اصنعوا الطعام، لا الحرب: دور الأطايب والحميميّة في بؤر الصراع والتوتّر في لبنان- حالة سوق الطيّب

سألتُ جيهان: "لم كل هذا الاهتمام بالأطايب؟" فأجابت كما لو كان الجواب بديهياً: "الطعام هو القاسم المشترك بين الجميع. ألا تحبّين الأكل؟" من هذه الفكرة تنطلق جميع نشاطات السوق الطيّب ابتداءً من سوق المزارعين الأسبوعي الذي يبيع منتجات موزّعة ومزروعة محلياً مروراً ببرامج بناء القدرات ووصولاً إلى مطعم "طاولة". يسعى سوق الطيّب بعزم ونشاط إلى نشر ثقافة الإيجابية وتعزيز الالتئام حول الطعام كوسيلة لشفاء جراح الصراعات السياسية والشخصية. وتؤكد جيهان على ذلك قائلةً: "شعارنا هو "اصنعوا الطعام، لا الحرب".

سألتُ جيهان: "لم كل هذا الاهتمام بالأطايب؟" فأجابت كما لو كان الجواب بديهياً: "الطعام هو القاسم المشترك بين الجميع. ألا تحبّين الأكل؟" من هذه الفكرة تنطلق جميع نشاطات السوق الطيّب ابتداءً من سوق المزارعين الأسبوعي الذي يبيع منتجات موزّعة ومزروعة محلياً مروراً ببرامج بناء القدرات ووصولاً إلى مطعم "طاولة". يسعى سوق الطيّب بعزم ونشاط إلى نشر ثقافة الإيجابية وتعزيز الالتئام حول الطعام كوسيلة لشفاء جراح الصراعات السياسية والشخصية. وتؤكد جيهان على ذلك قائلةً: "شعارنا هو "اصنعوا الطعام، لا الحرب".

 

في عام 2004، أسس كمال مزوّق "سوق الطيّب" فكان في طليعة أسواق المزارعين في بيروت التي تجمع مزارعين من مختلف المناطق اللبنانية وأشخاصاً من مختلف الأديان والطوائف والخلفيات السياسية في إطار من التقدير المتبادل للأطعمة والتقاليد الزراعية. وتشرح جيهان شهلا مديرة ضمان الجودة فكرة السوق: "يجمع السوق منتجين من خلفيات متنوعة يقفون بجانب بعضهم البعض ولا يناقشون أي مواضيع غير الطهي. يتبادلون الأسئلة عن كيفية صنع المربى وزرع البندورة، وما إلى ذلك. والهدف الرئيسي من سوق الطيّب هو تسليط الضوء على تقاليد الطهي في لبنان وإعادة إحيائها وتمكين صغار المزارعين والمنتجين والطهاة وربات المنازل[1].

 

يستحقّ المطبخ اللبناني لقب صانع السلام. وتدور تقاليد الطهي التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من الثقافة اللبنانية حول مشاركة الطعام مع الأصدقاء والعائلة والغرباء على حدّ سواء. ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبه المطبخ في جهود إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية. ومع تزايد الشرخ الطائفي بين الأحياء والمناطق، أصبح الفضاء العام الذي يركّز على الطعام ضرورياً لجمع الناس من طرفي النزاع. فما سرّ الأطايب؟ ما الذي يجعلها وسيطاً بالغ الأهمية في البؤر التي يسيطر عليها التوتّر أو حتى العنف؟ تتمحور رسالة هذه المقالة حول أهمية الأطايب (من الإنتاج إلى الاستهلاك) كوسيط ثقافي قادر على إحداث تغيير اجتماعي وبناء علاقات اجتماعية جديدة شاملة للجميع على الرغم من اختلافهم. وتثبت برامج بناء القدرات التي ينفذها سوق الطيّب مع نساء من مختلف الخلفيات السياسية والاجتماعية والدينية امكانية التغيير، ممّا يسلّط الضوء على العلاقة الوثيقة بين الغذاء والتاريخ والذاكرة وحميميّة الصراع.

