المثقفون السوريون: بين مثقف السوزوكي ومثقف الطائرة
بعيداً عن الأمنيات والأحلام الوردية، لم يكن ممكناً أن تكون الثورة السورية غير تلك التي ابتدأت في 15 آذار من العام المنصرم. لسنا في زمن الأيدلوجيا التي تُخرج الملايين من جيوبها إلى الشوارع، كما لسنا في زمن النخب القيادية والتفاف الجماهير حولها. الشعب السوري المقموع لما يقارب النصف قرن قرَّر أن ينتفض في لا رمزية زمانية ومكانية محددتين. هكذا من درعا ستكون الشرارة الأولى إلى حمص وحلب مرورا بدمشق وبقية المدن السورية. ستمتلئ الشوارع والساحات وتُرفع الشعارات العفوية لتقول للاستبداد "إرحل"، ويبدأ الشعب السوري أولى محاولاته كي يكون شعبا له إرادة خارج مؤسسات البعث المهترئة.
ومنذ 15 آذار وحتى اليوم مازالت الثقافة السورية تنكشف أكثر للسوريين ويتكشف معها مثقفيها وحملةُ شُعلتها. اللحظة الأولى في دمشق القديمة والتي كان فيها عدد من الشبّان المنتمين إلى حقل الثقافة وأوساطها أوحت لنا للوهلة الأولى أن المثقف السوري لا بدَّ أن يكون في مكانه الطبيعي في الشارع، أو مسايراً له، منظراً أو متابعاً، سياسياً أو كاتباً مواكباً. وبالفعل رأينا الكثير من المثقفين السوريين يدخلون الثورة من بابها العريض مشهرين مواقفهم. وتعرَّض الكثير منهم ومازال يتعرَّض للتنكيل والاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام. لكننا رأينا أيضا مواقفا متخاذلة من مثقفين وفنانيين سوريين كبار، مواقف تراوحت بين تأييد النظام وتحييد الأنفس والاستخفاف بتضحيات الشعب السوري. هذا التفاوت يكشف عن عطب بنيوي في الثقافة السورية ومثقفيها، قد يدعونا لمراجعة نقدية واسعة لمرحلة ثقافية طويلة راكمت الكثير من الأعطاب التي رمت الثقافة السورية على جزيرة نائية وفصمتها عن مسارها التاريخي. فيصبح المتعالي عن دماء السوريين والمترفّع عن مآسيهم وجراحهم، الموارب والملتف والمتواطئ، مثقفاً عالمياً ورائداً للثقافة السورية.
المثقف السوري قبل الثورة
مرّ على الثقافة السورية منذ سبعينيات القرن الماضي جيلان زمنيان مختلفان، ما لبثا أن اتحدا مع بعضهما في بداية الألفية الجديدة. ثمَّة جيل المثقفين المُسيَّسين الأوائل والذين غُيِّبوا في سجون النظام لأكثر من عقدين من الزمن. والجيل الآخر هو جيلٌ شاب نسبيا جاء وريثاً لتُركة ثقافية وأيدلوجية من الجيل السابق. مؤخراً بدأ يظهر إلى العلن الجيل الثالث من المثقفين السوريين وهو جيل الثورة وثقافة الصوت والصورة.
الجيل الأول كان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي نشيط سياسياً وفي حركة معارضة دائمة لنظام الحكم البعثي. لكن هذا الجيل وهو ابن الأيدلوجيات المتضادة مع أيدلوجية البعث الحاكم لم يكن في وارد الحريّات والديمقراطية ولا بناء الدولة المدنية. أساساً هذه المصطلحات كان لها تأويلات أخرى في معاجم القومية والماركسية. هذا الجيل من المثقفين وهو امتداد لجيل أيدلوجي سابق أيضا أنتج البعث وأوصل الأسد إلى السلطة. يرى بعضه أن نظاماً شيوعياً هو الأجدى، ويرى آخرون أن مزجاً بين القومية والماركسية هي الحل لتحرير فلسطين وهكذا...
