عشر سنوات في عالم موازٍ

مقال

البداية كانت في ٢٠١١ 

سُمِّي يوم الجمعة الذي جاء في الثامن عشر من آذار عام ٢٠١١ بـ "جمعة الكرامة". كان عمري حينها عشرين عاماً، ولم أدرك كيف أو متى حدث الأمر، فقد تجاوز ذلك كل توقعاتنا وأحلامِنا. ما كان ليخطر ببالي أصلاً أننا سنقف معترضين في وجه المحافظ أو رئيس البلدية في مملكة الخوف تلك، ناهيك عن الرئيس مرة واحدة. 

بدأت السنة بالفرحة بعدما سمعنا الأخبار السارة القادمة من تونس حول مغادرة زين العابدين بن علي، وكيف لنا أن ننسى صوت الرجل الذي كان يصرخ ليلا في شارع الحبيب بورقيبة في مدينة تونس "الحرية لشعب تونس العظيم، معادش تخافوا من حد، تحررنا..الشعب التونسي حرّ، بن علي هرب."

 كنا نتابع الأخبار في بداية السنة ليلاً ونهاراً لنراقب ساحة التحرير والتطورات في مصر، كما كنا نتابع أخبار تونس وليبيا. في يوم ١١ شباط من عام ٢٠١١، تنَحى مبارك! لا زلت أتذكر ذلك اليوم وبالضبط ردة فعل والدتي التي هرعت إلى النافذة لإغلاقها وأغلقت أيضا باب الغرفة المُطلة على الشارع، ثم زغردَت عدة مرات وبدأت تقفز من شدة الفرح. نعم، إنها أمي التي لا تُظهر تأثّرها عادةً، كانت في تلك اللحظة تنظر إليّ بعينين دامعتين. 

في مصر، بدأَت الهتافات تعلو من ساحة التحرير صارخة "عيش، حرية، كرامة إنسانية" (وفي صيغة أخرى: عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، فكل شيء كان يدور حول الكرامة بشكل أو بآخر. وكشابّة سورية، لم أكن قد سمعت كلمة "الكرامة" كثيراً قبل الثورات. 

أما اليوم، فإنني أتذكر طفولتنا المليئة بالشعارات الرنانة التي كنا نرددها في المدارس مُجبرين، والتي أحاول استرجاعها الآن واحدة تلو الأخرى، لأكتشف أن أياً منها لا يذكر الكرامة. لم ير النظام السوري حاجة لإثارة مفهوم الكرامة، فهو بالنسبة له خارج حاجات السوريين والسوريات.

بشار الأسد على عملة سورية ملطّخة بحبر أزرق

"ما منحبك" 

ما زلت أتذكر ذلك الجدار الطويل الذي يُسَوِّرُ فناءً يقابل مبنى البلدية في مدينتي المعضمية. كانت شعارات "حزب البعث" تغطي الجدار، ولطالما كانت تلك الشعارات إحدى علامات الفضاء العام في سوريا التي لم تكن لنا. تلك الشعارات التي كانت تتحدث عن "الوحدة" و"الحرية" و"الاشتراكية" و"الأمة الخالدة"، وكانت تجاورها بطبيعة الحال صور حافظ وباسل وبشار الأسد بنظاراتهم الشمسية التي تخفي نظرة عيونهم عن عامة الشعب. ذلك الجدار نفسه الذي تفنّنّا في الكتابة عليه في عام ٢٠١١ وشوّهنا الصور التي عليه بطريقة مضحكة. كنا نلعب لعبة مسلية مع عناصر الأمن، حيث كانوا يكتبون على الجدران عبارات الولاء لبشار الأسد ومن بينها عبارة "منحبك"، والتي كانت من الشعارات الشهيرة المستخدمة لصالحه ضمن حملة تجديد البيعة في عام ٢٠٠٧، فما نلبث أن نأتي بكل بساطة ونُضيف "ما" قبل العبارة.

" ما منحبك، إرحل، الشعب يريد إسقاط النظام"، والكثير من العبارات الأخرى التي كنا نكتبها.

كنت أخرج مع أخي في حوالي الساعة الرابعة صباحاً لنكتب العبارات على الجدران. كنا نشتري الكثير من عُلب بخاخات الدهان التي كانت عملية شرائها وحيازتها تهمة بحد ذاتها. كانت نسَمات الصباح تلفُح وجوهنا ونحن نركض من زقاق إلى زقاق في شوارع المدينة الخالية ونضحك ساخرين. قمنا بالعملية نفسها عدة مرات، وكنت أشعر أني أسعد إنسانة خلال تلك الفترة. بعد رحيل أخي عنا في عام ٢٠١٣، بدأتُ أجد صعوبة وغُصّة في حلقي كلما أردت استرجاع كل ما كان جميلاً من ذكريات جمعتنا معاً قبل وبعد ٢٠١١. شقيقي عبيدة كان داعمي الأول، ولولاه ما كنت لأستطيع أن أتحايل على رقابة والدي ووالدتي اللذان كنا في شجار مستمر معهما في سنتي ٢٠١١ و٢٠١٢، وذلك لخوفهما الشديد من مشاركة إخوتي، ومشاركتي أنا على وجه الخصوص، في أي نشاط يتعلق بالثورة. كان عبيدة يساعدني في التسلل والقيام بالكثير من النشاطات برُفقته، وساعدني على مواجهة الأهل والأقارب والمحيط والمجتمع الذي كنا نعيش فيه.