 

وبالاستناد إلى وصف برايان ماسومي (2002) لمفهوم الوساطة، إذا كان الغذاء وسيطاً ثقافياً، فربما تكون ممارسات الطهي جزءاً من عملية التغيير الاجتماعي التي تقوم على أعمال مقاومة صغيرة. يقول ماسومي، "الوساطة، على الرغم من كونها جزءاً لا يتجزأ من السلطة، تُعيد نوعاً من الحركة إلى الحياة اليومية. فالحياة اليومية حتى لو لم تعد مكاناً للشرخ أو التمرّد، قد تبقى مكاناً لأفعال "مقاومة" أو "تخريب" صغيرة تحفظ إمكانية التغيير المنهجي"[2]. وفي السياق اللبناني، يلعب الطعام دور الوسيط الذي يجمع بين مجموعات غير متوقعة بطرق غير متوقعة. قد لا تنجح المساعي الرامية إلى زرع روح التضامن بين النساء اللبنانيات والسوريات من خلال تحضير كبة البيت أو كبة البندورة مثلاً في خرق جدران التمييز الراسخة ضد اللاجئين في لبنان، لكنها تدل على مقاومة فعّالة، ولو كانت خجولة، للوضع القائم، وتحفظ إمكانية التقدّم، وتعطي طعماً للحياة.

 

برامج بناء القدرات- إنشاء مساحات وسطية لمشاركة الطبخ والأطايب

أُطلقت برامج بناء القدرات في سوق الطيّب بهدف تعزيز جودة المنتجات في سوق المزارعين الأسبوعي. وكان الهدف الأساسي يتمحور حول توفير الفرص التعليمية للمزارعين والمنتجين لكن سرعان ما تحوّل إلى هدف أكبر بكثير. فمن خلال الشراكة مع المنظمات غير الحكومية والمحلية طوّر سوق الطيّب التدريب العملي المباشر ومهارات إدارة الأعمال لمجموعات متنوعة في جميع أنحاء لبنان، مساهماً بذلك في خلق فرص العمل وزيادة الاستقرار الاقتصادي للأسر. عمل سوق الطيّب في البداية مع مجموعة تضمّ عشرين لاجئة فلسطينية من مخيّم عين الحلوة ونهر البارد. سأل منظمو البرنامج النساء عمّا يأكلن عادةً في المنزل فشملت الإجابات المعكرونة والبرغر وبعض الأطباق اللبنانية، وقلة قليلة فقط ذكرت الأطباق الفلسطينية. قالت جيهان: "قلنا لهنّ، حسناً، سوف نعود غداً، لكن هناك مهمّة عليكنّ القيام بها قبل ذلك: اذهبن واسألن جداتكن عن الأطباق الفلسطينية التقليدية". وفي اليوم الثاني، رسمنا الخريطة الفلسطينية، وبدل تحديد المناطق عليها حددنا الأطباق التي تشتهر بها كل منطقة، أي بدلاً من "حيفا" كتبتا "المفتول"، وبدلاً من "غزة" كتبنا "المسخّن"[3].

 

بعد تحديد الأطباق الفلسطينية الأساسية على الخريطة، تعلّمت النساء كيفية إضفاء الطابع المهني على طهيهن، بدءا من الجوانب الفنية للطهي ووصولا إلى مهارات البيع وحلقات العمل لتعزيز الثقة بالنفس. فكانت نتيجة هذا البرنامج إطلاق مشروع لتقديم وجبات الطعام تحت اسم "100٪ فلسطين" يتيح لكل امرأة فرصة إدارة مشروع تجاري من منزلها ويوفر لها متطلبات التسويق والشعارات وقائمة الأطباق والتسعير. اتّسم هذا البرنامج بأهمية خاصة بالنسبة للاّجئين  الممنوعين من الحصول على إجازات عمل وغير القادرين بالتالي على العمل بشكل قانوني في الاقتصاد الرسمي اللبناني. وبالنسبة لكثير من تلك النساء، كان البرنامج فرصة العمل الأولى والوحيدة التي تسمح لهنّ بالتغلّب على قوانين العمل القمعية وتحدّي المفاهيم الثقافية عن دور المرأة في مكان العمل.

