حنين يشارك فيه مئات آلاف اللاجئين في العالم، لقد تباعدت لحظاتنا، ولم نعد نتحدث كثيراً عن مشاكل الاندماج مع ثقافة غريبة، عن فكرة بدء التخلي عن الهوية الأصلية، أتفهم إحباطهم، ومدى الصعوبات التي يعانونها، لكنني في الوقت نفسه أتفهم خوفهم علينا، نحن من إخترنا البقاء هنا والحرب تتربص بنا في كل الزوايا.
لم أتخل عن عاطفتي، ولاأريد التحدث كباحث سوسيولوجي لأن البحث في موضوع اللاجئين السوريين له مايميزه عن باقي اللاجئين، تعدد الثقافات وطبقات اللاجئين تجعل هذا الأمر يحتاج إلى مئات الصفحات، أريد هنا تقديم صور للاجئين خسرناهم، ونتمنى أن يكسبهم العالم، لكنني لست متأكداً، فالتخلي عن الهوية يشبه إقتلاع القلب من الجسد، أفكر في عائلات صديقة هاجرت بأكملها، رن هاتفي مراراً، وحدثني أب صديق لاجئ تجاوز السبعين من عمره وهو يبكي، يريد أن يتحدث مع أحد يفهم لغته فقط، ويفهم أسرار اللغة ويستمع إلى نكتة في لغته العامية العميقة، ويضحك من القلب. الضحك من القلب، إنها صورة الحياة التي يحب البشر أن يحيوها، واللاجئ عموماً لايمتلك هذا الحظ حاصة في سنوات لجوئه الأولى، لكن ذلك الرنين توقف، لقد غرق الجميع في ثقب اللجوء الأسود.
في البداية كانوا مئات، ثم آلافا، ثم مئات الآلاف والآن ملايين اللاجئين، ترعبني بعض الصور القادمة من بلدان لا ترحب باللاجئين، ترعبني صور النازيين وهم يهددون اللاجئين، ترعبني اللافتات المعلقة في بعض البلدات اللبنانية التي تحظر على السورين التجول بعد السادسة مساء، وبعض اللافتات التي تشتم اللاجئين علناً، ترعبني تلك الصحفية المجرية التي ركلت رجلاً سورياً يحمل طفله في طريق هروبه من حرب لم يخترها، ورغم ذلك منحت تلك الصحفية جائزة في الأيام الأخيرة، ترعبني تلك الصورة حين تمنح جائزة لمن يركل أبناء شعبي، أفكر في هؤلاء البشر الذين أدعي معرفتهم، افكر في آلامهم، لكنني في الوقت نفسه يصيبني الإرهاق ولا أستطيع فهم مايحدث، لا أريد الاستسلام لفكرة بأننا سنستيقظ ذات يوم لنجد المدينة فارغة، لابشر، ولابيوت مضاءة، ولاسيارات، وإذا سألنا ببساطة سنكتشف بأن الجميع ساهم في تحويلنا إلى مجتمع من اللاجئين.
تبدو الصورة غائمة وغير مفهومة لأشخاص لم يقابلوا سوريين من قبل، أو لم يعرفوا شيئاً عن تاريخ سوريا الحديث والقديم، في المئة سنة الماضية استقبل السوريون مجموعات كبيرة من اللاجئين والنازحين والهاربين من الموت. في بدايات القرن الماضي استقبل السوريون الأرمن والشيشان والألبان الهاربين من المذابح والحروب، وفيما بعد أستقبلوا أكثر من نصف مليون فلسطيني بعد نكبة عام 1948 وحرب حزيران عام 1967، وذروة إستقبال أكثر من ثلاثة ملايين نازح عراقي كانت في عام 2003 بعد إحتلال بغداد من قبل الأمريكان وسقوطها، وفي حرب تموز عام 2006 استقبل السوريون مئات آلاف اللبنانيين، ولم يغلقوا حدودهم يوماً في وجه لاجئ، منذ بداية القرن العشرين ولن نتحدث عن الهجرات القديمة التي جعلت من سوريا بلد جذب للاجئين، حيث أستوطنتها الكثير من الشعوب التي إختارتها وطناً أبدياً لها.
كما كانت سوريا طوال عمرها خلال القرن الماضي بلدا مصدرا للمهاجرين وليس للاجئين، فالهجرات الكبيرة في بدايات القرن العشرين ونهاية القرن التاسع عشر تشهد على تدفق مئات آلاف السوريين إلى الولايات المتحدة الامريكية وبلدان أمريكا اللاتينية، وهؤلاء المهاجرون سجلوا نجاحات مشهودة لأقوام مهاجرة، والإحصائية الأخيرة التي كانت متداولة في عام 2006 تتحدث عن عشرين مليون شخص من أصل سوري في العالم، أغلبهم في الأرجنتين والبرازيل، لكن الظروف التي أجبرت أولئك المهاجرين على ترك بلدانهم مختلفة تماماً عن لاجئي اليوم الذين سيكسر عددهم حاجز السبعة ملايين شخص، يعيش أغلبهم في مخيمات الأردن ولبنان ظروف بؤس وحرمان لايمكن تخيلها، أما اللاجئون في المخيمات التركية حتى لو بدت صورتهم أفضل إلا أن حجم المشاكل التي يعانونها لايمكن السكوت عليها، خاصة ما يتعلق بتعليم الأطفال، إذا أن جيلا كاملاً من السوريين سيحرمون من التعليم، ويبقى الوضع أفضل مع باقي المحظوظين الذين لم تغرق مراكبهم واستطاعوا الوصول إلى بلدان أوربية متعاطفة مع اللاجئين كألمانيا وفرنسا مثلا.
