تحت نصب الحرية: كل ما هو صلب يتحول الى أثير

تحت نصب الحرية: كل ما هو صلب يتحول الى أثير

قالت لي زميلتي الناشطة المدنية فيان الشيخ علي "انه على قيد الحياة ..أو كأنه يتحرك او يتكلم". كنا قد رفعنا لافتة تطالب بـ"إصلاح النظام" تحته تماما، ولم يكن يخطر على بالنا ان نتأمل بعمق القطع الـ14 من المصبوبات البرونزية المنفصلة التي يتكون منها والتي تحكي قصة العراق منذ بدء التاريخ.

اضافت فيان "ربما لانه بقي صامتا ومهملا منذ تشييده حتى هذه اللحظة".

تأملت هذا النصب الذي شيده النحات الراحل"جواد سليم" وكأني منجذب له تماما وأسيراً لسحره القديم. كان قد بدأ يتآكل بفعل العوامل الجوية ودوي الانفجارات اليومية في بغداد، ولكنه الان بدا كمن استيقظ بعد سبات طويل.

كان اشبه بقطعة فنية منقطعة عن الزمان والمكان، أو كأنه مجموعة رموز اسيء استخدامها او تفسيرها من قبل الانظمة السياسية المتعاقبة، وعلى حد تعبير فيان "كأن هذه الرموز انتظرت طوال هذه المدة لكي تكتسب معنى جديدا مع الجماهير التي تحتشد تحتها وتعيد تفسيرها".

كنت اتنقل بين المتظاهرين المحتشدين تحت هذا النصب وانا استمع بشغف الى شروح "نعمان منى" وهو مهندس معماري مقيم في بريطانيا، عاد للعاصمة لكي يشارك الشباب "نشوتهم ببعث الحياة في هذا النصب الخالد".

كنت اشعر بأنني أنظر للمكان ذاته من نافذتين : نافذة الذاكرة ونافذة الحاضر، فمن نافذة الذاكرة كنت أطل على اخر حفل جماهيري في هذا الميدان العام، ففي مثل هذه الاوقات الصاخبة بالتحولات وبتاريخ 27 كانون الثاني 1969 شنقت حكومة البعث التي جاءت الى السلطة بإنقلاب عسكري تسعة من اليهود بينهم شاب في السادسة عشر من العمر، بدعوى كونهم جواسيسا لاسرائيل، وعرضت جثثهم باحتفال دموي ارسل رسالة الى العالم الخارجي تبين ان النظام الجديد تبنى خطا متشددا في سياسته الخارجية، ورسالة الى الداخل من انه لن يتوانى عن انزال القصاص بمواطنيه في الساحات العامة اذا ما تجرأوا على تحديه.

دشن ذلك الاحتفال الدموي دخول البلاد حقبة الايديولوجيات الراديكالية التي تتاجر بالكراهية، والمواجهة مع العالم الخارجي التي انتهت بأسقاط نظام صدام 2003.

اما الان فإن هناك احتفالا أخر يعبر عن مواجهة جديدة بين جماهير تتوق للاصلاح وحكومة تراقب الامور بحذر، وفي وقت كان فيه المتظاهرون يصيغون الشعارات ويتبادلون الرسائل في الموبايلات ويحشدون للتظاهرة على صفحات الـ"فيس بوك" كانت فرق عسكرية ووحدات مكافحة الشغب والشرطة الوطنية وبعض مديريات وزارة الداخلية من شرطة النجدة والمرور تتأهب ايضا بقوة لم نشهدها من قبل وكأنها ستواجه عدوا ينتظر خارج اسوار المدينة.

تنقلت بنظري بين الشعارات والاعلام العراقية، لم يكن هناك علم اميركي او اسرائيلي ليحرق، لم تكن هناك سوى الرغبة لبناء الداخل بعد عقود من متاجرة الانظمة السياسية بمعارك خارجية وهمية لكي تغطي على فشلها بالاصلاح الداخلي، وتؤجل قضية الديمقراطية الى ما لانهاية.

ان التاريخ الفاصل بين اعدام المواطنين اليهود في ساحة التحرير قبل اثنين واربعين سنة وهذه اللحظة التي انطلقت فيها الجماهير لتحرر نفسها من لعنة الايديولوجيات، لم يكن مجرد انتقالة سريعة من نافذة الذاكرة الى نافذة الحاضر، فقد تخلل ذلك الزمن ثلاثة حروب : الحرب مع ايران 1980-1988 وحرب تحرير الكويت 1991 وحرب احتلال العراق 2003، وحصار اقتصادي امتد ثلاث عشرة سنة 1990-2003، وحرب اهلية اشتعلت بين السنة والشيعة في 2006، ومع وجود احتلال اميركي، وبعد دمار المجتمع المدني وتفكك الطبقة الوسطى والنسيج الاجتماعي للبلد، فإن مجرد رؤية هذه الشعلة الحية في وجوه الشباب تنبعث من رماد الحروب والدمار كان كافيا لي كي اكون سعيدا، وان اعلن عن سعادتي بالرقص في الساحة، أو بالغناء مع زملائي.

ولكن قبل ذلك ينبغي ان اسأل : في اي عالم كان هولاء الشباب يعيشون؟، ولماذا ارادوا تغييره؟

بغداد لن تكون قندهار

كانت المساعي للتضييق على الحريات العامة في البلاد ماضية دون رادع، وكلما حاول الناشطون المدنيون تنظيم تظاهرات ضد هذه المساعي كانوا يصطدمون بتفسير تعسفي للقانون، حيث كان لازما الحصول على ترخيص قانوني للشروع بتظاهرة، في حين لا يفهم من منطوق المادة الدستورية التي تبيح كفالة الدولة لحرية التعبير والتظاهر سوى الابلاغ عن التظاهرة(المادة 38 من الدستور).

ومثال هذه المساعي لتحويل البلاد الى دولة دينية على نمط ايران او افغانستان قرار منع مجلس محافظة بابل انطلاق مهرجان بابل للفنون الشعبية بسبب عدم رضا بعض رجال الدين عن عروضه الفنية التي عدت مخالفة للتقاليد الدينية بما تتضمنه من رقص.

وفي البصرة ايضا مُنعَ الناس من الخروج للتظاهر بعدما حرم مجلس المحافظة سيركا فرنسيا من تقديم عروضه بسبب عدم رضا بعض رجال الدين عن فعاليات السيرك التي عدوها خروجا عن التقاليد الاسلامية، كما كان هناك غضب من صدور فتاوى بعض رجال الدين بمنع الاختلاط بين الجنسين في المدارس الابتدائية، وإغلاق الأندية التي تعد المتنفس الوحيد للشباب في المحافظات الجنوبية.

وتمثلت إحدى الصور للتضييق على الحريات في القرار الذي اتخذه مجلس محافظة بغداد بإغلاق الملاهي الليلية والبارات في العاصمة. لذا انطلقت التظاهرات العفوية في بعض ارجاء البلاد امتدادا لمثيلاتها في تونس ومصر في إطار الدفاع عن الحريات العامة، وكانت الشعارات تتضامن مع الثوارت العربية وتحذر من نتائجها على السلطات، ووسط هذه الشعارات برز شعار "بغداد لن تكون قندهار" للرد على محاولات اسلمة المجتمع بالقوة، وتدريجيا تحول هذا الشعار الى عنوان رئيس لصفحة الشباب على الفيس بوك، بعد ان كانوا يستخدمون صفحاتهم الشخصية للدعوة للتظاهر، ردا على طرد السيرك الفرنسي من البصرة او منع مهرجان بابل او غيرها من الممارسات.

وحين بلغت الثورات العربية عنفوانها، انطلقت صفحتهم للتضامن مع بقية الثورات.

احد مؤسسي هذه الصفحة شاب يبلغ من العمر 28 عاما هو "بسام عبد الرزاق" خريج اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، يقول بحماس واصفا تلك اللحظات "لم يتحرك الاباء ليخلصونا من هذه الانظمة، لذا جاء الوقت الذي نتحرك فيه ونتمرد".

هذا الشاب المفعم بالحيوية والذي يطلق عليه اصدقاءه من شباب شباط لقب "بسام السينمائي" تعلم درس الانتفاضات العربية جيدا، وكان متابعا شغوفا لاخبارها، يصف هذا الشغف بقوله "كنت اسهر حتى الصباح مع اخبار الربيع العربي وانام تاركا التلفاز شغالا، لقد كنت مهووسا بالواقع الشبابي الجديد الذي عبرت عنه الثورات".

وكان يتعلم المزيد من تقنيات المواجهة من خلال الاتصال عن طريق الفيس بوك بالمحتجين في ارجاء المنطقة "تعلمنا من السوريين كيف نواجه الغاز المسيل للدموع بأن نستخدم قماشة مبللة بالخل، وكنا نصحب معنا الى الساحة عدة من القماش وقنينة خل لهذا الغرض" ويضيف واصفا جو التعاطف العام مع اقرانه في مصر "كنت على اتصال بالموبايل في ميدان التحرير بمصر بممثلين عن جبهة الحراك الشعبي، وكنا نبلغهم ببيانات التضامن التي كنا نعلنها بالتزامن مع تحركاتهم، وقبل ذلك نظمنا مظاهرة امام السفارة التونسية لتأييد شباب انتفاضة تونس".

اما زميله "شاكر الداغستاني" 24 عاما وهو طالب يدرس علوم الحاسبات، فقد كان يتابع الثورة في تونس ومصر لحظة بلحظة، يقول "خرجنا بتظاهرة تأييدا لمصر وتونس، بدأنا من شارع المتنبي وانتهينا الى ساحة التحرير"

وكانت احدى اللحظات المفصلية التخطيط لتظاهرة في عيد الحب المصادف 14 شباط.، اذ كانوا يريدون الانطلاق من هذا العيد البعيد عن اي توظيف سياسي او ديني لرفض الواقع، فتظاهرتهم تطالب بالحب في عالم لا يحفل بمشاعرهم، "ليس لدينا حب او سلام او حقوق" كما يقول شاكر متذمرا.

ووسط المطالبة العريضة بالحب اصدرالشباب بيانا تضمن مطالب فورية، منها اقالة امين العاصمة بسبب عدم تحقيقه اي انجاز يذكر لمدينتهم الحبيبة. ولم يفكروا حينذاك بمطالب اخرى، حيث كان شعار "اصلاح النظام" لا ينطوي على مطالب محددة بل يدور حول واقع اصلاح الفساد. ومنذ ذلك اليوم عرف هولاء الشباب انفسهم باسم شباب 14 شباط .

حين نجحت تظاهرتهم الشبابية الخالصة في ساحة التحرير بالاعلان عن مطالبهم بإسم الحب..".احسسنا بإننا ندخل الى عالم جديد، فهذه اول تظاهرة منظمة بشعارات محددة وتنظيم دقيق، وشعرنا اننا مطالبون بالتفكير على نحو اشمل... فبدأنا بالتخطيط ليوم 25 شباط". هذه هي الانتقالة المهمة التي يحددها شاكر وهو يلمس زجاج نظارته الطبية باصبعه.

انطلقوا للعمل الميداني، يزورون الناس، يلتقون بشباب اخرين، يتحركون من مكان الى اخر ومن حي الى حي، وبعكس زميله بسام يقلل شاكر من دور الفيس بوك في التحشيد اذ يقول "كان الفيس بوك مجرد اداة تواصل ووسيلة اعلام للدعاية ونشر البيانات وتعرف ببقية المجموعات، لكن التحشيد الأكبر للتظاهرة كان عن طريق العمل الميداني"

وكانت بغداد وقتذاك تمور بالغضب، اذ بدأت الشرارات الاولى تنطلق من بعض الاحياء الفقيرة المهملة، مثل احياء الحسينية والكريعات شمال بغداد التي شهدت تجمع مئات من المتظاهرين من سكنة هذه الاحياء مطالبين بأقالة المسؤولين المحليين وتحسين الخدمات، وفي حي بوب الشام حمل المتظاهرون نعشا كتب عليه كلمة "الخدمات".