خرج مثقفي هذا الجيل في التسعينيات من السجون مشكلين نخبة ثقافية منقسمة بين متوارٍ عن الأنظار، ومسوغٍ لاستبدادية النظام بسبب سياساته الممانعة. قلَّة تابعت حراكها المعارض للنظام السياسي ولو بشكل موارب، ضمن تحزّبات وتشكيلات مؤدلجة وصولاً إلى إعلان دمشق وإحياء المجتمع المدني، رغم ذلك دفعت هذه القلَّة ثمن مواقفها وعاد قسم كبير من ناشطيها إلى السجون والملاحقة.
الجيل الثاني عمَد إلى تحييد نفسه عن السياسة وادّعاء الثقافة المحضة، وتحول من الانكفاء على النخبة والرفاق إلى الانكفاء على الذات بعد سقوط الأيدولوجية، وهذا ما سيروق أيُّ نظام استبدادي، فنرى مثقفي هذا الجيل على رؤوس المنابر الثقافية المرعيّة من قبل النظام وعلى شاشات إعلامه، وذهب الكثير منهم إلى تمجييده والضرب بسيفه أينما حل. كانت منتديات ربيع دمشق جامعاً لمحاولات ابتداء حراك سياسي ما في البلد. هذه التجربة التي أُجهضت بإغلاق المنتديات من قبل السلطة وسجن العديد من المثقفين، أصعدت إلى الساحة اسماء مثقفيين معارضيين لم ييأسوا من النضال، تابعوا كتاباتهم ونشاطهم المحدود رغم التضييق والملاحقة الأمنية.
المثقف والثورة
الصَّفعة التي وجهها الشعب السوري لنخبه الثقافية ما زالت تدوي حتى اليوم في رؤوسهم. فجأة تتغير المعادلة ويصبح الشاعر والكاتب والمفكر... خارج الصورة، الصمت والخوف اللذان امتهنهما المثقفون السوريون، أتى من يتجاوزهما بأميال، من يملأ الساحات ليقول للطاغية "إرحل" من دون أيّ تنظير أو اجتماعات في الغرف السرية. العفوية تحدَّت جمود المثقف ورتابته.
لم يصدف أن طُلب من المثقف السوري أن يؤدي دورا ما، أن يكون بين صفوف الناس موالياً أو معارضاً، فهو المُترفّع دوماً عن العامة لأنهم لا يملكون ما يمتلك، أو لأنه عانى في سجون النظام ما لم يعانيه أحد. لكن لحظة 15 آذار 2011 كانت أكثف من ذلك، ومعاناة السوريين اللاحقة ستجعل من معاناة المثقفيين في العقود الماضية ترفٌ لا تتحمله أمٌ حمصية فقدت أولادها وتهدَّم بيتها.
الشارع جلب المثقف إلى المكان الصحيح، أخرجه من سباته الثقافي إلى السياسة ليختار بين الوقوف في صف الاستبداد أو الانضمام إلى الشعب في شوارعه. كان على المثقف أن يختار وهنا وقع في تناقضات الخوف وخسارة الامتيازات والاعتبارات الطائفية والمناطقية، وبين ثورة تشكّل قطيعة معرفية مع كل ما ألفه ونظَّر له.
رغم كل ذلك كان حضور المثقفين ملفتاً في الثورة السورية، المنضمون للثورة من مثقفي الجيل الأول برزوا كسياسيين رغم انعدام الخبرة وبدائية الأدوات، منقسمين بدورهم إلى خارج وداخل. ومن الجيل الثاني كمثقفين مواكبيين للحراك، يطبّعونه بسمات ثقافية مع مسافات نقدية وتوجسات دائمة، غالبا ما تكون ذات طابع أقلّوي. بينما الجيل الثالث وجد مكانه في الشارع متظاهراً ومراسلاً ومصوراً وناشطاً ميدانياً، منغمساً في الثورة منصاعاً لها.