عُشرية الثورة: كيف نُقبل على مرور عشر سنوات على كل ذلك ونحافظُ على عقولنا وقلوبنا في الوقت نفسه؟

تحُثنا الذكرى السنوية للثورة في كل عام على التذكر. لذلك، فعندما قررت كتابة هذا النص، كنت متحمسة جداً. لكن مع اقتراب الوقت، أدركت مدى صعوبة ذلك. فتحتُ الملف واستمررتُ في التحديق فيه ليومين. لا أدري ما أقول، لقد انتهى الكلام عند هذا الحد. كثيرة هي الأسئلة التي تدور في رأسي وأولها ما هو مقدار اللوم الذي قد يقع عليّ لِفرط الألم والإحباط اللذين قد تثيرهما كلماتي؟ لا أدري حتى كيف أشعر. مزاجي يتقلب كثيراً وفي كثيرٍ من الأحيان أشعر بأننا قد فشلنا كل الفشل. في كل عام في آذار أشعر بأن شيئاً في قلبي قد ضاع. لكن وكما كان يردد صديقنا الناشط رائد فارس، فإن "الثورة فكرة والفكرة لا تموت". أتمنى لو كان رائد هنا اليوم لأقول له، ماذا لو كنا مشلولين عن التفكير؟ ماذا لو كنا عالقين في نقطة ما، بينما العالم من حولنا يتحرك دون اكتراث؟ هل نعيش وحدنا في عالم موازٍ؟ لكني أعود لأقول في نفسي: إذا كان هناك شيء واحد أكيد فهو أن الثورة التي تغيرنا كأفراد لن تتوقف أبداً. تَغيرنا نحو الأفضل هو النجاح الأول للثورة في حال استطعنا إنجازه. 

٢١ آذار: عيد الأم في سوريا

كان عيد الأم في بيتنا عيداً تشوبه الأحزان والذكريات المؤلمة وكانت الأغاني الحزينة التي يعرضها التلفزيون السوري طوال اليوم تزيد الوضع سوءاً. فمنذ أكثر من أربعين عاماً، فقدَ والدي أمّه في حادث سيارة أليم. لم أعرف جدتي "أمينة" قط، لكني كنت أجلس قرب والدي في شهر آذار من كل عام ليحكي لي عن جدتي التي عمِلت بجد من أجل تربية أولادها السبعة وسهِرت على توفير كل ما يحتاجونه في ظروف صعبة ووسط مجتمع زاد من صعوبة الأمر، وذلك بعدما تعرض جدي لحادث في شبابه سبب له ضرراً في ظهره ومنعه من ممارسة مهنته الأساسية وهي الفلاحة، حيث كان المجتمع يرفض عملها "كالرجال" حسب قولهم وخروجها ودخولها، وكان عليها أن تواجه أهلها ومن ثم القيل والقال الذي لم يتوقف بل زاد كل شيء صعوبة عليها. توجد في غرفة جلوسنا صورة كبيرة لجدتي، تلك السيدة القوية التي لم اقابلها قط والتي تحوم حولنا كل آذار. كانت تنتابني السعادة دائماً عندما كان يشبّهني والدي بها. أحياناً كنت أقول في نفسي أنه من الجيد عدم تواجدها معنا، فهي لم تشهد اعتقال والدي واثنين من أعمامي والعديدَ من أحفادها. جدتي التي قيل عنها أن فقدان الأحباء هو الشيء الوحيد الذي كان ليحطم فؤادها.

على المستوى العام، كان عيد الأم كئيباً وتجارياً ومزعجاً لي. لكن ليتَه توقف عند هذا الحد، ففي كل عيد أم، كنت  أتذكر طلاب الجولان السوري المحتل الذين كانوا يدرسون في جامعة دمشق وكنت أتذكر طريقة احتفالهم بعيد الأم حيث كان يشارك عشرات الطلاب من منطقة عينة التينة السورية المواجِهة لبلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، ويخاطبون أمهاتهم من خلال مكبرات الصوت ويلَوّحون لهن بالمناديل. لقد كانت هذه هي الطريقة الأكثر مأساوية التي يمكن لأحدهم أن يحتفل بها بعيد الأم. 

ولكن الأمر الأسوأ المتعلق بعيد الأم كان قيام النظام السوري، بموجب القرار ١٠٤ في العام ١٩٨٨، بإقرار عيد الأم في يوم عيد النوروز. قبل هذا القرار، كان عيد الأم في ١٣ أيار، وقد جرى تغييره في عهد حافظ الأسد، في محاولة لطمس ثقافة الأكراد في سوريا ومحو هويتهم وسرديتهم. وحتى بعد تحول هذا اليوم إلى عطلة رسمية في سوريا، استغلت قوات الأمن السوري  قانون الطوارئ خير استغلال واستخدمَت العنف لتفريق التجمعات المحتفلة بعيد النوروز (رأس السنة الكردية). وحين كان يُسمح بالتجمعات، كانت تُمنع  المظاهر الواضحة التي تشير إلى الهوية الكردية. تقول صديقتي الكردية: " لقد تحول عيد النوروز من عيد يمثلنا إلى مجرد سيران مشاوي في الطبيعة".

