مقدمة:
في 24 ايار 2014 انتهت ولاية الرئيس الثاني عشر للجمهورية اللبنانية كما بدأت حيث دخل الرئيس ميشال سليمان القصر الرئاسي وحيداً دون أن يتسلم الرئاسة من خلفه عاد وغادر قصر بعبدا دون أن يسلمه الى سلفه. ومع شغور المنصب الأول في الدولة اللبنانية يكون لبنان قد دخل مجدداً في مسار سياسي ودستوري عنوانه الفراغ والذي لا يمكن لأحد اليوم أن يتكهّن بكيفية الخروج منه أو عن طول المرحلة القائمة والنتائج التي قد تنتج عنها. في نظام ديمقراطي برلماني كالنظام اللبناني، منح الدستور السلطة التشريعية المتمثلة بمجلس النواب صلاحية انتخاب رئيس الدولة. فالى جانب صلاحيّته التشريعية وصلاحيته السياسية في مراقبة عمل السلطة التنفيذية، تعتبر عملية انتخاب رئيس الجمهورية من المهام الرئيسية التي يتوجب على مجلس النواب اللبناني القيام بها والتي من شأنها ضمان مبدأ توازن السلطات.
عرّفت المادة 49 من الدستور اللبناني رئيس الجمهورية اللبنانية بصفته "رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقاً لأحكام الدستور". على الرغم من الطابع الرمزي لهذا التوصيف، يتمتع رئيس الجمهورية بأهمية رئيسية في النظام السياسي اللبناني. هو رأس الدولة لكنه كذلك يمثل الطائفة المارونية في التوزيع الطائفي القائم في لبنان، ما يمنحه موقعاً سياسيًا متقدماً. وعلى الرغم من تقليص صلاحياته الا انه لا يزال يتمتع بدور مركزي في السلطة الاجرائية اللبنانية. ومنذ اقرار الدستور اللبناني واعلان قيام الجمهورية اللبنانية في العام 1926، تعاقب على مقاليد رئاسة الجمهورية عشرون رئيسًا للجمهورية : ثمانية منهم قبل الاستقلال واثنتي عشر بعد الاستقلال .
فمع انتهاء ولاية الرئيس السليمان في 25 أيار 2014 بدا للعديد من المراقبين أن هامش المناورة المتروك للبنانيين كبير نسبيًا هذ المرة. ذلك يعني انه كان بامكان الكتل السياسية الأبرز أن يختاروا رئيسًا في فرصة جدية هذه المرة من أجل أن يتم اختيار رئيس بناءً على التوازنات الداخلية وسط تدخل أقل من القوى الاقليمية كما جرى في السنوات الماضية. الا أن الانقسام السياسي القائم أدى الى عدم تأمين نصاب الجلسات كي تأخذ الانتخابات مسارها الديمقراطي الطبيعي مترافقًا مع عدم القدرة على التوافق على مرشح يكون محط اجماع. فالانقسام السياسي الذي يعيشه لبنان والمستمر منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري ما فتئ وتعمق مع استمرار الاغتيالات ومع الاحداث الأمنية في أيار 2008 قبل أن يتجذّر مع انفجار الازمة السورية وانعكاسها الأمني والسياسي المباشر على لبنان. وفي ظل تقارب مستوى القوة العددية بين فريقي 8 و14 آذار وعدم وجود قوة سياسية أخرى راجحة ، تعطل مسار العملية الديمقراطية حسب الاصول الدستورية خاصة أن امكانية عقد جلسات الانتخاب تحتاج الى الحد الادنى من التوافق أقله من أجل النجاح في تأمين النصاب.