 

وقد عرف هذا البرنامج منذ تسميته "100% فلسطين" عدداً من التعديلات والتغييرات في الأهداف. وفيما صُمّم كل برنامج من هذه البرامج بغية توفير فرص عمل جديدة (غالباً ما تكون الأولى) ومجالات التمكين الاقتصادي للسكان (لاسيما النساء) في جميع أنحاء لبنان، غير أنّ برنامج "100% فلسطين" جاء لتشجيع الاعتزاز بالثقافة الفلسطينية والمطبخ الفلسطيني والاحتفال بهما. أما باقي برامج بناء القدرات الأخرى فترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتراث والتاريخ وتركّز بشكل واضح على مجموعات النساء اللواتي تعرّضن لتوترات دينية أو سياسية فيما بينهنّ. والهدف من هذه البرامج هو توفير منفذ علاجي وفسحة من الإيجابية والمصالحة.

وتشكّل الفرص التي يوفّرها سوق الطيّب من خلال برامج بناء القدرات ما يسمّيه فيكتور تورنر (1974) بـ"الوضعيّة الحدّية" أو Liminality، أي حالة التوسط بين وضعيتين مختلفتين تماماً عن بعضهما. تندرج الوضعية الحدّية هذه ضمن المراحل الثلاث المصاحبة لتطوّر الظاهرة التي يطلق عليها تيرنر اسم "المجتمعات الحدّية" أو "Communitas". المرحلة الأولى هي مرحلة الانفصال أو الانسلاخ، أي المرحلة التي يُفصَل فيها الشخص أو يزيل نفسه من وضعيته المجتمعية المعتادة. ويمكن وصف هذه المرحلة باعتبارها طقساً مصمّماً لتعزيز المكانة أو تحقيق هدف اجتماعي. تضع هذه المرحلة الشخص في الوضعية الحدّية أو مرحلة التوسّط بين وضعية الحياة اليومية المعتادة ووضعية الفوضى المفاهيمية. وتتيح الوضعية الحدّية فرص اعتماد مختلف الرمزيات والسلوكيات كما تخلق التنافر المعرفي وتُبطِل المحرّمات وتزيل علامات التصنيف. في الوضعية الحدّية، تخفت علامات الفردية وينمو شعور كبير بالتقرّب والاندماج بين المشاركين. هذا الشعور بالاندماج هو ما يطلق عليه تورنر اسم "Communitas" أو المجتمع الحدّي حيث تتناقص الهرمية ويبني الأفراد في ما بينهم علاقات تقوم على التضامن والوحدة. ويقول تورنر: "في مثل هذه الطقوس، نحن نُعطى لحظة هي في الوقت نفسه داخل الزمن وخارجه، وداخل البنية الاجتماعية وخارجها، الأمر الذي يكشف، ولو بصورة عابرة، بعض الاعتراف (ولو كان رمزياً) بالرابط الاجتماعي الشامل الذي اضمحل ولكنه في الوقت نفسه لم يتجزأ بعد إلى روابط هيكلية متعددة"[4] .

وبما أن الطابع المؤقت يغلب على كل من المجتمع الحدّي والبنية الاجتماعية الحدّية، فإن المرحلة الأخيرة من طقس العبور هي مرحلة "إعادة الانضمام" إلى بنية اجتماعية. قد تنطوي هذه المرحلة على العديد من الخصائص ولكن إذا اندرجت مفاعيل طقس العبور ضمن أهداف المجموعة، فسوف يخرج الأفراد من هذا العبور بوضعية جديدة أو سلوكيات مختلفة ومقبولة. في هذه المرحلة يحدث التغيير الاجتماعي. فهل تكون النتيجة ترسيخ النظام الاجتماعي المعياري أو تغيير البنية بطريقة أو بأخرى؟

يتّضح للمرء من خلال المشاركة في مختلف نشاطات الطهي في سوق الطيّب كيف يمكن للطعام أن يعمل كجسر يسمح بدخول الوضعية الحدّية التي تحوّل الروابط بين المشاركين إلى رابط المجتمع الحدّي. تستعرض الفقرات التالية مثالين على برامج سوق الطيّب وتشرح كيف أن إنشاء الوضعيات الحدّية يساهم في مدّ الجسور بين مجموعات خاضت صراعات في ما بينها، وإعادة ترتيب الوضعيات الاجتماعية للمشاركين في هذه الجماعات، وإعادة تنظيم الطرق التي يمكن لهم من خلالها مواجهة ما تبقى من المخاوف الناتجة عن الصراع.