٢١ آذار ٢٠١١، المكان: معضمية الشام في الغوطة الغربية. 

سمعنا في الأخبار عن المظاهرات التي كانت قد جرت في مناطق أخرى. وعند ظهر ذلك اليوم، وبينما كنا نحضر الغداء ونحتفل بعيد الأم مع والدتي، سمعنا أصواتاً غير معتادة في الخارج. كانت تلك أول مظاهرة تخرج في مدينتي. خرجنا جميعا لنشهد ما يحدث. كنا جميعاً مصدومين! لم يستمر الأمر لأكثر من خمس دقائق كحد أقصى حتى وصلت باصات مليئة بعناصر الأمن الذين ضربوا المتظاهرين واعتقلوا عدداً منهم، بينما استطاعت قلة منهم الهرب. كان من بين الذين اعتقلوا في ذلك اليوم ابن عمي (١٦ سنة)، حيث تم جره على الأرض من يديه بينما كنت أصرخ باكية "إنه صغير! إنه  صغير! اتركوه! ما دخلُه!". قامت والدتي بشدي لإبعادي عنهم ووضعَت يدها على فمي لإسكاتي. لا يغيب هذا المشهد عن ذهني. أتذكر إلى الآن وجهَيّ العنصريين اللذان قاما بضرب واعتقال ابن عمي ولن أنساهما أبدا. كان ذلك بالنسبة لي حينها أقصى أنواع الاستباحة والإهانة وأشد الانتهاكات. لم أكن أدرك ما الذي ينتظرنا، سواء من النظام السوري أو من الأطراف الأخرى. 

تم الإفراج عن ابن عمي بعد ذلك بعدة أيام وكانت تلك فرحة لا تضاهيها فرحة. أتذكر ابتسامته وهو حليق الشعر بالكامل بسبب القمل عند زيارته الأولى لنا بعد الإفراج عنه وهو يقول لي: "شوفي! الله يلعنهم انغسل قدري بعد ما حلقنا الشعرات، شو رأيك تعمليلي سندويشة مكدوس لأني بحب مكدوسات مرت عمي كتير". 

تم اعتقال ابن عمي مرة أخرى في عام ٢٠١٢، ليعود إلينا هذه المرة أيضاً بعد عدة أيام، ولكن كجثة لشخص نكاد لا نميّز ملامحه. أحياناً أتمنى لو أنني لم أره حينها. أليس أقرب لكرامة أحبائنا أن تبقى صورهم الجميلة الضاحكة  وحدها عالقة في أذهاننا؟ لكن حتى ذلك سُلِبَ منا. نريد فقط ذكرى غير مشوهة، غير دموية، وصورة عائلية مكتملة. 

سيل من الذكريات 

ترتبط الكثير من ذكرياتي خلال سنواتي الثلاثة والعشرين التي قضيتها في سوريا بالعنف والخوف والتردد. ذلك الشعور بأن فتاة بعمري أمامها عشرات المراحل قبل أن تصل إلى ما تطمح إليه تحت سقف الوطن الكاتم على أنفاسنا. لم يفارقني ذلك الشعور بأن الكثير من أسئلتي كانت تقابَل بالصمت والتململ أو بعدم الإجابة. كنت طفلة ثرثارة جداً وكانت لدي أسئلة كثيرة أتعبَت والدتي التي غالباً ما كانت تمل من كثرة أسئلتي ويصل بها الأمر إلى أن تقول لي "اي ولعية خلصنا... بدك تعرفي البيضة مين باضها والجاجة مين جابها".  

رغم ذلك، كان التعامل في المنزل هو الألطف على كل حال فيما يخص الأسئلة والمعرفة وفيما يخص كل شيء آخر. كان لدي كره شديد للمدرسة ولأي شيء يتعلق بها، وقد حملت هذا الشعور معي إلى ألمانيا؛ أكره الامتحانات وأكره حضور الحصص. ورغم اختلاف التجربة هنا، أشعر بأن هناك ثِقلاً جاثماً على صدري. التجربة هنا مختلفة تماماً ولا أعرف من أين أبدأ بشرح هذا الاختلاف، هل من الاحترام الموجه إلينا كطلاب أو من كيفية التعامل معنا كـ "بشر"؟