اما في مدينة البصرة الغنية بالنفط جنوبي البلاد، فبدأت اصوات المطالب تعلو بمحاربة الفساد، وحمل المتظاهرون بطاقات صفراء مثل تلك التي يستخدمها الحكام في مباريات كرة القدم في إنذار اللاعبين قبل طردهم، وكانت موجهة الى المحافظ وبعض المسؤولين المحليين.

وكذلك كان الامتعاض يتصاعد في الاحياء الشعبية في بقية المحافظات بسبب انعدام الخدمات فشهد شهر شباط مظاهرات في مدن الكوت والديوانية والبصرة وسط وجنوب البلاد، والأنبار غربها، ومظاهرات أخرى متفرقة في عدد من المدن العراقية. وبدأ النقد الذي يمارسه الناس في احاديثهم اليومية للتضيق على الحريات العامة والفساد ورواتب البرلمانيين الخيالية يتحول الى شعارات تردد ولافتات ترفع.

لكن الاهم ان انطلاق التظاهرات كسر قيد الحصول على ترخيص قانوني للتظاهرات، والذي كان السبب في منع مئات التظاهرات في الاعوام السابقة.

وكان يبدو من التحركات السياسية السريعة ان هناك محاولات لقراءة الحراك الشعبي ورغبة في احتوائها، فإصدر رئيس الوزراء "نوري المالكي" توجيها بخفض راتبه الشهري إلى النصف، وإعادته لحساب خزينة الدولة، اعتبارا من شهر شباط 2011. وهو ما يشبه الاعتراف بالهوة الكبيرة بين رواتب السياسيين و كبار المسؤولين بالمقارنة مع بقية شرائح المجتمع من صغار الموظفين والفقراء، الا ان هذه المحاولة لم تنجح كثيرا في امتصاص سخط وغضب الشارع العراقي على الأوضاع المعيشية والخدمية المتردية.

فضلا عن صدور مقترحات من قبل رئيس البرلمان واحزاب وشخصيات سياسية لإعادة النظر بمرتبات المسؤولين الكبار في الدولة، وتخفيض ميزانية الرئاسات الثلاث : رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء، رئاسة البرلمان والتي تصل الى نسبة كبيرة من ميزانية الدولة.

وكان موعد جمعة الغضب يقترب ومعه تتصاعد المخاوف والآمال. وقبل 24 ساعة من انطلاق التظاهرة أتصل بي "جمال الجواهري" عضو جمعية الامل العراقية ليخبرني ان رئيس الوزراء يطلب اللقاء بقيادات المجتمع المدني.

اعتذرت عن الذهاب قائلا : سوف يرى مطالبنا في ساحة التحرير، وإنني لا استطيع الظهور في لقاء مصور مع رئيس الوزراء في وقت مفصلي، وفي صورة تنعكس سلبا على زملائي من الشباب بسبب حساسيتهم العميقة تجاه أي سياسي.

ولكني كنت واثقا من ان زملائي في "المبادرة المدنية للحفاظ على الدستور" وغيرهم من قيادات المجتمع المدني سيحملون رسالة قوية في لقاءهم المرتقب. وبالفعل حمل زملائي هذه الرسالة القوية وكانت مطالبهم في غاية الوضوح والدقة، واستشهدوا بأرقام عن مستويات الفقر والبطالة والفساد الحكومي، وبعد ان استمع اليهم بتهذيب قدم لهم بعض الأجوبة، لكنهم ردوا بحزم مطالبين ببرنامج كامل يمتد لسنوات عدة... فقد مل الشارع من السياسات الارتجالية ومن التخبط وسوء التخطيط... كانت رسالتهم تعكس ثقة بالنفس: ان نخب المجتمع المدني قد تقدمت بوعيها بأشواط على النخب السياسية التي وصلت الى افق مسدود، وان لديها برنامجا اصلاحيا كاملا ازاء سياسات مرتبكة للحكومة.

سألهم رئيس الوزراء، وهو يقدم رأسه بجبهته العريضة ووجهه الذي لا يعرف الابتسامة، اذا كانوا سيخرجون غدا في التظاهرات فردوا عليه جميعا : بالطبع سنشارك .

اغضبه ذلك الى درجة تفوهه بعبارة مستفزة "لا احترم من يخرج في التظاهرات". وانعكس هذا الاستفزار والتخبط والخوف في سياسات الحكومة ازاء التظاهرات السلمية اذا كانت الاجهزة الامنية في حالة تأهب كامل ورفعت استعداداتها الى درجة الإنذار (ج) وهو اعلى درجات الاستعداد في حال مواجهة البلاد لمخاطر مؤكدة او محتملة.

ومنذ ذلك الوقت انطلقت مواجهة لا تهدأ، في الواقع العياني كما في الواقع الافتراضي بين الحكومة والجماهير. وفي جمعة الكرامة، توجهت الى ساحة التحرير مع المفكر الاصلاحي "ضياء الشكرجي" وهو احد اعضاء لجنة كتابة الدستور، والسياسي الوحيد الذي تجرأ على الاستقالة من حزب الدعوة الاسلامية "حزب رئيس الوزراء" ليكون تياره العلماني الخاص. حدثني الشكرجي عن متابعته للقاء قيادات المجتمع المدني مع رئيس الوزراء قائلا : لقد أجبت على عبارة صديقي القديم رئيس الوزراء بمقال كان عنوانه "انت لا تحترمنا يا رئيس الوزراء...اذاً نحن لا نحترمك"

رموز الثورة وأيقوناتها

عندما قتلت قوات الامن المصرية الشاب "خالد سعيد"، كنت أنذاك في سفرة صحفية الى المانيا، تجمعت مع اصدقائي من جنسيات عربية مختلفة : مصريون و سوريون وتونسيون وجزائريون وعراقيون يقودنا الصحفي المصري "محمود توفيق" واعتصمنا امام مبنى السفارة المصرية في برلين، كانت تظاهرة عابرة للحدود السياسية تضم شبانا من اوطان عرفت الاستبداد في تاريخها ولم يخطر على بالنا أنذاك، اننا بعد عام، سوف نعيش في عالم مختلف. وان خالد سعيد سيتحول الى إيقونة للثورة المصرية.

وما كان البوعزيزي في تونس سوى عود الكبريت الذي اشعل كومة هائلة من القش على امتداد العالم العربي بآسره، وكان هناك وعلى امتداد حياتنا الكثير من اشباه البوعزيزي ممن يودون احراق جسدهم لرفض العالم، او امثال خالد سعيد ممن دفعوا حياتهم ثمنا لكشف الحقيقة.

كان احد هولاء صحفي كردي شاب اسمه "سردشت عثمان"، كتب مقالات جريئة ينقد فيها فساد السلطة في كردستان العراق...وكان اخر مقال كتبه يحمل نقدا للفساد بطريقة ساخرة.

خطف سردشت من امام الجامعة التي يرتادها كطالب، واطلق الرصاص على فمه...والمثير للسخرية ان التحقيقات الرسمية انتهت الى انه كان عضوا في تنظيم اسلامي متطرف! وتمت تصفيته لانه قام بالانقلاب على جماعته؟!.

واثناء تصوير فيلمي الوثائقي "حرية مشروطة" ذهبت الى منزله الكائن في حي فقير في اربيل لاستطلاع رأي اصدقاءه وعائلته حول نتائج التحقيق الرسمية...صعدت مع اخيه الى مكتبته التي كانت تحتوي كتبا عن روائع الادب العالمي وكتبا ذات منحى ليبرالي واضح بعكس ما كانت تشير اليه نتائج مقتله.. واخبرتني زميلتي الكردية "نياز عبد الله" والتي كانت تقوم بمهام الترجمة لي مع عائلة سردشت، ان كردستان اخذت تتغير مع مقتل سردشت، وان هناك الان رمزان في كردستان العراق: الاول هو اسطورة النضال الكردي "ملا مصطفى البرزاني" الذي يزور قبره السياسيون، اما الاجيال الجديدة فهي تزور رمز حرية التعبير... قبر الشاب سردشت عثمان.

هل كان يخطر على بال سردشت وهو يكتب مقاله الاخير انه سيغير جيلا بكامله، كلماته تنضح بمثل هذه النبوءة والعزم، اذ ينهي أخر مقال وداعي له "سأظل اكتب الى اليوم الذي تنتهي فيه حياتي ...وسأضع نقطة في نهاية السطر، وعلى اصدقاءي ان يكتبوا سطرا جديدا" لم يكمل زملائه السطر فحسب، بل اخذوا جميعا يسهمون في (كتاب التغيير) الذي سيصبح دليلا لعالم المستقبل.

كما كان زملاءه في بغداد يتظاهرون في شارع المتنبي (وهو الشارع الشهير في بغداد لبيع الكتب وملتقى الانتلجنسيا العراقية عبر الاجيال) للدفاع عن الشاعر احمد عبد الحسين. فقد تعرض احمد للتهديد في اعقاب نشره مقالا نقديا حول سرقة بنك محلي راح ضحيته عراقيون ابرياء، فضلا عن سرقة مبلغ مالي كبير يقدر بملايين الدولارات، اشار فيه الى تورط جهات سياسية متنفذة في الحادث.

وكان رد زملائه تظاهرة المتنبي المدوية في ما عرف حينذاك بكونه "التظاهرة الاكبر حول حرية التعبير في تاريخ العراق المعاصر". وحين انطلقت الثورة في مصر اصبح تقليدا في كل يوم جمعة ان تنطلق تظاهرة من شارع المتنبي يقف في مقدمتها "احمد عبد الحسين" وزملاءه الاصغر سنا من شباب شباط، وتمرعبر شارع الرشيد التاريخي في بغداد لتصل في النهاية الى ساحة التحرير وتلتحم بجماهير المتظاهرين تحت نصب الحرية.

كنا نطلق عليها اسم "تظاهرة المكانيس".. أشترينا المكانيس من باعة الارصفة وحملناها مثل رماح على الرؤوس، وعندما كنا نصل الى زاوية مهملة لم تصلها يد أمانة بغداد، كنا نقوم بتنظيفها، وكانت هناك اشارة اخرى في حملنا للمكانيس غير الاشارة الى سوء الخدمات التي تقدمها الحكومة : اننا عازمون على تنظيف الشارع العراقي من المسؤولين الفاسدين. كان هذا إعلانا عن جيل جديد اسقط جميع الفرضيات الشائعة عن شباب ما بعد الحداثة، فهو ليس جيلا سطحيا غارقا في كسله ولامبالاته السياسية، وانه لا يعرف عن العولمة سوى ثقافتها الاستهلاكية، دون ان يستطيع التحكم بأدواتها لتغيير واقعه.

وليس جيلا منخرطا دون أمل بالعودة او الشفاء في هويته المحلية الطائفية او العرقية، وبالتالي تحكمه قوانين ثقافته المناطقية التي لا يستطيع الفكاك من آسرها، ولن يكون بهذا الحال سوى وقود لكل حرب اهلية او اضطراب سياسي.

لقد هز هذه الافتراضات بعمق ان هذا الجيل ارتقى من حالة اللامبالاة المفترضة والكسل الى مرحلة بلوغ "الخيال السياسي". لم تستطع الحكومات العربية القومية طوال اكثر من نصف قرن ان تحقق ما وصل اليه الشباب خلال ايام، فمن شواطىء المحيط الاطلسي الى ضفاف الخليج العربي اتضح ان الشباب الجديد يفكر بطريقة واحدة وتجمعه اهداف مشتركة وحمل شعارات تعكس رؤية مختلفة لعالم المستقبل، اذ لم يجمعه الاحساس بـ"العروبة" بقدر ما جمعته الرغبة في التغيير. بالتالي ولاول مرة منذ نشوء دولة ما بعد الاستقلال يتوحد العالم العربي في موجة واحدة، بفضل قادة جدد يحكمون الشوارع والميادين.