أطايب طرابلس- المصالحة مع مخلّفات الصراع

تشمل برامج سوق الطيّب برنامج "أطايب طرابلس" الذي تم تنفيذه بالتعاون مع المنظمة الإنمائية في طرابلس "روّاد التنمية". جمع البرنامج عشرين أرملة حرب شاركن في النزاع المسلح بين جبل محسن وباب التبانة. منذ الحرب الأهلية اللبنانية، تشهد منطقتا باب التبانة السنية وجبل محسن العلوية حالات صراع متكررة واشتباكات عنيفة متقطعة في كل عام تقريباً منذ عام 2008. يستمر القتال بين هاتين المنطقتين في طرابلس في شمال لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في التسعينات، لكنه تفاقم نتيجة الحرب الأهلية السورية المستمرة. يتسم هذا الصراع بالتوتر بشكل خاص، لأن المشاركين فيه لا يختلفون فقط على أسس طائفية في ظل نظام طائفي قائم، وإنما ينقسمون أيضاً في مواقفهم تجاه الحكومة السورية. يدعم العلويون النظام السوري والقوات الموالية للحكومة في الحرب الأهلية السورية، في حين أن السنة معادية للنظام السوري بسبب الأحداث والخبرات التي عانت منها في ظل الاحتلال السوري للبنان حتى عام 2005. بالتالي، يعاني المجتمعان تاريخاً معقداً من العنف والتهميش لم يُحلّ حتى يومنا هذا. وتفيد النتائج التي توصلت إليها عالمة الأنثروبولوجيا ريبيكا براينت (2014) في درسها الغموض الذي يكتنف الصراع المستمر في فهم العلاقة بين هاتين المنطقتين. تقول براينت:

... غموض الانتماء أو الانتماءات [...] بحد ذاته قد يفسّر الطرق التي يعتمدها الأفراد لإضفاء معنى تاريخي لعوالمهم اليومية. في الصراعات المستمرة حيث يصبح التاريخ عصيباً وغير محسوم وعندما ينطوي قرار الانتماء على مخاطر كبيرة، تصبح عملية إضفاء المعنى مشحونة. وفي هذا السياق، يكون التاريخ "غير المحسوم" تاريخاً حدّياً عالقاً في صراع (تاريخي) غير محسوم. وحيثما لا تزال الصراعات غير محسومة، يجد المرء نفسه غير قادر على "المضي قدماً نحو المستقبل" ولا على "طي صفحة الماضي". في هذه الحالة يمكن القول إن التاريخ عالق في وضعية موقتة لا يمكن تجاوزها. [5]

تسلّط براينت الضوء على الطابع الحدّي للتاريخ التي قد يعلق في الزمن وفي وعي الشعوب اليومي. إذاً، كيف يمكن خرق وإزالة هذه "الوضعية الموقّتة التي لا يمكن تجاوزها"؟ كيف يمكن أن نبدأ بالتوفيق بين هاتين المنطقتين حتى مع استمرار الصراع دون حل؟ يتميّز برنامج سوق الطيّب في أنه يأخذ الطابع الحدّي والخاص لتاريخ الصراع هذا الذي يطبع الحياة اليومية ويلحقه بإطار بديل ذي طابع حدّي وخاص هو المطبخ.

 

قدّم البرنامج ثلاثة أشهر من التدريب على الطهي لعشرة نساء سنّيات وعشرة نساء علويات في المركز الاجتماعي الخاص بمنظمة روّاد. حتى أن المركز المذكور اختير لسبب وجيه هو أنه يقع في الشارع الذي يقسم المنطقتين ويتيح الدخول إلى المبنى من الجهتين[6]. تتحدث جيهان بحماس عن نتائج هذا البرنامج: "في الجلسة الأولى، جلست المشاركات في البرنامج إلى جانبي الطاولة، السنّيات من جهة والعلويات من جهة أخرى، تتبادلن نظرات ثاقبة كأنها تصرخ "أريد أن أقتلك" أو "زوجك قتل زوجي"[7]. ثم تصف جيهان كيف أن هذه السلوكيات المقاومة للآخر وللعمل وتحضير الطعام معه في نفس المكان تبدّدت تدريجياً مع تقدّم البرنامج.