كنا بحاجة إلى الثورة لأننا كنا حقاً في حاجة إلى التمرد على سنواتٍ وطبقاتٍ من الظلم وسوء المعاملة والفساد في كل مكان في سوريا، هذا الظلم الذي كان يبدأ مع تجربتنا كأطفال في المدرسة، حينما يقرَّرمثلاً فرض عقوبة جماعية على الصف بأكمله إن أخطأ أحد التلامذة، أوعندما يتم  تعيين "عنصر المخابرات الصغير"، أو ما يسمى بـ "عريف الصف"، ليكتب أسماء من يعتبرهم مشاغبين على اللوح حتى تتم معاقبتهم. في الصف الخامس، قامت معلمتي بضربي بسبب عدم التزامي بتسريحة الشعر التي كانت قد فرضتها على كل الطالبات. في الصف التاسع، قامت معلمة اللغة الإنجليزية بالإساءة إلي أمام كل الطالبات وصفعتني ثم أخذتني إلى غرفة المديرة، وكانت جريمتي يومها  حصولي على العلامة الكاملة في الامتحان، فاتهمتني بالغش، أما حجتها فكانت صعوبة الأسئلة واستحالة حصول أحد على العلامة الكاملة. لكن التجربة الأسوأ كانت في الصف العاشر مع أستاذ الفيزياء، الذي كان يقضي أغلب وقت الحصة في الحديث بالسوء عن زوجته بذكورية عفنة ليقرعنا بعدها قائلاً "كلكن حمير ولا مستقبل لكن، والحقيقة أن الحمارة ستزعل لو قارنتها بكن". أما العقوبة الأفظع فكانت لدى معلمة الفلسفة التي كانت تجبرنا على كتابة الدرس مائة مرة، وفي مرة من المرات لم أجد حلاً للتحايل على العقوبة سوى الغياب لمدة أسبوع كامل عن المدرسة. في حين أبدعَت معلمة الجغرافيا في إهانتنا حيث طلبت من زميلتي الوقوف وراء باب الصف إلى جانب سلة القمامة لأنها "لا تختلف عن القمامة"، ومن ثم طلبت منها أن تضع رِجلاً داخل السلة المليئة بالقاذورات، وحين قلت للمعلمة بأن هذا غير مقبول وبأن صديقتي لم تخطئ وإنما كانت تسألني عن كلمة غير واضحة على اللوح، طردتنا من الفصل وجعلتنا نقف في الممر المفتوح على الهواء الطلق في جو بارد جداً مما سبب لي نزلة برد. 

أزمتنا لا تقتصر على التصرفات الفردية داخل المؤسسات التعليمية السورية، بل تعود إلى عقود من الزمن وإلى بنية المجتمع الأبوية التي كرّسَت منطق السلطوية في أشكالها المختلفة في السياسة والأنظمة الأسرية والتربوية والتعليمية.

هذا السيل الطويل من التجارب جعلني في الحقيقة أضحك ضمنياً وأتساءل كيف نجونا كسوريين وسوريات من الدراسة في فروع الأمن هذه التي كانت تسمى بمدارس؟ كيف نجح النظام بصنع هذه الهيكلية التي تقوم بتدمير إنسانيتنا وكرامتنا و تقديرنا لذاتنا؟ أبناء جيلي نجوا من ١٢ سنة من النظام المدرسي و٤ سنوات على أقل تقدير من النظام الجامعي الذي لن أتطرق له، ومن ١٠ سنوات من الثورة. لكن هل نجونا فعلاً؟

" نحن اللي قلنا: اللي بيقتل شعبه خاين .. يكون مين كاين " 

"يا حيف" هي أغنية ظهرت في نهاية شهر آذار من عام ٢٠١١، لتخبرنا القصة عن درعا وأطفالها الذين كتبوا عبارة "إجاك الدور يا دكتور" على جدران مدرستهم فأسفر ذلك عن اعتقالهم وتعذيبهم من قِبل المخابرات السورية، الحدث الذي فجّر غضب السوريين اللامتناهي والحُنُق على الظلم بطبقاته المتعددة في سوريا. 

أتساءل أحياناً، كم كنّا حالمين لنصدق بأننا "متنا بإيد إخوتنا" على ما تقول كلمات الأغنية؟! هل كنا فعلاً إخوة؟ متى وكيف وأين؟ وكيف ظننا أنه بمقدورنا تجاوز أربعين عاماً عمل فيها الأسد على تفرِقتنا وبث الرعب من الآخرين في قلوبنا؟ لكن الشيء الذي صدق في الأغنية، والذي لن تغيره عشر سنوات أو مئة سنة، هو" اللي بيقتل شعبه خاين..يكون مين كاين" سواء كان النظام السوري أو أي طرف آخر في سوريا.

تجنبْت أغنية "يا حيف" لسنوات لأنها تذكرني بالكثير من الأشياء التي لا أود أن أتذكرها. أتذكر المرة الأولى التي حصلت فيها على الأغنية في نيسان ٢٠١١ من صديقتي عبر البلوتوث. كنا نجلس على المصطبة أمام بيتنا بجانب زريعات أمي الجميلة ونستمع للأغنية بصوت خافت. ثم جاءت أمي تحمل معها القهوة لتُذعر من تصرفنا وتنهرنا "لك سكروا هالزفت هلأ بيجولنا"، ثم  طلبت مني حذف الأغنية من هاتفي النقال، وطال جدالنا بالأمر. كان ذلك ربما من ألطف الجدالات مع أمي وأبي، لم يكن والداي يشجعان إخوتي على المشاركة في الأنشطة المتعلقة بالثورة، فما بالكم برأيهما في مشاركة ابنتهما الأصغر، ابنة العشرين ربيعاً. على مدار سنتي ٢٠١١ و٢٠١٢، دارت حرب طاحنة بيني وبين أمي. كان عليَّ دائما أن أتسلل للقيام بأي شيء وكنت أكذب باستمرار، وغالباً ما كانت والدتي تكتشف كذباتي "البيضاء" لترد: "بدك تجلطيني انتي!" 

