اعترافات قسرية، دراما سورية لم تنضج بعد

مشغل معادن في دمشق القديمة
Teaser Image Caption
مشغل معادن في دمشق القديمة

بعد كل اعتراف يعرض على القنوات الداعمة لنظام الأسد، عادةً ما تقرأ عبارات من قبل "طب من تلات سنين لهلأ لسا ما فكر التلفزيون السوري يبعت موظفينه يحضروا صفوف تمثيل؟ يا اخي و بلا التمثيل...صفوف لهجات طيب !! "[i] أو "قد ما حافظ الأجوبة عشوي رح يجاوب قبل ما يسألوا"[ii]. هذه الاعترافات القسرية التي بدأ عرضها مع الاسبوع الثاني من بداية الثورة السورية والتي لاتزال مستمرة إلى الآن قد انعكست بشكل سلبي على مصداقية رواية النظام حتى بعض المؤيدين لنظام الاسد. يعود ذلك بشكل أساسي إلى أن معظم هذه الاعترافات غير مقنعة بسبب ردائة انتاجها او عدم ترابطها. يقول رامي (33 عاما)، وهو موظف حكومي أجرت رويترز مقابلة معه عبر سكايب من دمشق،"لا أعتقد أن التلفزيون السوري يكذب في كل تقاريره، لكن المعلومات التي تتضمنها هذه الاعترافات متضاربة بالفعل ومحيرة ". [iii]

سيتناول هذا المقال الاعترافات المصورة التي أجريت على القنوات السورية المؤيدة، والتي يعتقد الكثيرون أن معظمها أجري تحت التعذيب أو التهديد، في محاولة لتسليط الضوء على أهم ملامح هذه الاعترافات و أنماطها[iv] المختلفة.

سيدي المذيع، اعترافات ما قبل الثورة:

بدء بث اعترافات المجرمين الجنائيين على التلفزيون السوري قبل الثورة بأعوام. فمعظم السوريين مازالو يتذكرون برنامج "الشرطة في خدمة الشعب" الذي كان مخصَّص لعرض إنجازات الشرطة في القبض على المجرمين واللصوص. البرنامج كان يبث مرة كل اسبوع ليذكّر السوريين بوجوب عدم الوقوع في فخ الشيطان لأن قوى الأمن السوري ستكون لهم بالمرصاد ،كما أن المذيع المتعدد المواهب، علاء الدين الأيوبي سيجعل منهم عبرة لباقي السوريين. يبدأ البرنامج عادةً بسرد سريع للقصة من قبل المذيع، ثم يقوم المجرم بسرد تفاصيل الجريمة التي ارتكبها، ومن ثم يختتم البرنامج بلقاء سريع مع قائد الشرطة أو نائبه لشكرهم ونصح المشاهدين بالبقاء بعيداً عن رفاق السوء. شكل هذا البرنامج مادة سخرية دسمة لكثير من السوريين، فشارب المذيع وتصرفاته تعبران عن حلم لم يتحقق بأن يكون ضابط شرطة، حيث ان جميع المجرمين كانوا ينادونه ب"سيدي" كما لو أنه ضابط شرطة، إضافة لأن جميع الاعترافات كانت تتبع السيناريو التالي في كل حلقة:(- وين صرفت المصاري المسروقة؟ على متعتي الشخصية يا سيدي. هل أنت بحاجة للسرقة؟ - لا والله يا سيدي. – ولكن ليش سرقت؟ - الشيطان ورفاق السوء يا سيدي. انت ندمان؟ - اي والله ندمان يا سيدي. - بشو بتنصح المشاهدين؟ - بنصحهن يبتعدو عن هالطريق يا سيدي") ، حيث يتم عادةً اقتباس جمل منه في الاحاديث بهدف الضحك أو الاستهزاء.

اعترافات مخرب،( التدخل الخارجي)