لم توحد هولاء الشباب كتب ميشيل عفلق او خطابات جمال عبد الناصر، ولم يتعلموا فن الثورة عن طريق قراءة كتب ماركس ولينين بل من متابعة اقرانهم في كل مكان، ولو كان لوائل غنيم مؤلفات لأصبحت اهم من رأس المال لكارل ماركس، كما تبدى البوعزيزي في صورة تشي غيفارا. كانوا يراقبون ويتعلمون متأثرين بالخبرة التونسية والمصرية وخاصة الاخيرة، ومثلما كان الاعتقاد الشائع في مصر من ان الاخوان المسلمين وحدهم من يمتلك القدرة على تحشيد الشارع والزج بتظاهرات جماهيرية والذي حطمت اسطورته ثورة الشباب المصري، حطمت احتجاجات العراق الفكرة الشائعة من ان التيار الصدري هو الوحيد الذي يستطيع ان يعبء الشارع بالاف المتظاهرين، وان الحركة لا يمكن ان ترقى الى مستوى شعبي الا دخل فيها الصدريون.

عبادة التغيير وأمة الديجتال

كان الشباب الثائر يشكلون "أمة ديجتال" لا تعترف بالحدود السياسية ولا تصنف مواطنيها على اساس الدين او العرق او الطائفية، وكان بالامكان الانتماء والتخلي عن هويتها بنفس البساطة، وانتصب نصب الحرية وسط المشهد بمثابة "كعبة افتراضية" يحج اليها شباب الفيس بوك لكي ينالوا ثواب الدخول في جنة التغيير.

كانت لامة الديجتال عبادتها الـ"ما بعد حداثية"، وبرغم كل شيء تضمنت طقوسا تقليديا مثل المشي الى اماكن التظاهرة، وقارن لي شاب يبلغ من العمر 18 عاما بين ما يمارسه الشيعة من طقوس الزيارة من خلال المشي عشرات الكيلومترات لزيارة قبور الصالحين والأئمة المقدسين في مناساباتهم الدينية وما يفعله المتظاهرون بنفس الحماس والمشاعر النقية، أشار بأصبعه بإتجاه ساحة التحرير "هناك مكاننا المقدس"، وبالفعل كانت الساحة تغص بالزائرين من الذين قطعوا عشرات الكيلومترات لكي يرفعوا شعاراتهم في شكل دعوات للحكومة وينفتحوا برموزهم التعبيرية على حس ثوري عال، ونشوة اقل ما يقال عنها بأنها دينية، واحتفاءهم العالي بأيقوناتهم الشبابية من المعتقلين، بما يشبه الوله الروحي بشخصيات القديسين.

وبرغم إن العراق دخل متأخرا الى العولمة... وقبل الاحتلال الاميركي لم يعرف شيئا عن شبكة الهواتف المحمولة، وكان القانون يعاقب على اقتناء اطباق استلام البث الفضائي "الستلايت"، وظل استعمال شبكة المعلومات الدولية محدودا في بعض الدوائر الحكومية، لكن شباب عالم ما بعد 2003 تعلموا جيدا جميع الحيل، وبسرعة خاطفة انفتحوا على تقاليد تقنية غير معهودة بالنسبة للأجيال القديمة، حتى ان السياسيين حاولوا مواكبة التطورات التقنية في دعاياتهم الانتخابية في محاولة لنيل رضا شباب لا يمكن التحكم في عوالمهم الافتراضية الخفية.

ودخل "الفيس بوك" كأخر صيحة في عالم المنافسة الانتخابية، وتكاثرت حسابات مسجلة بأسماء جميع المرشحين السياسيين في العراق بما فيهم رئيس الوزراء الحالي، مثلما كان إنشاء المواقع الالكترونية تجارة مزدهرة في الانتخابات فتتقاضى بعض المواقع عمولات هائلة لتقود حملات ضد هذا الطرف لحساب طرف اخر.

وكانت المواقع ذات الشعبية الهائلة مثل موقع "كتابات" ساحة حرب دائمة بين الاطراف السياسية المتصارعة على السلطة في العراق، موفرة هامش حرية غير مسبوق يمكن من خلاله نشر الفضائح السياسية بالوثائق والارقام دون رقابة او تدخل او خوف كما هو معهود في عالم الصحافة المطبوعة المتكلس.

وقد وظف شباب شباط جميع هذه الادوات في تمردهم التقني ضد العالم القديم.

الشعوب تتعلم من بعضها وكذلك الحكومات

ومثلما كانت الشعوب تسلك مثل مثيلاتها طرق الحرية وتتعلم كيف تعبر عن نفسها باستخدام ادوات العولمة، ويصبح شبابها جسرا للتواصل، كذلك كانت الحكومات تستنسخ وسائل القمع وتعيد انتاج نموذج الدولة البوليسية بوجوه متعددة، والبلطجية الذين ظهروا في ميدان التحرير بالقاهرة واعتدوا على المتظاهرين كانوا موجودين ايضا في ساحات التحرير العربية، وظهرت نسختهم العراقية قبل اندلاع يوم الغضب العراقي بأيام، حين حاولت الحكومة توجيه ضربة استباقية للتظاهرات، وذلك بتوجيه البلطجية على الشباب المتجمعين في ساحة التحرير ببغداد متضامنين مع أقرانهم المصريين المتجمعين في ميدان التحرير وسط القاهرة.

واجه الشباب العزل داخل السردق الذي نصبوه في ساحة التحرير هجوما بالهراوات الكهربائية وطعنات بالسكاكين من قبل رجال امن بالزي المدني لمدة استمرت اكثر من ساعة (منذ الساعة الواحدة وحتى الثانية فجرا) وتعرضوا لجروح وتم اختطاف بعضهم الى جهة مجهولة.

كما أتقنت الحكومات فن تشويه الخصم بإتهامه بالعمالة وارتكابه الخيانة وتحويل المواجهة بين الجماهير المطالبة بالاصلاح والحكومات الفاسدة الى مواجهة بين موالين للحكومة ومعارضين لها.. وكل حركة احتجاجية تحمل بصمتها الخاصة لكنها جميعا تشترك بملامح متشابهة. وفي العراق حين فشلت الحكومة في نقل مكان التظاهرات الى خارج ساحة التحرير وأصر المتظاهرون على القدوم جمعة بعد اخرى الى الساحة، عملت الحكومة على احتلال ساحة التحرير من خلال تحشيد مؤيدين لها، والزج بهم في الساحة بعد انتهاء مهلة المائة اليوم التي اعلنتها للاستجابة لمطالب المتظاهرين، فأطلقت تظاهرات مضادة للتخلص من غضب الشارع، اعتدى فيها موالون للحكومة بالعصي والسكاكين على المتظاهرين العزل.

فواجهت "جمعة القرار" التي قرر فيها المتظاهرون الرد على فشل الحكومة في تحقيق اصلاح حقيقي، جمعة حكومية أطلق عليها "جمعة القصاص" نادت بأعدام مجرمين تورطوا في جريمة قتل بشعة في فترة الحرب الطائفية، وكان الخطير في الامر اظهار احد المجرمين بوصفه مشاركا في تظاهرة ساحة التحرير كمحاولة لتشويه سلمية التظاهرات، والتغطية على فشل الحكومة في إحداث اصلاحات حقيقية.

وكانت "زهراء العضاض" 25 عاما التي قدمت من فرنسا لكي تشارك في الاحتجاجات الجماهيرية، شاهدة على تصادم الجمعتين. فقد ظلت تتابع خلال الاشهرالسابقة اخبار الاحتجاجات على صفحات الفيس بوك. واتيح لها زيارة القاهرة بعد شهر من تنحي مبارك عن السلطة لغرض لقاء ناشطات نسويات مصريات لموضوعها عن الدكتوراه. وزارت ميدان التحرير الشهير وهي تحمل رغبة في زيارة توأمه في بغداد.

وزهراء التي ولدت في فرنسا تنحدر من عائلة اسلامية معارضة لنظام صدام، تعبر عن طموح جيل جديد مختلف عن التوجهات الايديولوجية للاباء، وقد زودتها الحياة في فرنسا بامكانيات مفتوحة على اقصاها للمشاركة في الاعتصامات والاحتجاجات المناهضة للتمييز العنصري ضد المسلمين في فرنسا، وشاركت منذ بلغت الخامسة عشرة من العمر في تظاهرات ضد التمييز الجنسي وللمطالبة بحقوق المتقاعدين واصلاح الخدمات هناك.

راقبت زهراء بحذر وهي تقترب من نصب الحرية رجال العشائر الذين ضللتهم الدعاية الحكومية بأنهم يواجهون ارهابيين وقتلة، وهم يعتدون على المتظاهرين السلميين، تقول "شاهدت امرأة تلبس عباءة سوداء وتحمل لافتة تطالب بمعرفة مصير ابناءها المفقودين منذ العام 2003 وحولها رجال عشائر يضربون المتظاهرين بالعصي".

كما لفت انتباهها الرجال الذين يرتدون البدلات الرسمية بين رجال العشائر، وقد استنتجت بسرعة انهم موظفون حكوميون زج بهم الى الساحة لاحتلالها. وحين وقع نظرها على "عبد الامير الركابي" وهو كاتب يساري يعيش في فرنسا، أخذ بيدها ليخرجا معا من المعركة الدائرة ويتوجها الى شارع المتنبي حيث ينتظر مئات المثقفين هناك نتائج الحرب التي اعلنتها الحكومة على المتظاهرين.

الدكتاتورية بثياب ديمقراطية

كانت الحكومات مستعدة لخرق القانون ولا تتوانى عن استعمال شتى الوسائل غير المشروعة لكي تحتفظ بالسلطة، ما يكشف عن طبيعة الذهنية الاستبدادية العربية ويفضح خطاب النفاق عن تمثيل الشعوب وحماية مصالحها، ولم يقتصر الامر على خطاب التخوين والتشويه للمتظاهرين (بوصفهم عملاء او ارهابيين) بل تعداه لاستخدام القوة ضدهم واعتقالهم وتعذيبهم اذا تطلب الامر.

تناولت طعام الغداء في مطعم "الطرف" مع ثلاثة من الشباب المعتقلين، وهو المطعم ذاته الذي تم القاء القبض عليهم فيه، وهم كل من حسام السراي وعلي السومري وعلي عبد السادة. كانوا يستعيدون اجواء الرعب تلك الضحك تارة وبالارتعاش خوفا تارة اخرى.

يبدأ الشاعر "حسام السراي"، والذي كان قد فاز قبل عام بجائزة دولية للشعر في ايطاليا، بسرد القصة " كنا ما يقارب الـ 18 شخصا نتناول الغداء في هذا المطعم الشعبي في الكرادة وسط بغداد بعد العودة من ساحة التحرير، دخلت القوات الامنية يتقدمهم عسكري برتبة ملازم اول واشار الى الاصغر سنا منا.. وهم كل من هادي المهدي، وانا وعلى عبد السادة وعلي السومري". ثم يستمر بالسرد وعيناه تحمران "ادخلونا في سيارات الهمفي وجردونا من كل ما تحتويه جيوبنا، ثم انطلقت بنا السيارات الى شارع ابو نؤاس..وهناك تم انزالنا في الشارع الفارغ من المارة وانهالوا علينا بالشتم والضرب".

