صعود العدمية المقاتلة في سورية

صعود العدمية المقاتلة في سورية

تهتم هذه المقالة بتقصي ظهور عناصر المُركّب العدمي في سورية، العنف والتدين وسحب الثقة من العالم، في ظل الثورة المستمرة منذ أكثر من أربعة عشر شهرا. من شأن التقاء هذه العناصر الثلاثة أن يولد حركة عدمية إسلامية من نوع تنظيم "القاعدة". وفرص هذا الاحتمال تكبربقدر ما يتوفر لأمد أطول شروط إنتاج هذه العناصر، وإضعاف ما يحتمل أن يضادها من مقاومات اجتماعية.

الشيء المميز في السياق السوري، والعربي عموما، هو استقرار المنازع العدمية على الإسلام في صيغه الأكثر تشددا والأشد نفيا للعالم. ستحاول المقالة توضيح هذه النقطة.

سحب القيم من الواقع مميز للثورات، ففي كل منها جانب عدمي، لذلك سنتكلم أحيانا على عدمية ثورية، موجهة في نحو قلب كلي للواقع القائم، أو على عدمية مقاتلة لاعتمادها على القوة المسلحة في قلب الواقع.

هناك ثلاث عمليات تجري في الواقع طوال عام وشهرين ونيف، وتسهم في ظهور استعدادات عدمية.

العملية الأولى هي العنف العدواني المستمر من طرف النظام، القتل والتعذيب والقصف الأعمى والمذابح والتهجير وحرق المنازل والاغتصاب، والإعدامات التعسفية، وحرق بعض الناس أحياء...، وهو ما يثير شعورا محتدما بالغضب والذهول، في بيئات مسلمة سنية بخاصة، تشعر بأنها مستهدفة على نحو تمييزي بأشد عنف النظام وأكثره تدميرا لحياة الأفراد ولشروط حياة الجماعات في عشرات المواقع في البلد. ويلعب هذا الشعور لمصلحة اقتناع يزداد انتشارا بأن هذا النظام العنيف الذي لا ضوابط له من نفسه لا يسقط بغير العنف. بعد عام من الثورة، ومواجهتها منذ اللحظة الأولى ودونما توقف بعنف مهول، أمسى المجتمع السوري مثالا للمجتمع المعنّف، الذي عومل بقسوة ولوقت طويل، فلم يعد يثق بأحد، ويحتمل أن تعتمد القطاعات الأشد تعرضا للتعنيف منه إلى مواجهة العنف بالعنف والقتل بالقتل. ولن يكون ذلك عقابا مستحقا للمعتدين في عين المعتدى عليهم فقط، ولا قصاصا حيويا واجبا فقط، وإنما هو كذلك تعبير عن الكرامة والشمم.

العملية الثانية تتصل بمشهد المعارضة السورية المتخاصم، والأقرب إلى الركاكة عموما. ليست المشكلة هنا في اختلاف التوجهات والمواقف أو في انقسام المجموعات المعارضة، ولا في ضعف الطيف المعارض ككل وعجزه عن إحداث التغيير في البلد، بل في شيئين محددين: التنازع المستمر، دون وجود ما يقنع بأن أسباب التنازع عامة ووجيهة، بل وبوجود ما يرجح أن يكون دوافع شخصية للظهور وترقية النفس وراء معظمها؛ ثم المستوى المتواضع عموما، الرث غالبا، لمعظم المتكلمين المعارضين، وافتقارهم المشترك إلى رؤية واضحة وانضباطهم بها. محصلة ذلك تدهور الثقة بالمعارضين ككل، وما يقارب نفض اليد منهم جميعا ودون تمييز. في أحسن الحالات هم عاجزون لا شأن لهم، وفي أسوئها هو أناس غير محترمين وجديرون بالازدراء. هذا حين لا يكونون عملاء متنكرين للنظام، وهو ما لا يندر أن يوصف به بعضهم من قبل ناشطين في الثورة. وتجد هذه الأحكام تكميلها المنطقي في اعتماد الثائرين المحليين على أنفسهم. مسار الثورة السورية طوال عام هو مسار استحواذ المجتمعات المحلية على السياسة والكلام والفضاء العام، ليس في مواجهة النظام وحده، وإنما ضد الجماعات السياسية المعارضة أيضا. وليس من النادر أن يجري التعبير عن هذا الاستحواذ بلغة تدين السياسة ذاتها، وتحكم عليها بالقذارة والفساد، وعلى السياسيين بالكذب والوصولية واشتهاء السلطة.

العملية الثالثة هي حالة الشلل العربي والدولي حيال الزمن السورية طوال أكثر من عام. قالت دول عربية وقوى دولية كلاما واضحا في تحميل النظام المسؤولية عن قتل شعبه، وتكرر مرات أن أوحت لعموم السوريين أنها إلى جانب كفاحهم وتضحياتهم، وأن عمر النظام السوري لن يطول، لكنها بعد انقضاء نحو 15 شهرا لم تفعل شيئا من شأنه أن يسهم في وقف هذه المقتلة المستمرة، أو قالت الشيء وعكسه. وقد حصل غير مرة أن استخلص النظام بحق من مواقفها وتصريحات ساستها أنه حصين في إطلاق يده في مصير محكوميه وفي البلد. ولقد أفضى ذلك في المحصلة إلى شعور منتشر بدوره بين السوريين بأنهم متروكون لمصيرهم، العالم غير مبال بهم، إن لم يكن متآمرا عليهم. ولا تنقص ذاكرة السوريين مبررات وجيهة للتشكك في العالم، والقوى الغربية بخاصة.

ولقد أتى الأثر المتعاضد لهذه العمليات الثلاث على ثقة السوريين بأية قوى منظمة حولهم، وإلى موقف يزداد سلبية من الجميع. وقد وجد هذا الواقع انعكاسه في بعض لافتات السوريين وهتافاتهم، وهي تعبر عن حالتهم النفسية تعبيرا مباشرا. في 17/2/ 2012، أثناء حصار وقصف بابا عمرو في حمص، رفعت "كفرنبل المحتلة" المحتلة لافتة تقول: "أو تظنونا مغفلين؟ دماؤنا أنهار، وأنتم تمثلون وتتبادلون أدوار الخير والشر! العالم كله كذاب ومخادع"! إن كلمة "المحتلة" التي تصف كفرنبل نفسها بها، وقد شاع تداولها في لافتات مناطق أخرى، تحيل إلى سياق نفسي وسياسي يتقبل المواجهة بالقوة من أجل التخلص من الاحتلال والتحرير.

والهتاف الشهير: يا ألله، ما إلنا غيرك يا ألله! وقد ظهر في صيف 2011، بعد شهور من انطلاق الثورة، ينطوي على شعور مشتد بالعزلة وفقدان السند. وفي يوم 17/3/2012، وفي مظاهرة تشييع شهداء اليوم السابق، هتف المتظاهرون في الرقة: شعبك أعزل يا ألله! في جملة واحدة أعلنوا أنهم شعب الله وأنهم عزّل، يستهدفهم بالقتل نظام مسلح وعدواني. الجمع بين الله والسلاح هو مخرج "شعب الله الأعزل" من ضعفه.