من أجل فهم أعمق للظروف السياسية والاطار القانوني التي أوصلت لبنان الى لحظة الفراغ هذه المتمثلة بشغور منصب رئاسة الجمهورية، لا بد لنا بداية من تناول مسألة صلاحيات رئيس الجمهورية وتطورها (1) ومن ثم دراسة الآليات الدستورية التي تحكم عملية انتخاب الرئيس والالتباسات التي تعتريها (2)، قبل الانتقال لقراءة في نتائج الفراغ الرئاسي (3)، ثم للحديث أخيرا الى الاحتمالات المطروحة للخروج من اللأزمة الحالية والهامش الذي من شأن المجتمع المدني اللبناني أن يتحرك من خلاله للمساهمة في الخروج من اللأزمة. (4)
1. صلاحيات رئيس الجمهورية اللبنانية:
منذ استقلال لبنان في العام 1943 وحتى التعديلات الدستورية التي تلت اتفاق الطائف للعام 1989، تمتّع رئيس الجمهورية بصلاحيات واسعة جعلت منه المنصب الأبرز في الدولة والأكثر قوة وتأثيرًا. وقد كانت مسألة صلاحيات رئيس الجمهورية أحد أكثر النقاط خلافيةُ بين الاطراف السياسية اللبنانية قبل وبعد اندلاع الحرب اللبنانية في العام 1975 التي هي بجزء كبير منها موروثة عن صلاحيات المفوض السامي في أيام الإنتداب. اذ أنه وحتى قبل اندلاع الحرب اللأهلية في العام 1975 ركزت كل المبادرات السياسية التي طالبت باعادة تشكيل السلطة السياسية ومؤسساتها بشكل متوازن على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية مقابل مجلس الوزراء ورئيسه. ومع انعقاد اتفاق الطائف وتوقيع ورقة الوفاق الوطني التي شكلت القاعدة السياسية للتعديلات الدستورية في العام 1990 أن عدّلت النظام السياسي اللبناني وقلّصت بشكل كبير من صلاحيات الرئيس.
ومن أبرز الصلاحيات التي فقدها رئيس الجمهورية بعد التعديلات الدستورية للعام 1990 هي تصدّره للسلطة الإجرائية. فقبل التعديلات كانت السلطة الإجرائية بموجب المادة 17 "تناط برئيس الجمهورية، وهو يتولاها بمعاونة الوزراء، وفقًا لأحكام الدستور". وفيما بعد تم تعديل نص هذه المادة لتصبح السلطة الإجرائية "منوطةً بمجلس الوزراء، وهو يتولاها وفقًا لأحكام هذا الدستور". كما انه بموجب المادة 18 كان "لرئيس الجمهورية ومجلس النواب حقّ اقتراح القوانين". أما بعد التعديلات فقد سُحب منه هذا الحقّ فأصبح "لمجلس النواب ومجلس الوزراء حقّ اقتراح القوانين، ولا ينشر قانون ما لم يقرّه مجلس النواب". كذلك، بموجب المادة 33 كان لرئيس الجمهورية أن "يدعو مجلس النواب إلى عقود استثنائية". وبعد التعديلات أصبح "لرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، أن يدعو إلى العقود الاستثنائية".
أضف الى ذلك, أن "رئيس الجمهورية كان يعين الوزراء ويُسمي منهم رئيسًا ويقيلهم ويولي الموظفين مناصب الدولة، ما خلا التي يحدد القانون شكل التعيين لها على وجه آخر"، جاء تعديل المادة 53 لتُسحب منه هذه الصلاحية، ويُسمح له "بتسمية رئيس الحكومة المكلف، بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، استنادًا إلى استشارات نيابية ملزمة، يطلعه رسميًّا على نتائجها"، كما أصبح على الرئيس أن "يصدر، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم" (بعد موافقة ثلثي أعضاء الحكومة بموجب المادة 69)، ثمّ صار في إمكانه أن "يدعو مجلس الوزراء استثنائيًّا، كلما رأى ذلك ضروريًّا، بالاتفاق مع رئيس الحكومة".
وبموجب المادة 55 من الدستور كان يحق لرئيس الجمهورية أن "يتخذ قرارًا، معللًا بموافقة مجلس الوزراء، بحلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة". وجاءت تعديلات العام 1990 لتقلّص هذه الصلاحية رابطة الامر كما جاء في المادة 65 بفشل المجلس بالاجتماع طوال عقد عادي أو طوال عقدين استثنائيين متواليين لا تقل مدة كل منهما عن الشهر أو في حال رد الموازنة برمتها بقصد شل يد الحكومة عن العمل. ولا تجوز ممارسة هذا الحق مرة ثانية للأسباب نفسها التي دعت إلى حل المجلس في المرة الأولى.