في إحدى المرات، تأخرت بالعودة إلى البيت واتصلت بي والدتي وكانت تعلم طبعاً أني في مظاهرة، فما كان منها إلا أن أتت بسرعة لتأخذني إلى البيت من المظاهرة. انزعجت بالطبع حينها لأنها سحبتني بتلك الطريقة ورفعت صوتها عليّ أمام زملاء النضال. أما اليوم، فنتحدث أنا وأمي عن هذه الأيام ونضحك قليلاً ونبكي كثيراً، نبكي على فراقنا وعلى خساراتنا وعلى كل خيباتنا. 


أول صرخة، أول هتاف 

كثيراً ما أُسأل عن أول مرة هتفت فيها داخل مظاهرة، ودائماً أحاول شرح ذلك رغم عجزي في كل مرة عن وصف المشهد بكلمات تعطيه حقه. في تلك المظاهرة من يوم الجمعة العظيمة في ٢٢ نيسان ٢٠١١، لم أكن أنوي المشاركة، وكانت تلك هي أكبر مظاهرة تحدث في مدينتي حتى ذلك التاريخ. مرّ المتظاهرون والمتظاهرات من أمام منزلنا، أعداد هائلة منهم، ثم رأيت أخي بينهم فركضت إلى جانبه بالبيجاما والشحاطة ورحت أهتف معه وأضمه وكانت الدموع تنهمر من عيني ونحن نهتف معاً "الشعب السوري ما بينذل". تقريباً كنت أقفز من الفرحة لكني لم أكمل السير مع المظاهرة في ذلك اليوم. بعد مئات الأمتار، وبعدما تجاوز المتظاهرون مفترق الطريق، بدأَت قوات النظام بإطلاق النار بشكل مباشر على المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط ثلاثة شهداء وجرح العشرات. بعدها، تحول أحد مساجد المدينة إلى مشفى ميداني، وخرج نداء من مآذن المساجد للتبرع بالدم. كثير من الدم أُسيل في ذلك اليوم، ليس فقط في المعضمية، بل في مناطق أخرى من دمشق وريفها وفي كل المدن السورية. قتلى وجرحى في كل مكان! شهد ذلك اليوم أحداثاً بارزة لا تنسى كتحطيم تمثال باسل الأسد في دير الزور وتحطيم تماثيل لحافظ الأسد في حجيرة وأريحا والشحيل. تحطيم التماثيل جاء كإشارة رمزية واضحة إلى أن الرهبة قد زالت من القلوب. 

لا أظن أن ذلك اليوم سيُمحى من ذاكرتي وذاكرة السوريين والسوريات. لا أدري إذا كان بإمكاني التحدث عن كل السوريين، ربما معظمهم، فقد انشغل البقية بالاحتفال بانتصار قوات الأمن والجيش السوري على "المؤامرة الكونية والمتظاهرين المندسين المدعومين من حمد". 

كان ذلك اليوم علامة فارقة مفادها أننا خرجنا دون رجعة. بعد ذلك التاريخ لن ينتظر أحد منّا الإصلاحات والكلام الفارغ في خطاب يتحدث فيه "الرئيس" عن المؤامرة ومحاربة الإرهاب.  

" بنت عمي مرتي تاج راسي" 

في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع في عام ٢٠١٢ على شبكات التواصل الاجتماعي يظهر رجل أربعيني من مدينة حلب بعد تعرضه للضرب ويتم سحبه من قبل عناصر من الجيش السوري، بينما يرجوهم الرجل منحه فرصة توديع أولاده قبل أن ينهوا حياته. يسأله أحدهم "وين ولادك؟" فيجيب الرجل "بالبيت مع أمهم"، فيرد أحدهم "بتخليني نيك مرتك إذا أخدتك تودع ولادك؟" فيرد الرجل "أعوذ بالله هي روحي، هي بنت عمي مرتي تاج راسي"، ثم ينتهي المشهد بإنهاء حياة الرجل وترك جثته في جانب الطريق. 

لم يفارقني الفيديو لسنوات بعد أن شاهدته لأول مرة. لم تكن تلك سوى صورة واحدة من صور الإذلال والتدمير الذي لا يقبله عقل والذي عايشناه في سوريا. تجلّى هذا الإذلال بشكل خاص في استخدام العائلة، والإناث بشكل خاص، لابتزاز وتهديد أفراد العائلة من الذكور والإساءة إليهم عبر التهديد بالعنف الجنسي واغتصاب النساء. 

