حلمُ تجاوُزِ كل الحدود

ماذا حلّ بالرؤى العابرة للأوطان التي تتميز بها التيارات اليسارية؟ كان عددٌ من التيارات السياسية والمجموعات الأيديولوجية في الشرق الأوسط مهتماً باستنباط سبلٍ من أجل تجاوز الحدود. ففي حين ركّزت العروبة، وهي حركة قومية في شكل أساسي، على إلغاء الحدود الجغرافية، تمحّصت التيارات الاشتراكية والشيوعية في الحدود الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمعات، وسعت إلى تجاوز الهيكليات الطبقية والانقسامات الطائفية أو الإثنية. هناء إدور، العضو في الحزب الشيوعي العراقي ورابطة المرأة العراقية، انضمّت إلى قوات البشمركة العراقية عام 1985، وقد تحدّثت معنا عن الحلم بتجاوز كل الحدود.

في سبعينيات القرن العشرين، كنت أعيش في برلين (الشرقية) حيث كنت ممثّلة رابطة المرأة العراقية لدى أمانة سر اتحاد النساء الديمقراطي العالمي. كنت أنوي العودة إلى العراق عام 1978، لكن في تلك السنة، بدأ "حزب البعث" بزعامة صدام حسين حملته المناهضة للديمقراطية، فأغلق مكاتب الشيوعيين، واعتقل عدداً كبيراً من أصدقائنا ورفاقنا، وأعدَم عشرات الشيوعيين والديمقراطيين الشباب. فتقرّر أن أبقى بانتظار ما ستؤول إليه الأمور. عام 1981، أمضيت عطلتي في بيروت حيث حضرت تدريباً عسكرياً أقامته "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". عدت إلى برلين ورحت أترقّب اللحظة التي يمكنني فيها العودة إلى بغداد والانضمام إلى البشمركة (حركة المقاومة المسلّحة ضد نظام صدام حسين الديكتاتوري). لكن بعد انقضاء أربعة أعوام، حسمت أمري، لم يعد بإمكاني البقاء لفترة أطول في برلين.

وهكذا، في آب/أغسطس 1982، عدت إلى دمشق لمواصلة عملي مع رابطة المرأة العراقية. في ذلك الوقت، كنت عضواً في الحزب الشيوعي العراقي وأتطلع إلى الانضمام إلى رفاقي في حركة المقاومة. كانت لحظة مهمة عندما تمت الموافقة على انضمام النساء كمقاتلات إلى قوات البشمركة تحت راية الحزب الشيوعي العراقي. في تشرين الأول/أكتوبر 1985، حضرت المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي في جبال كردستان؛ وقد فاق عدد المشاركين 120 شخصاً. بعد المؤتمر، مكثت في كردستان وانضممت إلى صفوف البشمركة، تحديداً الفرقة التي كنّا نسمّيها "نصيرات"، والتي كانت قد استأنفت أنشطتها عام 1979.