تبنى النظام السوري منذ بداية الثورة رواية انه يحارب عصابات مسلحة وارهاربيين، فكان لابد لإعلامه من تبني هذه المقولة واستخدام كافة الوسائل لنشرها وترسيخها. حيث تكرر ظهور اشخاص مواليين للنظام السوري لتكذيب أخبار التظاهرات السلمية وما تتعرض له من عنف مفرط وموجه من قبل النظام وشبيحته. كما تم بث تقارير أخبارية، واعترافات[v] "ارهابين" لمواجهة مقاطع الفيديو التي كان يتم نشرها من قبل المعارضين لنظام الأسد. فكانت البداية مع فقرة "اعترافات مخرب" التي اصبحت تبث، بشكل غير منتظم، شهادات قسرية لاشخاص معتقلين على القنوات الداعمة للأسد. بدأت سلسلة "اعترافات مخرب" بفيديو تم بثه بتاريخ 26/03/ 2011 عن"جاسوس" مصري، محمد رضوان، تم القبض عليه في سوريا حيث "اعترف" بالتقاطه صور وبيعها لشخص كولومبي يدفع 100 جنيه مصري مقابل كل صورة. تم اطلاق سراح " الجاسوس" بعد اسبوع واحد من اعتقاله حيث عاد إلى مصر. يتضح لاحقاً ان محمد رضوان، هو مهندس مصري يحمل الجنسية الاميركية قدم إلى سوريا قبل تسعة أشهر من انطلاق الثورة ليعمل في شركة بترول وقد تم القبض عليه في يوم الجمعة 25/03/2011 حيث تواجد بالصدفة خلال أحد التظاهرات فقام بتصويرها. في الفرع الأمني، تم تعذيبه وإجباره على تسجيل اعترافات غير صحيحة. تم إطلاق سراح محمد نتيجة حملة اعلامية ودبلوماسية كبيرة. لم يعلق التلفزيون السوري على إطلاق سراح "الجاسوس" الذي يسعى إلى تخريب البلد بعد اسبوع من اعتقاله. لم يساعد هذا الاعتراف على دعم مقولة النظام، بل أدى إلى نتائج عكسية على النظام نظراً لانتشار القصة الحقيقية لاحقاً على نطاق واسع[vi].

الخلية الارهابية المحلية:

سادت فترة هدوء لمدة ثلاثة اسابيع، بعد عرض الاعتراف الاول، غاب خلالها عرض اعترافات مصورة أخرى ليتم تقييم ما جرى. فالتطبيق العشوائي لنموذج الشرطة في خدمة الشعب لم ينجح لسببين أساسيين هما: التسرع في تسجيل الاعتراف وعرضه خلال 24 ساعة من تاريخ الاعتقال، وحسن حظ محمد رضوان لحمله الجنسية الاميركية، ولانتمائه إلى عائلة ميسورة مادياً. يمكن تلخيص التعديلات التي ادخلت على الاعترافات اللاحقة في جانبيين أساسيين: الاول، يتضمن التركيز على الاعتماد على اعترافات سوريين فقط لتجنب أي ضغط سياسي خارجي، والثاني إدخال عنصر ثالت للاعترافات يتضمن القيام بأعمال ارهابية مسلحة.

بدأ عرض سلسلة من الاعترافات ل "خلايا ارهابية" لمدة تزيد عن العامين. من أبرز هذه الاعترافات التي يمكن سردها هنا هي أعتراف الطفل شعبان عبدالله حميدي[vii] ، مواليد 2000، الذي يسرد بصوت مرتبك ووجه مرهق كيف تم تجنيده من قبل مجموعة تابعة للواء أحفاد الرسول التابع للجيش الحر في حي ميسر في مدينة حلب. فتدرب بشكل مكثف على يد خاله وتمكن خلال ثلاثة أشهر من قنص 32 شخصا من الجيش السوري والمدنيين، فضلا عن عناصر من الجيش الحر أمره مرؤوسوه بتصفيتهم مقابل مبلغ مالي. ينهي الطفل اعترافه بمعرفة والده بعمله و من ثم انتقالهم من حلب للخلاص من خاله، لينتهي به المطاف في طرطوس. لم يتطرق الطفل لكيفية إلقاء القبض عليه، لكنه ينهي اعترافه بالقول بأنه قادر على قتل أي شخص بدون أي شعور بالندم.

تصدير الارهاب:

بعد فترة تقارب السنة على عرض قنوات مؤيدة للنظام لاعترافات اشخاص سوريين، ظهر نمط جديد من الاعترافات لمواطنيين عرب تغلب عليهم الجنسيتين التونسية والليبية. هدفت هذه الاعترافات إلى تسليط الضوء على دور القاعدة والمجموعات الجهادية المتشددة في إرسال مقاتلين من بلدان عربية للقتال في سوريا. إن توقيت عرض هذه الاعترافات، الذي رافق التحضيرات لعقد مؤتمر جنيف 1، إنما جاء ليؤكد على أهمية بقاء نظام الأسد لمحاربة الارهاب في المنطقة. فالنظام حرص منذ البداية على تصوير ما يجري في سوريا على انه حرب بين العلمانية والتطرف بين النظام السوري والقاعدة. تلخصت الاعترافات بالمجمل بأستغلال المشايخ المحليين لمشاعر غضب الشباب، نتيجة متابعة الاخبار الملفقة لما يجري في سوريا، وتهريبهم إلى سوريا مروراً بتركيا للقتال إلى جانب القاعدة.

