أفكار مطروحة للنقاش: خيارات غذائية ومعايير جمال غير واقعية

مقال

بفعل غياب مرافق الترفيه في معظم البلدان المتقدمة والنامية، لطالما شكّلت سبل الترفيه المرتكزة على الطعام هوايةً متاحةً بسهولة أمام شعوب منطقة الشرق الأوسط. وفي لبنان، يُعتبر الطعام جزءاً لا يتجزأ من الثقافة اللبنانية، لذلك ليس مفاجئاً أن تتمّ تسمية بيروت أفضل مدينة للطعام في العالم لسنة 2016 (ليبرمان 2016). وفي كلّ عام، يطلب موقع السفر والترفيه Travel +Leisure من قرّائه أن يكتبوا عن تجارب سفرهم في كافة أنحاء العالم ويصنّفوا المدن وفقاً لعدد من المّيزات بما فيها الطعام. وتصدّرت أيضاً مدينة بيروت القائمة هذا العام. ولا شكّ في أنّ إغراء تناول الطعام حقيقي في ظل وجود عدد كبير من المأكولات والمطاعم العالمية التي يمكن الاختيار من بينها. ولكن يصعب الأمر على الشابات بشكلٍ خاص اللواتي يشعرن بالضغوط نتيجة وجوب تناول كميات أقل من الطعام بهدف المحافظة على وزن معيّن وصورة معينة.

ففي الثقافة العربية، كان جسم المرأة الممتلئ يُعتبر تقليدياً من سمات الكمال الأنثوي، وتكثر الأدلّة في الشعر العربي الكلاسيكي في هذا الاتّجاه ( قصيدة ذو الرمة التي ذكرها فان جلدر 2013- 23). لكنّ الأمور تغيّرت اليوم إذ تعتبر نسبة أكبر من النساء اللبنانيات أنّ النحافة دلالة على الجمال الأنثوي. وتثمّن الشابات في المدن اليوم النحافة التي كانت تشكل في الماضي ظاهرة محصورة على الغرب وبالتالي شهدت المنطقة العربية تحوّلاً في رغبة النساء بالحصول على جسد نحيف جداً؛ ولا شك في أنّ ذلك يُعزى الى حدّ ما إلى عدد عارضات الأزياء النحيفات اللواتي يهيمنّ على صناعة الموضة.

ورداً على المعايير المستجدّة مؤخراً التي تحدّد "الجسد المثالي"، أصبحت النساء اللبنانيات معنيات بشكلٍ متزايد بوزن الجسم والمظهر الخارجي. وتولي القيم المجتمعية أهمية أكبر لوزن الجسم بصفته مقياساً لجمال المرأة والقبول الاجتماعي أو الانتماء، وقد أيّدتها مجلات الأزياء النسائية والإعلانات التي تصوّر المرأة النحيفة على أنّها جميلة وجذّابة.

ولا شكّ في أنّ سعي المرأة اللبنانية إلى تحقيق هذه المعايير "المرغوب فيها" تضعها تحت وطأة ضغوط كبيرة من أجل خسارة الوزن وتؤدي حتماً إلى اعتماد أساليب غير صحية لتحقيق ذلك، منها حذف بعض وجبات الطعام بشكلٍ منتظم وتناول المليّنات وحبوب تخفيف الوزن التي غالباً ما تكون خطيرة. فالضغوط كبيرة إلى حدّ أن بعض النساء اللبنانيات يلجأن إلى الاقتراض من المصارف من أجل تغطية مصاريف عمليات التجميل. وقد أدّى ذلك إلى زيادة حادة في المنتجات التي تزعم زوراً أنّها فعالة في خسارة الوزن أو التحكّم به. وتنتشر إعلانات هذه المنتجات في كافة الشوارع اللبنانية؛ حتّى أنّه يُزعم في إحداها أنّ المنتج علاج غير جراحي يعمل على تذويب دهون الخصر غير المرغوبة أو حتى الذقن المزدوج الذي تراه في المرآة كلّ صباح.