في المحصّلة، يتبيّن أن معظم الصلاحيات التي كان يمارسها رئيس الجمهورية منفرداً في السابق, أُنيطت بمجلس الوزراء مجتمعاً . وعلى الرغم من فقدانه لجزء كبير من صلاحياته، إلا أن رئيس الجمهورية قد احتفظ بحيثية ودور أساسي في تشكيل الحكومات. وتنص المواد 49 إلى 63 من الدستور اللبناني على صلاحيات رئيس الجمهورية، التي تتلخص في أنه يحق له أن يطلب إعادة النظر في قانون أقره مجلس النواب، يعود له أن يطعن في القانون لمخالفته الدستور أمام المجلس الدستوري، يحق له الطلب من مجلس الوزراء إعادة النظر في مقررات اتخذها سابقا، كما يحق له توجيه رسائل إلى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة ليتوجه عبرهم إلى الرأي العام اللبناني. يبقى أن الصلاحية الأهم لرئيس الجمهورية تمارس قبل انطلاق عجلة الحكومة المشكلة اذ أن رئيس الجمهورية يبقى المرجع الوحيد والنهائي الذي يحسم مثلا موضوع تأليف الحكومة، وهو وحده المخوَّل بتوقيع مراسيم التشكيل، إذ يمكن للرئيس المكلف اقتراح عشرات التشكيلات ويعود لرئيس الجمهورية وحده الموافقة على تشكيل الحكومة وتعيين الوزراء في مناصبهم.
2. انتخاب رئيس الجمهورية.
حددت الفقرة الثانية من المادة 49 من الدستور على آليّات انتخاب رئيس الجمهورية والتي تنص على انه " ينتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي. وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزاً على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح".
أ- شروط الترشح:
على خلاف الانتخابات النيابية والبلدية، لم يحدد الدستور آلية ادارية أو قانونية لتقديم طلبات الترشح. فقد اشارت المادة 49 الى أن شروط الترشح الى رئاسة الجمهورية هي نفسها التي تؤهله للترشح للنيابة, ما يعني انه يحق لأي مواطن تتوافر فيه الشروط التي تسمح له بالترشح الى الانتخابات النيابية أن يتم انتخابه ما دام حصل على الأغلبية المطلوبة من دون أن يقدّم ترشيحه حتى. وبالاستناد الى العرف القائم والى وثيقة الوفاق الوطني، ينحصر حق انتخاب رئيس الجمهورية بالمواطنين من الطائفة المارونية، علماً أنه من الناحية الدستورية لا شيء يمنع أي مواطن ينتمي الى الطوائف الاخرى من أن يتم انتخابه.
وبالعودة الى قانون الانتخابات الحالي تبين أن شروط الترشح الى رئاسة الجمهورية هي:
- لكل لبناني أو لبنانية أتم الخامسة والعشرين من العمر -
- أن يكون لبنانياً مقيداً في قائمة الناخبين، متمتّعاً بحقوقه المدنية والسياسية، متعلماً -
- لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات -
- لا يجوز للعسكريين على اختلاف الرتب سواء أكانوا من الجيش أم من قوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية ومن هم في حكمهم -
مع التعديلات الدستورية للعام 1990، أُضيف الى المادة 49 فقرة جديدة تنص على عدم جواز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم أو تاريخ إحالتهم على التقاعد.
ب- آلية انتخاب رئيس الجمهورية
نصت المادة 49 أن عملية انتخاب رئيس الجمهورية تكون بالإقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الإقتراع التي تلي. وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز إعادة إنتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. ولا يجوز إنتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزاً على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح. تجدر الاشارة ايضا الى انه يتم احتساب النسب بالنظر الى النواب الاحياء وليس الى مجمل عدد أعضاء المجلس كما هو وارد في قانون الانتخابات النيابية.