جهاد النكاح:

بعد ما يقارب الثلاثة أشهر تقريبا على انتشار اعترافات مصورة لمجاهدين عرب يقاتلون في سوريا، تم نشر اعترافات لفتيات يمارسن جهاد النكاح. تتقاطع معظم هذه الاعترافات بما يلي:

- المبالغة بذكر التفاصيل الدقيقة للإيحاء بالمصداقية: حيث أن بعض اللواتي اعترفن يتذكرن الاسم الكامل للاشخاص الذين مارسوا جهاد النكاح معهن، إضافةً إلى وصف دقيق لأشكالهم في أحيان أخرى.
- تناقض واضح في قصص المعترفات: الامر الذي قد يعود إلى التركيز على التفاصيل على حساب تناسق سيناريو الاعتراف ككل.
- بالرغم من أنه تم الضغط على معظمهن للقيام بجهاد النكاح بدايةً، إلا انهن كن ّ يعدن طواعيةً للقيام بجهاد النكاح دون أي ضغط عليهن، وذلك رغم عدم اقتناعهن بالموضوع.

الخوف والحزن في صوت المعترفات.

من أكثر الاعترافات التي حصلت على تغطية إعلامية مضادة، هو اعتراف الطفلة روان[viii]، مواليد1997، الذي تم بثه بتاريخ 22-9- 2013. سردت روان بأن والدها أجبرها على ممارسة الجنس مع مقاتلين تحت مسمى جهاد النكاح إلى أن تمكنت من الهرب والأحتماء بالجيش. أتضح لاحقاً أن روان كانت قد اختطفت في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 من مدينة نوى، محافظة درعا، على أحد حواجز الجيش في طريق عودتها من المدرسة. كان الهدف من اختطافها الضغط على والدها لتسليم نفسه، ليتم اجبارها لاحقاً على تسجيل الاعتراف الذي تم عرضه[ix].

مساحة مفتوحة:

بتاريخ 05/03/2014 تم نشر "اعترافات"[x] كل من مريم حايد، شيار خليل، وحازم واكد ضمن برنامج العين الساهرة ( الشرطة في خدمة الشعب سابقاً). تضمنت الاعترافات القيام بنشاطات سلمية وحمل شعارات لمطالب سياسية و فبركة تقارير اعلامية و بيعها لقنوات مغرضة. الملفت في هذا الاعتراف هو مايلي:

- عودة الاعترافات المصورة إلى نقطة البداية حيث يقتصر هدفها على الاعتراف بفبركة تقارير اعلامية والتعامل مع قنوات مغرضة وجهات خارجية.
- ما اعترف به ناشطين، من النشطاء الثلاثة، لا يتعدى القيام بنشاطات سلمية ذات مطالب سياسية مشروعة.
- إن البوسترات التي عرضت تمثل مطالب ديمقراطية عامة لاتتعارض مع القانون، منها "سواسية أمام القانون"، " لايجوز النفي التعسفي ولا الاعتقال التعسفي" كما أن إسم المجموعة التي حملتها اللافتات هي " سوريا للجميع".
- الناشط الثالت اعترف بتواصله مع جهات مسلحة حيث كان يصور معهم لفبركة بعض التقارير، لكن حتى هذا الشخص انتقد الجهاديين وقال بأنه يريد سوريا منفتحة وبأنه ضد إقامة الخلافة.
- عرض مادة الحشيش، للمرة الاولى، خلال التحقيق.
- لم يتم ذكر اسماء الجهات الخارجية التي عادةً ما يلقي النظام باللوم عليها كالسعودية وسعد الحريري (زعيم تيار المستقبل اللبناني)، وقطر.

يمكن تفسير هذا التغيير الكبير في سياسة بث الاعترافات، التي اخذت بشكل عام منحى تصعيدي ثابت منذ بداية الثورة، إلى إلقاء القبض على الهاردexternal hard drive) ) الذي وجد خلال المداهمة التي تم خلالها اعتقال مريم حايد و حازم واكد بتاريخ 13/01/2014. حيث من المرجح أن الشخص مخطط الاعترافات شعر بوجود فرصة تسمح لصنع اعترافات أكثر حيوية؛ حيث قامت مريم بشرح عملي للكيفية التي تتم بها فبركة التظاهرات، وعرضت الفيديوهات التي كان شيار يتحدث عنها. كما غابت اللغة التلقينية المباشرة؛ حيث تم ترك مساحة صغيرة للمتلقي لتركيب الاجزاء مع بعضها والخروج بما يدعم رواية النظام.