هناك موقف لن أنساه حدث مع صديقتي في منتصف عام ٢٠١١ بعد أن شاركنا في مظاهرة في المعضمية، وبعد أن قامت قوات الأمن بملاحقة المتظاهرين. تمكن يومها الكثيرون من الفرار، بينما تم الإمساك بالبعض. وفي زاوية صغيرة لا يمكن الهروب منها، تمت محاصرة صديقتي مع شابتين أُخريين. وكما جرت العادة، انهالت عليهن قوات الأمن بأسوأ الشتائم التي يمكن تخيلها. بعدها سأل أحد عناصر الأمن صديقتي المرتعدة عما إذا كانت متزوجة فأجابت بالإيجاب، ومن ثم سألها إن كان لديها أطفال. كان قلبها يخفق بشدة، وأجابت "بنتين". كان رده "بدك رجعك جثة مكومة لبناتك؟ ولا شو رأيك رجعك حامل بأخ إلهن؟ (مقهقهاً)". بدأت الشابات الثلاث يتوسلن إليهم أن يتركوهن في حالهن بعد أن ادّعين أنهن لم يكنّ يتظاهرن بل كنّ هناك بالصدفة، فما كان من الضابط إلا أن طلب منهن أن يركعن ويقبّلن حذائه مقابل تركهنّ يذهبن في حال سبيلهن. أخبرتني صديقتي عن الموقف وبكت بألم، ولم نتحدث عن تلك الحادثة بعدها.

 كلما عادت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، أستغرب ممن يسألنا عن سبب قيامنا بثورة في سوريا، مشيراً إلى أن الوضع كان أفضل قبل الثورة! وكأننا كسوريين وسوريات لا يحق لنا أن نمتلك خيارات غير الأسد، تماماً كما قال مؤيدو النظام وكتبوا على الجدران " الأسد أو لا أحد". 

مشوار في بساتين المعضمية ومحاكمة الخطيب 

في أحد الأيام في نهاية شهر شباط من عام ٢٠١٢، كنت أشعر بتوعك لبضعة أيام. زارتني صديقتي وأخوها، واقترحا عليّ أن نذهب إلى البساتين بسيارتهم حتى "نغير جو" فوافقت. المعضمية فيها بساتين زيتون رحبة يزداد جمالها في الأيام الأولى من فصل الربيع. وبينما نحن في السيارة، مررنا من أمام مجموعة أشخاص يقفون في أحد البساتين وكان يبدو أن شيئاً ما قد حدث. أوقفنا السيارة ونزلنا لنرى جثتين ممددتين على الأرض الزراعية الرطبة. كان يبدو أن الجثتين لرجلين في أواخر الثلاثينات أو أوائل الأربعينات وكانت عيونهم مذهولة تنظر إلى السماء. إلى هذا اليوم أشعر بالقشعريرة كلما تذكرت المشهد وأشعر أن قلبي قد سقط في مكان عميق. كان أحدهم يرفع يديه إلى الأعلى وآثار الوثاق واضحة على معصميه مما يدل على أنه تعرض للـ"شبح"، بينما كانت لدى الآخر آثار حبل على رقبته. علمنا فيما بعد أن الشخصين تم اعتقالهما لفترة وجيزة من قبل "اللجان الشعبية" المدعومة من قِبل النظام قبل أن يتم تعذيبهم ورميهم هناك. 

لم يعلم أحد من هما ولا من أي عائلة أو منطقة جاءا، فتم دفنهما كشهيدين مجهولَيّ الهوية. لفترة طويلة كان همي أن أعرف من كانا. كنت لا أصدق أن عائلتهما لا تعلم عنهما شيئاً، هل لديهما شريكة؟ هل لديهما أطفال؟ أحباؤهما لا يعلمون إن كانا بين الأحياء أو الأموات ولا نعلم إذا ما كانوا ينتظرونهما ليعودا يوماً ما. اختفيا هكذا دون وداع لائق ودون كلمات أخيرة وحتى دون قبرٍ تزوره العائلة. 

في السنوات العشر الماضية، لم يغب وجهاهما عني، أتذكرهما كثيراً، وأتساءل في نفسي، ماذا حل بعائلتيهما؟ مع كل ما حل بي، مع كل الانتقالات والظروف، كانا يخطران في بالي بين الحين والآخر. 

تتالت الأخبار عن الآلاف من الشهداء مجهولي الهوية بعدها في سوريا، ولكن عندما ترى شهيداً منهم بعينيك، وترى آثار تعذيبه ونظرته الشاخصة إلى السماء، سيبقى يطاردك ليذكرك بهم كلهم. كل الضحايا والشهداء الذين لا عدالة لهم، لا رثاء لهم ولا شاهدة قبر نَكتب عليها اسمهم وتاريخ ميلادهم وتاريخ وفاتهم. 

ذاكرتي مبعثرة وقصصي تعود في خط زمني متعرج دائماً…

سأنتقل هنا من عام ٢٠١٢ إلى شباط من عام ٢٠٢١ وبالضبط في مدينة كوبلنز. على ضفاف النهر، يقع مبنى المحكمة الإقليمية العليا، حيث وقفنا منذ الصباح الباكر ننتظر دورنا في الدخول لحضور محاكمة إياد أ.، العنصر الأول في "محاكمة الخطيب" أو "الفرع ٢٥١".

