لبنان والنزاع في سوريا: بين شلل الدولة والحرب الأهلية

متظاهر مناهض للنظام السوري يرفع علم الثورة السورية ويهتف شعارات مناهضة للأسد في إحدى المظاهرات المناهضة للأسد في بيروت، لبنان 23 آذار/مارس 2012
Teaser Image Caption
متظاهر مناهض للنظام السوري يرفع علم الثورة السورية ويهتف شعارات مناهضة للأسد في إحدى المظاهرات المناهضة للأسد في بيروت، لبنان 23 آذار/مارس 2012

سليم القول إن اللحمة الوطنية في لبنان والثقة بالدولة لم يكونا بالضعف الذي هما عليه الآن. فالشعب اللبناني يواجه اليوم وفي الوقت نفسه وضعاً أمنياً متدهوراً، وتفكك لبنان إلى مناطق نزاع طائفي متشابكة في ما بينها، وشللاً كاملاً  لكافة مؤسسات الدولة. وفيما يُنظَر عموماً إلى انعدام الاستقرار في لبنان من خلال المنظور الأمني، لا يفسّر هذا الأمر إلا جزئياً السبب الذي يجعل الوضع اليوم أخطر مما كان عليه في السنوات القليلة الماضية. فالوضع لا يقتصر على مواجهة المواطنين حوادث أمنية متزايدة في مناطق عديدة، بل إن الفئات المتخاصمة في الطبقة السياسية قادت البلاد إلى طريق سياسي مسدود، وهذه الفئات لا تستطيع أو لا تريد الاتفاق على أي شيء. وفيما حافظ السياسيون في الماضي على واجهة أو وهم عن دولة فاعلة، فهم لا يبذلون أي جهد مشابه الآن.

تنظر هذه المقالة إلى كيفية مفاقمة النزاع السوري لمأزق سياسي لبناني عمره ثماني سنوات بين تحالف الرابع عشر من آذار بقيادة تيار المستقبل وتحالف الثامن من آذار بقيادة حزب الله. ويتفحص تفكك مؤسسات الدولة واندلاع النزاع الطائفي في الوقت نفسه، ويسأل إن كان لبنان يقترب مجدداً من الحرب الأهلية.

رهانات عالية على النزاع السوري

لم يتوقع أحد أن يبقى لبنان طويلاً محصناً من الثورة السورية، في ضوء تعقيد العلاقات وعمقها بين البلدين المتجاورين. فبين 1990 و2004، اصطنع نظام الأسد توافقاً بين الفئات السياسية اللبنانية المختلفة والطوائف وأمراء الحرب السابقين، واستخدم تكتيكات عنوانها فرّق تسُد لإبقاء الأفرقاء كلهم تحت السيطرة. وكان الخلاف في 2004 حول تمديد ولاية الرئيس إميل لحود، الحليف الوفي للأسد، أول شرخ في هذا التوافق المصطنع. فالزعيم الدرزي وليد جنبلاط وعدد من النواب المستقلين ورفيق الحريري ( الذي كان لا يزال رئيساً للوزراء عند التمديد واستقال بعده) عارضوا التمديد. وانتهى الأمر بنواب تيار المستقبل، تحت التهديد والإكراه، بالتصويت للتمديد، لكن كتلة جنبلاط ونواباً كثيرين آخرين تحدوا الأسد وصوتوا ضد التمديد. في حين صوت حزب الله وحركة أمل وحلفاء آخرون للأسد للتمديد، فبدأ بذلك الاستقطاب الحالي. وعمّق اغتيال الحريري بعد أشهر قليلة الاستقطاب بين ما أصبح يُعرَف بفريق الرابع عشر من آذار، بقيادة سعد الحريري (ابن رفيق الحريري)، وفريق الثامن من آذار بقيادة حزب الله. واستمد نظام الأسد، وقد خرج عسكرياً من لبنان في تلك المرحلة، دعمه وقوته من فئة سياسية واحدة فقط في لبنان، ففريق الرابع عشر من آذار أصبح معارضاً شرساً للنظام، متهماً إياه باغتيال رفيق الحريري وشخصيات بارزة أخرى في فريق الرابع عشر من آذار، مثل بيار الجميّل وجبران تويني.