لكي نفهم كيف نجح هذا المجال الوسطي أو الحدّي، أي المطبخ، في تبديد مخلّفات الصراع دعونا نتخيل عشرين امرأة مجتمعة لتحضير وجبة. دعونا نتخيل جو الحميميّة في المطبخ والنساء مزدحمات في مكان صغير ولكل منها مهمة تسهم في تحضير الوجبة: هنا امرأة تغلي الحمص، وهناك أخرى تقلي البامية، وهناك مجموعة صغيرة تحضر حشوة الكبة ومجموعة أخرى "تكبكب" أقراص الكبة لقليها. أثناء تحضير هذه الوجبة، تتفاعل النساء بطريقة لا يمكن تصوّرها خارج حدود هذا الشارع المتداخل مع المنطقتين. وفي هذا السياق، يتّخذ الطبخ دور الوسيط الثقافي والعنصر الذي يدفع تلك النساء على العمل معًا والتفاعل والتعرّف إلى بعضهنّ بطريقة جديدة، الأمر الذي يقلب البنية الاجتماعية الراسخة. سألتُ جيهان: "وكيف انتهت الأشهر الثلاثة؟" فأجابت "في نهاية الدورة أصبحت المشاركات صديقات ويعملن معًا في أحد المراكز في طرابلس. ينظّمن المشاريع معًا وخلقنَ معًا مجموعة على واتساب WhatsApp. لقد أصبحت حياتهنّ أكثر سعادة"[8]. في هذه الحالة، استمرت نتائج المجال الوسطي أو الحدّي، أي المطبخ، بعد انتهاء البرنامج، وهي على الرغم من محدوديتها، تعيد إحياء فرص التفاعل والمصالحة بين المجتمعين.

أطايب زمان- شفاء الجروحات الجديدة واكتشاف الندوب القديمة

استكشف سوق الطيّب كذلك إمكانية معالجة مخلّفات النزاع من خلال المطبخ في برامج ضمّت لاجئات سوريات ونساء لبنانيات. فسعى سوق الطيّب إلى إيجاد طريقة لتلبية الاحتياجات العاجلة الناتجة عن الأزمة السورية من خلال المجال الذي يبرع فيه، أي زرع الإيجابية. وتوضح جيهان: " كرّرنا البرنامج نفسه مع اللاجئين السوريين عندما بدأت الأزمة السورية. رأينا جميع الجوانب السلبية لهذه الأزمة فقررنا أن نفكر بطريقة إيجابية ونبحث عن طرق لتقديم المساعدة بدلاً من التذمّر[9]. أنتجت أزمة اللاجئين في لبنان عدداً لا يحصى من الآثار على الحياة اليومية في لبنان، أبرزها الخطاب المعادي للسوريين الذي يعكس كراهية الأجانب المتغلغلة في جميع مستويات المجتمع. فمقابل العدد الكبير من اللبنانيين الذين يعملون بلا كلل للدفاع عن اللاجئين السوريين في لبنان، هناك قسم آخر يضمر لهم مشاعر سلبية. هناك من يصف الوضع بالاحتلال السوري وهناك من يلوم السوريين على سلبهم الوظائف في لبنان، والقسم الأكبر يرى في مشهد اللاجئين السوريين تكراراً لمشهد اللاجئين الفلسطينيين معيداً خطاب "كبش الفداء" الذي صاحب وجود الفلسطينيين في لبنان لعقود مضت.

عندما قرّر القيّمون على مشروع سوق الطيّب إنشاء برنامج "أطايب زمان" الذي يهدف إلى جمع عدد من النساء اللبنانيات والسوريات في مطبخ واحد، كانوا حريصين جداً على البيئة التي سيتم فيها هذا اللقاء. وتذكر القائمة الخاصة بالبرنامج المنجز: "تجد النساء المشاركات في الطهي فرصة للاحتفال بتراثهنّ وتاريخهنّ ومهاراتهنّ المطبخية، ومنفذاً علاجياً يساعدهنّ على التركيز على الجوانب الإيجابية في حياتهن"[10]. وهذا يؤكد التحوّل الزمني من الغموض والقلق المصاحبين للانتماء إلى إعادة تصوّر معرفة مطبخية مشتركة، وتاريخ مشترك أيضاً. وقد وضع هذا البرنامج الأطباق السورية واللبنانية في الإطار نفسه داعياً كلا الشعبين إلى تقدير تاريخه وتاريخ الآخر".