في السادسة صباحاً، وأثناء انتظارنا أمام المحكمة، كانت تدور نقاشات عن سوء الوضع الاقتصادي في سوريا ومفهوم العدالة للسوريين في الداخل السوري. تحدثنا عن مصر وسوريا وعن الثورة و"العيش/الحياة" و"العيش/الخبز"، وجاءت في خاطري رواية الكاتب عزيز نيسن بعنوان "يحيى يعيش ولا يحيى"، الرواية التي قرأتها عدة مرات في مراهقتي، والتي جعلتني أفكر: هل يعيش السوريون والسوريات حقيقة أم يحيون؟ 

في قاعة المحكمة، كنت أجول بنظري يمنة ويسرة، أرى بعض الوجوه المألوفة وأحدق في الجدار خلف مقاعد القاضية والفريق القضائي. كانت هناك مئات الملفات الملونة والمرتبة بألوانِ متدرجة. في تلك اللحظات، كانت تدور الكثير من الأسئلة في خاطري وكنت متوترة ولم أرد إظهار توتري أمام الآخرين. ما هي العدالة؟ هل هذه خطوة نحو العدالة؟ ما هي العدالة التي نريد؟ هل عليّ أن أكون متفائلة لأن هذا يحدث الآن؟ أم عليّ الشعور بإحباط شديد لأن الأمر تطلب عشر سنوات من الانتهاكات المستمرة حتى نصل إلى هذه الخطوة البسيطة والتي تتمثل بمحاكمة عنصر واحد من المنظومة الأمنية الضخمة في سوريا؟ تذكرت! نعم! عشر سنوات مرت على الثورة السورية! بعدها بدأ يتعرق جبيني عرقاً بارداً وضِقت ذرعاَ بالكمامة والجدران الشفافة التي تفصل الجمهور بعضه عن بعض. شعرت بالرغبة في البكاء وفي ضم شخص ما. 
 
كنت أفكر في تلك اللحظة التي كنا نجلس فيها في قاعة المحكمة بالجرائم المستمرة في العالم الآخر، ذلك العالم الموازي الذي يعيش فيه السوريون والسوريات في سوريا، ولا نعلم إلى متى... 

دخلت القاضية، وقفنا جميعاً، نطقَت بالحكم بشكل مختصر ومن ثم جلست لتقرأ المعلومات المفصلة التي دفعت إلى ذلك الحكم الذي كانت مدته أربع سنوات ونصف. تحدثت القاضية عن قمع المظاهرات واعتقال وتعذيب المتظاهرين واقتحام المدن وانقطاع الكهرباء والإنترنت وجرائم النظام بالتفصيل. ذكرَت دومَا، ثم ذكرَت درعا، قلبي كان يخفق في كل مرة كان يُذكر فيها اسم مدينة سورية. ثلاث ساعات متواصلة من قراءة القاضية لانتهاكات النظام السوري. كنت منهكة جداً من كثرة التفاصيل التي اعتدت الهروب منها يومياً وتكاد لا تفارقني. وفي ظل الجدل الدائر بين السوريين والسوريات حول المحاكمة قلت في نفسي: فليكن رأي الجميع ما يكون، لكن أن تسمع هذا كله بأُذنك وفي هذا المكان، فلا يسعك إلا أن تشعر بأن هناك إنجازاً تم تحقيقه ولو لم تكن تلك سوى خطوة واحدة صغيرة جداً نحو الأمام. 

طوال الوقت في ذلك الصباح داخل المحكمة، لم تفارقني صورة الشهيدين مجهولَيّ الهوية التي ربما كانت تريد إخباري بشيء ما. تساءلت عن سبب استرجاع هذه الذكريات لأشخاصِ لم يعودوا معنا. هل هي المسؤولية؟ هل هو الشعور بذنب النجاة أم هي الصدمات النفسية التي تلاحقنا؟ أم هل كل ما سبق صحيح؟ 

ما هو العادل وغير العادل؟

تدور الكثير من الأحاديث حول معنى العدالة. لم نعتد أن نفكر كثيراً في العدالة، لم أحضر من قبل جلسة محاكمة في حياتي ولا أعرف حتى شكل قاعة المحكمة في سوريا. أذكر أن أبي قد فعل وانتهت محاولاته بتحصيل حقه لأكثر من ٢٥ عاماً بالفشل. باختصار: عمل والدي لسنوات من أجل شراء قطعة أرض وبنى عليها منزلنا. في النهاية، ونتيجة لعملية احتيالية، قضت المحكمة بأنه كان البناء مِلك لنا فيما عادت لصاحبها السابق الذي قبض ثمن الأرض ومن ثم استعادها بعد تزوير في الأوراق من خلال الوساطة والرشوة. على الأقل كان لدينا مكان نسكنه ونسميه منزلاً حتى لو لم نكن نملك أرضه فعلياً. 
الكثير من السوريين يعيشون ويموتون وهم ما زالوا يحلمون بامتلاك منزل مهما كان شكله ليعيشوا فيه بكرامتهم. بل إن البعض لم يكن يمتلك ثمن قبرٍ يضمه. من المضحك أننا لم نكن نملك منزلنا، لكن والدي اشترى قبراً قبل الثورة بسنتين في مقبرة جديدة تقع بالقرب من منطقة السومرية ومطار المزة العسكري.