وزادت الثورة السورية التي انقلبت حرباً أهلية من حدة الاستقطاب العميق أصلاً بين الفئتين السياسيتين الرئيسيتين. فمع اندلاع الانتفاضة الشعبية ضد بشار الأسد، كان حتمياً أن يؤيد تيار المستقبل وحزب الله تحديداً المعارضة السورية ونظام الأسد على التوالي. ومع أن الطرفين وقّعا في حزيران 2012 إعلان بعبدا برعاية الرئيس وتعهدا فيه بعدم توريط نفسيهما في النزاع اللبناني أو جر لبنان إلى نزاع إقليمي، كان الأمر في الواقع من قبيل التمني.

إن لكل من الفريقين رهاناً حيوياً قد يكون وجودياً (هذا أكيد في حالة حزب الله) على المصير النهائي لنظام الأسد.

تيار المستقبل

بالنسبة إلى تيار المستقبل، بقيادة سعد الحريري، تمثّل الانتفاضة السورية فرصة للتخلص من نظام الأسد، وإضعاف القوة والنفوذ الإقليميَّين والمحليَّين لحزب الله، ومن ثم تعديل ميزان القوى لمصلحة تيار المستقبل. وربما أمِل الحريري في قيام حكومة سورية جديدة، يُفضَّل أن تكون بأغلبية سنية، تكون لها تحالفات إقليمية ودولية كتحالفات تيار المستقبل. لذلك عبَر مقاتلون إسلاميون سنّة كثيرون الحدود لمساعدة المعارضة في القتال ضد النظام، وفي آخر 2012، برز أن النائب عن تيار المستقبل عقاب صقر يعمل كمنسق للتسلح بين مقاتلي المعارضة السورية وممولين خليجين عرب، يُفترَض أنهم من السعودية.

ورغب سعد الحريري في قلب موجة الإذلال التي نالها على أيدي حزب الله وحلفائه ونظام الأسد، بما في ذلك إسقاط حكومته في كانون الثاني 2011، وهو إسقاط أطلق شرارتَه انشقاقُ حليفه في فريق الرابع عشر من آذار، وليد جنبلاط، إلى الفريق الموالي لحزب الله والأسد، والهزيمة الملحوظة في اشتباكات بيروت خلال أيار 2008 بين مقاتلي حزب الله ومقاتلين سنّة حول قرار اتخذته الحكومة، التي كانت آنذاك بقيادة فريق الرابع عشر من آذار، بتفكيك شبكة الاتصالات الخاصة المملوكة من حزب الله. وكان للحادثة الأخيرة تأثير هائل علي حزب الحريري (المستقبل) والطائفة السنية ككل على الصعيد الطائفي. فالطائفة اعتبرت الأمر هزيمة عسكرية على يد حزب الله في الأحياء السنية في بيروت. وخرج حزب الله منتصراً بعد مؤتمر الدوحة، الذي عُقِد لإنهاء القتال في بيروت، فالحزب احتفظ بترسانته الضخمة من الأسلحة ونال مطلباً أساسياً لدى تشكيل الحكومة، وهو ما يُسمَّى الثلث المعطل، إذ حصل على ما يكفي من المقاعد الحكومية لنقض القرارات التي تتخذها الأغلبية المشكّلة من فريق الرابع عشر من آذار.

حزب الله

أما بالنسبة إلى حزب الله، فحيوي أن ينتصر نظام الأسد على الانتفاضة لكي يتمكن الحزب من حماية خطوط إمداده بالسلاح عبر الأراضي السورية ويحافظ بالتالي على قوته في لبنان ويعززها، ويفرض ميزان قوى إقليمياً جديداً لكي يتمكن من حماية نفسه من التهديدات الإقليمية، ليس فقط من إسرائيل بل كذلك من بلدان عربية معادية لبرنامجه. فحين اعترف الأمين العام للحزب حسن نصر الله بأن الحزب يقاتل إلى جانب نظام الأسد في بلدة القُصير الإستراتيجية (يعتبرها حزب الله خط إمداد رئيسي بالسلاح)، لا بد من أنه عرف أن رد فعل عنيفاً سيحصل في لبنان، ليس فقط من السنّة بل كذلك من معظم المسيحيين، بمن فيهم حتى حليفه ميشال عون، زعيم التيار الوطني الحر. لكن لكي يحمي حزب الله موقعه الإستراتيجي، هو مستعد لخسارة سمعته الإقليمية باعتباره الحصن الوحيد ضد إسرائيل، من خلال القتال إلى جانب دكتاتور وحشي.