كان اسمي الحركي ندى. مكثت في منطقة خواكورك الواقعة في المثلّث الحدودي بين تركيا والعراق وإيران، والتي تشكّل قاعدةً لعددٍ من سياسيي الحزب الشيوعي، وكذلك مقراً لوسائل الإعلام والبث والصحف التابعة للحزب. انضممت، بصفتي ممثّلة الشؤون النسائية، إلى القادة السياسيين في الحزب. حافظنا على التواصل مع أخواتنا اللواتي يعملن داخل العراق الخاضع لحكم صدام حسين، وكذلك مع "النصيرات" – النساء المقاتلات – في كردستان. أعطوني سلاح كلاشينكوف ومسدّساً صغيراً يحتوي على خمس رصاصات فقط. في القاعدة حيث كنت موجودة، كان عددنا أربعين شخصاً، بينهم حوالي اثنتَي عشرة امرأة؛ وكان العدد يتغيّر بحسب المهام وانتقال الأشخاص إلى مناطق مختلفة. بجوارنا، على مسافة نحو عشر دقائق سيراً على الأقدام، كانت تقع قاعدة الإرسال التابعة للحزب الشيوعي العراقي حيث كانت تعمل بعض الصحافيات الشابات. لقد ذُهِلت بأعداد العراقيين ذوي الخلفيات الاجتماعية المتنوّعة الذين ينتمون إلى محافظات وإثنيات وأديان مختلفة: عرب ومسيحيين وأيزيديين وأكراد ومندائيين وتركمان؛ لم نكن نشعر بالاختلاف في ما بيننا، بل كنّا نعمل يداً واحدة. وكان عدد كبير منهم من أصحاب الشهادات العليا: دكتوراه في الفيزياء أو الفلسفة أو الفنون... وكثرٌ جاؤوا من بلدان غربية أو تخرّجوا من الاتحاد السوفياتي. لقد فرّوا من العراق بعد عام 1978 وتوجّهوا إلى الجزائر ولبنان وسوريا واليمن، ثم عادوا للانضمام إلى النضال المسلّح ضد النظام الديكتاتوري، من أجل بناء عراق ديمقراطي ومساعدة شعبه للحصول على الكرامة والحرية والعيش الكريم.

صون الكرامة والمعركة من أجل الحرية

كانت معظم النساء اللواتي انضممن إلى فرقة "النصيرات" غير متزوّجات في ذلك الوقت. كنّ صغيرات جداً في السن ومستعدّات للمشاركة في النضال المسلّح في ظروف شديدة القسوة. وقد أوكِلت إليهن مجموعة متنوعة من المهام، مثل العمل في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية، وفي الإعلام والتمريض، ومهام يومية أخرى؛ وشارك عدد قليل منهن في القتال. وكان بين قادة الحزب في الجبال رفيقةٌ امرأة تدعى بشرى برتو، التي كانت عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي. كانت برفقة زوجها الذي كان أيضاً عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي، وقد أمضيا معاً سنوات عدّة في البشمركة؛ تعيش برتو الآن في لندن.

كانت قاعدتنا تقع في منطقة نائية. لم تكن هناك أسواق، ولا حياة اجتماعية، كنّا معزولين تماماً، وكان جهاز الراديو الرابط الأساسي الذي يصلنا بالعالم الخارجي. كنّا نستلم، من حين لآخر، رسائل وكتباً عن طريق الحزب. كنّا نعيش في ظروف بدائية جداً، كان الرجال والنساء يُقيمون في غرف منفصلة تتشاركها مجموعات من الأشخاص، وقد بُنيت من التراب، وأحياناً كانوا يعيشون في خيم. كان الشتاء بارداً يتخلّله هطول ثلوج وأمطار غزيرة، لكننا كنّا نشعر بالدفء بفضل روح الزمالة والمواقد التي كنّا نستخدمها في التدفئة. كنا نتناول وجبات الطعام معاً؛ وكان كل ثلاثة أشخاص يتشاركون عادةً الطبق نفسه. كانت أصناف الطعام محدودة جداً لا سيما في الشتاء: لبن، جبنة، عدس، حمص، أو طبق فول مع أرز. أحياناً كنا نتناول العسل والبيض واللحوم، ربما مرة أو مرتَين في الشهر. لا أحب اللحوم، لكن عدداً كبيراً من رفاقي كانوا يتشوّقون لتناولها، وكانوا ينضمّون إلي ليتمكّنوا من التهام حصّتي. كنا نحصل أيضاً على خبز طازج شهي في الصباح وفي منتصف النهار. كان على الجميع، ما عدا القادة والمتقدّمين في السن، أن يتناوبوا على الطهي مرتَين في الشهر، ويُعدّوا ثلاث وجبات لجميع الأشخاص في القاعدة.