حكيم الثورة وعرَّاب قصَّابين
في ضجَّة مواقف المثقفين وولاءهم للثورة ومعارضتهم لها، وبين تشكيلات ثقافية جديدة وصعود اسماء وانحدار أخرى، يبقى لشخصيات ثقافية معيَّنة موضِع الجدل الأكبر في موقفهم من الحراك السوري، على الأخصّ موقف الشاعر علي أحمد سعيد اسبر المعروف بأدونيس، عراب الثقافة السورية لما يقارب عمر الاستبداد في سوريا.
كثيراً ما تجري مقارنات بين مثقفي السلطة ومطبّليها ومثقفي الثورة ومنظريها، وهي مقارنات شديدة التمايز، تُعالج موقفين واضحين متنافرين. لكنّ المقارنة الأكثر فائدة ستكون بين المثقف الموارب والمثقف الواضح، بين مثقف الشارع ومثقف البرج العاجي وإن كان لهما ذات الموقف السياسي في الظاهر. لم يكن مستغربا من أن يكون ياسين الحاج صالح في هذا المكان الآن، فهو أحد المثقفين السوريين القلائل الذين لم ينقطعوا عن السياسة. وربما يكون الكاتب الوحيد المعني في السنوات الأخيرة بخلاص سوريا من الاستبداد. منذ عام 2000 عندما خرج من السجن وهو متفرغ للكتابة فقط، يحاول في مقالاته أن يفكَّك بُنية الاستبداد وأن يطرح إشكاليات المجتمع السوري وعوائق تقدمه. ياسين كان مع الثورة قبل بدايتها واكبها منذ يومها الأول وكأنه كان ينتظرها، هو الذي أطلق عليه لقب مثقف السوزوكي. نزل إلى الشارع يهتف ويطالب بصوته بإسقاط النظام قبل أن يفتتح عهدا جديدا لسلسة من المقالات التي ترصد الراهن السوري وتسعى للتنظير للثورة من داخلها ومن داخل سوريا. ياسين رفض أن ينتمي إلّا للشباب الثائر إلا للشارع ورفض أن يخرج من سوريا.
اضطر بعد أشهر قليلة من بداية الثورة أن يغادر منزله ليختبئ في أوكار الثوار ويتنقل من مكان إلى آخر معهم، يعيش يومياتهم ويشاركهم الأفكار لا كموجّه بل كثائر حقيقي لا يجد نفسه إلا في الشارع يتسلق على مؤخرة سوزوكي، هربا من الشبيحة. ياسين الذي قضى خمسة عشر عاما من عمره في سجون النظام، لم يخرج منها ليهرب أو يتوارى عن الشأن العام، وبينما بحث غيره عن وظائف ومناصب في مؤسسات النظام بعد محاباته (لأن السجين السياسي مجرّد من حقوقه المدنية)، رمى ياسين شهادة الطب البشري جانبا لاعتقاده أن قلمه أقوى من المبضع. رغم كثرة مناوئيه وانتقادات كثيرة توجه له، إلّا أن ياسين الحاج صالح يشكل حالة فريدة في الثقافة السورية السائدة، فهو المثقف الذي امتلك الجرأة والشجاعة ليخرج من ثوب الكليشيه الثقافية إلى الثورة دون حواجز. ولأنه انكبَّ في السنوات العشر الماضية على دراسة المجتمع السوري والتقرب منه أكثر (على عكس ما فعله اترابه المثقفين من انفصام عن الواقع) لم يتردد ثانية واحدة في التأييد المطلق للحراك الثوري وتبني شعارات الشارع ومطالبه. لم يتلكأ ابن مدينة الرّقة، لم يتمهل ليدرس ويحلل الظاهرة كمثقف، بل كان ثائرا مثله مثل كل السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع يطالبون باسقاط النظام. ياسين بكل بساطة هو سوري يريد إسقاط النظام الاستبدادي الحاكم في بلده، هذه الصيغة لم يمتلكها أي مثقف سوري بالسرعة التي امتلكها ياسين، فهو لا يخاف من المجتمع لأنه ابن لحظته وليس غريباً أو منعزلاً في مقهاه وحجرته. مقالات ياسين هي الأكثر متابعة في الشأن السوري، كذلك الشخصية الأنكلجية والشبابية على الفيسبوك. يكتب باتجاهين واضحين الأول يقول ثقافياً وسياسياً ما يريده الشعب السوري، أي يترجم الحراك وشعاراته وتطوراته وتفاصيله الصغيرة إلى لغة سياسية ثقافية مكتوبة تحلّل الصرخة وتُوجد مكاناً معرفياً للحراك السوري بكل مفرزاته من لافتات المظاهرات وصولا إلى الفصائل المسلحة المقاتلة على الأرض.