قبل ذلك، في الخريف الماضي، 14/10/2011، رفعت بلدة "كفرنبل المحتلة" نفسها لافتة حظيت بالشهرة لكونها تجمع بين الطرافة والمأساوية، تقول: "يسقط النظام والمعارضة، تسقط الأمة العربية والإسلامية، يسقط مجلس الأمن، يسقط العالم، يسقط كل شيء"! بلدة كفرنبل مغمورة مثل سورية كلها، والانطباع العام عن سكانها، وعن محافظة إدلب ككل، يحيل إلى التدين المحافظ. وفي تسقيطها الجذري والشامل والمتساوي لكل شيء تعبر اللافتة عن رفض أي تمييز إيجابي لصالح أي كان. الجميع أشرار أو متواطؤون، أو لا فائدة منهم. وعلى أبواب عام من الثورة، رفعت لافتة تسقيطية أخرى في بلدة بِنِّشْ التي لا تختلف اجتماعيا وثقافيا عن كفرنبل، تخلو هذه المرة من الطرافة، لكنها أكثر يأسا وجذرية: "تسقط التنسيقيات والمجالس، يسقط الخونة في المجلس الوطني، تسقط الصفحة الرئيسية للثورة السورية [على موقع فيسبوك، يجري عليها تصويت موجه لأسماء الجمع]، يسقط اتحاد التنسيقيات والهيئة العامة للثورة".

ما يميز هذه اللافتة أنها تعلن سحب ثقة جذري من المعارضة تحديدا، بما فيها التشكيلات التي نشأت في ظل الثورة وبالارتباط مع الثورة.

على أن هذا ليس يأس القانط المستسلم، بل يأس الغاضب المستميت في الصراع، وهو ليس إعلان انسحاب من الصراع، بقدر ما هو سحب ثقة من تلك المسميات التي ربما كان يُعوّل عليها. ما ينتهي هو التعويل، وليس الغضب ولا الصراع ذاته. تفيد معلومات متواترة أن من يكف عن التظاهر يحمل السلاح أو يبحث عن سلاح، ولا يجلس في بيته. ومن المحتمل أن يقود تلاقي الاستماتة (مزيج من الغضب والعزم الجذري على القتال) والسلاح إلى تطور الصراع إلى صراع عدمي، صراع مطلق، قاتل أو مقتول. لقد خاض النظام الصراع ضد الثورة منذ البداية بهذه الذهنية.

فإذا وضعنا في بالنا الطابع اللامركزي الشديد للثورة السورية، وقد تولد عن ما يقرب من نصف قرن من الانقطاع والعزلة المفروضين على المجتمع السوري، ومن إشغال النظام بالقوة الموقع المهيمن على تفاعلاتهم جميعا، ومن استراتيجية تقطيع الأوصال التي اعتمدها في مواجهة الثورة منذ البداية، وقد تسببت كما هو معلوم في تعذر انعقاد الأنشطة الاحتجاجية في ساحات مركزية كان من شأنها أن تتيح تلاقي روافد سورية متعددة، وربما قدرا من النقاش وتبادل الآراء والثقة العامة، أقول إذا وضعنا هذا كله في البال يتبدى لنا أن التجزؤ الشديد والاضطراري لأنشطة الثورة، هو عملية إضافية أسهمت في تسهيل أمر انتشار المزاج العدمي: اللاثقة الشاملة، والنزوع إلى العنف، والتجذر الديني. "الإسلام" يسبغ صفة مطلقة على الصراع، أو يضفي قيمة إيجابية على صراع مطلق مفروض. يضفي "الإسلام" كذلك الشرعية على الرد بالعنف بوصفه جهادا، وعلى الموت المحتمل بوصفه استشهادا. كما يشرِّع، عبر مفهوم الكفر، لنزع قيمة جذري عن النظام.

لكنه يتشكل هو ذاته بصورة تستجيب على أحسن وجه لنوازع القطيعة والإطلاق والتكفير[1]. السلفية الجهادية توفر بالضبط إسلاما كفؤا لتلبية هذه الحاجات.

ومما يحتمل أن يلعب لمصلحة أية مجموعات متطرفة داخل الثورة السورية تجزؤ المجموعات المقاتلة وافتقارها إلى تنظيم موحد وقيادة فعالة وعقيدة جامعة[2].

وإلى ما سبق قوله عن اللاثقة الشاملة، وعن التجزؤ أو تعدد بؤر الثورة، قد نضيف تجزؤ أو تفتت الرؤية، والافتقار المطرد إلى الوضوح في شأن مسار الثورة ومآلاتها والمستقبل الوطني. هذا متولد عن حالة الاستعصاء الواسمة للوضع السوري طوال أكثر من عام، وكذلك عن ضعف دور النخب الثقافية والسياسية وقلة الثقة بها. وهو أمر يصعب ألا يكون مسوغا بالنظر إلى الأداء العام للسياسيين والمثقفين من جهة، وإلى خصوماتهم ومناكفاتهم المستمرة من جهة أخرى. الحيرة والتشوش يزكيان ذلك منزعا "فِعْلجيا"، يحتقر الأفكار والسياسة والبرامج والخطط، والسياسيين والمثقفين، وقد يرضى بمزيج من الكفاف الفكري ومن الفاعلية المحضة الموجهة نحو تغيير الواقع مباشرة وبالعنف. هذا المزيج هو ما يعرضه الإسلاميون المتشددون. نتكلم على كفاف فكري لأن إسلام المتشددين هو أقرب شيء إلى جملة وصفات عملية، تقترب القيمة الفكرية المضافة فيها من الصفر، ومعلوم أن ذلك الإسلام عدائي حيال جوانب واسعة من التراث الثقافي الإسلامي.

وبينما تدفع العروبة ثمن كونها العقيدة الرسمية للنظام السوري، فإن "الإسلام" هو وحده ما يكسب دوما من سحب الثقة من النظام ومن العرب ومن العالم. تقول لافتة رفعت في بلدة طفس في درعا يوم الجمعة 6/4/2012: "طز بالعرب أجمعين/ معنا رب العالمين!". ليس هجاء العرب من قبل عرب جديدا، لكن اندراجه في سياق يستند إلى "رب العالمين" جديد فعلا. جدير بالذكر أنه أطلق على يوم الجمعة المذكور اسم "من جهز غازيا فقد غزا"، وهو حديث منسوب إلى النبي، ويتكثف فيه كما هو ظاهر التقاء الدين بالعنف، أي "الجهاد" (وبنشدان الدعم المالي من أغنياء دول الخليج، على ما قال بعض العارفين).