ويستذكر الصحفي في جريدة المدى "علي عبد السادة" بقية الاحداث قائلا "ثم وردهم اتصال للاتجاه الى ساحة التحرير، فتحركت العجلات الى ذلك المكان، وحين وصلت الى هناك كان المنطقة المحيطة بنصب التحرير فارغة، وكان المتظاهرون قد انسحبوا الى حديقة الامة خلف النصب... ثم قال الضابط المسؤول للجندي المسؤول عن السلاح في اعلى المركبة تلك العبارة التي اثارت رعبي "اطلق رصاصا حيا عليهم ..حاول اصابة اللحم دون ان تقتل؟!".

بدأ اطلاق النار لمدة اربعة دقائق، وتناهى لهم اصوات صراخ المتظاهرين المصابين.. وبعد عشرة دقائق توجهت بهم السيارات الى مكان مجهول، تعرضوا لانواع الركلات والتهديدات، وتم تهديد عبد السادة بقص لسانه باستخدام احدى انواع شفرات الحلاقة. يصف طريقة ادخاله للزنزانة بارتعاش "بعد دفعي بالقوة للدخول للزنزانة سمعت صوت هادي المهدي من الداخل "انا لست بعثيا" مع انه كان مقيما بالدنمارك وهاربا من جحيم البعث، وعاد للعراق لكي يعمل في الصحافة"

" ضربوني بقطع خشب من لافتات التظاهرة، بعد ان قال الضابط: لماذا لايصرخ ... اريد ان اسمع صراخه". كانت هذه روايته عن طرق التعذيب، وزادها سوءا ان التحقيق الذي تلا ذلك كان عبارة عن اسئلة في صيغة اتهامات : لماذا تريدون تخريب البلد؟. ولماذا انتم ضد دولة رئيس الوزراء؟

اما المخرج "علي السومري" فقد كانت له قصة اخرى، اذ سخر معتقلوه من شعره الطويل وركلوه قائلين "هل انت من جماعة القاعدة..ما هذا الشعر الطويل يا اسامة بن لادن!". يصف طريقة معاملتهم له وهو يضع اصابعه بين شعره "حاولوا نتف شعري واتهامي بالانتماء للقاعدة ثم البعث، مع انني كنت خارج العراق وقت صدام، وتركت عقدا للعمل السينمائي في دبي وعدت الى بغداد بمجرد سقوط تمثال الدكتاتور".

تم توجيه اتهامات للمعتقلين مثل : اسقاط الجدران الكونكريتية في جسر الجمهورية، وضرب قائد عمليات بغداد بالطابوق، في حين كان لهولاء الشباب دور ايجابي في منع احتكاك المتظاهرين بالقوات الامنية. وقبل اطلاق سراحهم، دفع بهم الى توقيع تعهدات لم يطلعوا على مضمونها وهم معصوبي الاعين.

وتكررت قصة الاعتقال مرة اخرى لتنال هذه المرة اربعة من شباب شباط قبل انتهاء مهلة المائة اليوم التي حددتها الحكومة لاجراء الاصلاحات وهم : مؤيد الطيب واحمد البغدادي وعلي الجاف وجهاد جليل.

لم يتم اعتقالهم بناء على مذكرة قانونية بل تم اختطافهم في وضح النهار في سيارة اسعاف، يقول "مؤيد الطيب" 29 عاما وهو طالب في معهد الفنون قسم المسرح، "وضعوني في سيارة اسعاف وكذلك زملائي وتم تفريغ جيوبنا وانطلقت بنا السيارة الى سجن الاستخبارات العسكرية في مطار المثنى، اخذوا اشياءنا ثم نزعوا احذيتنا وربطوا وجوهنا بقماشة سميكة يسمونها "القناع" وتم ايقافنا في ساحة تحت الشمس اللاهبة، وبقينا هناك الى الساعة الخامسة فجرا في اليوم التالي، بعدها أدخلونا الى الزنازين".

وكان يتم استدعاءهم للتحقيق والاصفاد في ايديهم والاقنعة على وجوههم، ثم يتم ارجاعهم للساحة حتى صباح اليوم التالي، ثم عرضت عليهم هويات تعريف تتضمن صورهم مع معلومات شخصية ملفقة.، ولم يستغرقوا كثيرا للاستنتاج انه قد تم تزوير بطاقات باسماءهم لتحويل مجرى القضية باتجاه اخر.

هددهم رجال الامن بالقول : انتم في ورطة كبيرة الان ونحن نستطيع مساعدتكم على الخلاص منها. وتمت مساومتهم في الايام التالية، وكان يقود هذه العملية اللواء قاسم عطا الناطق الرسمي بأسم عمليات بغداد او كما يطلق عليه الشباب اسم "كذاب بغداد". وكانت صفقته كالتالي : يطلق سراحكم وتسقط تهمة التزوير مقابل ان تخرجوا في مؤتمر صحفي تتحدثون عن سبب اعتقالكم بسبب قضية التزوير، وتتخلوا علنا عن التظاهرات بوصفها نشاطا مريبا.

اطلق سراح الشباب بعد ضغوط قادها زملائهم وناشطون مدنيين مستعينين بالمنظمات الدولية. وكان ما حصل معهم حافزا اخر لكي يؤمنوا بقضيتهم على نحو أعمق، ومنهم الشاب النحيف احمد البغدادي الذي ولد في العام 1991 وكان يبلغ من العمر 12 عاما حين احتلت القوات الاميركية العراق، اذ أكد ان سبب مشاركته عفوي لا علاقة له بأي جهة سياسية ودافع عن سؤال يتعلق بانتماءه للحزب الشيوعي وهو يقلب بين يديه كتاب يحمل عنوان "دكتاتورية رأس المال" "انا لا اخفي انتمائي السياسي لكن التظاهرات كانت أكبر من اي حزب، والشباب هم من اطلقوها، ولا اعرف لماذا اثارت خوف السياسيين فهي ليست استيلاءً على السلطة بانقلاب عسكري، بل هي مطالب بالاصلاح تنبع من الشعب".

ويختصر "على الجاف" 24 عاما وهو طالب هندسة حاسبات اسباب خروجه بقوله "خرجت في التظاهرات من اجل الاصلاح، والاصلاح لدي هو ان تتغير حياتي".

مثل هذه القصص وغيرها اخذت ترسم بوضوح التعارض بين رغبة الشعوب بنيل حريتها وسعي الحكومات للاحتفاظ بالسلطة، وان هذا التعارض وصل الى لحظة الاصطدام، وسيكون هناك منذ الان تقابل حتمي بين ساحات التحرير وقصور السلاطين.

عندما يتحد الدين مع الدولة

من جهة ثانية كشفت الاحتجاجات الجماهيرية ان المؤسسة الدينية في العالم العربي ليست سوى جزء من الانظمة الاستبدادية وتقع تحت سيطرتها او تدور في فلكها في احسن الاحوال، وكانت العلاقة بين الدين والدولة توظف بشكل نمطي لدعم الاستبداد او اضفاء الشرعية على انظمة شخصية.

وعلى العكس مما جرى في اوربا الشرقية حيث كان للمؤسسة الدينية موقف ايجابي بل مساهم في عملية الانتقال الى الديمقراطية كما في حالة بولندا، حكم التناقض والازدواجية موقف المؤسسة الدينية العربية، كما في موقف يوسف القرضاوي المؤيد لانتفاضة مصر والمناهض لانتفاضة البحرين (بدعوى انها طائفية).

وكان هذا موقف المؤسسة الدينية "لا سيما الشيعية" في العراق والتي تعاطفت مع تظاهرات البحرين في حين كانت حذرة في تعاملها مع تظاهرات العراق.

بيد انه ينبغي التأكيد على ان مثل هذا الموقف اكثر تعقيدا مما يبدو، نظرا للتعدد الديني والطائفي في العراق، ووجود اكثر من مرجعية دينية في كل حالة، وكان موقف المرجع الديني الشيعي الأعلى علي السيستاني حذرا على عادته، بسبب قلق واضح من خروج التظاهرات عن السيطرة، او محاولة اختراقها او تسلل "ذوي المآرب والاجندات الخاصة" حسب تعبير البيان الذي اصدره لاتباعه. لذا طلب من المواطنين الحذر.. وهو ما يعادل الطلب بعدم المشاركة.

اما موقف زعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر" فكان مع منح الحكومة العراقية فترة ستة اشهر كفرصة لاجراء الإصلاحات المطلوبة والاستجابة لمطالب الجماهير في تحسين الخدمات، وهي مدة تبلغ ضعف المدة التي حددتها الحكومة لنفسها لاجراء الاصلاحات المطلوبة (مهلة المائة يوم)، وكان حضور الصدر على جناح السرعة من ايران قبل انطلاق تظاهرة "جمعة الغضب"، مدعاة لريبة المتظاهرين الذين رأوا فيه تعبيرا عن ارادة ايران التي لم ترد الاطاحة بحكومة المالكي حسبما جاء في عشرات التعليقات التي احتوتها صفحات الفيس بوك المحرضة على التظاهر.

وكذلك كان موقف بقية المراجع مثل الشيخ محمد اليعقوبي الزعيم الروحي لحزب الفضيلة الاسلامي. اما المرجع الديني اية الله كاظم الحائري فقد حرم الخروج في التظاهرات بشكل صريح.

وقد لمس "احمد حسن مكطوف" وهو مدرس لحقوق الانسان في معهد التكنولوجيا ببغداد مقدار التأثير السلبي لهذه المواقف في حث طلابه على المشاركة في التظاهرات، حيث يقول كان طلابي يحاججوني قائلين "لقد قرأنا مانشيتات واخبارا في قناة العراقية تؤكد تحريم المراجع الدينيين للمشاركة في التظاهرات". وبالفعل كانت القنوات الفضائية الرسمية تشن حملة لاقناع المواطنين بعدم المشاركة بالتظاهرات من خلال توظيف بيانات الزعماء الدينيين الروحيين، ويعلق مكطوف على ذلك بقوله "بالامس كانوا يشجعون الناس على انتخاب قوائمهم من خلال اشاعة تأييدهم من قبل المراجع الدينيين، واليوم يقومون بالعمل ذاته لمنع الناس من حقهم في الاحتجاج"

متاجرة سياسية بالثورات

ومثلما دفعت انتفاضة البحرين ثمن الاستقطابات الاقليمية في المنطقة والصراع بين ايران والسعودية، كانت هناك مخاوف من ان تدفع احتجاجات العراق ثمن ترتيب الاستقرار في المنطقة في اعقاب انسحاب القوات الاميركية من العراق والاستعداد لملىء الفراغ بعد انسحابها من قبل دول الجوار... وفي مقدمتهم ايران.

وكنا ننظر الى الشعار الذي رفعته تظاهرات البحرين " لاسنية ولا شيعية بل وحدة وطنية" في اطار دفاعي ضد وصم التظاهرة بالطائفية، ولمنع تحويلها الى مواجهة بين اغلبية شيعية واقلية سنية حاكمة، لكن الشعار ذاته تكرر في تظاهرات العراق في محاولة من المتظاهرين لتجاوز الطائفية السياسية التي حجرت على العملية السياسية وشلت قدرتها على انتاج الاصلاح.

وفي حين كان شباب شباط يتبعون خطى ثورتي تونس ومصر، تحولت ثورة البحرين الى مزايدة سياسية علنية في عالم الطائفية السياسية في العراق، فانغمست قيادات سياسية ودينية في توظيف انتفاضة البحرين لتحقيق مكاسب سياسية، فقد دعا السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الاعلى مؤيديه ومناصريه من الشعب العراقي بالخروج الى ساحة الخلاني في بغداد لنصرة الشعب البحريني... ولكنه لم يدعو لتظاهرة لرفض الفساد المستشري بين النخب السياسية برغم تعاطفه مع مطالب المتظاهرين.