وتضمنت تبريرات نصر الله للمشاركة في النزاع السوري نبرة طائفية منخفضة. فمعركة القُصير صُوِّرت كضربة استباقية محسوبة ضد "التكفيريين"، أو الإسلاميين المتطرفين (متبنياً دعاية نظام الأسد عن أن المعارضة السورية عبارة عن إرهابيين إسلاميين). وبدلاً عن انتظارهم ليدخلوا لبنان ويستهدفوا حزب الله، سيدخل حزب الله سوريا ويمنعهم من مهاجمة اللبنانيين. وفي خطاب متلفز في 14 حزيران 2013، أعلن نصر الله فعلياً خطوط الجبهة بين حزب الله وتيار المستقبل، فقال إن المستقبل تدخل في النزاع السوري لفترة أطول بكثير من حزب الله (على الرغم من أن تورط حزب الله، على صعيد الحجم، أكبر بكثير) – لكأن حزب الله كان في سوريا جزئياً لقتال تيار المستقبل، فساوى ضمنياً بين تيار المستقبل والمتطرفين. وإذ قال "إن ما قبل القُصير ليس مثل ما بعد القُصير"، أعلن أن حزب الله سيستمر في القتال في سوريا إلى جانب الأسد. وكان غياب الحكومة (استقالت حكومة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي التي كان حزب الله جزءاً منها في آذار 2013) مفيداً جداً لحزب الله إذ أعطاه حرية أكبر في أفعاله. وتمكن من الإقرار علناً بتورطه في القُصير من دون أن يخشى محاسبة.

النزاع السوري ينفجر في لبنان

وكان للإقرار الاستفزازي لنصر الله أثر شبه فوري على الأرض، فالتوترات الطائفية المحتدمة أصلاً والناتجة عن النزاع السوري، انفجرت اشتباكات مسلحة في مناطق كثيرة، وكانت الاشتباكات متزامنة أحياناً. وعرف نصر الله بدقة أن كلماته ستؤدي إلى العنف، وكان تيار المستقبل مستعداً لإعطاء المقاتلين الإسلاميين السنّة مقداراً من الغطاء السياسي ويُشتبَه في أنه أعطاهم أسلحة. وثمة ثلاث بؤر محتملة للعنف، وهي طرابلس والبقاع (وهما منطقتان حساستان جداً للنزاع السوري بسبب قربهما الجغرافي من الحدود السورية) وصيدا (التي تشارك المنطقتين الأخرتين تركيبة طائفية هشة)، تشهد حروباً أهلية مصغرة، يخوضها في الأغلب وكلاء. ويعقّد الوضع الأمني أيضاً أن الجيش اللبناني فقَد جزءاً على الأقل من تقديره الوطني باعتباره مؤسسة تعددية وشاملة، توحي بولاء ووطنية كبيرين لكثيرين من اللبنانيين. ففي السنوات الأخيرة، جهد الجيش اللبناني للحفاظ على حياده في أوضاع أُجبِر على التدخل فيها. ويعتبر بعض السنّة، كما سنرى أدناه، أنه ينسّق مع حزب الله ضد أفراد من الطائفة وهو بالتالي جبهة من جبهاته وليس وسيطاً محايداً[1].

طرابلس

في مدينة طرابلس الشمالية، تجدد القتال في شكل شبه فوري بين المقاتلين السنّة في حي باب التبانة والمقاتلين العلويين المؤيدين للأسد في جبل محسن المجاورة، ما شل مدينة طرابلس وروّع سكانها. ويعكس التجدد المتكرر للقتال بين الحيين تطورات النزاع السوري. وحاول الجيش اللبناني تأدية دور الفاصل بين الطرفين (كثيراً ما يتهمه الطرفان بالانحياز)، لكن فيما يحاول حفظ الهدوء على جبهات متعددة ويكبله في الأغلب الاستقطاب السياسي وانعدام القرار، لم يتمكن من وقف التجدد المتكرر للاشتباكات (خصوصاً الانتشار المفاجئ لرجال مسلحين مقنّعين وقناصين في شوارع طرابلس)، كما لم يتمكن من الدخول في شكل حاسم إلى الحيين ومصادرة الأسلحة.