من المفيد ختاماً تلخيص أهم ملامح الاعترافات القسرية والتي ساهم بعضها في فشل هذه الاعترافات على تأدية الاهداف المرجوة منها:

1- معظم الاعترافات جامدة ويتم سردها بشكل تلقيني مباشر واضح [xi]
2- عدم انسجام المعلومات المذكورة في الاعترافات، حيث يتم التركيز على المعلومات المراد سردها على حساب تناسق القصة ككل
3- المبالغة في ذكر التفاصيل للإيحاء بواقعية الاعتراف
4- غياب تفاصيل مهمة في الاعترافات؛ كطريقة إلقاء القبض عليهم، الفترة التي قضوها في السجن قبل الاعتراف ألخ
5- إطلاق سراح عدد لابأس به من الاشخاص الذين عرضت اعترافاتهم، بدون تقديم رواية رسمية لشرح الاسباب
6- الجهة المسؤولة عن الاعترافات هي جهات أمنية متمرسة بكيفية استخراج اعترافات اجبارية من الموقوفين، لكنها ليست على دراية بكيفية عرض هذه الاعترافات بصورة مقنعة لانها لم تكن مضطرة إلى ذلك.
7- لايوجد رؤية واضحة ترسم سياسة الجهات القائمة على صناعة الاعترافات، الأمر الذي قد يُفَسر بوجود أكثر من جهة أمنية تعمل على الموضوع، بالإضافة إلى ارتهانها إلى أهداف مرحلية غالباً ما تتغير بوتيرة سريعة
8- إحساس النظام بتملك السوريين وعدم الحاجة لبذل جهد كبير لإقناعهم بروايته للأحداث

إن شعور القائمين على صناعة هذه الاعترافات بعدم ترتّب أي مسؤولية قانونية عليهم يزيد من فرصة استمرارهم في صناعة اعترافات مفبركة، كما يؤدي إلى انتشار هذا الأسلوب حيث أن بعض فصائل المعارضة المسلحة نشرت اعترافات لأشخاص تحت ضغط التعذيب أو التهديد به. لذلك يجب بذل الجهود من أجل تجريم القائمين على هذه الصناعة التي أودت بحياة الكثيرين ومازالت تهدد بتدمير مستقبل وحياة أشخاص آخرين.

المراجع

[i] تعليق تم تداوله بين الناشطين على صفحات الفيسبوك.
[ii] تعليق تم تداوله بين الناشطين على صفحات الفيسبوك.
[iii] سوريون: اعترافات "الارهابيين" مفبركة، 17/05/2012 http://www.skynewsarabia.com
[iv] إن عرض أنواع الاعترافات بالطريقة النظرية التي اعتمدها المقال لايعني انها لاتتداخل أو تتمازج مع بعضها في أكثر من موضع.
[v] لا يتطرق المقال للتصريحات الموجهة والتي يجري تلقينها لأفراد مؤيدين ليتم سردها أمام كميرات التلفزيون طواعيةً في سياق الدعاية الاعلامية للنظام. كحال الفتاة التي فبركة قصة اغتصابها في حرستا https://www.youtube.com/watch?v=mWc1GEPAhUQ .
[vi] هذه ليست المرة الوحيدة التي يفضح فيها أحد المعتلقين حقيقة الاعترافات التي أجبر على القيام بها خلال سجنه، كما في حالت وفاء مورللي https://www.youtube.com/watch?v=9aMzqaPSYyo ، والشيخ أحمد الصياصنة https://www.youtube.com/watch?v=vSSpmjBHZLY وغيرهم.
[vii] https://www.youtube.com/watch?v=U6bE35UJWF0
[viii] https://www.youtube.com/watch?v=ixrlIWa09dE
[ix] روان قداح.. الطفلة التي اغتُصبت مرتين، وسام كنعان، جريدة الأخبار، 25/09/2013، ( (http://www.al-akhbar.com/node/191959 .
[x] https://www.youtube.com/watch?v=Cena70AWrOs
[xi] في الفيديو المرفق يتم الاستهزاء بالطريقة التي يتم فيها تسجيل الاعترافات حيث يتم إضاقة صوت آخر على التسجيل فيظهر وكأنه عملية تلقين مباشر https://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=AQZEMNoK2WY