ج- اشكالية حساب نصاب الجلسة:
لم تتطرق المادة 49 الى النصاب بصراحة النص الدستوري. لذلك اعتبر البعض انه في ظل صمت الدستور عن هذه المسألة، يكون النصاب القانوني لإنعقاد المجلس النيابي في جلسة الانتخاب هو القاعدة العامة المذكورة في المادة 34 أي الأكثرية المطلقة من أعضائه الذين يؤلفونه والتي تنصّ على انه "لا يكون اجتماع المجلس قانونيًا، ما لم تحضره الاكثرية من الاعضاء الذين يؤلفونه.
الا انه جرت العادة على أن لا تنعقد الدورة الأولى من جلسة الانتخاب قبل اكتمال نصاب الثلثين. فقد درجت العادة أن يتم انتظار تأمّن نصاب الثلثين لفتح جلسة الانتخاب الرئيس وبدء دورة الاقتراع الأولى. اعتُمدت هذه القاعدة بصورة دائمة ومستمرة حتى خلال الحرب الاهلية في العامين 1976 و 1982. ففي قرار في 5 أيار 1976 اعتبر مكتب مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل أن اشتراط المشترع في المادة 49 من الدستور حصول المرشح على اكثرية الثلثين من اعضاء المجلس في الدورة الأولى يفترض حضور ثلثي الأعضاء على الاقل من اجل امكان عقد الجلسة والشروع في الاقتراع.
اما بالنسبة لدورات اللاحقة وفي ظل غياب نص دستوري واضح ، يمكن لنا اعتماد المعيار ذاته المعتمد لتحديد نصاب الدورة الأولى: فان كان وجوب الحصول على غالبية الثلثين في الدورة الأولى يفرض حضور 86 على الاقل، ذلك يعني انه في الدورات اللاحقة التي تستوجب الحصول على الغالبية المطلقة للفوز بالانتخابات يكون النصاب المتوجب تأمينه هو حضور 65 نائبًا على الاقل. لذلك، بالنسبة لنصاب الدورات اللاحقة، يمكن القول أن هذا الامر لم يأخذ حقه من النقاش السياسي والقانوني بالقدر الكافي. ويعود الأمر الى سببين اثنين : اولاً، أن النقاش كان يتركز اصلاً على موضوع نصاب الدورة الأولي. ثانيا، في اللحظة التي لم يحصل عليها احد المرشحين على غالبية الثلثين، جرت العادة أن يتم الانتقال مباشرة الى دورات الاقتراع اللاحقة دون تأجيلها الى أيام لاحقة.
كما انه وبالعودة الى تاريخ انتخابات رئاسة الجمهورية يتبين ان عملية الانتخاب كانت تتم في جلسة واحدة : اما أن يتم انتخاب الرئيس منذ الجلسة الأولى بنصاب الثلثين واقتراع الثلثين لصالحه ويعلن فوز أحد المرشحين، واما يتعذر الامر فيتم الانتقال مباشرة الى دورات الاقتراع الأخرى دون اللجوء الى رفع الجلسات الى يوم آخر. بهذا المعنى تكون انتخابات الـ 2014 قد سجلت سابقة في هذا المجال اذ لم يعمد أي رئيس للمجلس النيابي سابقًا الى رفع جلسة الانتخاب الى يوم آخر عقب دورة الاقتراع الأولى.
3. نتائج الفراغ الرئاسي .
قبل العام 2014، سبق للبنان أن عرف حالات ثلاث من الفراغ الرئاسي. كانت الأولى من 18 الى 22 ايلول 1952 بعد عزل الرئيس بشارة الخوري، تشكلت حكومة عسكرية برئاسة فؤاد شهاب لأيام قليلة والتي تولّت صلاحيات الرئيس حتى انتخاب كميل شمعون رئيساً. اما الثانية فامتدت من 23 ايلول 1982 الى 23 ايلول 1988 : مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وتعذّر انتخاب خلفًاً له، شهد لبنان انقسامًا سياسيًا أدى الى قيام حكومتين الأولى برئاسة العماد ميشال عون والثانية برئاسة الدكتور سليم الحص واللتين تنازعتا صلاحيات رئيس الجمهورية. الثالثة كانت بين 23 تشرين الثاني 2007 الى 25 ايار 2008 : مع انتهاء ولاية الرئيس اميل لحود وتعذّر انتخاب خلفاً له، تولت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة صلاحيات رئس الجمهورية حتى انتخاب العماد ميشال سليمان.