وتبرز نزعة أخرى متنامية بين النساء اللبنانيات تتمثل بطلب الطعام من مراكز الحمية الغذائية. لقد كنت لسوء الحظ ضحية هذه النزعة وشاهدةً مباشرة على الشائبات الكثيرة في هذه المراكز. صحيح أنّ بعض هذه المراكز مؤهل جداً ويتولّى أخصائيو تغذية إدارتها فيراقبون مرضاهم عن كثب ويساعدونهم على خسارة الوزن بطريقة مستدامة. إلا أنّ معظم هذه المراكز ليست سوى شركات تحتال على الناس، أُنشئت بهدف جني الأموال ويخدع أصحابها زبائنهم عن قصد من خلال تصنيف كاذب للمأكولات على أنّها "صحية" أو "خفيفة". ورغم أنّ هذه المتاجر غالباً ما تزعم اتّباعها برامج أثبتت فعاليتها في خسارة الوزن ينتهي الأمر بمعاناة بعض الزبائن من نقص خطير في البروتين أو الكربوهيدرات. ومع ارتفاع عدد النساء اللبنانيات العاملات وعدم امتلاكهنّ الوقت الكافي لإعداد طعامهنّ الخاص، أصبحن يملنَ بنسبة أكبر إلى الاشتراك في مراكز الحمية الغذائية وبالتالي بتنَ أكثر عرضة لعادات غذائية غير تقليدية ما قد يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة.

ويتبع اللبنانيون وعدد كبير من شعوب البلدان الأخرى، الاتجاهات العالمية التي انطلقت من الغرب وآخرها نزعة سأطلق عليها عبارة "خالٍ من كلّ شيء". وأقصد بذلك المأـكولات الخالية من الغلوتين، الخالية من منتجات الحليب، الخالية من الخميرة، الخالية من السكر، والخالية من القمح إلخ. وتبرهن المقتطفات التالية بوضوح أنّ هذه الاتجاهات لا تفتقر إلى مبرّر طبي فحسب بل تستغل أيضاً جهل الرأي العام من أجل تحقيق الربح. ويقول صاموئيل فرومارتز (2015) "إنّ البيانات الخاصة بالمستهلك واضحة: يحاول حوالى 22 في المئة من البالغين تجنّب تناول الغلوتين في الطعام، ما خلق سوقاً تبلغ قيمته 8.8 مليار دولار أميركي تقريباً شهد زيادة بنسبة 63 في المئة بين عامي 2012 و2014، بحسب شركة مينتل لأبحاث الأسواق. ويرى حوالى 20 مليون أميركي أنّ الحميات الغذائية الخالية من الغلوتين صحية أكثر، فيما يتجنّب حوالي 13 مليون شخص تناول الغلوتين من أجل خسارة الوزن.

 

ويعتبر الدكتور أليسيو فاسانو، مدير مركز الأبحاث حول داء الإضطرابات الهضمية –disease  Ciliac وعلاجه في مستشفى ماس جنرال للأطفال والذي يشكّل مرجعاً في هذا الموضوع[1] أنّ "معظم الأشخاص الذين يتبعون حميات غذائية خالية من الغلوتين ليسوا بحاجة إلى تجنّب تناوله إذ لا ضرورة طبية لذلك". ويضيف "هذه ليست إلا موضة سائدة". حتى أنّ مقدّم البرامج الأميركي جيمي كيميل سخر من هذه النزعة في برنامجه الحواري المسائي وسأل الناس في الشارع الذين يخطّطون لاتباع حمية خالية من الغلوتين إن كانوا يعلمون ما هو الغلوتين. وبالكاد استطاع شخص واحد الإجابة على هذا السؤال!"[2].