لم تكن فترة سهلة بالنسبة إلي. أنا من البصرة، وهي منطقة مسطّحة جغرافياً ودافئة نسبياً خلال فصل الشتاء. لقد عانيت من المشقّة في تسلّق الهضاب والجبال والتكيف مع هذه البيئة البدائية الجديدة. كنت أجد صعوبة في إشعال النار بواسطة الحطب الرطب لإعداد الفطور لرفيقتي؛ وكان الوافدون الجدد من الرجال يجدون مشقّة أيضاً في قطع الحطب. لكنني كنت أستمتع بالألوان الرائعة للمناظر الطبيعية من حولنا، وكيف كانت تتبدّل في الصباح، وفي فترات العصر، والأمسيات؛ وعلى امتداد الفصول. خلال مناوباتي في الحراسة، مساءً أو ليلاً، كنت أُفتَن بالنجوم الساطعة وسكون الظلام، ولم يكن يخرق هذا الصمت سوى حفيف أوراق الأشجار، أو صفير الرياح الجليدية القارسة.

كنا في الأغلب معزولين عن الآخرين، لكن عندما كنّا نتلقّى زيارات، لا سيما من النساء، كانت الانطباعات جيدة. كنّ ينظرن إلينا بدهشةٍ ولسان حالهنّ يقول: "هؤلاء النساء، ماذا يفعلن في هذه المنطقة النائية؟" التقينَ رجالاً من البشمركة سابقاً، إنما ليس نساء. مع مرور الوقت، تمكّنّا من بناء علاقات جيدة معهن، وقمنا بلتقينهن أصول النظافة، والسبل لتحسين ظروف عيشهن، وساهمنا قليلاً في نشر التوعية لديهن حول حقوق المرأة.

في تلك المرحلة، عقد البعض قرانهم في قاعدتنا وفي قاعدة أخرى مجاورة. أحيينا حفلات الزفاف وبنينا لهم غرفة خاصة. وكنّا نحضّر هدايا من أشياء بسيطة جداً، مثل دهن علب فارغة بالطلاء لتحويلها إلى مزهريات، وكنا نقطف الزهور لصنع باقات منها.

في صيف 1986، عانى أحدهم من آلام حادّة في البطن. من حسن حظنا، كان هناك طبيب جرّاح معنا، وقد شخّص إصابته بالتهاب الزائدة الدودية مشيراً إلى أنه بحاجة إلى الخضوع لعملية جراحية. لكن كيف؟ قرّر الطبيب إجراء الجراحة في العراء، إنما بعد حلول منتصف الليل لتجنّب العدوى من الغبار والحشرات، وتخدير المريض موضعياً. كان القلق ينتابنا جميعاً. جهّزنا المكان بطريقة بسيطة جداً، وقد تطوّعتُ للمساعدة، وكنت أبادر إلى طمأنة المريض عندما يشعر بالألم خلال الجراحة. كان إنجازاً لافتاً. بعد أسبوع، استعاد رفيقنا عافيته واستأنف نشاطه.

مدّ جسور لتخطّي العزلة

لم يكن العيش في مكان معزول مع أشخاص آخرين على مدار الأيام والساعات، أمراً سهلاً لكنني لا أذكر وقوع أي مشكلات كبرى. كان الأمر أشبه بالسجن، إنما في العراء وبملء إرادتنا. كنا نستغلّ الوقت في القراءة والعمل والنقاش. لقد أمضينا أوقاتاً رائعة. أذكر أننا احتفلنا بأسبوع المسرح، وكان رائعاً جداً، كان مدهشاً للغاية! قدّمنا عدداً من المسرحيات في الأمسيات، وتبعتها نقاشات والاستماع إلى الموسيقى. بالطبع، كنا نواظب دائماً على الاحتفال بيوم المرأة العالمي وسواه من المناسبات. كان هؤلاء المقاتلون الشباب صادقين وطموحين، وقد تحمّلوا هذه الظروف البدائية بدفعٍ من تفانيهم والتزامهم على الرغم من حرمانهم من عدد كبير من المتطلبات الأساسية طوال سنوات.