وبعد أن بُحّث الأصوات وهي تصرخ بجزع: أين العرب؟ أين المسلمين؟ أين العالم؟ آل الأمر بقطاعات متسعة من السكان إلى سحب ثقتهم من الجميع: كل القوى السياسية سيئة أو متآمرة أو فاسدة، كل الأطراف العربية والدولية متواطئة أو عاجزة، أما النظام فهو سفاح مسلح لا مبدأ له، وتاليا لا سبيل لغير العنف في مواجهة العنيف. قد لا يُمارس العنف المسلح دوما، لكن الاقتناع به منتشر. وإلى ذلك ينتشر هجاء السياسة ذاتها، وهو ما يناسب التيارات العنفية و...الحكام الدكتاتوريون.

وبعد هجاء السياسة لن يتأخر مديح السلاح. في آخر العام الماضي، صار يسمع هتف في حماه يقول: لا سليمة ولا بطيخ/ صار بدها طاخ وطيخ (الصوت المفترض للعلعة الرصاص). ومثل ذلك كتب على لافتات في منطقة جبل الزاوية.

وهذا نزوع نام ومتصاعد بلا ريب في أوساط متسعة من المجتمع السوري، مسلمة سنية أساسا، دون أن يكون في الأصل خيارا لأحد أو تفضيلا إيديولوجيا أو سياسيا لأية جماعة.

يلزم التنويه هنا إلى أننا لا نساوي بين أية مقاومة للنظام بالقوة وبين العدمية. الواقع أن الشكل الغالب من المقاومة العنيفة للنظام ليس عدميا، وليس مرتبطا بسحب نسقي للمعنى من العالم، ولا بعقيدة دينية. إنه عنف دفاعي، منظم بقدر ما، وتوجهه الفكري العام وطني سوري، وإن كان مرجحا أن أكثر ممارسيه مؤمنون. الجيش السوري الحر هو الإطار الفضفاض لهذه المقاومات المسلحة، وهو ليس منظمة عدمية ولا يشبهها من قريب أو بعيد، لا في أصول قادته وكتائبه ولا في توجهاتهم الراهنة. وأكثر من ذلك، نقدر أن من شأن الاعتراف بشرعية الجيش الحر، والعمل على تنظيمه سياسيا وفكريا، أن يجعل منه سدا في وجه صعود الميول والتشكيلات العدمية المقاتلة. وبالعكس إذا تعثرت هذه العملية التي تجري اليوم بمشقة، وإذا تفكك الجيش الحر، فإن ما سنحصل عليه هو نمو المزاج القاعدي. العدمية لا تتولد عن مقاومة النظام العنيف بالعنف المنظم، بل عن احتمالات فشل هذه المقاومة.

ولا يتناقض مع المنزع العدمي ركونه إلى الدين، صيغه الأكثر تشددا والأكثر انقباضا حيال الحياة العادية. هذا شكل العدمية المرجح في مجتمع لم يعد يثق بأي من الوسائط البشرية الحديثة، لا السياسة ولا الثقافة ولا القوانين والمؤسسات، ولا "المجتمع الدولي". نفي الوسائط والارتباط المباشر بالله أو بالكلام الإلهي، مفهوما فهما حرفيا، هو السمة المميزة للإسلام المتشدد في كل حين. جاذبية المذهب الوهابي، وهو نفي جذري للوسائط، أي أيضا للتاريخ، تشتد بقدر ما نفقد الثقة بالعالم من حولنا[3].

ويوفر مفهوم الكفر الإسلامي، وهو سهل الاستنفار في الفكر الإسلامي عموما، وبخاصة عند التيارات السلفية، أرضية دينية لسحب الثقة والقيم من العالم، وإيجاد سند إسلامي وكوني عريق للعدمية ونفي العالم. لدى الإسلام الحديث (وبدرجة لا بأس بها في الإسلام ذاته[4])، استعداد عدمي قوي، لكونه يستبطن لاء نافية للعالم، منذ أدرجت عوالم المسلمين في "الحداثة" من موقع المنفعل والضعيف[5]. وهو نزاع على الدوام لتخفيض قيمة الوجود الواقعي، لمصلحة ما يفترض أنه ماهية المسلمين، الموافقة كذلك لقوتهم ورفعة شأنهم. خفض قيمة الوجود الواقعي وجه ثابت لكل عدمية ممكنة.

قد نسمي عدميتنا عدمية فيض المعنى (مقابل شح معنى العالم الذي يفترض أن العدمية الأوربية تولدت عنه). لكن الأمر أوثق صلة لدينا بالتخارج التام بين المعنى والعالم. العالم المعاصر، كـ"دنيا" وكواقع مباشر وكمجال دولي، يمثل لكثير من سكان بلداننا كعناء لا نستطيع تمثله وتمثيله أو نسبة معنى إليه، ويسهل تاليا رفضه، ما يسوغ قلبه والعمل على تدميره. وهذا يناسب إيديولوجيين إسلاميين متعطشين للسلطة، يحتكرون المعنى لأنفسهم، ويجعلون من التحكم بمعنى الإسلام وتعريفه الصحيح أساسا لأحقيتهم في حكم مجتمعاتنا المعاصرة.

عدميتنا، تاليا، شريكة لكل عدمية حديثة في الجذر الأساسي، اللامعنى الجذري للعالم، وإن كان الميل المميز للعدمية العربية المعاصرة أنها إسلامية العقيدة[6] ونزاعة إلى العنف المطلق أو "الإرهاب"، على نحو يقربها من العدمية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر. وما يميز الإسلاميين عموما في عصرنا من التقليل من قيمة الوسائط الثقافية والسياسية المعاصرة جميعها، أو ردها إلى أدوات وإجراءات، وقصر المعنى على "الإسلام" وحده، هو رصيد مستمر للعدمية في الواقع. لقد تناءى الله كثيرا مع الحداثة، والفكر الإسلامي لم يأخذ علما جديا بهذه العملية التاريخية الكبرى التي لا تبقي أحدا خارجها أيا يكن رأيه فيها. من هنا ميل الإسلاميين عموما إلى العنف. فهو وثيق الصلة بسحبهم المعنى من العالم.

وبما أنه في مفهوم الجهاد يلتقي العنف والدين، وبما أن الإسلام هو السند الفكري لسحب الثقة من العالم، فإن العدمية الإسلامية تتجسد تحديدا في الحركات الجهادية. "القاعدة" تحديدا هي التجسد الأصفى للعدمية الإسلامية، ففيها يتجسد السحب الأكثر جذرية للمعنى والقيمة من العالم (كغيرٍ عريق في المغايرة، "صليبي يهودي"، وكعصر فاسد تتميز عنه السلفية وتمتاز)، والجهاد، أي الإسلام والحرب.

وإنما لذلك يبدو أن المنازع العدمية الصاعدة في المجتمع السوري تلعب لصالح الإسلاميين المتشددين، السلفيين بخاصة، وليس لصالح الإخوان المسلمين الذين يلحق بهم سوء الظن مثل غيرهم. ومعلوم على كل حال أن إنكار التيار الإخواني للوسائط أقل جذرية بكثير مما يميز السلفيين والوهابيين. ومن المحتمل، تاليا، أن يجد التيار الإخواني نفسه في مواجهة صعود العدمية السورية، وقد يكون ضحيتها بقدر ما. معلوم أن السلفيين الجهاديين يعتبرون التيار الإخواني علمانيا[7].