أن الفراغ الحاصل اليوم يثير العديد من المخاوف المشروعة على استقرا لبنان وعلى استمرارية عمل مؤسساته السياسية. اذ انه تاريخيًا، ترافق الفراغ الرئاسي مع انقسام سياسي حاد وتنازع للشرعية ان كان بين حكومتين كما جرى في العام 1988 أو عدم اعتراف قسم كبير من القوى السياسية بشرعية الحكومة القائمة كما كان الحال مع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى. وفي كلتا الحالتين يتبيّن أن الفراغ السياسي قد أدى الى شلل لمؤسسات الدولة وساهم بشكل كبير في زيادة تعميق الانقسام السياسي في ظل شغور المنصب الأعلى في الدولة. كما يتبين ان الفراغ الرئاسي قد ترافق مع أحداث أمنية خطيرة ذهب ضحيتها العشرات من المواطنين وزادت من الشرخ بين اللبنانيين. ومع تعمّق الانقسام السياسي الداخلي والاقليمي يُخشى من أن يؤدي الفراغ الرئاسي الى تدهور الاوضاع السياسية والأمنية في لبنان ويهدد بتأجيل جديد للانتخابات النيابية ما قد يزيد من ترهّل النظام السياسي اللبناني ويطيح بشرعية مؤسسات الدولة المنتخبة ديمقراطياً.
فقد نصت المادة 73 على انه قبل موعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية بمدة شهر على الأقل أو شهرين على الأكثر على المجلس النيابي ان يلتئم بناءً على دعوة من رئيسه من أجل انتخاب رئيس جديد. ثم تضيف المادة انه في حال تعذرت دعوة المجلس لسبب من الأسباب يعتبر هذا الأخير مدعواً حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء ولاية الرئيس. ذلك يعني أن المهل الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بدأت من في 25 آذار 2014 وحتى 25 أيار، وهو اليوم الأخير من ولاية الرئيس ميشال سليمان. وقد عقد مجلس النواب جلسة انتخابية أولى 23 نيسان 2014، لم ينجح اي من المرشحين في الحصول على غالبية الثلثين الضرورية لإعلان فوزه من دورة الاقتراع الأولى، تمت الدعوة الى خمس جلسات انتخابية ، كان آخرها في التاسع من حزيران 2014 دون ان يتأمن نصاب الثلثين. ان تعطيل نصاب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية والذي أدخل لبنان في حالة من الفراغ الرئاسي هو التعبير الأكثر وضوحًا عن تجذر الأزمة السياسية في لبنان وانعكاسه على المسار الديمقراطي للعملية السياسية.
اما في حال انقضت ولاية رئيس الجمهورية دون التوصل الى انتخاب رئيس جديد تناط صلاحيات رئيس الجمهورية، بالاستناد الى المادة 62، وكالة بمجلس الوزراء نص المادة62. وقد حددت المادة 74 هذه الحالات على سبيل التعداد لا الحصر اذ اعتبرت ان سدة الرئاسة تعتبر خالية في حال وفاة رئيس الجمهوية او استقالته او لاي سبب آخر. ما يعني ان نص هذه المادة ينطبق كذلك على حالات خلوّ شغور منصب الرئاسة لتعذر الانتخاب. ذلك يعني انه في حال شغور المنصب بعد انقضاء الولاية واستنادا الى المادة 74، على المجلس "أن يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون لانتخاب الخلف ". أمام الفراغ الموجود حاليًا، طرحت اشكالية حول امكانية المجلس النيابي ان يمارس صلاحياته التشريعية في ظل شغور منصب الرئاسة.