لكن لا يمكن بشكل عام مثلا تصور الكتلة الرئيسية من اللاجئين التي تعيش في مخيم كالزعتري في الأردن سوء وضعهم، وحرمانهم من أبسط حقوق الإنسان، إضافة إلى التهديد الدائم من إغلاق الحدود في وجه باقي الفارين من الحرب المستمرة.
لكن أيضاً تجب الإشارة إلى أن سوريا خلال الخمسين سنة الماضية كانت بلدا طاردا لأبنائه، فالقمع الشديد الذي فرضه النظام، والحرمان من أبسط الحقوق الرئيسية للإنسان حولت سوريا خلال الخمسين سنة الماضية في ظل حكم الأسد وإبنه إلى مملكة للخوف والهلع، والنزيف الدائم لمواهب أبنائها، مئات الآلاف من السوريين يعيشون في دول الخليج، وملايين السوريين يكملون دراستهم في الدول الاوربية وأميركا ويكملون حياتهم هناك، وإذا قرأنا الإحصائيات سنفاجأ بأرقام مرعبة لبلد صغير كسوريا " 185 ألف كيلو متر مربع / 24 مليون نسمة قبل 2011": هناك من يتحدث عن عشرة آلاف طبيب سوري في فرنسا وحدها، كما يتحدثون عن الرقم نفسه في الولايات المتحدة، وبلدان أخرى، ولم يكتف النظام بتهجير هذه المواهب العلمية بل لاحقهم إلى منافيهم ومنع تجمعهم، زرع الشك بينهم، هددهم بأهلهم المقيمين في الداخل وبحرمانهم من زيارة بلدهم الأم، مما شرذم جهود السوريين المتواصلة ليتعارفوا ويشكلوا لوبيات ضغط في البلدان التي يعيشون فيها، وكانت صور المهاجرين والمنفيين من السوريين دوماً مثيرة للشفقة، بين شعوب أخرى عاشت التجارب نفسها ولكن تمالكت نفسها وساندت بعضها البعض وساهمت في نشر ثقافتها الأصلية، ويمكن مقارنة تجربة الأرجنتين بالتجربة السورية مثلاً لإكتشاف كم كان منفى السوري صعباً وضيقاً أيضا رغم الفضاء الواسع للبلدان التي عاشوا فيها.
والشيء الذي لم يستطع السوريون فهمه حتى الآن هو تحولهم من شعب مستقبل للاجئين إلى لاجئين يعانون المرارة في كل مكان يذهبون اليه، تغلق الحدود في وجوههم، ويدقق في تفاصيل ثيابهم وخطوط أيديهم وقلوبهم، لكن المتأمل لهذا المهرجان الفظيع سيكتشف بأن العالم الذي تخلى عن السوريين بل وبارك ذبحهم وقتلهم وغرقهم، هذا العالم دوما يجد سبباً للتعاطف في صورة الطفل إيلان التي هزت العالم لأيام ثم طويت كما طوي البحث في أسباب مآساتهم وإيقافها، سيجري البحث بين الحين والآخر عن صورة مماثلة، يقدم فيها العالم لحظات قليلة من التعاطف مع شعب يعيش تحت القصف الروسي وقصف طائرات النظام الذي لم يهدأ منذ خمس سنوات، دون أن يفكروا جدياً بإيقاف هذا النزيف المتواصل، القصة أشبه ماتكون بقصة " موت معلن " إلا أن تحويل شعب بأكمله إلى لاجئين يبدو أنه هو الهدف الخفي لعدم إيقاف هذه الحرب بل ودعم استمرارها عبر خلق أعداء جاهزين لإقناع قطاعات كبيرة من الجمهور الأوروبي والأمريكي وباقي دول العالم بصعوبة حل المسألة، وليس خلق داعش إلا دلالة فظيعة على التخلي عن الواجب الأخلاقي لدعم الشعوب في سعيها نحو الحرية والديمقراطية.