على أن صعود العدمية لا يجري دون مقاومات في سورية. يعاكس هذا الميل ويحد منه تقاليد المجتمعات المحلية، وهي فاعلة ومؤثرة، ومؤنسنة. الإسلام الشعبي، وهو السند المرجعي لتلك التقاليد، أوسع انتشارا وأوثق ارتباط بحياة الناس وبوجودهم الواقعي من صيغ الإسلام العالم الأكثر انضباطا وتشددا[8]. وإن تكن الصيغ الأخيرة ذات نزعات توسعية خلافا للإسلام الشعبي، وتعتمد إلى إثارة شعور بالذنب والتقصير في أوساط عموم المؤمنين لإضعاف مقاومتهم لتلك الصيغ ودفعهم إلى اعتناقها. هذا فوق أن تقاليد الأوساط المحلية هي التي تتعرض اليوم للتحطم في سورية مع تحطم هذه الأوساط ذاتها.

يحد منها أيضا حيوية المجتمع السوري، ومثابرته على الاعتراض على النظام بطرق متنوعة، مدنية وسلمية في أغلبها. الروح العامة للثورة السورية، وهي روح دنيوية مقبلة على العالم ونازعة نحو التحرر والكرامة، تشكل بحد ذاتها ضمانة ضد العدمية، وإن تكن مؤمنة ومتدينة غالباً[9]. أتصور أنه طالما الثورة مستمرة، فإن فرصة انتشار المنازع العدمية تبقى محدودة. وحدها هزيمة الثورة، بما في ذلك مكونها العسكري المتمثل تحديدا بالجيش الحر، يمكن أن تؤدي إلى انتشار واسع للعدميين الإسلاميين.

وتوفر روح الثورة مجالا لفاعلية اتجاهات متنوعة، منها ما هو لا عنفي مذهبيا، ومنها ما هو إسلامي لا عنفي، ومنها ما هو علماني... وكل هذه تشكل مساهمات مؤثرة ضد العدمية. إن مساهمة علمانيين في الثورة السورية واسعة ومهمة جدا، حجما ودورا، وإن كان يحسم منها التبعثر الشنيع للأوساط العلمانية والتدهور الفكري والأخلاقي الشديد للعلمانية المذهبية حتى قبل الثورة، بفعل اصطفافها إلى جانب النظم الحاكمة.

اليوم لا تزال عدميتنا ضحلة، قابلة للانعكاس حين تنفرج الأجواء العامة ويقل نزيف الدم والأرواح اليومي. لكن نقدر أنه كلما استمرت العمليات الثلاثة التي رصدناها في مطلع المقال، عنف مجنون من طرف النظام، وأداء ركيك من قبل المعارضة، ولا مبالاة عالمية بالمأساة السورية، فضلا عن التجزؤ الجغرافي والفكري للثورة، ضعفت أكثر وأكثر أية مقاومات ممكنة لتنامي العدمية، ولم يعد يقف في وجهها شيء.

لكن لماذا نتكلم على عدمية، عدمية ثورية أو مقاتلة، بدلا من مفهوم شائع هو "الإرهاب"؟ أو "الإرهاب الإسلامي"؟

الواقع أن التداول الغربي لمفهوم الإرهاب، قبل 11 أيلول 2001، وبعده أكثر، أفسد المفهوم إلى أقصى حد، وذلك بآليتين متكاملتين. أولاهما، نفي وجود أسباب للإرهاب أو التقليل من قيمة التفسير السببي بذريعة أن من شأن ذلك أن يبرر الإرهاب أو يضفي عليه قدرا من الشرعية. ليس للإرهاب أسباب غير التكوين الإرهابي لممارسيه أو فسادهم الجوهري، وليس لنا أن نتقصى جذورا اجتماعية أو سياسية، أو في نطاق العلاقات الدولية، لهذه الممارسة الشريرة جوهريا. الآلية الثانية، المكملة، هي إقامة ربط جوهري بين الإرهاب والإسلام، بحيث يكون الإرهاب الذي لا أسباب له نابعا تلقائيا من الإسلام. وتشيع في السياقات الغربية عبارة "الإرهاب الإسلامي" بقدر يكفي لتثبيت رباط دائم بين المدركين.

لكن هذا الطرح المتعصب لا يتيح فهم هذه الظاهرة التاريخية التي مورست في أوربا وعلى يد أوربيين أكثر مما في أي مكان آخر أو في أي نطاق ثقافي سياسي آخر، ولا هو مناسب لوضع سياسات مثمرة في مواجهة النزعات العدمية التي تشبُّ بين حين وآخر في مواقع مختلفة من العالم على أرضيات فكرية وثقافية متغيرة. نحتاج إلى شرح سليم للظاهرة كي نستطيع وضع سياسات فعالة في مواجهتها. ونشتبه في أن رفض التفسير هو بمثابة حالة إنكار عميقة التأصل في التفكير الغربي، تبرئه من مسؤوليات محتملة عن جوانب من مشكلات العرب والمسلمين المعاصرة. أن يستخدم عرب ومسلمون فكرة المسؤولية الغربية لحصر الملامة بالغرب، أو لتبرير أوضاع عربية وإسلامية فاسدة، لا يغير من صحة أن القوى الغربية تسببت في مشكلات كبيرة للعرب والمسلمين. وبينما قد تجري المجادلة في أشياء كثيرة، فإن فلسطين تجسيد مستمر لجريمة غربية مستمرة.

ويقع على الإسلام السني تحديدا الوطأة الأقسى للربط مع الإرهاب لكونه الأكثري عربيا، والمهيمن تاريخيا، والمتماهي أكثر من غيره بتاريخ الإسلام وانتشاره العالمي. وكذلك لأن منظمات سنية، "القاعدة" بخاصة، هي التجسد الأبرز للعدمية الإسلامية وللنفي الإسلامي للعالم.

فإذا عملنا على إصلاح مفهوم الإرهاب بالقول إنه ممارسة غير تمييزية للعنف، تحركها دوافع سياسية، منها بخاصة شعور شديد بالظلم والتمييز، وبفقدان السند والعداء للعالم، وشعور ذاتي بالعدل، جاز التكلم على نزعات عدمية ثورية أو إرهابية في سورية اليوم. يتعلق الأمر بممارسات عنفية عشوائية، مرشحة للاتساع، تقع على خلفية مواجهة النظام للثورة بعنف إرهابي بلا حدود، ويستند إلى العقيدة الإسلامية التي هي سند مجتمع بلا سند، وفقد ثقته بالأسانيد المعاصرة، محليا وعالميا.