أمام هذه الاشكالية الدستورية والسياسية، انقسمت الآراء القانونية والمواقف السياسية. فالرأي الأول الذي يعتبر انه لا يحق للمجلس ان يشرع طالما ان هنالك شغور في منصب الرئاسة، يستند أصحاب هذ الرأي على نص الجملة الثانية من المادة 75 اعتبرت انه ينبغي على المجلس "الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر" ويعتبرون أن المجلس المنعقد حكما بالاستناد الى المادة 62 منذ اليوم العاشر الذي يسبق انتهاء الولاية يكون قد تحول حصراً الى هيئة انتخابية. كما وانه وبالاستناد الى المادة 74 التي نصت على أن "في حال الشغور في رئاسة الجمهورية لأي سبب كان يجتمع المجلس النيابي مباشرةً لانتخاب رئيس للجمهورية من دون الحاجة الى دعوة من رئيس المجلس ويبقى المجلس بحالة انعقاد حتى انتخاب رئيس للجمهورية". ما يعني أن المجلس المنعقد بهذه الحالة يصبح "هيئة ناخبة" ليس هيئة اشتراعية بمعنى تسحب الصفة التشريعية من المجلس النيابي ريثما يتم انتخاب رئيس للجمهورية.
بالاستناد الى المادة 74 وبالتالي يمتنع عن القيام يأي عمل تشريعي او أي عمل آخر طالما لم ينجح في انتخاب رئيس. أي انه في حال لم يكن قد تم انتخاب رئيس جديد، لا يمكن للمجلس النيابي ان يلتئم في جلسة تشريعة ويتوجب عليه "الشروع حالاً" في عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية. وابتداءً أول جلسة تعقد بعد الفراغ الرئاسي والى حين انتخاب رئيس جديد لا يمكن للمجلس أن يقوم باي عمل تشريعي وتنحصر مهامه بكونه هيئة ناخبة. بناءً عليه، أي عمل تشريعي يلجأ له المجلس النيابي بعد شغور منصب الرئاسة يكون عرضة للطعن امام المجلس الدستوري بالاستناد الى المواد 62 و73 و74 و75.
اما الرأي الثاني فيعتبر ان حالة الانعقاد الحتمي وأولوية انتخاب رئيس للجمهورية وان تقدّمت على الدور التشريعي في الأيام العشر الأخيرة التي تسبق انتهاء الولاية من أجل تشجيع النواب وحثهم على الاسارع في انتخاب رئيس, لكنها لا تستطيع تعطيل الصلاحية التشريعية. و بما انه مع خلو الرئاسة تنتقل صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة الى مجلس الوزراء لا يمكن الحديث عن فراغ رئاسي بل عن شغور في الرئاسة لا أكثر. ذلك يعني بالنسبة لأصحاب هذا الراي انه مع اناطة صلاحيات الرئاسة الأولى بمجلس الوزراء يمكن لمجلس النواب أن يكمل عمله التشريعي مع استمراره في الانعقاد في جلسات انتخابية.
في كل الاحوال، وبعيدا عن النقاش الدستوري حول هذه المسألة، يبدو ان النقاش السياسي قد حُسم من أجل السماح بعقد جلسات تشريعية حتى في ظل شغور منصب الرئاسة الأولى. فوقّع رئيس الجمهورية ميشال سليمان في اليوم الاخير في 24 أيار 2014 على مرسوم رقم 11996 دعى فيه مجلس النواب الى عقد استثنائي من تاريخ 2/6/2014 الى 20/10/ 2014 فاتحاً المجال لعقد جلسات تشريعية من أجل اقرار الموازنات العامة المحالة الى مجلس النواب ومشاريع القوانين المحالة اليه أو سائر القوانين التي يقرر المجلس طرحها على الجلسة التشريعية العامة. بهذا المعنى، يكون رئيس الجمهورية قد فتح المجال امام المجلس النيابي من أجل الاستمرار بالقيام بدورة التشريع بشكل عام وبالتالي فتح المجال القانوني والسياسي أمام المجلس النيابي من أجل اقرار قانون جديد للانتخابات النيابية.