البقاع الشمالي الشرقي

وفي الوقت نفسه، اتسعت الجبهة السورية إلى البقاع الشمالي الشرقي على امتداد الحدود السوريةاللبنانية. فالجيش السوري الحر قصف مواقع حزب الله في قضاء الهرمل، متسبباً بأضرار في منازل المدنيين، فيما قصف الجيش السوري بلدة عرسال السنية الحدودية الواقعة في قضاء الهرمل الموالي على الأغلب لحزب الله، والذريعة الدائمة هي أن مقاتلي الجيش السوري الحر يختبئون في حقول البلدة. ونفّذ الجيش السوري أيضاً توغلات متكررة في الأراضي اللبنانية، بذريعة مطاردة مقاتلي الجيش السوري الحر. ومنذ بداية الانتفاضة ضد الأسد، آوى سكان في عرسال لاجئين سوريين وناشطين معادين للنظام ولاحقاً مقاتلين سوريين متمردين. وتسبب هذا بنزاع مع البلدات الشيعية القريبة في الهرمل، وتكثر عمليات الخطف بين عرسال والقرى الشيعية. وتعرض الجيش اللبناني لهجوم في المنطقة، يُعتقَد بأن سكان في عرسال كانوا وراءه[2].

بروز ظاهرة الأسير وأفولها

وفي أواخر حزيران، اندلعت معركة بلدة عبرا في مدينة صيدا التي دامت يومين بين مقاتلين موالين لرجل الدين السلفي المتشدد أحمد الأسير والجيش اللبناني، مع تورط مفترض لمقاتلين من حزب الله. وتحوّل أحمد الأسير من خطيب ديني هامشي إلى صوت سني بارز يدعو إلى الجهاد ضد نظام الأسد ويستخدم خطاباً طائفياً حاداً ضد حزب الله. وفي منتصف حزيران، بدأ الأسير يطالب بأن تخلي مجموعة مرتبطة بحزب الله، تُعرَف بسرايا المقاومة، شققاً حول مربعه الأمني في مسجد بلال بن رباح الواقع في ضاحية عبرا، قال إن المجموعة كانت تستخدمها للتجسس عليه. وفي 23 حزيران نصب مقاتلو الأسير كميناً لجنود في الجيش اللبناني عند حاجز أمني قرب مسجده، ما أشعل المعركة التي دامت ليومين، وخلفت 18 قتيلاً بين الجنود و35 جريحاً. وأثار الأسير رفضاً وطنياً شبه كامل حين دعا الجنود السنّة إلى الانشقاق عن الجيش والقتال إلى جانبه. وعلى الرغم من أن مقاتلي الأسير هُزِموا، تمكن الخطيب من الفرار من المربع الأمني (يُعتقَد أنه استخدم أنفاقاً تحت الأرض)[3].

وفور انتهاء الأزمة، برزت تقارير عن دور لحزب الله إلى جانب الجيش في القتال ضد الموالين للأسير، واتهم بعض المحللين حزب الله باستخدام الجيش اللبناني ستاراً لإلغائه الأسير. وفي 24 حزيران 2013، عرضت قناة المنار (المملوكة من حزب الله) لقطات حية لجنود ببزاتهم العسكرية يعتقلون مقاتلين موالين للأسير وهم يصيحون "يا زينب" وهي صيحة دينية شيعية. وعرضت قناة المستقبل (المملوكة من الحريري) لقطات مسجلة لمقاتلين في منطقة المعركة يرتدون شارات صفراء على أذرعتهم، ليعرّفوا عن أنفسهم كما يُقال بأنهم من حزب الله. وأورد صحافيون من موقعين إخباريين (ماككلاتشي وياهو) أنهم تحدثوا إلى مقاتلين من حزب الله على الأرض وإلى شهود أكدوا دور الحزب في المعركة. وفيما لا تقدّم هذه التقارير أدلة قاطعة، فهي ليست بالضرورة من قبيل المبالغة. فصيدا، أولاً، مهمة إستراتيجياً لحزب الله فهي المعبر إلى جنوب لبنان وإلى الجبهة مع إسرائيل. وربما شعر حزب الله، ثانياً، في ضوء دعواه بأنه يقاتل تكفيريين أو إسلاميين سنّة في سوريا لحماية لبنان، بأن من المبرر أن يقاتلهم في بلده أيضاً. وعلى الصعيد الطائفي، تبيّن للسنّة من تورط حزب الله في قتال الأسير، بغض النظر عن رفضهم للأسير، النفاق العام للدولة إزاء سلاح حزب الله. ففيما صادر الجيش سلاح الأسير، لم يكن سلاح حزب الله مطروحاً على البحث.