وبالمقابل، ليس هناك خطأ في وصف إرهاب النظام بأنه عدمي، وأن النظام هو القوة الأشد عدمية في سورية. هذا ليس لأن النظام يتوسع في ممارسة عنف غير تمييزي ضد السكان المدنيين في طول البلاد وعرضها، ولكن كذلك لأن نظرة النظام إلى العالم مبنية على سحب جذري للثقة منه (أصولها في الصيغة البعثية للقومية العربية، أو العروبة المطلقة).

وفي أساس سحب النظام الثقة من العالم أن هذا السحب هو ما يشكل البيئة النفسية والسياسية الأنسب له للحكم. فإذا كان العالم شريرا، وكان الخصوم في الداخل أشرارا وعملاء للأشرار العالميين، كان الشيء الصحيح هو القضاء على الخصوم في الداخل وعزل المجتمع ككل عن العدوى العالمية. ولا يلزم أن يشمل العزل حكام البلاد، فهؤلاء هم التجسد الطاهر للوطنية وغير القابل للفساد. بعد أن كان يجري تركيز القيم في أمة عربية مجردة، آل الأمر إلى تركيزها الكلي في شخص حاكم طاغية، حافظ الأسد ثم أسرته اليوم.

وتشارك عدمية النظام كل نزعة عدمية في خفض قيمة الواقع المباشر لمصلحة ماهية عربية أو قضايا مصيرية، منفصلة عن حياة الناس الفعلية. هذا يتيح للنظام التحكم بالوعي العام، وفصل المحكومين عن شروط حياتهم الحقيقية، وتاليا تعطيل قدرتهم على التأثير عليها. وينبغي القول إنه كان ناجحا في ذلك، وبفضل جزئي من تخاذل المثقفين السوريين عن نقد الفلسفة الماهوية للنظام استنادا إلى الواقع الفعلي لوجود السوريين وحياتهم. الحرية لا تقوم على تصور ماهوي للذات، عربيا أو إسلاميا أو أي شيء[10].

على أن عدمية النظام مزيفة وفاسدة الضمير، ينقصها الإيمان الحار بأن العالم (كمجال دولي أو كواقع) فاسد فعلا، وأن الخصوم السياسيين عملاء فعلا، وأن المجتمع المحكوم فاسد أو متخلف ومتعصب فعلا (على ما تنص عقيدة المخابرات السورية). هذه الأحكام لا تصدر عن عقيدة حقيقة، وليس لها غير قيمة وظيفية كأدوات تساعد على الحكم، خلافا لما هو حال العدمية الإسلامية المعاصرة، ولأية تيارات عدمية تاريخية، عملية (إرهابية) أو فلسفية. وعلى كل حال ظهر مضمونها الصريح في شعارات مخابرات النظام وشبيحته: "الأسد أو لا أحد"! أو "الأسد أو نحرق البلد"! ولهذا أيضا فإن إرهاب النظام فاشي ورجعي جوهريا، وهو مجرد توسع في الإعدام والإبادة والتدمير من أجل الحفاظ على السلطة. العدميون العمليون، الروس قبل قرن وربع القرن والإسلاميون اليوم، يتملكهم شعور ذاتي قوي بالعدالة والحق، وهم ليسوا موتى قلب على ما يعرض نظام الأسرة الأسدية.

على أن وجود أسباب للإرهاب المقاوم (العدمية المقاتلة) لا يسبغ عليه الشرعية. الإرهاب عنف غير تمييزي، لا يتسبب في هدر حيوات بشرية غير مذنبة، بل هو يعفي المذنبين الفعليين من عقاب مستحق يخصهم. في الإرهاب قد يعاقب المذنب على نحو عارض، وليس على نحو ضروري وواجب، بينما يطال العقاب على نحو ضروري أبرياء. ولذلك هناك بعد إجرامي للإرهاب، أيا تكن أسبابه ودوافعه ومسوغاته. ثم أن الإرهاب لا يحقق أبدا أهدافه المعلنة. بل ليس للإرهاب أهداف، خلافا للتعريف الغربي الشائع الذي يربط بين استهداف المدنيين وبين أهداف سياسية. فلكونه يمارس تحت وطأة شعور شديد بالقهر وإنكار عدالة العالم ومعناه، فإن "هدفه" ينحل في التمرد على هذا الشرط والتخلص من الأعداء، دون أن يستطيع التعدي إلى أهداف أوسع كـ"الحرية والمساواة والأخوة"، أو الاستقلال الوطني، أو التخلص من الفقر، أو حتى معاقبة المجرمين من الحكام وأعوانهم. ليس هناك مثال واحد على تحرر أو تحقق أية أهداف سياسية بوسائل الإرهاب.

فإذا تصورنا أن منظمة عدمية وصلت إلى حكم بلد بطريقة ما، فإنه ستقيم حصرا نظام طغيان. وهذا ليس لأنها معتادة على العنف غير البصير فقط، وإنما أيضا لأن السحب الجذري للثقة من العالم يوفر الشروط الثقافية والنفسية لمنع الانشقاق والمعارضة، ولاجتثاث أية أصوات مخالفة أو مغايرة، على نحو ما نعرف في كوريا الشمالية، وفي الحكم البعثي لسورية، وفي الشيوعية السوفييتية وتناسخاتها.

وتستطيع العدمية الإسلامية بالذات أن تؤسس لحكم إرهابي إلى أقصى حد، آلة لسحق البشر والمجتمعات، عبر خفض قيمتهما لمصلحة العقيدة الكاملة تعريفا وعزلهما عن العالم، على نحو رأينا أمثلة عنه في أفغانستان طالبان.

ومن وجهة نظر المصلحة الوطنية السورية تمثل الجهادية خطرا لكون توجهها فوق وطني، متمحور حول تصور "الأمة الإسلامية" الوهمي، وليس لدى الجهاديين مشكلة في انهيار الدولة في سورية أو غيرها، بل هذا مرغوب في نظرهم[11]، وليس لديهم مشكلة في تأجج النزاعات الطائفية بل يعملون على ذلك بفجور. هذا فضلا عن العداء للثقافة وللتنظيمات الاجتماعية والسياسية الحديثة.

لذلك فإن فرص ظهور العدمية المقاتلة في سورية تزداد بقدر ما تنساق الثورة تحت وطأة الإرهاب الفاشي للنظام إلى تعريف نفسها بدلالة عدوها وتطلعها إلى التخلص منه، النظام، وليس بهدفها الإيجابي، أي سورية الحرة. أي بقدر ما تكون الثورة في وضع المستميت.

نستطيع تعقل هذا المسار أو شرحه شرحا سببيا، لكننا لا نستطيع أن ننسب إلى العدمية الثورية غايات إيجابية. وهذا خلاف التعريف الغربي الذي ينسب للإرهاب أهدافا سياسية، هي ما يعلنه العدميون الثوريون المعاصرون في بياناتهم، لكنه ينكر أسبابه. العكس هو الصحيح. الإرهاب معقول من جهة الأسباب، لكنه غير معقول من جهة الأغراض. الإرهاب يعبر، لكنه لا ينتج.