وأعدّ أساتذة في الجامعة الأميركية في بيروت بين عامي 2000  و2001 دراسة شملت 2013 طالباً من خمس جامعات لبنانية مختلفة. وكشفت الدراسة أنّ 12.4 في المئة من هؤلاء الطلاب الذين يحاولون خسارة وزنهم يتناولون أدوية مثل المليّنات وحبوب التنحيف فيما قام 10.8 في المئة منهم بإجبار أنفسهم على التقيؤ بعد الأكل، وهو اضطراب يُعرف بالشره المرضي العصبي[3].- Bulimia وفي دراسة أخرى أعدّها أطباء في الجامعة الأميركية في بيروت نشرت في العام 2004، تمّ استطلاع 954 طالباً في الجامعة تتراوح أعمارهم بين 16 و 20 عاماً. وجاءت النتائج مثيرة للدهشة بحيث أنّ 6.1 في المئة فقط من هؤلاء الطلاب يعانون من الوزن الزائد، و52.9 في المئة من المستطلعين أرادوا خسارة وزنهم فيما 61 في المئة من النساء اللواتي يُعتبر وزنهنّ ضمن نطاق الوزن الصحيّ يطمحن إلى أن يصبحن أكثر نحافة"[4].

ونستذكر مثلاً لبنانياً قديماً يقول "الحركة بركة". فنمط حياة الأجيال السابقة كان يستند أساساً على الحركة الدائمة، وهو نقيض ممارساتنا اليوم التي تتمثل بكثرة الجلوس. وهنا تكمن جذور المشكلة. والنساء اللبنانيات على غرار مجموعات أخرى كثيرة يندفعن لاتباع الممارسات والاتجاهات الغربية. لكن عندما يتعلّق الأمر بالاستهلاك الغذائي، يتجاهلن جانباً رئيسياً من الممارسة الغربية يتمثل بممارسة الرياضة في معظم الدول الغربية بنسبة أكبر من لبنان. على سبيل المثال، يستخدم الطلاب في الغرب الدراجة للذهاب إلى المدرسة وهذا أمر شائع بين الطلاب وفي الكليات على حدّ سواء ولكن نميل إلى النظر بازدراء إلى أي شخص يقوم بهذه الممارسة. وبالتالي اعتمدنا ممارسات مؤذية مرتبطة بالغذاء ولكن تجاهلنا هذه السلوكيات الأكثر فائدة المرتبطة بالتمارين. والحقيقة أنّ العقل السليم أصبح منتجاً نادراً.

 

 

  •  

Fromartz, S. (2015) ‘Unraveling the Gluten-Free Trend.’ Available at http://www.eatingwell.com/article/285160/unraveling-the-gluten-free-trend/ (accessed 27 July 2017).

 

Khawaja, M. and Afifi-Soweid, R.A. (2004) ‘Images of body weight among young men and women: evidence from Beirut, Lebanon.’ Journal of Epidemiology & Community Health, 58: 352–353.

 

Lieberman, M. (2016) ‘The Best International Cities for Food,’ Travel+Leisure. Available at http://www.travelandleisure.com/food-drink/worlds-best-cities-for-food (accessed 27 July 17).

 

Tamim, H., Tamim, R., Almawi, W., Rahi, A., Shamseddeen, W., Ghazi, A., Taha, A. and Musharrafieh, U. (2006) ‘Risky weight control among university students.’ International Journal of Eating Disorders, 39, 1: 80-83.

 

van Gelder, G.J. (2013) Classical Arabic literature: a library of Arabic literature anthology. New York: New York University Press.

 

[1]فرومارتز، ص. (2015) " الكشف عن نزعة المأكولات الخالية من الغلوتين". متوفر على الرابط التالي

http://www.eatingwell.com/article/285160/unraveling-the-gluten-free-trend/ (متوفر من 27 تموز / يوليو 2017).

 

[2]جيمي كيميل يطرح السؤال التالي "ما هو الغلوتين؟" متوفر على الرابط التاليhttp://abcnews.go.com/Health/video/jimmy-kimmel-asks-what-is-gluten-23655461( 27 تموز / يوليو 2017). 

[3]راجع تميم، ح. وآخرون (2006) "تحكّم طلاب الجامعات بوزنهم بطريقة خطيرة ". المجلة العالمية للاضطرابات الغذائية، 39، 1: 80-83.

[4]خواجه، م. وعفيفي-سويد، ر.أ (2004) " صور وزن الجسم بين الشباب والشابات: أدلة من بيروت، لبنان". مجلة علم الأوبئة وصحة المجتمع المحلي،  Journal of Epidemiology & Community Health 58: 352-353.