وبعد أزمة الأسير، برزت ردود فعل فورية تقريباً ضد حزب الله والمناطق الخاضعة لسيطرته. ففي 9 تموز، انفجرت سيارة مفخخة في حي بئر العبد في منطقة ضاحية بيروت، معقل حزب الله حيث يقع مقره الأمني الرئيسي. وفيما لم يسقط ضحايا، كانت الأضرار التي أصابت الممتلكات كبيرة. وأعلنت على "فايسبوك" مجموعة متمردة سورية غير معروفة سابقاً، اسمها اللواء 313، مسؤوليتها عن الانفجار، وقالت إنه كان رداً على قتال حزب الله إلى جانب جيش نظام الأسد في مدينة حمص. وسواء أكانت هذه المجموعة موجودة أم لا، فإن ما أقلق حزب الله على الأرجح كان أن منطقته غير القابلة للاختراق سابقاً اختُرِقت فعلاً. وبعد أسبوع، تعرض موكب لحزب الله لهجوم بقنبلة على طريق البقاع السريع- المستخدم بكثرة من قبل حزب الله- و الذي يقع في قلب معقل الحزب. وكان نصر الله تعهد بأن تورط حزب الله في معركة القُصير وهجومه على الإسلاميين المتطرفين سيحمي لبنان من الفتنةلكن يبدو أن العكس تماماً هو ما تحقق.

انهيار الدولة؟

وفي المقابل، بدأت مؤسسة تلو أخرى من مؤسسات الدولة في التفكك وفقدان المصداقية. فلدى كتابة هذه المقالة، كانت أغلبية مؤسسات الدولة في لبنان، إن لم يكن كلها، تعاني شللاً. فليست في لبنان حكومة منذ استقالة ميقاتي في آذار 2013 بسبب مفترض يتمثّل في عدم القدرة على الاتفاق على تمديد ولاية قائد الشرطة، أشرف ريفي المؤيد لتيار المستقبل والذي تقاعد في نيسان 2013. ويلاقي رئيس الحكومة المكلف تمام سلام استحالة في إبرام اتفاق على حكومة وحدة وطنية. ولم تتمكن الفئات السياسية اللبنانية أيضاً من التوصل إلى اتفاق على قانون جديد للانتخابات، وفيما كانت مهلة إجراء الانتخابات في حزيران 2013 تقترب من نهايتها، قرر النواب من الفريقين الرئيسيين تمديد ولاية البرلمان الحالي حتى تشرين الثاني 2014. وفشل طعن في قانونية تمديد ولاية البرلمان قدمه رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى المجلس الدستوري، لأن المجلس المستقطَب خضع للتدخلات السياسية ولم يتمكن من تأمين النصاب لاجتماعاته للتصويت على الطعن. وفشلت أخيراً محاولات لعقد جلسة برلمانية لمناقشة 50 مشروع قانون عالقاً إذ شككت بعض الأحزاب السياسية في دستورية الجلسة وجدول الأعمال المعد من رئيس البرلمان نبيه بري. ويقترب المجلس العسكري، المسؤول عن اتخاذ القرارات الخاصة بالجيش، من الشلل لأن أعضاءه إما تقاعدوا أو يقتربون من التقاعد. ويُتوقَّع أن يتقاعد قائد الجيش العماد جان قهوجي نفسه في أيلول 2013، وكالعادة ما من اتفاق على تمديد ولايته أو اختيار خلف.