ولعل "لزوم" الإرهاب، أي كونه يستهلك ذاته ولا "يتعدى" إلى أهداف متميزة عن العنف العشوائي، مسوغ إضافي، غير التماس السند، لارتباط العدمية الثورية في سورية بالإسلام. فـ"الإسلام" يوفر له ما يفترض أنها الغايات العليا الأكثر شرعية للحياة البشرية وليس للكفاح السياسي وحده. وهو يعفي العدميين الإسلاميين المعاصرين من تعيين غايات أكثر تحديدا، يتعذر تعهدها في الشرط المستميت الذي تنتعش في ظله منازعهم العدمية الثورية.

نعترض على العدمية الثورية في سياق الثورة السورية، أو في سياق الاحتجاج الإسلامي المعاصر، أو في السياق الفلسطيني، لأنه لا يحقق شيئا، ولأنه مكلف لمن يقومون به، ولأنه قلما يؤذي الأعداء المتصورين على نحو موافق للعدالة.

ولذلك فإن في العدمية الثورية الكثير من العدم والقليل من الثورة، أو أنها بمثابة تثبّت على الوجه المميت للثورة، وجه الهدم والتقويض، إلى درجة هدم الوجه المحيي للثورة، ما يتصل بحرية البشر العيانيين وحياتهم العادية.

ونفضل مفهوم العدمية الثورية، على مفهوم الإرهاب ليس فقط لأن الغرب أفسد المفهوم الأخير، وجعله مسوغا لسياسات عدوانية كلفت الكثير في أفغانستان والعراق، ودوما في فلسطين، ولكن كذلك للقول إنه ما من خصوصية لإرهابنا المعاصر. فهو يندرج ضمن واحد من المنازع الأكثر شرعية في العالم الحديث، المنزع الثوري الذي يتأسس على اعتبار المؤسسات الاجتماعية والسياسية القائم فاسدة ويعمل على تغييرها. لكنه يفشل نسقيا في تحقيق أهداف عامة، في فرنسا كما في روسيا، وفي فلسطين في أواخر ستينات القرن العشرين وأوائل سبعيناته على أرضية وطنية وماركسية كما في فلسطين العقد الأخير من القرن والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين على أرضية إسلامية. يفشل لأنه ينشد إلى الماهية والطوبى على حساب الوجود والصيرورة والحياة الفعلية. وتفشل العدمية الإسلامية لأنها مشدودة إلى ماض متخيل، وتدافع عن ماهية إسلامية متخيلة بدورها، لا يتعرف أكثرية المسلمين على أنفسهم فيها.

والإسلام ذاته لا يكاد يمنح العدمية الإسلامية خصوصية. فالأمر لا يتعلق بالإسلام الأبدي المتماثل مع ذاته، بل بإسلام مصنوع حديثا على غرار العقائد السياسة الحديثة الكبرى، القومية والشيوعية بخاصة، استجاب لأوضاع ومطالب مزامنة على ما سبقت الإشارة. هذا الإسلام قاعدة عقدية لسحب المعنى والقيم من العالم. وكلما كان السحب أكثر جذرية، كان الإسلام هو سنده الإيجابي، وإن تشكل هو ذاته بصورة تستجيب للطلبات الموجهة إليه، أي سحب الثقة والمعنى من العالم. وبالطبع كلما كان السحب أكثر جذرية كانت فرص التطور السياسي ما بعد الثورة أشد عسرا واحتمالات الإرهاب أكبر. الثورتان الفرنسية والروسية مثالان ناطقان.

في الإسلام ذاته منزع عدمي يسهل تنشيطه، قائم على خفض قيمة "الدنيا"، وعلى المركزية القصوى للواحد على حساب العالم الكثروي، وعلى مركزية حقبة التأسيس على حساب التاريخ اللاحق، وهو ما تعزز بفعل تطورات تاريخية أهمها الحداثة الغربية التي عكرت مزاج الإسلام وجعلته قاعدة للاعتراض على العالم، ومن أهمها أيضا علاقة الخصومة مع الحكومات "التقدمية" ما بعد الاستقلالية.

لكن في الإسلام الأصلي والتاريخي ما يحد من المنزع العدمي، بخاصة واقعية الأخلاق الإسلامية وتقبلها للدنيا. ويبرز هذا الاستعداد الواقعي في كل مرة تتحسن فيه علاقة المسلمين بالعالم المعاصر، أو في الأوساط المسلمة ذات العلاقة الطيبة بالعالم المعاصر (شرائح ميسورة أو صاعدة اجتماعيا).

وفي السياق السوري المخصوص نحاذر مفهوم الإرهاب لسبب سياسي ظاهر، هو أن النظام يفضل هذا المفهوم لوصم الثورة وإدراج مواجهته لها في سياق عالمي يقربه من دول العالم جميعا، الغربية والعربية أولا. وهذا هو العنصر الأساسي في سياسته في مواجهة الثورة اليوم: هناك إرهابيون مطلقون، لا سبب لوجودهم ولا قضية لهم، مع الإحالة دوما إلى "القاعدة"، إذن العنف المطلق هو السياسة الوحيدة في مواجهتهم. ليس مفاجئا أن النظام يقلب العلاقة بين السبب والنتيجة، فوق ما يشتبه بقوة من أن مخابراته ضالعة في العمليات التي قد توصف بأنها إرهابية بالفعل.

نتحفظ على المفهوم أيضا لأن الأمر يتعلق بعناصر ثلاثة لمركب عدمي لا يزال التقاؤها محدودا، وقابلا للانعكاس كما سبق القول. وقعت عمليات يمكن وصفها أنها إرهابية في سورية، لكن هناك شبهات قوية ووجيهة بأن النظام هو من رتبها على هذا النحو. وبينما لا ريب في اتساع نطاق ممارسة العنف من قبل فاعلين معادين للنظام في سورية، فإن أكثره عنف غير عدمي، دفاعي في الجوهر، مرتبط بالثورة والاحتجاج السلمي بقدر طيب، وممارسته حتى اليوم تمييزية وبصيرة إلى حد كبير، موجهة ضد النظام وأدواته أساسا. هناك أيضا مظاهر فوضى تسلح، وهناك ممارسات غير مقبولة من وجهة نظر العدالة وحقوق الإنسان، وقد رصدت بعضها وحذرت منها منظمات دولية، وأصوات داخل سورية، إلا أنها تجاوزات محدودة جدا قياسا على ما يمارسه النظام، على ما قالت أمنستي أنترناشنال[12] واللجنة الخاصة بسورية المرتبطة بمجلس حقوق الإنسان التابع للجمعية العامة للأمم المتحدة[13]، وهي تجاوزات ضمن حركة مقاومة اجتماعية، شرعية بكل معنى الكلمة بالمعنيين السياسي والإنساني.