ووجه زعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر" بانطلاق تظاهرة في بغداد لمساندة ما وصفه بـ"ثورة اخوتنا واهلنا المسلمين في دولة البحرين لرفع الظلم والحيف عنهم". كما انتقد في وقت سابق على دعوته بالتظاهر، إرسال قوات خليجية إلى دولة البحرين لقمع الانتفاضة واصفا اياها بـ"قمع لإرادة الشعب البحريني"

الا ان التحرك الذي خطف الانظار في استثمار انتفاضة البحرين كان ما فعله "احمد الجلبي" زعيم حزب المؤتمر العراقي، والذي نصّب نفسه كـ "رئيس المؤتمر العام للجنة الشعبية لنصرة شعب البحرين"، وقام بالتحضيرات اللازمة لتسيير سفينة مساعدات إنسانية للمعارضة في البحرين أطلق عليها اسم "المختار"، وقد حاول رئيس الوزراء نوري المالكي تجنب ازمة مع دول الخليج بإصداره أمرا بعدم السماح بإبحار سفينة "الجلبي" للمساعدات الإنسانية إلى البحرين إلا في حال موافقة السلطات البحرينية على استقبال السفينة، في وقت اعتبرت فيه السلطات البحرينية سفينة الجلبي كمحاولة للتدخل في الشؤون الداخلية..

وتحولت جلسة البرلمان العراقي يوم الخميس 17/3/2011 الى مباراة لاستعراض المواقف المؤيدة لانتفاضة البحرين، في وقت شعرت فيه تجمعات المتظاهرين بأفتقار هذه المواقف البرلمانية لتبرير، فهي ترفض قمع تظاهرات البحرين لكنها تصمت على قمع الحكومة العراقية تظاهرات بغداد والمحافظات.

وفي الوقت الذي القى فيه زعيم تيار الإصلاح الوطني "ابراهيم الجعفري" كلمة رافضة للقمع في البحرين، كان على بعد مئات الامتار من مكان خطبته في البرلمان، متظاهرون عراقيون يضربون بالهروات ويفرقون باطلاق الرصاص وخراطيم المياه .

ثم اعلنت رئاسة البرلمان العراقي تعطيل البرلمان لعشرة أيام من دون توضيح او تصريح واضح من رئاسة البرلمان يبين فيه: هل كان التعطيل من اجل دعم انتفاضة شعب البحرين ام من اجل الاحتفاء بأكراد العراق الذين كانوا يستعدون للاحتفال باعياد نوروز, ام للاثنين معا ؟

وهذا فتح الامر لغضب جماهيري حول اداء البرلمان، وصرخ "شمخي جبر" مسؤول حركة جياع " لا يعقل تعطيل مؤسسات الدولة وتأخير أعمالها، كنوع من الدعم لانتفاضة شعب البحرين، بل بتقديم المزيد من الخدمات للشعب". واضاف بما يشبه الغضب " يتقاضى البرلمانيون رواتب خيالية وامتيازات مبالغ فيها، مقابل لا شيء، فلدينا اقل برلمانات العالم انجازا، وهناك مئات من مشاريع القوانين التي لم تسن ونحن بحاجة للاسراع بتشريعها".

ووقبل ان ينغمس جبر مع زملائه في كتابة بيان جديد ضد اداء البرلمان أضاف بما يشبه السخرية " إن برلمانا لا يراقب الحكومة يشبه البرلمان الحقيقي كما يشبه القرد الانسان!"

صدام ليس تمثالا بل هو شبح أيضا!

وقد فتحت المقارنات بين الشعوب والحكومات والمؤسسات الدينية العربية فرصة للشباب للتفكير مليا حول مكانهم في العالم، اين هم من الثوارت العربية، ما الذي يفتقدونه وما الذي يتقدمون به عن زملائهم.

تابعوا بآسى ما يحدث في ليبيا وكيف انخرطت الحكومة في حرب اهلية ضد الثوار، وكيف تطور الامر في سوريا على المنوال نفسه، كانوا ينظرون الى هاتين التجربتين ويتذكرون ما حصل في العراق بعد حرب الخليج الثانية 1991 وانسحاب الجيش العراقي من الكويت، اشتعلت انتفاضتان واحدة في كردستان نجحت بمساعدة من قوات التحالف في تكوين كيان كردي شبه مستقل والثانية في الجنوب تم قمعها بقسوة من قبل قوات الحرس الجمهوري المدربة جيدا على التصدي للانقلابات.

كان ينظرون بقلق مصدره ما فعله التحالف أنذاك، لم يساند الثورة الشعبية في الجنوب، وفضل ان يتعامل مع صدام ضعيف على ان يتعامل مع عراق مختلف لم تتحمل صورته حسابات المنطقة.

وما كان ثابتا بالامس لن يتغير اليوم، برغم الخطاب الاميركي عن الحريات، فالمهم بالنسبة للاميركيين اليوم هو الموافقة على تمديد بقاء القوات الاميركية في العراق بغض النظر عن موقف الحكومة الحالية من الحريات "انهم على استعداد على التعامل مع الشيطان ما دام يحقق مصالحهم، والمصالح تأتي اولا في سلم الاولويات قبل حريات الشعوب" على حد قول الصحفي "علاء حميد" والذي كان احد الاعلاميين المستقلين المشاركين في جمعة الغضب.

لقد ظل الاميركيون يتعاملون مع دكتاتوريات الشرق الاوسط طوال فترة الحرب الباردة للتصدي لخطر الشيوعية وعملوا في التسعينيات معها ضد خطر المنظمات الارهابية الاسلامية، وهم الان لن يخرجوا عن استراتيجيتهم من اجل ان يتحول خليج النفط العربي الى بحيرة ديمقراطية.

اما بالنسبة للشباب فقد كانت المعركة واضحة وهي خارج معادلات السياسات الدولية، بل تتوجه بشكل خاص للبيت الداخلي، فقد خرجت المظاهرات لكي لا تعود دولة صدام البوليسية بإشكال جديدة او تعيد انتاج صورتها في انبعاث دكتاتوريات جديدة، وهم بذلك يقارعون الحكومة بحجتها، فهي قد ظلت تحذر من عودة البعثيين ودولتهم وحاولت ان تعامل المتظاهرين من خلال تبني خطاب مضمونه "مهما تكن اخطاء النظام الحالي فهو افضل من سنوات صدام، فهل كنتم تتخيلون الخروج في مظاهرة في زمن صدام؟" ويرد عليهم المتظاهرون برفع شعارات مضمونها ان النظام الجديد يسير في طريق صياغة دولة بوليسية لا قيمة لحرية الرأي فيها، وان المتظاهرين خرجوا لمقاومة صدام بأشكاله الجديدة ايضا.... لقد سقط تمثال صدام بفضل الآلة الحربية الاميركية، لكن شبحه ما يزال يتجول في الارجاء، وكانت للمتظاهرين تعويذة لطرد اشباح الدكتاتورية تمثلت بشعار (لا للدكتاتورية ... نعم للحرية)

مدرسة ميدانية للديمقراطية

لكن قصة الاحتجاجات لا تنتهي بمحاولة طرد اشباح الدكتاتورية، بل في تأسيس مدرسة جديدة للديمقراطية، فتحت نصب الحرية كانت الشعلة الشبابية تتقد : إبتكار طرق جديدة للتواصل، صياغة ذكية للشعارات، تجليات ابداعية لخيال السياسي نقدي من اشكال ورسوم وتعبيرات فنية وشعبية وعروض مسرحية، على خلفية من تنوع فئات المشاركين و حيويتهم المنتمية الى عصر القوة الافتراضية، مر من يساري شاب نحت كأسا من الخشب مشابها لتصميم كأس العالم لكرة القدم وكتب عليه "كأس الفساد العالمي" وسألته ماذا ستفعل به فرد علي وهو يلوح بالكأس انتظر ان يظهر احد السياسيين لاسلمه الكأس فقد فاز به عن جدارة.

ومر من جنبي شاب اخر يرتدي تشيرتا ضيقا علق على ظهره عبارة مطبوعة تقول "الحكومة فاسدة يرجى ابلاغ الشرطة". ودفعتني بساطة الشعار وقوته الى الضحك وسط شاب يرتدون ازياء التخرج، ويغنون محتفلين بحياة تريد الانتصار على الموت.

كان زيهم يتضمن اشارة مزدوجة فهم تخرجوا من الجامعات ولا يجدون فرصة عمل، وهم ايضا يرتدون ارواب التخرج لانهم يتعلمون الان كيف يغيرون العالم، ليس من خلال المناهج النظرية والمحاضرات المملة، بل من خلال قوة الاقدام التي تضرب الارض بثبات، والحناجر التي تعلوا بصوت واحد ورغبة واحدة محررين المكان من جموده وتحجره ومتحدين الزمن الذي يمضي من دون معنى.

كنا بحاجة الى صورة واحدة من السماء او من مكان عال للموجة البشرية التي ملئت الساحة، صورة شبيهة بمثيلاتها في الساحات العربية، صورة اسبغ عليها احد الاصدقاء وصف "رؤية الخالق".

وبحثنا عن أي مكان عال كي نشرف على المشهد بآسره، فقد منعت سيارات البث المباشر من الدخول الى الساحة، وصودرت كاميرات ومعدّات الصحافيين عند نقاط التفتيش التي أقامتها الأجهزة الأمنية في محيط ساحة التحرير.

لكن من نال أمتياز ان يشاهد، مثل الخالق، جموع المتظاهرين من علياءه كان مسؤولا في الحكومة، ظهر في جمعة الغضب من احدى طوابق "المطعم التركي" المطل على ساحة التحرير، يتحلق من حوله ضباط يتحدثون عبر اجهزة اللاسلكي ويوجهون رجال الامن في الشارع.

 

وحين نزلت طائرة هيلكوبتر على مسافة أمتار من الرؤوس مثيرة سحابة من الغبار في محاولة لتفريق المتظاهرين، رد المتظاهرون برفع احذيتهم بأتجاه المسؤول الحكومي في المطعم التركي. كان الجميع يراهن على "نقاء" الشباب، ولقد مسنا هذا النقاء وطهرنا من مخاوفنا. لقد اطلق ما هو مكبوت على صعيد جماعي في شكل ابتهاج ثوري حقيقي، لذا كان الخوف ماثلا على هذا النقاء من ركوب التظاهرات او سرقة الجهود الجماعية الصافية الامر الذي يدخل الاحتجاجات في حمى الصراع الدائر على السلطة، وهو ما حاولت بعض الجهات السياسية المشاركة في السلطة العمل عليه، كما حاولت ركوبه جهات أخرى خارج العملية السياسية.

ولتأكيدهم على مثل هذا النقاء الثوري، لم يسمح الشباب برفع شعار واحد يمثل جهة سياسية محددة، بل وطردوا عددا من السياسيين وأعضاء البرلمان ممن حاولوا ركوب التظاهرة ومنعوهم من القاء كلمات وخطب في ساحة التحرير. وقاد "كريم حنش" صاحب مكتبة "الحنش" في شارع المتنبي، حملة ضد كل سياسي يشم رائحته في الساحة، وكمن يحمل مكنسة لا مرئية تنقل هذا الرجل الذي لم يفقد لهجته العمارتلية رغم سكنه في بغداد، بين جموع المتظاهرين وهو يصرخ بغضب ضد هولاء السياسيين المزيفين وسحب احدهم وطرده من الساحة.

كان حنش بشعره المصبوغ بالحناء وتراثه من سنوات استنساخ الكتب لبيعها لفقراء المثقفين يشعر ان دوره اصبح اكبر من ان يكون ناشر الفقراء كما يصف نفسه. ومثل كريم كان هناك كثيرون اعادوا صياغة دورهم واخذوا يفكرون بهويتهم ومغزى وجودهم على نحو جديد.

كان المتظاهرون بالنسبة لي بدون اسماء ...كنت ارى تعبيرات ساخرة وشعارات واحسست انني اصبحت ايضا بدون اسم، لقد كنا جميعا جزء من كيان اكبر بلا أسم ، كيان يتحرك بالاف الرؤوس ليحيل الرغبة في تغيير العالم الى قوة لا يمكن مواجهتها.