 

تقول جيهان إن أغلبية النساء تعرّفن إلى بعضهن في يومهن الأول في المطبخ. قالت:

"في إحدى المجموعات التي كانت تضمّ لبنانيات وسوريات مثلاً، رفضت اللبنانيات في البداية العمل مع سوريات في المطبخ نفسه، لكن سرعان ما أصبحن صديقات في اليوم الخامس، وتستمر هذه الصداقة حتى اليوم، أي بعد عام على انتهاء المشروع. نعلم أن المشاركات ينظّمن المشاريع والنزهات معاً. وهذا هو حقاً الهدف الرئيسي من هذه الدورات. نحن لا نسعى فقط إلى تعليم المشاركات كيفية تحضير الأطايب، فنحن نتعلم بعض الوصفات منهنّ أحياناً، ولكن أكثر ما يريحنا هو أن نسمع مشاركة تقول إنها "لا تأتي إلى الدورات لكي تطبخ بل لكي تنسى ألمها وتبني صداقات." [11]

 

لقد نجح هذا البرنامج، من خلال التركيز المتعمّد على الإيجابية وتغليب المطبخ والتراث والتقاليد المشتركة على السياسة في تمكين النساء المشاركات من خلق "مجتمع حدّي" (Communitas) أو حالة اندماج قائمة على التضامن في المطبخ. وقد تكون الصداقة نتيجة طبيعية لهذا الاندماج، مما يفتح الباب أمام امكانيات إعادة التوطين والتعايش.

 

خلاصة

يلعب المطبخ أدواراً عديدة في حياتنا اليومية، ويتأثر شأنه شأن أي تفصيل يومي آخر بتناقضات السلطة والصراع والتوتّر. في لبنان، لعب المطبخ دور الوسيط والمحرّض على النزاع على مدى قرون. لكن خبرة سوق الطيّب تجيب نوعاً ما على السؤال الأساسي الذي طرحناه في البداية: "لم كل هذا الاهتمام بالأطايب؟" ما هو السر الذي يجعل الأطايب وسيلة تحمل كل هذه القوّة والأهمية في المجتمع؟

نحن نرى الأطايب بكل لذّتها الحسية قادرة على كسر أكبر الحواجز التي تقسّمنا. ومن خلال تحدّي الواقع السلبي بزرع الإيجابية، تسعى جيهان مع بقية فريق سوق الطيّب إلى توفير المجال الذي يسمح للأطايب بلعب دور الوسيط الفاعل بين الجانبين، والذي يسمح للناس، أقلّه لمدة ساعة في اليوم، بأن ينسوا مخاوفهم الأكثر إلحاحاً حول ما يفرّق بينهم، وأن يستمتعوا بمساحة حرّة. وكما تقول جيهان: "عندما تذهب إلى سوق الطيّب ترى مشاركين من جميع الجنسيات، ولا أحد يسأل الآخر عن أصله وجنسيته، "فكلّ ما يهمّ هو أنتَ والأطايب التي تقدّمها".

 

المراجع

 

Bryant, R. (2014) ‘History’s Remainders: On Time and Objects after Conflict in Cyprus,’ American Ethnologist, 41 (4): 681–697.

 

Massumi, B. (2002) Semblance and Event: Activist Philosophy and the Occurrent Arts. Duke University Press.

 

Turner, V. (1974) Passages, Margins, and Poverty: Religious Symbols of Communitas. Ithaca: Cornell University Press.

 

 

 

 

الحواشي

 

[1]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.

[2]  Massumi, B. (2002) Semblance and Event: Activist Philosophy and the Occurrent Arts. Duke University Press.

[3]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.

[4]   Turner, V. (1974) Passages, Margins, and Poverty: Religious Symbols of Communitas. Ithaca: Cornell University Press.

[5]  Bryant, R. (2014) ‘History’s Remainders: On Time and Objects after Conflict in Cyprus,’ American Ethnologist, 41 (4): 681–697.

[7]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.

[8]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.

[9]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.

[11]  من مقابلة المؤلف مع جيهان شلالا في 28 حزيران 2017.