في المحصلة، يمكن القول ان مستوى الانقسام السياسي قد اطاح بالمهل الدستورية الذي يعتبر انه في الايام العشرة الأخيرة قبل انتهاء ولاية الرئيس تصبح مسؤولية المجلس انتخاب رئيس في حدّها الأقصى مع دعوته حكماً. في حين أن ما جرى مؤخراً كان العكس تمامًا حيث أدرك الجميع في لبنان ان الفراغ لا بد انه حاصل حكمًا وتم التعاطي مع الدعوة الأخيرة لرئيس المجلس قبل الفراغ الرئاسي على أنها دعوة بلا طائل لأن النصاب لن يتأمن. ومع انسداد امكانية ايجاد تسوية داخلبة ومن غير المستبعد أن يستمر الوضع على ما هو عليه بانتظار التسويات الاقليمية.
4. دور المجتمع المدني في المرحلة المقبلة:
المأزق الذي يعيشه البنان حاليًا هو نتاج تراكم وتعمق الخلافات السياسية الداخلية وارتفاع مستوى التوتر الاقليمي. لكن تراكم العثرات يظهر ان الأزمة اصبحت اعمق من كونها أزمة سياسية عابرة في ظرف معيّن. اذ انه مع فشل المجلس النيابي في اقرار قانون جديد للانتخابات ومن ثم لجوئه الى التجديد لنفسه قبل ان يفشل في انتخاب رئيس للجمهورية ، يشير الى ان الاستقطاب السياسي الذي يعيشه لبنان من الـ 2005 قد انعكس سلبًا على النظام السياسي اللبناني القائم. كما أن عدم وضوح وغياب تفسير بعض مواد الدستور يزيد من صعوبة الخروج من المأزق الذي تعيشه اليوم السلطتين الاجرائية والتشريعية.
لذلك على المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية ان تعمل تحت عنوان عريض وهو تجديد الوكالة الشعبية الممنوحة للسلطة السياسية والتي يجب ان تترجم من خلال العمل بالتوازي على ثلاث قضايا رئيسية :
أولا : التشديد على رفض أي طرح يهدف الى التمديد مجدداً للمجلس النيابي واعتبار هذا العمل غير شرعي وغير دستوري. ففي حال اقتراب انتهاء ولاية المجلس وفشله في انتخاب رئيس للجمهورية، فقد نصت المادة 74 انه في حال انقضت ولاية المجلس النيابي ولم يكن قد نجح في انتخاب رئيس للجمهورية "تدعى الهيئات الانتخابية دون إبطاء ويجتمع المجلس بحكم القانون حال الفراغ من الأعمال الانتخابية". ذلك يعني انه لا يمكن للمجلس النيابي ان يقوم مجدداً بالتجديد لنفسه ويكون على وزير الداخلية ان يوقع مراسيم دعوة الهيئات الناخبة قبل 3 اشهر من انتهاء ولاية المجلس الممدد له أصلا. وفي حال امتنع وزير الداخلية عن دعوة الهيئات الناخبة، يمكن تقديم طعن الى مجلس شورى الدولة من اجل الزام الوزير بدعوة الهيئات الناخبة بالاستناد الى المادة 74 من الدستور والى احترام قانون الانتخابات الساري المفعول لا سيما المواد المتعلقة بدعوة الهيئات الناخبة.
ثانيا : الضغط من أجل الاسراع في انتخاب رئيس للجمهورية ما من شأنه اخراج لبنان من حالة المراوحة السياسية التي تشل وتعيق فعالية العمل المطلبي والسياسي.
ثالثا : الضغط من أجل استكمال عمل الّلجان التي تولت اقرار قانون انتخابي جديد ومن ثم احالته على الهيئة العامة من أجل اقراره وذلك ضمن المهل القانونية الواجب احترامها قبل انتهاء ولاية المجلس الحالية في 20 تشرين الثاني 2014.