الاتجاه الآخر هو تنظيري في الدولة والسياسة، يسعى من خلاله الحاج صالح إلى استشراف الواقع السوري وطرح أفكار نقدية من شأنها تقويم الحراك ومتابعته. كذلك يستقرئ التطورات السياسية في المنطقة والعالم ويحللها إلى أبعادها التي تنعكس على السوريين. ثمة أيضا في الاتجاهين خوف ياسين الدائم على مستقبل سوريا ومحاولاته الدائمة لتركيب سيناريوهات بناء دولة المواطنة والحريات والعدالة. ياسين المشاكس يجد دائما الوقت للتعليقات السريعة على الفيسبوك والمشاكسة والرًّد على التعليقات التي تصل إلى الحديِّة أحيانا. له على مواقع التواصل الاجتماعي مريدون شباب كُثر يسمّون أنفسهم "شبّيحة ياسين" نكاية بأحد التوصيفات التي وُصِّفوا بها.
جائزة الأمير كلاوس وصلت إلى ياسين الحاج صالح وهو في مكان ما مختبئاً من النظام، أهداها للسوريين جميعا معتقلين وشهداء وثوار. حكيم الثورة كما أُطلق عليه أيضا لايريد شيئا لنفسه، فهو لم يدخل في أي تحزّبات معارضة كما لم يخرج من سوريا. أساسا هو لا يملك جواز سفر ولا يرى في نفسه رجل سياسة، هو ثائر وكاتب يحلم بسوريا بلداً ديمقراطياً ومدنياً يعيش فيه السورييون جميعا بلا خوف.
لم يكن مستغربا أيضا موقف الشاعر علي أحمد سعيد اسبر. ابن المدرسة الصوفية ومن ثم السورية القومية وأخيرا مدرسة البحث عن الجائزة. ابن قرية قصَّابين على الساحل السوري. بتاريخ مليء بالإنجازات الأدبية والفكرية والنقدية، بالثابت والمتحول وأغاني مهيار الدمشقي، دخل الشاعر إلى العالمية، ليصبح نجما ثقافيا، يتلقَّى تكريما من هنا ودعوة من هناك. في بلاد الاستعمار كما يوصفها عاش أدونيس أربعين عاما، مُكرما من الحكومة الفرنسية. تعلَّم كيف ينسج خيوط علاقاته ويصطاد الجوائز والأوسمة. كفَّ أدونيس عن كونه مثقفاً منذ زمن، وتحوَّل إلى نجم يصادر الأضواء، يختفي هنا ويظهر هناك. الثقافة تتحور إلى كلام شاعري خفيف يمس الأشياء من أطرافها، فلسطين مثلا. يتعالى عن التفاصيل والحدث، كمعلم الصف يرقّم مقاطع كلامه ليتلقنه القراء ويحفظوه. أصبح أدونيس اقتباسا لنفسه، لا يُرى إلّا مُقتبسا من كلامه الجميل، المنمق.