لكن عناصر المركب العدمي، سحب الثقة والعنف اللاتمييزي والأسلمة العصابية المتشددة، مرشحة لمساحة أوسع من الالتقاء مع توسع النظام في الإرهاب وتمادي الأزمة، إذا استمر تحطيم بيئات الثورة، لم تعرض ميول معاكسة، ترمم ثقة السوريين بالعالم وتفتح لهم نوافذ للأمل. وبينما لا يزال العنف الاجتماعي منضبطا عموما بمقاومة النظام وبالقضية العامة للثورة، وفي الغالب بارتباط مع الأنشطة الأخرى (المظاهرات، الدفاع عن النفس، المعارضة السياسية، الإغاثة...) ومع البيئات المحلية، فإن العلامة الفارقة للعنف الإرهابي أن يتسع البون بينه وبين الأوساط المحلية، وأن يتجذر في عقيدته الخاصة وصولا إلى محاربة المجتمع وتكفيره، وأن ينفصل عن قضية الثورة ويعمل على إخضاع هذه القضية له. هناك معلومات غير منظمة عن مجموعات دينية يبدو إخلاصها لعقائدها الخاصة متفوقا على ارتباطها بالثورة أو بالأوساط المحلية، وقيل إن مجموعة كهذه في جبل الزاوية أباحت لنفسها الخطف العشوائي وطلب الفدية[14].

ولا يبعد أن هناك مجموعات جهادية من صنف منظمة القاعدة، ومنها "جبهة النصرة" التي أعلنت مسؤوليتها عن عمليات الميدان في 6/1/2012، التي يفترض أنها استهدفت تجمعا لقوات الأمن، وعمليتي عمليتي تفجير فرع الأمن الجوي وإدارة الأمن الجنائي بدمشق في 20/3/2012، وعملية القزاز في دمشق في 13/5/2012. عدم الوثوق بسرديات النظام ليس تسويغا كافيا لنفي وجود هذه المجموعة التي تتوفر اليوم في سورية بيئة مناسبة أكثر وأكثر لظهورها، وليس ثمة ما يسوغ الجزم بأنها اختلاق محض من قبل النظام.

ويترتب على هذا التحليل خلاصات عملية، سبق التلميح إلى بعضها.

منها أنه كلما طال الأمد بالثورة ومواجهة النظام العنيفة لها كانت المنازع العدمية والمتطرفة مرشحة للانتشار والتنامي. المزاج المتشدد النافي للعالم ليس نتاجا وتلقائيا غامضا لتشدد إسلامي ذاتي، بل هو الاستجابة المرجحة لمجتمعات معنفة في ظل وجود عرض إيديولوجي إسلامي مناسب للعنف.

ومنها أن العدمية المحتملة نتاج محلي سوري، مرتبط بظروف الثورة، وليس انتشارا لفيروس إرهابي غريب على ما يفضل النظام القول. وأن من شأن انتصار الثورة أن يقلل من فرص تلاقي عناصر المركب العدمي، أو يدفعها في اتجاهات متباعدة، فيما من شأن تطاول أمد تعنيف المجتمع السوري أن يزيد من تلك الفرص. ولو تصورنا أن النظام استعاد السيطرة العامة فإننا نرجح أن تخرج من بين مئات الألوف، بل ملايين، الناشطين بصورة متنوع في الثورة اليوم مجموعات عدمية، يرجح أن تكون إسلامية العقيدة بالضرورة.

لذلك هناك مصلحة عامة، سورية وعربية وعالمية، في تحرر المجتمع السوري من شرط المجتمع المعنف، وتوقف الإرهاب النظامي. كان من شأن حدوث ذلك في وقت أبكر أن يتيح توقف أي عنف آخر, أما إذا تأخر الأمر فإنه يحتمل للعنف العدمي أن ينفصل كليا عن الثورة، ويكتسب قوة دفع خاصة به، لا تتوقف بمجرد توقف الإرهاب النظامي.

وللمعارضة السورية دور في إحياء الثقة ومقاومة العدمية، لا يقتضي منها التوحد بالضرورة، بل وقف تخاصم لا معنى عاما له، وخلع مظهر الرثاثة وسوء الأداء الذي تتسم به، فضلا عن قدر من الصدق والتواضع. ليست مشكلة المعارضة السورية أنها ضعيفة، ولا أنها غير موحدة، مشكلتها أنها لا تعطي انطباعا بالجدية والإخلاص، فلا تثير لدى المتابع العام شعورا بالاحترام.

وعلى القوى الدولية والعربية يقع دور مهم أيضا في معاكسة هذا الميل العدمي في سورية، عبر مساعدة السوريين على التخلص من الإرهاب النظامي. يمكن الأخذ والعطاء حول شكل المساعدة، لكن المشكلة اليوم لا تتمثل في أن القوى الدولية الفاعلة لا تريد التدخل العسكري في سورية، المشكلة أن طرح المسألة حصرا في صورة تدخل عسكري متعذر، إن لم يكن ممتنعا، يساعدها على ألا تساعد فيما تقدر عليه مما هو أقل من ذلك. المطلوب مقاطعة سياسية كاملة للنظام، وفرض حصار فعال يضمن انقطاع توريدات الأسلحة إليه، ومساعدة السوريين على أن يسقطوه بوسائلهم. هذا بحد ذاته صعب، لكنه أسهل وأقل كلفة من التدخل العسكري، وأنسب لمصلحة لسورية والسوريين.

نعيش في مجال عالمي متداخل، يمتنع أن يبقى تنامى العدمية في أي بلد منه أسير حدود هذا البلد، على نحو نعلمه من أفغانستان. وتاليا فإن القوى العربية والدولية تُسلّف نفسها المعروف حين هي تساعد السوريين لمرة واحدة على التخلص من كابوسهم. ليس في هذا ما يتعارض مع عقلانية سياسة دول قومية، وإن اقتضى منها أفقا عالميا وتاريخيا أكثر انفتاحا.

لكن، لا يبدو محتملا أن نشهد كرما كهذا في أي مستقبل قريب. الدول كلها أنانية. هذه "الرذيلة" هي فضيلتها الأسمى كدول قومية.

ثم إن التيارات العدمية، أيا تكن عقائدها، وبدرجة تتناسب مع ممارستها الفعلية للإرهاب، هي المجموعات التي تفضل أجهزة المخابرات في العالم التعامل معها. من ناحية هي تحتاج إلى هذه المجموعات كي تسوغ نفسها وعملياتها وميزانياتها الكبيرة، وهذا صحيح في الدول الدكتاتورية والديمقراطية معا. ومن ناحية ثانية تعرض هذه التنظيمات، من العدميين الروس إلى الألوية الحمراء في إيطاليا، إلى جماعة أبو نضال، إلى تنظيم القاعدة، قابلية اختراق مميزة من قبل أجهزة المخابرات، وتوجيهها بما يناسب تلك الأجهزة، بما في ذلك المخابرات السورية. يحتاج الأمر إلى تفسير لهذا الانجذاب بين قطبين العالم السفلي الأشد تنافيا: قطب النفي الأتم للواقع والإلفة الأقوى مع الموت والتوجه الأثبت نحو ماضي غابر أو مستقبل بعيد، وبين الدنيوية القصوى والجسدية القصوى والحاضرية القصوى الممثلة في المخابرات. لكن بخصوص مجموعات القاعدة بالذات، فإن ضعف علاقتها بالمجتمع وعدائها للحياة العادية وغربتها عن عالم العمل والإنتاج وطفيليتها المطلقة تسهل أمر وقوعها في مدارات المخابرات أو اختراق هذه لها.