كان هذا الكيان الاحتجاجي مثل طفل ينمو في رحم المكان، لم تكن ملامحه واضحة بعد، لكن كان من الواضح لي اني امام مدرسة ميدانية للديمقراطية وكانت ابواب الدخول اليها تتعدد جمعة بعد اخرى.

لذا لم يكن سهلا على الشباب ان يتركوا المكان، فقد اصبح موطنا لديمقراطيتهم، ومشغلا لرسم لوحتهم الجماعية المثيرة، وهنا نجد الخيال التظاهري او الاحتجاجي قد عمل نقلة جغرافية تحمل شيفرات على درجة عالية من الرمزية، ذلك ان نقل التظاهرات من ساحة الفردوس حيث سقط تمثال الرئيس المخلوع على يد الآلة الحربية الاميركية 2003 الى ساحة التحرير حيث ينتصب منذ عقود نصب الحرية الذي شيد في العهد الجمهوري الاول 1958-1963، وقريبا من المنطقة الخضراء التي تعد مطبخ العملية السياسية يؤشر على ان مشروع التحول الديمقراطي تعثر في طور الانتقال، وانه لا بد من حصاره وتحديد مواطن خلله، فكان الحصار الجغرافي المدني الشبابي للمنطقة الخضراء يحمل رسالة واضحة على ارض الواقع ويرسم خريطة مواجهة حتمية بين من يرفعون الشعارات السلمية المدنية وبين من يطلقون الرصاص.

في مقابل ذلك حاولت الحكومة ان ترد على هذا الحصار برفع حواجز كونكريتية عالية في جسر الجمهورية المؤدي للمنطقة الخضراء وبعثت بمجموعة من الرسائل على شكل قرارات للتحكم بجغرافيا اماكن التظاهرات، تمثل بمحاولة نقلها من ساحة التحرير الى منطقة ملعب الشعب الدولي، حيث يمكن ان تخاض مباراة اخرى بين جماهير الشعب والحكومة بعيدا عن دماغ النظام القائم في المنطقة الخضراء.

مصنع أفكار ام ورشة جماعية للتفكير

اطلقت التظاهرات حراكا غير مسبوق، لتأسيس منظمات وتجمعات ولدت من رحم ساحة التحرير، مثل تجمع "كفى" الذي رفع كلمة (كفى) ضد كل خطوة بإتجاه دكتاتورية جديدة، او لجنة الاحتجاجات الجماهيرية التي بدأت بأصدار نشرة دورية بعنوان "يوميات الانتفاضة" تضمنت تأكيدا على الشعارات التي يطالب بها المتظاهرون مع مقال تحليلي لمجريات التظاهرات.

والتفت مجموعة من الشباب والمثقفين واساتذة الجامعات والاعلاميين والناشطين المدنيين بإصدار بيان يدعو للتظاهر يوم 25 شباط، وفي ساحة التحرير تبلور هذا التجمع في حركة جياع التي تسعى لـ" سد جوع المجتمع للحرية والكرامة والعيش الكريم، واشباع الجوع للسلم المجتمعي..."

كما انتظمت في اطار منظمات اخرى مجاميع مختلفة بهدف التنسيق بين المتظاهرين او الاتفاق على شعارات موحدة، فكانت منظمات "اين حقيِ" و"مجلس السلم والتضامن" اطارات جامعة لمجاميع المشاركين من اجل تأسيس "هيئة تنسيق الحراك الشعبي" الذي ضم مجموعة كبيرة من المجاميع الشبابية ومنظمات المجتمع المدني والناشطين في مجال التظاهرات.

اما التيارات السياسية التي انخرطت في الحركة الاحتجاجية فتتمثل في تيار القوى الديمقراطية الذي يتكون من الحزب الشيوعي والحركة الاشتراكية العربية والحزب الوطني الديمقراطي بتشكيله الاول الذي يمثله مجيد هديب وتشكيله الثاني الذي يرأسه نصير الجادرجي.

وبهذا الصدد يؤكد د- عامر حسن فياض عضو اللجنة التنسيقية لتيار القوى الديمقراطية ان كثيرا من الشعارات التي اطلقها التيار مثل "لا ديمقراطية من دون عدالة اجتماعية" كانت ترفع في العديد من المحافظات التي شهدت حراكا احتجاجيا، ويرى فياض الذي يشغل ايضا منصب عميد كلية العلوم السياسية في جامعة بغداد ان شعارات الاحتجاجات تشكلت ضمن مسارين : الاول له علاقة بتحقيق الديمقراطية والحريات العامة، والثاني يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية والتي تتمثل حسب رؤيته في مثلث (الفقر- البطالة- الفساد). وقد تحرك هذان المساران بفعل الحركة الاحتجاجية، وبرغم بطء حركتهما، لكنه ارغم السلطات على الاستجابة وان كان ذلك بحكم الاضطرار.

وانخرطت ضمن التظاهرات تيارات غير مشاركة في العملية السياسية ولم تدخل في الانتخابات مثل الحزب الشيوعي العراقي، كما حضرت المنظمات التابعة له مثل "منظمة حرية المرأة" التي تترأسها الناشطة ينار محمد، بزخم لا يستهان به في ساحة التحرير، مع مشاركة محدودة لبعض الوجوه السياسية المستقلة.

وشارك بعض رجال الدين او ما يطلق عليه الشباب اسم "أصحاب العمائم" مثل المرجع "قاسم الطائي" الذي حضر ممثلون عنه في ساحة التحرير، وكان الطائي رجل الدين الوحيد الذي اصدر بيانا يشجع فيه على التظاهرات ويؤيدها في محاولة منه لتمييز نفسه عن موقف بقية رجال الدين من التظاهرات، وأمّ ممثله الشيخ "حسين الجبوري" عددا من المتظاهرين في إحدى أركان ساحة التحرير ليؤدي صلاة جامعة تلتها تلاوة بيان بمطالب المتظاهرين.

وكانت الناشطة النسوية "هناء ادور" والتي يطلق عليها المقربون اسم "أم تريزا العراق" تتنقل بين الشباب وتردد معهم الاغاني والشعارات.

كانت هذه الناشطة النسوية التي ولدت في البصرة 1946 لعائلة مسيحية من اللاتين الكاثوليك، تحمل تاريخا من النضال امتد لعقود، وكانت في بداية سبعينيات القرن الماضي ممثلة رابطة المراة العراقية في سكرتارية اتحاد النساء الديمقراطي العالمي. وقد خاضت حروب العصابات ضد حكومة صدام في ثمانينيات القرن الماضي، و قضت ثلاث سنوات في الجبال النائية على الشريط الحدودي العراقي الايراني تعيش أحلام تشي غيفارا. وها هي الان تشارك الاجيال الجديدة احلامها في تغيير العالم.

ولعل احدى الصور القوية التي سنظل نذكرها عنها بعد سنوات، هي صورتها واقفة امام رئيس الوزراء تعرض صور شباب شباط الذين تم اختطافهم علنا وفي وضح النهار، وهي تندد علنا برفض المجتمع المدني، خداع الجماهير بخطاب مداهن عن حقوق الإنسان، في وقت يداس فيه الدستور بأقدام رجال الامن على ارض ساحة التحرير.

وجاء الروائي "زهير الجزائري" من اربيل ليدخل في عالم ساحة التحرير،. أدخل رأسه مع الاصدقاء في قماشة بيضاء طويلة، وتحركوا بها عبر الساحة، ثم احاطوا جموع المصلين لحمايتهم، قبل ان ينتقلوا بعد انتهاء الصلاة لتشكيل حاجز في مناطق الاحتكاك بين الشباب الثائر وقوات الامن.

كان زهير صاحب خبرة في التعامل مع جميع انواع الحروب: معركة غور الصافي بين الفلسطينيين والاسرائيليين1969، الصدام بين الجيش الاردني والمنظمات الفلسطينية في ايلول الاسود 1971، حرب تشرين/اكتوبر 1973 بين العرب واسرائيل، الحرب الاهلية اللبنانية 1975-1982، حرب الصحراء بين جبهة البوليساريو والجيش المغربي 1980-1983، الحرب بين الاكراد والحكومة المركزية في بغداد 1982-1984 .

وها هو الان شاهد على مواجهة جديدة، لقد عايش كصحفي الاحداث، وامتزجت بحواسه الحكايات، وراقب الامور تصل الى ذروتها، ثم تنهار، وكانت الكتابة تبدأ منذ تلك اللحظة، لحظة الانكسار والهزيمة، فأعلى اشكال الدراما في رأيه هي الهزيمة،"يعتقد الناس بفكرة ويريدون تحقيقها ثم تنهار ويصبحون ضحاياها".

وكانت الفكرة التي يؤمن بها الشبان تنمو أمامه، ولا اعتقد انه كان مراقبا حياديا باردا لانبعاثها تحت نصب الحرية، فقد بدا لي وكأنه يستعيد كل ذلك التاريخ الذي كتبه في سيرته "حرب العاجز".

كانت الساحة كرنفالا يضم طلابا، عاطلين عن العمل، رجال دين، فنانين من مسرحيين وممثلين ومغنين وسينمائين، ونساء سافرات ومحجبات. واصبح مثقفوا شارع المتنبي والذين يمكن عدهم اقلية في المجتمع اكثر ثقة بقدرتهم على التغيير، وادركوا ان عبارة ماركس " من المهم تغيير العالم وليس تفسيره فحسب" اصبحت حقيقة واقعة، وعلى حد تعبير احد الاصدقاء "نحن الان اكثر وعيا بأن من يصنع التغيير هم الاقلية الفاعلة النشطة وليس الاغلبية الصامتة" ويرد صديق اخر بالقول " لا يكفي اطلاق صواريخ القصائد لتحطيم للعالم... بل لا بد من تطوير وعينا النقدي والانغماس في مشاكل الناس".

اما الصحفيون المستقلون فكانوا بدفاعهم عن حق الحصول على المعلومة قد مارسوا دورا فاعلا في التصدي للفساد، في وقت فشلت فيه بعض الهيئات الرقابية الحكومية عن اداء هذا الدور بسبب الثقافة السياسية السائدة وصفقة تقاسم السلطة.

وكان الناشطون المدنيون لاعبا قويا في ساحة التحرير بوعيهم المدني في مقابل تكلس الثقافة السياسية. اما الشباب الغارقون في حالة اللامبالاة، فقد استفزهم القمع الذي جوبه به المتظاهرون في الجمعة الاولى، وجذب حظر التجول والقيود الامنية والدينية شرائح من الشباب كانت بعيدة عن عالم السياسة، وقد قطعت الطريق في الجمعة الثانية مع شاب قالي لي انها المرة الاولى في حياته التي يشارك فيها بتظاهرة.

كان "وسام تظاهرة" 28 عاما كما اصبحت اطلق عليه بعد ذلك، يعمل في مكتب خدمات للانترنت وعالمه يتمحور في كتابة روايته الخيالية البعيدة عن الواقع العراقي القبيح حسب وصفه، لكن الصور التي شاهدها في القنوات المحلية للقمع الذي تلقاه الشباب في ساحة التحرير دفعه لتغيير موقفه، قال لي وهي يرفع شعره المسرح الطويل عن عينيه "تركت روايتي واقسمت انني لن اعود للكتابة ما لم يتغير شيء في هذا البلد". كان قصة وسام ومثله العشرات تتحول الى دليل حي على الحافز الذي اطلقته الاحتجاجات للمزيد من المشاركة السياسية للشباب، في وقت ينظر فيه الناس الى السياسة بريبة وسلبية بوصفها نشاطا "يجلب المتاعب ويلوث الروح" على حد وصف وسام.