الذي حيَّد نفسه عن المجتمع السوري طوال النصف قرن المنصرم، من الطبيعي أن يكون اليوم في هذا الموقع. تلك الصَّدمة كانت كمن يطلب من مثقف فرنسي أن يتَّخذ موقفاً من الأحداث الجارية في سوريا. وجد أدونيس نفسه أمام شعب لا يعرفه، شعب يصنع التاريخ ويحطّم القيود التي حاباها هو طوال عمره. قبل أن يخاطب أيَّ أحد، توجه إلى "سيده الرئيس"، فخمّه وشاركه همومه ومخاوفه من التطرف والأصولية. عاتبه حُبيّةً، وطلب منه أن يراجع تجربة الحزب. يخرج أدونيس بكل سطحية مبتذلة على السوريين مخاطباً سلطة لم تعد شرعية في نظرهم ليقول أن المشكلة في حزب البعث. لو شاهد أدونيس مظاهرة سورية واحدة لعرف أن السوريين تجاوزوا ذلك الحزب الصدئ بأميال، وأن مشكلتهم لم تكن يوما معه ولا مع مبادئه ومنطلقاته. المفكر المتعمق في تاريخ المنطقة وثقافتها وأساطيرها، لا يعرف أن السوريين يعانون نقصاً في الكرامة وشرهاً للحرية. لم يَدُس بسطار عسكري على رأس أدونيس يوماً، لم يتلق تلك الركلات واللكمات المصوّرة التي تلقاها ذلك المسن في مثل عمره باكياً متوسلاً.
ألوف الشهداء ملايين المهجرين واليتامى والثكالى، عشرات المدن والقرى المدمرة، كلًّ ذلك لا شيء أمام معاناة الشاعر عندما طُرد من اتحاد الكتاب العرب. بكلّ وقاحة لا يخجل المرشح لجائزة نوبل من أن يمنن السوريين باعتقاله عندما كان في الجيش وبطرده من اتحاد الكتاب العرب. ولا يقول كلمة واحدة تعزّي السوريين بمصابهم بشكل واضح، يلفُّ كلَّ شيء باللغة والمواربة، لا يعرف أن يكون بسيطاً عادياً كالسوريين جميعاً فيقول مثلا: "رحمة الله على شهداء سوريا"، هذا كلام العوام وهو من خارج القاموس الأدونيسي، القاموس اللزج والسميك، مركُّب السوريالية والميتافيزيقية. عبارات هائمة ومقطوعة، تترفع عن المحسوس والمدرك فالشاعر غير معني بالتفاصيل ومواكبة الحدث، يكتفي بشذرات الكلام السياسي المشعرن، هو هكذا كُليٌّ تكثيفيٌّ لم يعد مطلوباً منه التحليل والدّقة خصّيصا في أكثر قضايا العالم الراهن تعقيداً.
أدونيس الذي خرج من سوريا مبكراً، انفصم عنها وعن مآسيها، لا يرى السوريين إلا من فوق، مستشرقاً ينتقد إسلاميتهم ويعلن نهايتهم وعدمية جدوى حراكهم. لا يناسبه أن يكون وهم هكذا جُهَّل ومتخلفين. لا يريد أن يغرق في تفاصيل شعب غير علماني، فعلى الموتى أن يكونو علمانيين حتى يلفتوا انتباهه، على الدم السائل من يد الطفل المقطوعة أن يكون دماً علمانيا أيضاً. على المدن والقرى النائية السورية أن تخرج لفصل الدين عن الدولة قبل الخروج على النظام حتى ينظر إليها من فوق كتفه. لكن شعباً غير علماني يموت تحت جحافل دبابات النظام وقصف براميله لا يستحقّ الحياة، لا يستحق أن يقول فيه علي أحمد سعيد سوى أنه شعب يجب أن يتغير. يجب على الأم وهي تُخبئ أولادها من القصف أن تعلمهم كيف يفصلون الدين عن الدولة، أن تلقنهم أشعار أدونيس ويردد السوريون جميعا قصائده. ويخرجون من مدرج جبلة الأثري حيث تقام مهرجانات الأدونيسية المباركة من القائد عوضاً عن أن يخرجوا من الجامع. صاحب الثابت والمتحول يصور المجتمع ككتلة واحدة، يطلب منه من فوق أن يتغير أن ينفصم عن ما راكمه من ثقافات ومعارف وأن يكون علمانياً بلحظة واحدة، وهو يشرب قهوته الصباحية في باريس.