وربما تجد أجهزة مخابرات متنوعة، عربية وغربية، إيرانية وتركية، في صعود العدمية في سورية بيئة مناسبة لشغلها وتصفية حسابها مع أي خصوم لها حسابات معهم.

وفي الأساس الأزمة السورية تكشف عجز النظام العالمي وتناقضه العميق. فعدا عن نصيب تاريخي من المسؤولية تتحمله القوى الغربية المهيمنة عن جانب من مأساة الشعب السوري عبر انتهاكها لمبادئ العدالة في دعم الكيان الإسرائيلي العدواني، وتاليا تسهيل أمر سحب الثقة من العالم وتعزيز فرص عسكرة الحياة العامة في سورية، فإن النظام الدولي ليس في موقع أخلاقي وحقوقي رفيع بقدر كافي كي يدين النظام السوري بصورة متسقة. وهو إن يكن بلا شك أكثر تقدما من النظام السوري، فإنه ليس ثناء على أحد أن تصفه بأنه أقل سوءا من نظام قاتل، هو الأسوأ دونما منافس في العالم اليوم.

ونرجح أن يشهد النظام الدولي مزيدا من اللافاعلية العامة ومن تمركز سياسة الدول حول الأمن مع عجزها البنيوي عن مواجهة المسألة السورية. وهو ما يفترض أن نستنتج منه وجوب إعادة هيكلة النظام باتجاه أكثر ديمقراطية وإنسانية.

قد يبدو هذا كلاما طوباويا، لكنه مجرد محاولة لطرح الأمر بصورة جذرية

-------------

هوامش

[1] أضع كلمة الإسلام بين قوسين لهذا السبب بالذات، أي لأن الإسلام يتشكل بصورة تلبي الطلبات الاجتماعية والسياسية والنفسية المواجهة إليه من قبل جمهور مسلم يشعر بالعزلة، ومن قبل إيديولوجيين مسلمين يناسبهم التشكل المتشدد للإسلام لأنه يضعهم في موقع المدراء الدينيين مطلقي السلطة.

[2] تنظر مقالة كرمان بخاري Jihadist Opportunities in Syria ، متاحة على الرابط: http://www.stratfor.com/weekly/jihadist-opportunities-syria

[3] ينظر كتابي: أساطير الآخرين، نقد الإسلام العاصر ونقد نقده، الطبعة الأولى، دار الساقي، بيروت، 2011؛ الفصل المعنون: عدمية فيض المعنى، ص 143- 151.

[4] وربما في المسيحية بصورة أقوى بتأثير عقيدة الخطيئة الأصلية، وفي البوذية بفعل اعتبار العالم وهما. الصوفية شكل آخر للعدمية الإسلامية من حيث أنها تشارك في سحب الثقة من العالم، واليأس من الحياة، لكنها خلافا للعدمية المجاهدة تنسحب معه. العدمية الجهادية لا تنسحب من العالم، تسحب منه المعنى وتعمل على تدميره. ثم إن الصوفية تكثر من الوسائط والشفعاء خلافا للسلفية.

[5] أساطير الآخرين، سبق ذكره، الفصل المعنون: اللا الإسلامية للعالم كأساس للأخلاقية، ص 122- 143

[6] لا يمتنع تصور عدمية عربية ملحدة ومعادية للدين. لكن العيش طوال جيلين على الأقل في ظل نظم استبداد "علمانية" جعل الإسلام قوة تمرد واحتجاج، ويلغي كليا شروط تولد عدمية ملحدة. والواقع أن ما يشبه تيارا عدميا عربيا معاديا للدين، أو للإسلام تحديدا، موجود اليوم على شكل فكري، لكنه مفتقر اليوم إلى الكرامة الفكرية وغير منتج لقيم جديدة. ويشيع أن ينضوي ممثلوه تحت جناح النظم القائمة، أو يقيمون في الغرب ولهم علاقات طيبة مع التيارات الأشد يمينية وعنصرية هناك. لكن ربما يظهر تيار عدمي ملحد بفعل إشغال الإسلاميين مساحة أوسع في المجالات العامة في بلدانهم بعد الثورات العربية.

[7] ينظر مثلا كتاب أبو ناجي إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، حيث بنسب للإخوان مشروعا علمانيا. الكتاب متاح على الرابط: http://www.e-prism.org/images/Idarat_al-Tawahhush_-_Abu_Bakr_Naji.pdf .

[8] يقول نير روزن في مقالة بعنوان Islamism and the Syrian Uprising ، إن أحد أسباب عدم انحدار حمص إلى مذابح طائفية من النمط البوسني هو التأثير القوي لمشايخ معارضين. المقالة متاحة على الرابط: http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2012/03/08/islamism_and_the_syri…

[9] في مقالة روزن المحال إليها قبل قليل نفسها يروي أن أبو سليمان الذي كان تاجر مخدرات وتحول إلى سلفي في سجن صيدنايا، وهذه سيرة تذكر بسيرة أبي مصعب الزرقاوي، حاول إقامة أمارة تخصه في جبل الزاوية لكن الناس هناك توحدوا ضده. يقول أحد قادة المقاتلين المحليين: "حين سمع الناس أنه يريد إقامة أمارة خاصة به انقلب الجبل كله ضده". ويضيف: "كلنا أخوة من هنا إلى درعا. نحن ثوار أولا وأخيرا".

[10] الحرية هي الهدف الثاني من أهداف حزب البعث الثلاث. لكن تأسيسها على ماهية عربية مفترضة، لا على السكان العيانيين، ردها إلى تأسيس للأوتاركية والانعزال عن العالم تحت يافطة الاستقلال الوطني، مع درجة متقدمة من الاستبداد وحرمان عموم السوريين من حرياتهم وحقوقهم.

[11] يراجع كتاب إدارة التوحش، سبق ذكره. والتوحش هو حالة مرغوبة من انهيار الدولة، تشكل إطارا لعمل الجهاديين، وهو "المرحلة الأخطر التي ستواجه الأمة.

[12] تقرير المنظمة المعنون: I Wanted to Die . متاح على الرابط https://doc.es.amnesty.org/cgi-bin/ai/BRSCGI/MDE2401612?CMD=VEROBJ &MLKOB=30437270000

[13] تقريرها الصادر في 22 شباط متاح على هذا الرابط: http://www.ohchr.org/Documents/HRBodies/HRCouncil/RegularSession/Sessio… .

[14] ينظر ما قالته سارة ليا ويتسن من هيومان رايتس ووتش عن الموضوع على الرابط: http://www.hrw.org/ar/news/2012/03/20 وحول جملة هذه القضايا تنظر مقالة كاتب هذه السطور: عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين. "الحياة"، 8/4/2012.