عندما بدأَت انتهاكات النظام تزداد في المعضمية، وعندما ازداد عدد الشهداء، ومع استحالة الوصول إلى تلك المنطقة من المدينة، تم إنشاء مقبرة بين البساتين سُميت " مقبرة الشهداء". كان أخي عبيدة من الشباب الذين تطوعوا لتجهيز المقبرة وتجهيز هيكلية بسيطة للمكان لتصبح جاهزة لدفن الشهداء من ضحايا القصف والقناصين. كانت المقبرة مستهدفة بشكل كبير من "شعبة الكيمياء" التابعة للجيش السوري، والتي تقع أيضاً في بساتين المعضمية، والتي أُصيب أخي بنيرانها مرتين أثناء الدفن. كان قلبي في كل مرة يخفق وكثيراً ما أسأله "عبيدة، كيف فيك تعمل هيك؟ مانو كتير قاسي هالشي عليك؟" 

وكان يجيب "أقل هالشي لها الناس اللي عم تموت تلاقي مكان تندفن فيه بكرامة، يمكن ما قدرنا لسا نحصل حقنا نعيش بكرامة، بس خلينا نموت بكرامة عالأقل".

دَفَنَ أخي عبيدة خمسة من أولاد عمي الذين فقدناهم على التوالي، وابن خالي. في يوم وداع ابن عمي، كنت أقف في الزاوية في المشفى الميداني أصور والدي وهو يَؤُمّ الآخرين في صلاة الجنازة ويظهر عبيدة في الصف وراءه. اليوم أشاهد الفيديو في برلين ولا أستوعب كيف كان كل هذا حقيقياً. في الفيديو، يظهر ابن عمي المكفن بالأبيض وسط إضاءة خافتة في المشفى الميداني الذي كان عبارة عن قبو، والذي كانت يتسلل إليه القليل من أشعة الشمس بطريقة تضيف ألماً للمشهد. أشاهد التسجيل اليوم وكأنه مشهد من فيلم تمثل فيه شخصيات لا أعرفها وتدور أحداثه في مكان لم يسبق لي التواجد فيه.

في يوم ٢٩ آب من عام ٢٠١٣، قُتل أخي عبيدة وزوجته مريم وابنهما أحمد ذوالـ ٦ سنوات بقصف من "الفرقة الرابعة" على المعضمية. دُفن عبيدة ومريم وأحمد في ثلاثة قبور بجانب بعضهم البعض، في القبور نفسها التي جهزها عبيدة للشهداء الآخرين، وإلى جانب أولاد عمي وابن خالي والكثيرين الذين فقدناهم.  

لم أزر قبورهم أبداً. فقد كانت المقبرة مستهدفة بالقصف بالفترة الأخيرة خلال تواجدي في المعضمية، وذلك يؤلمني كثيراً. تذهب عائلتي إلى هناك بين الحين والآخر، يزرعون الورود على قبورهم، يعتنون بها ويلتقطون لي بعض الصور، لأكتفي أنا بالحلم بالوقوف يوماً أمام قبر أخي، لأخبره بالكثير. فكرت كثيراً في ما  سأقوله لعبيدة ومريم وأحمد عندما أزور قبورهم وكررت الجمل في رأسي، أريد أن أكون هناك يوماً ما. 

أحياناً، أفكر وأقول بأننا على الأقل لدينا قبرٌ نزوره. ولا تغيب العزيزة مريم الحلاق عن بالي. مريم، تلك الناشطة العظيمة ووالدة الشهيد الطبيب أيهم غزول الذي استُشهد تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري، والذي حصلت عائلته فقط على ورقة تشير إلى وفاته، ولسنوات، لازالت مريم تناضل للحصول على" قبر يزار".

اليوم نحن إلى أين؟ 

منذ يومين، قرأتُ اقتباساً للناشطة والمحامية رزان زيتونة المختطَفة من قِبل "جيش الإسلام" منذ عام ٢٠١٣، وهنا أضع مختصراً لما قالته: "أجمل ما في أصدقائي أنهم لا يكفون عن التعبير عن دهشتهم بأنفسهم وبالآخرين. وعن احتفائهم بالحرية التي لاتزال مشروعا حتى اللحظة." 

الحرية لازالت مشروعاً في سوريا، للمعتقلين ولكل السوريين والسوريات.

بعد كل ما جرى، نعترف بأننا أصبحنا مكسورين ومخذولين ومتعبين. لقد مرّت عشر سنوات استنفذتنا وأنهكتنا بجد، لكن الحرية تبقى مشروعاَ قيد العمل، الحرية بكافة طبقاتها ووجوهها.