في النهاية، وعلى الرغم من ان صلاحيات الرئيس الحالية تقلصت بشكل كبير ، الا ان تعذر انتخاب رئيس جديد يشكل مؤشراً خطيراً عن عمق الأزمة السياسية في لبنان، اذ انه أمام هذا الانسداد السياسي والشغور الرئاسي، يخشى أن يتعمّق الانقسام السياسي مجدداً ما يؤدي الى التأقلم مع حالة فراغ في الرئاسة ومع ترهل المؤسسات السياسية الرئيسية للدولة . كما انه لا بد من التنبه الى أن كل تأخر في انتخاب رئيس جديد يخلق الأجواء لتسوية سياسية اقليمية شاملة تشمل معظم الملفات وابرزها الانتخابات النيابية. ويكون التحدي اما المجتمع المدني ان يتنبه الى احتمالين قد يناسبا معظم القوى السياسية . الأول أن تحقق هكذا تسوية سيؤدي الى زيادة فرص التمديد مجدداً للمجلس النيابي الممدد لنفسه. الاحتمال الثاني، أن تؤدي التسويات الى اجراء الانتخابات استناداً الى القانون الحالي او الاكتفاء بتعديلات في تقسيم الدوائر لا اكثر. ان هكذا اتجاه، لا يسهّل عملية خلق ميزان قوى كفيل باطلاق ورشة لإدخال الاصالاحات الى قانون الانتخابات، ولكن شلل في المشهد السياسي اللبناني.
-----------------------------
هوامش:
[1] رؤساء الجمهورية اللبنانية قبل الاستقلال ( 1926- 1943) : شارل دباس - أنطوان بريفا أوبوار - حبيب باشا السعد - إميل أده - بيار جورج أرلابوس - أيوب ثابت - بيترو طراد
[2] رؤساء الجمهورية اللبنانية بعد الاستقلال ( 1943 – 2014 ) : بشارة الخوري - كميل شمعون - فؤاد شهاب - بيار الحلو - سليمان فرنجيه -الياس سركيس- بشير الجميل - أمين الجميل - رينيه معوض - الياس الهرواي - اميل لحود – ميشال سليمان
[3] مقال لبولا أسطيح ، مقابلة مع الوزير والنائب السابق ادمون رزق تحت عنوان " صلاحيات رئيس الجمهورية قبل وبعد «الطائف» تبقيه «سيد التأليف"، جريدة الشرق الاوسط بتاريخ 10 مارس 2011
[4] تركت له المادة 69 وتركت له هذه المادة امكانية أن يصدر منفردًا مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء، ومراسيم قبول استقالة الحكومة، أو المراسيم التي تعدُّها مستقيلةً، وإحالة مشاريع القوانين التي تُرفع إليه من مجلس الوزراء على مجلس النواب، واعتماد السفراء وقبول اعتمادهم، وترؤُّس الحفلات الرسمية، ومنْح الأوسمة، والعفو الخاص بمرسوم، وتوجيه رسائل إلى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة ذلك، وعرْض أيّ أمرٍ من الأمور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال.
[5] وبالعودة لتاريخ انتخابات رئاسة الجمهورية يتبين انه وقد جرى تعديل شروط الترشح في المادة 49 خمس مرات . الاولى، مع تجديد ولاية الرئيس بشارة الخوري ( 1949) جرى تجديد ولاية رئيس الجمهورية مرة واحدة مع الولاية الثانية للرئيس بشارة الخوري ( 1949) والتي لم تستمر بسبب الغضب الشعبي ما اجبره على الاستقالة في العام 1952. الثانية، مع انتخاب الرئيس الياس سركيس قبل مهلة الشهرين ( 1976). الثالثة ، مع تمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي ( 1995). الرابعة، مع انتخاب الرئيس اميل لحود ( 1998) والخامسة مع تمديد ولاية الرئيس اميل لحود ( 2004). ذلك يؤشر الى أنه اذا اضيفت حالاتي الفراغ للأعوام 2008 و2014 يتبين انه لم يتم احترام الآليات الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية في السنوات العشرين الماضية.
[6] هذا وقد سجلت حالة واحدة لرفع الجلسة وكان هذا في العام 1989 بين دورة الاقتراع الاولى والثانية. اذ عمد رئيس المجلس النيابي الى رفع الجلسة دون اغلاق المحضر ولمدة لم تتعدى الربع ساعة، والتقى خلالها المرشحين الثلاثة رينيه معوض، جورج سعادة، والياس الهراوي قبل ان ينسحب الاخيرين لصالح الاول والذي فاز من دورة الاقتراع الثانية.