واللبنانيون معتادون على طول مراحل تشكيل الحكومات والنزاعات على التعيينات الإدارية، لكن ما دق ناقوس الخطر كان تمديد ولاية البرلمان (ذكّر الأمر كثيرين بالحرب الأهلية بين 1975 و1990 حين كانت ولاية البرلمان تُجدَّد دورياً من دون انتخابات) وفشل المجلس الدستوري في الانعقاد لإصدار قرار في شأن طعن رئيس الجمهورية في قانون التمديد.

الانشغال في الخلافات يعطل الانتخابات؟

أولاً، في ضوء حالة الاستقطاب السياسي، غاب تماماً أي جهد وطني عابر للأحزاب للعمل على قانون جديد للانتخابات يصدر قبل فترة معقولة من تاريخ الانتخابات في 2013. ولم يؤدِّ الاقتراح الانتخابي الجدي الوحيد، المعروف بقانون اللقاء الأرثوذوكسي والذي اقترحه النائب السابق إيلي الفرزلي وتبناه تحالف عابر للتكتلين الرئيسيين من الأحزاب المسيحية، إلا إلى تعميق الاستقطاب، فهو اقترح قانوناً انتخابياً لا يصوت فيه المواطنون إلا لمرشحين من مذاهبهم. ودعمه حزب الله وحزب رئيس البرلمان نبيه بري، حركة أمل. وفي نظرة استعادية، يبدو أن الاقتراح لم يكن أكثر بكثير من حيلة لبذر الشقاق في صفوف قوى الرابع عشر من آذار، فتيار المستقبل (ووليد جنبلاط) عارضاه بقوة، واستنتجا (عن حق) أنه يستهدف إضعافهما انتخابياً. وكان اقتراحاً يستهدف تعميق الاستياء وانعدام الثقة. وفي 31 أيار صوتت الفئات السياسية اللبنانية، التي لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق على قانون انتخابي جديد فيما كانت مهلة إجراء الانتخابات في حزيران 2013 تقترب، على تمديد ولاية البرلمان الحالي إلى تشرين الثاني 2014.

وبتأجيل الانتخابات، أرسلت الطبقة السياسية جماعياً رسالة مفادها بأن النزاع الإقليمي يتفوق على الحاجات المحلية، وأن الأزمات الطائفية الوجودية، تأتي أولاً دائماً. فالانتخابات لا تُعتبَر ببساطة مجالاً مشروعاً أو مرغوباً للتنافس. وعكست الطبقة السياسية أيضاً غياباً مميزاً للسيادة، وإقراراً بأن مصير لبنان مرتبط بالوضع السوري، فلطالما بقيت نتيجة النزاع السوري غير معروفة، لا تستطيع النخبة السياسية أن تركز على المسائل الداخلية. وعومِلت "الاعتبارات الأمنية" المزعومة، المستخدمة لتبرير التمديد، كمسألة خارجية لا يملك السياسيون اللبنانيون أي سيطرة عليها. فعلى الرغم من أن حزب الله تدخل في سوريا، اختار تيار المستقبل أن يدعم المتمردين، ويمكن لاندلاع النزاع في طرابلس أن يتوقف بقرار سياسي.

ولم يعنِ التمديد وقفاً لتفاقم الأزمة بل العكس. فالنواب اللبنانيون اتفقوا فقط على تمديد ولايتهم، ولم يتفقوا على تأجيل نزاعهم، اللفظي أو العسكري. وكذلك على الطبقة السياسية نفسها التي فشلت في إجراء الانتخابات أن تنتخب رئيساً في آذار 2014 وأن تتفق على قانون للانتخابات قبل تشرين الثاني 2014.

المجلس الدستوري يفقد مصداقيته

وفي محاولة لإنقاذ الدستور وشرعية مؤسسات الدولة، طعن الرئيس ميشال سليمان في القانون الذي مدد لولاية البرلمان أمام المجلس الدستوري. وانضم إليه التيار الوطني الحر. وعلى الرغم من توقعات ناشطي المجتمع المدني ومواطنين كثيرين، خضع المجلس الدستوري، في شكل متوقع ومحزن، للتدخلات السياسية ولم يتمكن من تأمين النصاب اللازم (ثمانية من 10 أعضاء) في اجتماعاته المخصصة للتصويت على الطعن. فالعضوان الشيعيان والعضو الدرزي، وتحت ضغط من نبيه بري ووليد جنبلاط، لم يحضرا الاجتماعات المتتالية للمجلس قبل انقضاء مهلة 20 حزيران لقبول الطعن أو رفضه. وبذلك أصبح التمديد قانونياً بحلول 20 حزيران. وفشل المجلس الدستوري في امتحان استقلال القضاء، وبدلاً عن أن يكون حلاً ممكناً للأزمة أصبح مشكلة هو نفسه. فدوره ووجوده نفسه أصبحا موضع شك، إذ أن أعضاءه غير مستعدين لتحرير أنفسهم من ولائهم إلى الزعماء الطائفيين.