ليست مجرد أغنية

ومثل زملائهم العرب انطلق العراقيون من جمعة مفصلية "جمعة الغضب" وجاءت ايام الجمع المتلاحقة لتحمل طابعا خاصا يعبر عن طبيعة المواجهة المتغيرة بكل مرحلة فكانت الجمع الاخرى تحمل تسميات : جمعة الكرامة، جمعة الاقالة والمحاسبة، جمعة القرار الخ. وكان الشعار التونسي الرئيسي "الشعب يريد اسقاط النظام" بمثابة لوغو الثورات لكنه انطلق من سقف اوطأ في حالة الاحتجاجات في العراق فتحول الى "اصلاح النظام" كدليل من المتظاهرين انهم خارج الصراع على السلطة في العراق، وبسبب تبني شعار الاسقاط من جهات معادية للتجربة السياسية في العراق بعد 2003.

وكانت انشودة "باطل" التي رددها المتظاهرون عبر محافظات العراق بمثابة برنامج كامل يجمع الشعارات المختلفة، وقد صيغت في الفترة التي شهدت اختمار تظاهرات المتنبي، فحين كان الشباب الغاضب يقطع شارع المتنبي مرددا "يا مثقف كوم كوم ... انصف شعبك المظلوم" في محاولة لدفع المثقفين الى اتخاذ موقف موحد، فكر الشاعر " ابراهيم الخياط" بصياغة "باطل" وكتبها وهو يفكر بأغنية الشيخ امام الشهيرة"بقرة حاحا" وبنفس الايقاع. وكانت تستجيب بإيجازها ووضوحها الى جميع تحديات الحركة الاحتجاجية، حيث يقول مطلعها في محاولة للرد على اتهام المتظاهرين بالانتماء للبعث او وصمهم بالارهاب:

كل الارهاب ...... باطل

بعث المقبور...... باطل

دكتاتوريــة..... باطل

وتستمر الانشودة في تلاوة جميع المظاهر التي يرفضها المتظاهرون:

خنق الحرية...... باطل

دولة طوائف ..... باطل

تحصيص الدولة.. باطل

خرق الدستور.... باطل

فقدان النور ..... باطل

فقدان الماي...... باطل

مدرسة الطين.... باطل

غلق التوظيف.... باطل

وقف التموين.... باطل

هدر الأموال...... باطل

كوم الأزبال..... باطل

هجرة وتهجير... باطل

عفو التزوير..... باطل

ربط الهيئات..... باطل

بوكَـ ورشوات.. باطل

نشر الصبات.... باطل

قطع الطرقات... باطل

زرع العبوات... باطل

ثم تربط الانشودة بين الدكتاتوريين العرب، بدءً بصدام مرورا بالحكام الذين واجهوا انتفاضات الجماهير

صدام وربعه.... باطل

قذاف الدم.... باطل

زين الهاربين...باطل

من بعده حسني. باطل

ولا يفوت الانشودة ان تشير الى وسائل الحكومات البوليسية لمواجهة الثورات

خيل وبعران.... باطل

كل الطغيان.. .. باطل

اللون الواحد... باطل

الفكر الواحد.... باطل

الحزب الواحد.. باطل .....................

وتصف الانشودة وجوها متعددة من الفساد والمصاعب التي تواجه العراقيين

فقد الامان...... باطل

ذل الانسان .... باطل

فقر وأمراض.. باطل

كثرة أمية...... باطل

كثرة وزراء .... باطل

طم الفساد....... باطل

مجلس بغداد..... باطل

........................

وتشير الانشودة الى التضييق على حرية التظاهر وتحتفي بشهداء الحركة الاحتجاجية في مدن العراق:

خنق الحرية..... باطل

والديوانية........ باطل

طلقات الكوت.... باطل

طلقات البصرة... باطل

طلقات الحمزة... باطل

كاتم اصوات ..... باطل

كَم الأفواه........ باطل

وتمر بنقد بعض السياسات المتبعة لخصخصة الاقتصاد ولعزل البنين عن البنات في المدراس

بيع المعامل. ..... باطل

عزل الطلاب...... باطل

ولد وبنات........ باطل

وتنتهي الانشودة بأطلاق اصوات فئات متعددة من المجتمع:

خنق الشباب...... باطل

تهميش المرأة.... باطل

ترك الأطفال....... باطل

ضيم العمال........ باطل

عركات الكرسي... باطل

أن تسرق شعبك... باطل

أن تسرق شعبك... باطل

سرعان ما انتشرت "باطل" في جميع مدن العراق مثل النار في الهشيم، وفي مساء يوم جمعة الغضب تحولت الى صفحة على الـ"فيس بوك" مع مقطع فيديوي لدويّ صرختها في ساحة التحرير.

فوارق وتحديات

كانت الاحتجاجات الجماهيرية في العالم العربي رد فعل جماهيري غاضب على فشل مشروع الدولة الوطنية في الشرق الأوسط : أنظمة استبدادية تعيد انتاج أشكالها السلطوية المتزمتة وحكم يمكن وصفه بحكم "العوائل السياسية" من بن علي تونس وقذافي ليبيا مرورا بصالح اليمن ومبارك مصر وانتهاء بأسد سوريا.

لكن برغم ذلك فإن هذه الاحتجاجات انطلقت في ظل أنظمة سياسية تلتف حول نواة مشروع دولة، وهذا فرق كبير عن الوضع في العراق الذي يفتقر الى مشروع دولة وطنية، ويكاد توصيف مشروع نخبه السياسية بكونه مشروع الـلادولة او لامـشروع الدولة.

ومن ثم فأن اي تفكير في نتائج للاحتجاجات في العراق لا يتمخض عن تسريع مشروع بناء الدولة، او دفع التيارات السياسية الحالية باتجاه هذا المشروع سوف لن تثمر عن نتائج حقيقة. فالاصلاح المنشود هو اصلاح يتمحور حول مشروع بناء "دولة مدنية" غائبة عن سلوك النخب السياسية، وان كانت حاضرة حبرا على ورق في برامجهم السياسية وخطبهم الاعلامية. وجادلت النخب السياسية في العراق بأنها قد جاءت عن طريق الانتخابات، ومن ثم فأنها لا يمكن ان تقارن بالانظمة الوراثية العربية التي تفتقر الى تطبيق الآليات الديمقراطية "نحن لسنا تونس أو مصر". كانت هذه العبارة التي تؤكد على خصوصية وهمية قد تكررت في خطب الكثير من الزعماء العرب وكأن الثورة في تونس او مصر مرض من نوع ما. غير أننا لا يمكن ان نختصر الديمقراطية بوصفها اليات فحسب بل هي: أليات وقيم ومؤسسات.

فالآليات ليست سوى وسيلة لتحقيق غاية، وهي لا يمكن ان تنجح في الوصول الى هذه الغاية من دون ترسخ القيم الديمقراطية، و"المقدس في الديمقراطية هو القيم وليس الآليات" على حد تعبير امين معلوف. وقد لمسنا توسل العديد من حركات الاسلام السياسي بالانتخابات كآلية للوصول للسلطة دون ان تتعدى ذلك. وليس اسهل من ان تأتي الانتخابات بأعداء الديمقراطية الى السلطة، حتى ان الوصف الشائع "ديمقراطية بدون ديمقراطيين" لم يعد تعبيرا مجازيا بل هو واقع عراقي عياني . كما ان القيم لا يمكن انتظامها في نسق ثقافة سائدة وتحولها الى سلوك يومي من دون المؤسسات، فالديمقراطية في ابسط تعاريفها ليست سوى "مأسسة الحرية". لسنا أمام مباراة صفرية بين الانظمة السياسية او الجماهير، او ازاء ثنوية بين المتظاهرين والحكومات يحتل فيها الآخر بالضرورة رمز آله الظلام، بل نحن امام متقابلات صراعية لتحقيق علاقة توازن بين الدولة والمجتمع.

نريد دولة مؤسسات وليس دولة زعماء وقادة وأحزاب.

نريد ثقافة ديمقراطية بمواجهة ثقافة محاصصة سائدة.

نريد برامج سياسية بمواجهة سياسات ارتجالية وشعارات انتخابية جوفاء.

نريد دولة تفكر لان الدولة لدينا بلا دماغ...

نريد شراكة حقيقة للدولة مع المجتمع المدني لا نظرة تنطلق الى الشريك كمنافس وفي العراق كان تبني نموذج "الديمقراطية التوافقية" وكأنه صرعة سياسية عصرية ساهمت بتغليف المحاصصة الطائفية المقيتة بمصطلحات العلوم الاجتماعية. فما الذي انتجه تبني هذا المفهوم الذي عفا عليه الزمن غير تكرار بليد لفشل التجربة اللبنانية. فأي مستقبل للعراق اذا كان يشبه حاضر لبنان الحالي : بلد منقسم على ذاته، لم يغادر حتى هذه اللحظة المربع الاول (مربع بناء الدولة). واعتقد ان احتجاجات جماهيرية لا يمكن ان تسفر عن رؤية تتجاوز سلبيات النموذج التوافقي، وتدفع النخب السياسية باتجاه طرح بديل عن هذا النموذج سوف لا تسفر الا عن اعادة انتاج إصلاحات شكلية سوف تبقى بذور الوضع القائم فيها، بما يحتويه من اخطار التصدع الماثلة في كل حين. لذا يبدو لي ان اهم تحد يرتبط بقدرة الاحتجاجات الجماهيرية على الضغط على النظام السياسي الحالي وجعله يتطور "وعيا وممارسة" ليكون اكثر انفتاحا على مطالب الجماهير... ويتحرر من أسر ثقافة المحاصصة الى ثقافة بناء الدولة.

حول فلسفة التغيير

دشنت لحظة إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس في بغداد على يد الآلة الحربية الأميركية 2003 رغبة غرب ما بعد الحداثة تغيير مجتمعاتنا التقليدية بالقوة، وحكم منطق "التغيير من الخارج" تجربة التحول الديمقراطي بعد ذلك، غير انه انطلاقا من تظاهرات ساحة التحرير، أضحت الحاجة واضحة للتقدم بمنطق جديد للـ"تغيير من الداخل" والتعبير عن رغبة العراقيين بعدم التفريط بالحرية التي نالوها أو مصادرتها من قبل سلطات او نخب سياسية مبطئة ومعيقة للتحول الديمقراطي.

وبذلك فإن قطار الديمقراطية الذي انطلق في العراق بعد 9 نيسان 2003 سار في اتجاه اخر بعدما قادته النخب السياسية بما يخدم وجهتها، الا ان الاحتجاجات الجماهيرية عادت به الى السكة الصحيحة، وبالتالي فإننا ننظر الى الاحتجاجات الجماهيرية بكونها تدشينا للرغبة في "التغيير من الداخل" ازاء دينامية "التغيير من الخارج" عن طريق القوة العسكرية العظمى.

قال لي "بلال حسن" وهو مهندس مدني شارك في تظاهرة جمعة الكرامة "بعكس الثورات العربية، حصل التغيير لدينا منذ سنوات، لكنه لم يتم بأيدينا، لذا هذه رسالتنا الى العالم، اننا الان نتغير من الداخل" كما ان التظاهرات دشنت آلية لـ"التغير من اسفل" ازاء "التغيير من اعلى"، فما حصل من تغيير في العراق "من الخارج" أطلق مشروع بناء عراق جديد ولكن عن طريق هنسة فوقية "التغيير من اعلى" وهي خطوة خلقت نموذجا فاشلا للتغيير احبط أمل العراقيين بالانتقال من تركة الاستبداد والدكتاتورية الى فضاء من التعددية والحرية، ذلك ان هذه الـ "هندسة فوقية" مفصولة عن المجتمع بكل ما يتلازم معها من ممارسات ومفاهيم مثل المحاصصة وتقاسم المغانم بين نخب سياسية استخدمت استراتيجيات تعبئة عرقية ودينية وطائفية للوصول الى السلطة والاحتفاظ بها في ما بعد، وهي استراتيجيات ساهمت في تفتيت النسيج الاجتماعي للبلاد. وفي مواجهة آلية "التغيير من أعلى" تحضر في ذهني صور حية وقوية تشرح من خلال تجربة عيانية كيفية عمل "آلية التغيير من أسفل" من ابرزها:

كنت اشارك في الساحة شباب وشابات يحملون اكياسا للنفايات، ثم يجمعون قناني الماء البلاستيكية من الشارع ويضعونها في سلة الازبال، وهذه صورة لا يمكن تخيلها في سياق الحياة العادية في مقابل صورة نمطية عن شخص يدفع يده من زجاح نافذة السيارة ليلقى قنينة الماء الفارغة في الشارع. وبين الجميع كانت الفتيات (بحجاب او بدون حجاب) يتنقلن بكامل الحرية دون خوف من ان يتحرش بهن احد او يتعرضن لمضايقات من قبل الذكور، وهذه صور تعكس تسامي رغبات المحتجين وسط ثقافة تتعرض فيها المرأة لمختلف صنوف الامتهان والهيمنة الذكورية.