أدونيس لا يذكر السوريين اليوم إلا بالنظام الأسدي. الرمز الثقافي المختزل للثقافة السورية هو معادل للرمز القائد المختزل للمجتمع والسياسة السوريين. عنجهية وتكبر وأبوية، ووهم دائم بمعرفة كل شيء والسيطرة على كل شيء، استعلاء على البشر واستخفاف بدمائهم وتضحياتهم. كلّ ما يخرج عن غيره هو تافه ولا يستحق عناء الالتفات، هو سيد المعرفة المطلقة وإله الشعر يبدأ كل شيء من عنده وينتهي إليه. فالعوام لا يعرفون، أغبياء، وأصووليين بالفطرة بينما المثقفين هائمين في كل مكان يهدسون باسم الشاعر العملاق، يغارون منه ويسعون لتقليده. تشبيح وابوية ثقافية تحاكي سياسات النظام التشبيحية في المنطقة خلال العقود الماضية. ثمّة أيضاً، أدونيس والنظام يشكوان من التطرف والأصولية، النظام يُبيد كل شيء بهذه الحجة، أدونيس يرى أن هذه المجتمعات الجاهلة المتخلفة عليها أن تتعلم وإلا فهي لا تستحق شيئا. الجلاد والضحية واحد عندما تكون الضحية جاهلة وغير علمانية. انفصام أدونيس عن الواقع مشابه لانفصام النظام عنه، مشابه للطيار الذي يرمي قذيفة لا يعرف أين تسقط وعلى من، هكذا هو، ربما لا يريد أن يدخل أكثر في تفاصيل السوريين لأنه جاهل بهم وبأحوالهم ولا يعرف ماذا يقول عن بنّش وداعل والأتارب، لا يعرف سوى مخاوفه على الأقليات التي لا يبدو أن علمانيته أبعدته عنها كثيرا. رغم أن ياسين هو ابن الجيل الثاني وأدونيس ابن الجيل الأول إلا أن المقارنة بينهما ليست جائزة الآن فقط بل هي واجبة. إذ أننا نرى نموذجين بارزين للمثقف السوري في الوقت الراهن، الأول أمضى نصف حياته في سجون النظام ثم نصفها الآخر مختبئا من بطشه، اختار التغيير والشارع، أن يكون لصيقاً للمجتمع والناس، يناقش قضاياهم ويتحدث بلسانهم. هو المثقف العضوي، ابن بيئته وظرفه، يكرّس قلمه وفكره في سبيل وطن دميقراطي وتعددي. بينما الثاني عاش برجوازياً نزقا، اختار المحافظة على رطانته وامتيازاته، اختار الهرب مسبقاً، والاختفاء وراء المجازات واللغة. مواربا ومبتعدا متخففا حتى من أدنى مسؤولية أخلاقية تجاه شعبه.
ياسين الحاج صالح يكتب اليوم كعامل، كماقتل، كمتظاهر. يكتب ولا يتوقف عن الكتابة بعطاء، لأنه مؤمن بأنها أحد الطرق المؤدية إلى حلمه في سوريا الجديدة. علي أحمد سعيد شاعر ومفكر اعتدنا عليه ككليشيه في الثقافة السورية، شخصية ثقافية تُصدر منجزها وتجلس تنتظر جائزة نوبل. ثمَّة على الطرف الآخر من طائرة أدونيس المكوكية بين وبيروت وأوربا والعالم، يختبئ مثقف السوزوكي مع شباب الثورة، هارباً من ملاحقة النظام، يكتب على ضوء خافت مقالاً لا يدرك غيمة تطفو من شباك طيارة ولا أشعة ذهبية تصقل غيمة أخرى. ياسين الحاج صالح يكتب بمنزلة أخفض من تلك بكثير من الكيلومترات، يكتب من تحت الركام إلى الأعلى، من داخل الثورة يكتب عنها وإليها، يُنظِّر لها ويعالج قضاياها الراهنة، معنياً بكل تفصيل، بدلالات المعرفة لكل قطرة دم سورية. ابن الثورة والواقع، بعيدا عن المهاترات الثقافية والنجومية، يختبئ من قصف طائرات الميغ. تلك الطائرات هي ذاتها التي تمر من قربها طائرة أدونيس عندما تُحلق من فوق دمشق المشتعلة، فيرى الشاعر غيمة!.