شبح الحرب الأهلية؟

ولو حصلت الأحداث المذكورة أعلاه، أي الاشتباكات المسلحة وانهيار مؤسسات الدولة، في شكل منفصلمثلاً، وقوع أحداث أمنية مع حكومة فاعلة أو، بالعكس، وجود برلمان مشلول لكن مع استقرار أمنيلما كان التهديد بحرب كاملة عالياً. لكن بما أن هذا التفكك يحصل على المستويات كلها، الأمنية والمؤسسية معاً، وفي ضوء تزامن الأحداث في فترات زمنية قصيرة، يبدو مؤكداً أن لبنان على شفير نوع ما من التفكك أو نزاع متذبذب بعيد الأجل لا يكون حرباً أو سلاماً. كان لبنان على شفير الحرب الأهلية في الماضي، لكنه تمكن من الابتعاد، وأحدث مثال كان في أيار 2008 حين أُبرِم اتفاق مؤقت بين الطرفين بوساطة خارجية. لكن هذه المرة يختلف الوضع الإقليمي، فالرعاة المختلفون، خصوصاً السعودية وإيران اللذين يدعمان قوى الرابع عشر من آذار وقوى الثامن من آذار على التوالي، ليسا في مزاج تصالحي، في ضوء تورطهما العميق في النزاع السوري، وهما يشجعان الاستقطاب بين حلفائهما في لبنان.

يتطلب تجنب مزيد من النزاع وتحقيق سلام دائم، إرادة سياسية حقيقية وقناعة، خصوصاً لدى حزب الله وتيار المستقبل، بأن الحوار في نهاية المطاف مفَضَّل على العنف. وعلى الطرفين، خصوصاً حزب الله، الالتزام بإعلان بعبدا والامتناع عن الاشتراك في النزاع السوري لصالح السيادة الوطنية للبنان ووحدة أراضيه. ولا يستطيع البلد ببساطة أن يتجمد في مرحلة انتقالية فيما يترقب الطرفان نزاعاً قد لا ينتهي قبل سنوات. كما لايمكنهما انتظار توافر اختراق دبلوماسي دولي لحل النزاع السوري، والذي هو أمر مستبعد الآن. فعلى الأحزاب السياسية كلها أن تلزم أنفسها بإعادة إطلاق طاولة الحوار الوطني لإجراء مناقشة جدية لرسالة لبنان وهويته، إلى جانب سلاح حزب الله.

 

[1] المؤسستان الأمنيتان الرئيسيتان الأخريان مسيستان علناً، فقوى الأمن الداخلي، التي عُزِّزت وقُوِّيت بعد 2005، كانت إلى وقت قريب بقيادة أشرف ريفي القريب من الحريري والسعودية، فيما المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم قريب من حزب الله ونظام الأسد.

[2] في شباط 2013، وقع الجيش في كمين مسلح في المنطقة حين كان يحاول القبض على إسلامي متهم بأنه عضو في مجموعة فتح الإسلام الإرهابية.

[3] مكانه الحالي غير معروف.

 

 
 
Image removed.

نبذة عن الكاتبة

شغلت دورين خوري منصب مديرة برنامج في مكتب مؤسسة هينريش بُل في بيروت من العام 2009 حتى آب/أغسطس 2012. عملت سابقاً كباحثة وخبيرة في شؤون الإنتخابات في المركز اللبناني لدراسات السياسات كما شغلت منصب المديرة التنفيذية في الجمعية اللبنانية لديمقراطية الإنتخابات. هي متخصصة في قضايا الإنتاخابات والحكم الرشيد ومحاربة الفساد والإعلام البديل. أنهت في نيسان 2013 شراكة بحث في المؤسسة الألمانية "ويسنشافت أوند بوليتيك" في برلين.