يساريون ويمينيون ضد الثورة

يساريون ويمينيون ضد الثورة

لماذا يتلاقى اليمين العنصري وبعض أطياف أقصى اليسار في دول غربية عديدة على العداء للثورة السورية؟

يطرح هذا السؤال نفسه منذ فترة على كثر من الأصدقاء السوريين الذين تفاجئهم مواقف وتعليقات لكتّاب وصحفيين تتشارك في نقد الثورة من منطلق العداء لها وحتى الدفاع عن النظام، وليس من منطلق الحرص أو رفض الشوائب والأخطاء، وهي حكماً موجودة وكثيرة.

ويمكن أن ندفع السؤال الى أبعد من ذلك. لماذا لا تحرّك الثورة السورية قطاعات ناشطة من المجتمع المدني العالمي" أو "الغربي"، رغم أن الإعلام بشكل عام يغطّي مجرياتها وثمة مئات ألوف الصور والأفلام التي تنقل مآسي السوريّين؟

تبدو الإجابة على السؤال مركّبة، وتستند الى مجموعة من العناصر المتحكّمة بجوانب من النظرة السياسية والثقافية الى المنطقة العربية وبالمعايير السياسية والأخلاقية التي تضبط العديد من المواقف والكتابات في شؤونها، والتي تجعل التعاطف أو التضامن يبدو خجولاً إن قورن بوقاحة الهجوم والتشكيك وبمثابرة أصحابه.

من هذه العناصر خوف كثرة من القوى السياسية من اتّخاذ مواقف تجاه "الصراعات" في الشرق الأوسط والهروب من الأمر بحجّة أن المسائل هناك "معقّدة"، إذ تتراكم الحروب والنزاعات وتشتدّ النزعات الدينية وغالباً ما تتمدّد تأثيراتها عبر البحر المتوسط نحو ضفافه الشمالية.

ومنها أيضاً تقدّم المنهج الثقافوي لدى الباحثين عند مقاربتهم قضايا العالم وصراعاته، وبخاصة تلك المرتبطة بالعرب وبلدانهم. فالعرب يبدون للثقافويين أقواماً تستسهل العنف سبيلاً لفضّ النزاعات، وتغرف من بئر التطرف ويصعب الرهان على قابليّتها للتحوّل الديمقراطي أو التحرّر من أعباء "الاستبداد الشرقي". وبالتالي، ليست شدّة العنف المصاحبة للثورة السورية استثناءً في سياق "حروبها الأهلية" الدائمة، ولا هي تستدعي الذهول أو التحرّك العاجل.

ومن العناصر كذلك "الإسلاموفوبيا" التي يتشارك فيها اليمين المتطرّف لأسباب عنصرية وبعض التشكيلات اليسارية لأسباب تتخّذ من العلمانوية والحرّيات وحقوق المرأة ذرائع لها. هكذا يتلاقى كتّاب في أقصى اليمين مع بعض من هم في أقصى اليسار على دعم استبداد آل الأسد بحجّة عدائه للإسلاميين عند الأوائل و"علمانيّته وحداثته" عند الأخيرين. ويضاف الى هؤلاء جميعاً مهووسو "الأقليّات" الذين يردّدون مقولات بائسة حول تهديدات "الأكثرية". بالمحصّلة، يبرّر المذكورون قتل سوريّين على أساس أنهم إسلاميون محافظون، ويفضّلون الاستبداد بحجّة اكتفائه بقمع "الأكثرية" لحماية الأقلّية! وهم في ذلك يسقطون سقوطاً أخلاقياً مريعاً، ويعبّرون عن عنصرّية دينية وتنميطات تتنافى مع كلّ ما يدّعون احترامه عندهم من "حقوق إنسان" وقيم تقدّمية...

ومن العناصر أيضاً يُسر استسلام العديد من الناشطين السياسيين لنظريّات المؤامرات لما فيها من تشويق وادّعاء فهم لخفايا الأمور ووقوف على خُبث العلاقات الدولية. وإن كانت بعض الجماعات اليسارية أقرب الى إدمان نظريات من هذا النوع، إلا أنها لم تعُد تحتكرها منذ فترة. وبذريعتها، يرفض المعنيّون النظر الى الشعب السوري وما يعاني منه، ويكتفون بذكر بديهيّات في العلاقات الدولية والصراعات الإقليمية بوصفها الباطن الجوهري الذي يُفسّر "ظاهر الأمور" التفصيلية.