رغم أن الثقافة الاوربية والحداثة قامت على السؤال كفعل رئيس، إلا أن السؤال هنا أصبح محرماً، لم يسأل أحد من خلق تنظيما فاشيا ورهيبا ومجرما كداعش، من موله، من سهل إحتلاله لمدن بأكملها، من الذي تغاضى عن أسرابه وقطعانه التي تقطع الصحارى بين مدينة الرقة السورية والموصل العراقية، بانتظام تسير سيارات هذا التنظيم وفي قوافل طويلة، تتصرف كدولة لها كيان يقوم العالم بإحترام سيادتها. عدم توجيه هذه الأسئلة اليوم وبشكل جدي سيدمر كل قيم المدنية التي دافعت عنها البشرية ودفعت أثماناً هائلة لترسيخها، وأقصد قيم العدالة والمحاسبة على جرائم الحرب، والديمقراطية وحق تقرير المصير. وهذا ماحدث، لقد تخلت البشرية عن كل قيمها، هناك الآن غول رهيب إسمه داعش يجري الحديث طوال الوقت عن تدميره، وصعوبة هذا التدمير، وهو أحد أسباب تدفق ملايين اللاجئين، وإفراغ بلدان بأكملها من سكانها الأصليين، ومن الممكن في القريب العاجل أن تصبح فكرة إحلال إثنيات وقوميات وطوائف مكان طوائف وإثنيات أخرى عملاً مقبولاً أو ثمناً لإيقاف الحرب وسفك دماء الأبرياء من المدنيين، دون الحديث عن دور النظام وحلفائه.
القضية في سوريا ليست قضية لاجئين، بل قضية شعب بأكمله يجري تحويله إلى قتلى أو لاجئين، والصمت الذي يعم العالم ومجموعة الأكاذيب التي يتداولها رؤوساء الدول خاصة الغربية عن ضرورة حماية المدنيين وعدم إفراغ السكان الأصليين من مدنهم وقراهم تشبه تلك البيانات التي كانت تصدر دوماً لراحة ضمير من يصدرها ويتبناها دون أن يقوم فعلا بممارسة دوره الفاعل والقادر فعلا على ايقاف الحرب وإحالة المجرمين الى العدالة الدولية.
لايمكن للصور أن تتلاشى بسهولة، كما لايمكن لي الإكتفاء بلقاء أولئك الاصدقاء الذين خسرتهم حين أزور مدنهم الجديدة، مازلت أذكر أثناء وجودي في أوسلو عام 2013 صديقة لاجئة دخلت إلى مكان ندوتي، لم تحتمل فبكت بمرارة طوال وقت الندوة، وأنا ايضاُ لم أحتمل رؤية دموعها، توقفت الندوة لدقائق ولكن إذا كان من الممكن الحديث عن ذلك فإن من الصعب شرح الرسائل المتبادلة بيننا، كما من الصعب شرح مرارة التهجير التي تعني إقتلاع شخص من مكانه. لم يختر الكثيرون حياتهم الجديدة لكنهم اضطروا اليها، حيث ستعيش الأغلبية على المساعدات المقدمة اليها في بلدان اللجوء، والكثيرون سيعيشون من أجل تربية جيل جديد صالح ومتأقلم مع حياته الجديدة، وفي الوقت نفسه لايعرف معنى الحياة القديمة التي عاشها آباؤهم وأمهاتهم، حياتان ستتجاوران ولن تندمجا مهما حاولتا الاندماج، ولن تنتهي القصة حتى يموت كل الشهود، حتى يموت الأباء والاجداد، ليعيش الأطفال اللاجئون في سلام في بيئتهم الجديدة، مستمتعين في الإنتماء إلى هويتهم المكتسبة، لكن حتى يموت هؤلاء الشهود يجب أن نتخيل حبل الألم الذي سيمتد من برلين وباقي المدن الالمانية والفرنسية والتركية والاسكندنافية الى مدن وحارات سوريا جميعها.
الآن حصل أخي على حق لم شمل أسرته، وهو لايخفي سعادته لانتهاء ألم الفراق، ويتعلم السويدية التي أشك بأنه سيتعلمها وهو يقترب من عامه الخمسين، وأختي تتعلم اللغة الدانمركية وفي أفضل الأحوال ستتعلم عشرات الجمل التي تعينها على شراء باقات البقدونس لصنع أطباق التبولة التي تبرع بصناعتها، وشرح ذلك لجيرانها الذين لن يزوروها، ولن يسألوا عنها في حال ماتت وحيدة، لن يثير ذلك اي شيء، بينما يعني ذلك في ثقافتنا العار لكل العائلة التي تركت أحداً من افرادها يموت وحيداً.
وباقي أصدقائي يحاولون بشتى الطرق طمأنتنا بأنهم في منافيهم الجديدة سعداء، بينما الباقون هنا يتساقطون فرداً فرداً، عائلة عائلة إلى درجة بأن فكرة المدينة الفارغة قد تصبح حقيقة بعد عدد قليل من السنوات، رغم يقيني بأن اللاجئ شخص منزوع الهوية تماماً، لن يستطيع الحصول على هوية جديدة ولن يستطع نسيان هويته القديمة، إنه عيش في الفراغ. لكنه عيش وحياة مؤلمة مهما حاولنا تجميلها.