واذا اتيح للمرء ان يمر من تحت نصب الحرية ليصل الى حديقة الأمة فسيجد الرجال (سنة وشيعة) يُصَلَونَ معا دون ان يكون ذلك استجابة لدعوة سياسية او فتوى دينية، اذ لم يجتمع الناس للصلاة معا بناء على مشروع مصالحة وطنية ولا بناء على دعوة اخاء دينية، بل جمعتهم الرغبة في الإصلاح على ارض واحدة تتكسر عليها الاختلافات الطائفية، وبذلك حقق المتظاهرون العفويون ما عجز عنه السياسيون ورجال الدين.

اما أجمل صورة تختزنها ذاكرتي فهي عن متظاهرين منعوا من الدخول الى ساحة التحرير للمشاركة بتظاهرة جمعة الكرامة، وحين سمح لهم بذلك بعد ساعات استقبلهم بقية المتظاهرين (المتواجدين في الساحة) بعاطفة جياشة والتي كنا نتصور انها اختفت في العلاقة بين العراقيين بعد سنوات دموية من الكراهية والجدران الوهمية. هذه الصور العفوية عكست نمطا لـ"التغيير من اسفل" يفصح عن وعي مدني ناشىء عابر لخطوط الانقسام العرقية والدينية والطائفية، هو تغيير من اسفل يثبت "وحدة" عابرة لخطوط التقسيم ازاء ثقافة سياسية فوقية توظف الانقسام وتستثمره سياسيا. كما مثلت هذه الصور اشكالا عفوية ونواتية من التعبير عن "هوية وطنية" ناشئة ازاء تعبيرات عرقية ومناطقية وطائفية سادت منذ الاحتلال الاميركي للعراق.

ومثلما كسرت هذه الصور العفوية جدار الطائفية منذ وقت مبكر من انطلاقها، كشفت الشعارات المرفوعة في كردستان وبغداد وبقية المحافظات المشتركات التي تجمع المتظاهرين، ودفع القمع الذي جوبهت به التظاهرات، المثقفين والناشطين في جميع انحاء العراق للبحث عن مشتركاتهم وتوحيد خطابهم والاجماع على ضرورة اطلاق اصواتهم معا.

و جاء بيان مثقفي كردستان "لنمزق طبول الدكتاتورية معا" ليحطم الجدار بين الجزء العربي من العراق وجزءه الكردي.

ذُيلَ البيان بتوقيع 113 مثقفا وناشطا كرديا، يأتي في مقدمتهم الشاعر الشهير "شيركو بيكس" والذي يترأس احدى اهم المؤسسات الثقافية الرسمية في اقليم كردستان "مؤسسة سردم"، كما شغل في وقت سابق منصب وزير الثقافة في الاقليم.

تضمن البيان إدانة واضحة للدكتاتورية وادواتها القمعية ازاء الاحتجاجات المتواصلة في جميع أنحاء العراق، وخاصة في العاصمة بغداد، لا سيما بعد استخدام رجال العشائر في الاعتداء على التظاهرات السلمية في ساحة التحرير، وادانة لجميع مظاهر التضييق على حرية التظاهرات من "منع وسائل الأعلام من النقل الحي للأحداث وتهديد وملاحقة وأعتقال العاملين بالثقافة والناشطين المدنيين".

ولاول مرة منذ الاحتلال الاميركي للعراق يتقدم المثقفون في كردستان من زملائهم العرب بخطوة جريئة خارج الاحتفالات والمهرجانات الرسمية او المسيسة، خطوة كسرت الحواجز الوهمية بين اجزاء العراق بمكوناته المتنوعة، واكدت الرغبة المشتركة في بناء عراق ديمقراطي تعددي، حيث جاء في البيان "إن تجربة المشتغلين بالثقافة الكرد مع سلطات أقليم كردستان التي إختارت القمع والقوة الغاشمة وسيلة لإسكات صوت الأحتجاجات المستمرة في الإقليم منذ شباط، تؤهلنا لتجاوز حاجز الفوارق المذهبية والعرقية لمد يدنا لقوى المجتمع المدني في كافة أنحاء العراق للتأكيد على نضالنا المشترك من أجل الديمقراطية و العدالة الإجتماعية وحقوق الإنسان".

وهكذا بدأت الجدران بالتحطم ازاء مثل هذا الوعي الناهض، ومع هذا الوعي العميق بضرورة النضال المشترك من اجل الديمقراطية كانت عبارة "اصلاح النظام" تتضمن تغييره شكلا ومضمونا. ومع ما وضعته الاحتجاجات الجماهيرية من آلية لـ"التغيير من الداخل" ازاء مشروع "التغيير من الخارج". وآلية "التغيير من اسفل" ازاء البرنامج السياسي لـ"التغيير من أعلى" كانت فلسفة جديدة تتقدم لبناء عالم عراقي جديد "كل ما هو صلب فيه يتحول الى أثير".

طريق الأمل

ولكن مع كل هذه النغمة التفاؤلية والايمان بفلسفة التغيير الجديدة، ينبغي ان نستعد لجميع الاحتمالات، فمثل كل مثيلاتها العربية، تواجه الحركة الاحتجاجية في العراق تحديات كبيرة، وهي اكثر تعقيدا بسبب حالة الاستقطاب الطائفي الشديدة وذاكرة الحرب الطائفية 2006 وقوة المؤسسة الدينية وتأثيرها على جماهير المقلدين للمراجع الدينية، ما حرم التظاهرات من الحصول على قاعدة شعبية كبيرة، وحجَم من احتضان المجتمع بكامله لمطالب الاصلاح، فهناك شارع كردي وشارع عربي، وبدورهما ينقسمان الى شوارع فرعية، فالشارع العربي ينقسم الى شارع سني وشيعي، والاخيران ينقسمان بدورهما الى شوارع اخرى بحسب الولاءات الدينية الطائفية او الحزبية او الفئوية او المناطقية. وشكل ذلك عائقا كبيرا من جهة، لكن في الوقت ذاته صاغ وعيا بالهدف البعيد للاحتجاجات بأن توحد الشوارع لتصب جميعا في ساحة الإصلاح.

سوف يتفاوت نجاح ثورات الشباب من بلد عربي الى اخر، وبعض التجارب تحتاج الى وقت لكي تبلور بديلا، ربما يحتاج الامر الى سنوات لتغيير المعادلة السياسية الطائفية في العراق، وعقودا لكي نتخلص من ارث الاستبداد وثقافته، ولكن يوم 25 شباط لم يكن سوى مجرد البداية، بداية طريق الامل. ففي ذلك اليوم قطعت عشرات الكيلومترات مشيا على الاقدام لكي اصل الى ساحة التحرير، كان هناك شبان يرتدون ملابس رياضية يقطعون الطريق معي، وكانت بين الحين والاخر تمر سيارة عسكرية او احدى سيارات الشرطة وتحمل الراجلة مسافة محددة.

مشيت بدون تخطيط مع رجل معاق يستخدم عكازا، مشينا معا والصمت يخيم علينا، فقد كنت خائفا من ان اقول "انني ذاهب الى ساحة التحرير" بسبب التعبئة الحكومية التي صورة المتظاهرين كأعداء، لكني ابتسمت لفكرة ان هذا الرجل من الممكن ان يؤذيني لمجرد كوني متظاهرا فقلت له "من الصعب عليك ان تخرج هذا اليوم". التفت الرجل بوجه متعب وابتسم بغموض "لا بد من انه كان خائفا مثلي" ثم قال "انني خارج من اجل المظاهرة". كان علي التوقف اكثر من مرة للسماح له بأخذ استراحة كل نصف ساعة، استمعت خلالها لقصته : خاض هذا الرجل جميع حروب الدولة ضد اعداءها، وقطع طريقا طويلا بساق واحدة لكي يهتف في الساحة "ان هذا العالم يجب ان يتغير".

على امتداد الطريق من جنوب بغداد الى قلبها يقع معسكر ضخم يطلق عليه اسم "معسكر الرشيد" قام بإنشائه البريطانيون بعد احتلالهم العراق في بدايات القرن العشرين، وقد تعين علينا ان نقطعه قبل ان نصل الى تقاطع يشرف عليه مبنى مدمر، كان مستشفى المعسكر ذات مرة. جلسنا على رصيف الشارع وتبادلنا رشفات من قنينة الماء التي كنت احملها، استنتج الرجل من نظري الى ساعة المعصم كل عشرة دقائق انني قلق من الوصول متأخرا، فقال بلهجة حازمة "التحق يا بني باصدقاءك في الساحة....وسوف اصل اليكم لاحقا"

شعرت بالذنب وانا اتقدم عليه بالمسافة، كانت اقدامي تضرب الشارع بأيقاع منتظم، وتوقفت عن حساب عدد خطواتي، لاتذكر مشاعري حين قطعت هذا الطريق مشيا على الاقدام لاول مرة : كان ذلك في منتصف نيسان 2003 حين دخلت القوات الاميركية الى بغداد عبر هذا الطريق، وكنت اشاهد الشعارات التي تحتفل بسقوط صدام على الجدران "رحل الدكتاتور الى الابد" وكانت رؤية قيامية من السيارات المدنية والعسكرية المحترقة والدبابات المعطوبة والقبور التي دفن فيها القتلى في حفر في رصيف الشارع مع علامات تقول "هنا قبر الشهيد فلان" لكي تهتدي عائلته اليه، فتدفنه بشكل لائق. كان طريقا يرسم فوضى لا نهاية لها، فوضى تحتم على البلاد ان تغرق فيها لسنوات قادمة. سنوات غيرتني كليا، فاصبحت لا اتعرف على نفسي بسهولة، فمن أنا... وسط هجوم الهويات القاتلة.

انه الطريق نفسه مرة اخرى ... لكنه يرتسم لي على نحو أخر، احس ان السماء تتكسر حولي لينفتح طريق ممتد بالامل، الامل في ماذا؟ لم اكن اعرف وقتها..لكنني عندما وقفت تحت نصب الحرية كنت جزء من معرفة وحساسية جديدة تتجاوزني الى ما هو اعظم. كنت جزء من عالم يتحطم، ليولد عالم جديد، او بوضوح شديد لكي اولد انا.

انني من جيل عايش ثلاث حروب وحصار واحتلال، لكنه الان ازاء احاسيس جديدة، واستطيع القول انني كنت لاول مرة في حياتي اشعر بأنني "شاب" وبأنني "حي"، واستطيع ان اضيف "حر" لكي تكتمل ثلاثية الشعور بما تحتويه من معان. لم التق الرجل صاحب العكازات في ساحة التحرير، ربما لم تسعفه طاقته على الوصول، ولا اعرف حتى هذه اللحظة اسمه، لكنني متأكد من ان الطريق الذي مشيناه معا انتهى بنا الى ولادة جديدة.