ربطاً بذلك، يبرز عنصر آخر مرتبط بتعالي بعض الكتاب "التقدميّين" والمؤثّرين في الرأي العام عن التعاطي في قضايا الشعوب في المنطقة العربية وكراماتها وحرّياتها وتطلّعاتها. فما يعنيهم هو الحدود والنفط والجيوستراتيجيا وأدوار الدول الإقليمية المؤثرة وقرارات "الغرب" تجاهها. وبعضهم طبعاً يتطلّع الى الصين وروسيا متأمّلاً عودة الحرب الباردة. وهم في ذلك يلامسون العنصرية أيضاً ولو من منطلق "الدفاع عمّا يعدّونه مصالح الدول العربية" في مواجهة "الغرب الإمبريالي" على حدّ تعبيرهم، متعاملين مع الدول وكأنها كيانات بلا بشر من لحم ودم وحقوق، أو كأنّ سكانها كتل صمّاء لا عقل لها تسيّرها الخطط وتضلّلها الأكاذيب "الغربية" وتحرّكها وسائل الإعلام بالريموت-كونترول، وما عليها سوى الالتفاف حول من يحميها (أو بالأحرى يدّعي حمايتها) من الهجوم عليها، حتى ولو طحنها لتجنيبها نجاح التآمر الخارجي!

ومن العناصر أيضاً وأيضاً، تمنّع العديد من المثقفين الذين ناصروا القضية الفلسطينية بجرأة وتصميم عن التعبير عن مناصرتهم للثورة السورية بحجة الخوف من تمزّق سوريا وانتشار الفوضى فيها "على نحو يفيد إسرائيل وأميركا"، كما يقولون.

ومنها أخيراً، استعداد كتّاب بنوا شهرة ومصداقية على مدى عقود لإقامتهم في المنطقة العربية ومعارضتهم سياسات بلادهم تجاهها، للكذب والنفاق مقابل الاستمرار في جذب الأضواء والمغايرة ومناكفة ما يعدّونه سائداً في وسائل الإعلام "المين ستريم" في بلادهم، خاصة وأنه ليس على تناقض هذه المرة مع المواقف "الإنسانية" التي لطالما دعوا الى أخذها في عين الاعتبار.

يمكن أن نضيف الى ما ذُكر عوامل أخرى، مرتبطة بملل أصاب قطاعات من الرأي العام الغربي من ظاهرة الثورات العربية، خاصة بعد فوز الأخوان المسلمين في انتخابات مصر وتونس، وبعد الحرب في ليبيا، وطول المدى الزمني الذي تستغرقه الثورة السورية. ويمكن ذكر البُعد الجغرافي للمشرق العربي، ويمكن ذكر التجربة الأميركية البائسة في العراق بعد إسقاط استبداد صدام حسين، ويمكن بالطبع الحكي عن تشكيك (مشروع) بالدورين القطري والسعودي في ما خصّ سوريا، وعن القلق من انعدام استقرار يصيب المنطقة ككل، وإسرائيل في قلبها. كما لا يجدر نسيان جهود النظام السوري وحلفائه اللبنانيين والعرب وبعض الخبراء الاوروبيين المدفوعي الأجر الذين يروّجون مقالات ومعلومات مفبركة - وأحياناً صحيحة ولكن مأخوذة من خارج سياقها - عن الثورة وممارساتها وعن الأهوال التي تتهدّد المسيحيين والمشرق بأسره.

وكلّ هذه العناصر تتضافر لتغييب المشهد الأول، غير المعقّد وغير المحتاج الى كثير عناء لأخذ موقف أخلاقي وسياسي تجاهه: أكثرية شعب تثور ضد نظام يحكم سوريا منذ العام 1970، ولا يتردّد في ارتكاب المجازر وفي سجن الناس ونفيهم ونهبهم من أجل الحفاظ على سلطته (العائلية) وامتيازاته (المافياوية). أما الصراعات الاقليمية والدولية وأما المصالح والبرامج السياسية والتحالفات والمخاوف، فشأنها شأن يُبحث ويمكن التعبير عن المواقف والمحاذير (اليسارية كما اليمينية) تجاهها، فقط بعد التعبير عن الموقف الحاسم من المشهد الأول: حق الشعب السوري في الكفاح حتى التحرّر من حكم الاستبداد.

خلاصة الأمر أن الثورة السورية اليوم لا تواجه نظاماً همجياً كنظام الأسد فقط، بل تواجه داعميه أيضاً، روسيا والصين وإيران، وتواجه فوقهم كمّاً من المفاهيم العفنة المراوِحة بين العنصرية واللامبالاة والأمراض الأخلاقية لبعض اليساريين و"مناهضي الأمبريالية".

وهي الى ذلك، لا تملك حتى الآن قيادة سياسية وجهازاً إعلامياً للتعامل مع كل هؤلاء لأسباب كثيرة يمكن البحث فيها. لكنها في المقابل، تملك شجاعتها ومثابرتها، وتملك مثقّفين وفنانين وناشطين من طينة استثنائية الإبداع والشجاعة. وتملك مخزوناً من الصبر والأمل يجعل قدرة الاحتمال فيها حتى الآن صعبة الاستنزاف، ولو أن الأمور تشتدّ صعوبة وضغطاً عليها، إن داخلياً أو من الخارج.

------

نشرت هذه المقالة اولاً على أخبار NOW في 11/9/ 2012 وأعيد نشرها على موقع هينرش بُل - مكتب الشرق الأوسط بإذن من الكاتب بعد إجراء مراجعة على الموضوع.