ذات يوم في حزيران/يونيو 1986، انطلقنا من منطقتنا، سوران (ريف إربيل)، باتجاه منطقة بهدينان (محافظة دهوك) التي تقع في أعالي الجبال حيث يتمركز الصقور. مررنا في مناطق محفوفة بمخاطر جمّة تضم نقاط تفتيش تابعة للجيش العراقي، وكان علينا أن نجتاز نهراً صغيراً لعبور الحدود التركية؛ أثناء عبور المياه الهائجة، كاد أحد الرجال يغرق لكن رجلاً آخر تمكّن من إنقاذه. أتذكّر أننا اضطررنا إلى السير مشياً على الأقدام لأكثر من أربع ليالٍ، وكنّا نمر عبر القرى، ونبيت ليلتنا في منازل مختلفة. رأينا أنقاض القرى التي دمّرتها حملة التطهير العرقي التي شنّها صدام حسين في كردستان، والتقينا أشخاصاً هُجِّروا من منازلهم، وكان بعضهم قد تعرّض للتهجير أكثر من مرة. في الوقت نفسه، عشنا لحظات سعيدة عندما دخلنا بلدة صغيرة، وسرنا مشياً على الأقدام على طريق معبَّد، وجلسنا في مقهى واحتسينا الشاي! كان ذلك مصدر متعة كبيرة لنا!

مشينا لساعات طويلة. حتى عندما تتعب، عليك أن تتبع الآخرين وتواصل السير. كان لدينا عدد قليل من الحيوانات لامتطائها، ولم أكن معتادة على السير في المناطق الجبلية. كنت أعاني مشقّة كبيرة عندما نُضطرّ إلى تسلّق الجبال، فكانوا يُحضرون لي أحياناً حماراً لامتطائه. لكنني كنت أستمتع بالسباحة في الأنهر الجبلية الباردة مع "نصيرات" أخريات في المجموعة.

بعد ثلاثة أسابيع، عدنا إلى قاعدتنا، لكن إحدى رفيقاتنا، منى ليزا، مدّدت إقامتها. في أيلول/سبتمبر 1986، عند عبورها مع رفاق آخرين في المنطقة التركية، أطلق الجيش التركي النار عليهم، فأصيبت، والتقطت عدوى توفّيت على أثرها. لم يتمكّن الرفاق من إحضار جثمانها، وكان موتها خسارة كبيرة لنا. كانت منى ليزا، التي تتحدّر من الناصرة، ناشطة شابة ورائعة كرّست نفسها من أجل النضال ومن أجل حقوق المرأة.

أودّ أن أذكر بعض الرفيقات الأخريات في فرقة "النصيرات" اللواتي تسلّلن إلى العراق في مهام حزبية. اختبأن مع عائلاتهن، وقد خسرنا بعضاً منهن؛ أذكر زينب وأم ذكرى وأم لينا، إحداهن انتحرت هرباً من الاعتقال، والاثنتان الأخريان ألقت القوى الأمنية القبض عليهما وأعدمتهما.

نظام صدام حسين يشهر سلاحه بوجه المعارضة بعد انتهاء الحرب مع إيران

كانت مجموعتنا تضم بعض الإيرانيين المنتمين إلى منظمة "فدائيي خلق" و"حزب توده" اليساريَّين. كانوا رجالاً ونساء رائعين، وقد شعرنا بأننا موحّدون في وجه قضية مشتركة. كنا نستمتع بحضور  جلسات ثقافية وفنية في الأمسيات، وقد عقدت إحدى الفتيات في مجموعتهم قرانها على رفيق من رفاقنا. عندما دخلت القوات الإيرانية الأراضي العراقية، قرّرت القيادة الحزبية نقلهم إلى منطقة بهدينان حفاظاً على أمنهم وسلامتهم. لسوء الحظ، أصرّ رجل يدعى أبو علي على البقاء معنا؛ كان متفانياً ومسلّياً جداً، لكنه سقط بنيران جندي عراقي أثناء انسحاب رفاقنا من القاعدة في تموز/يوليو 1988. حزنت كثيراً لفقدانه. كان صديقاً مقرّباً مني ومن "نصيرات" أخريات. كان قد افترق عن عائلته منذ نحو خمسة أعوام، وكان متشوّقاً جداً للقاء ابنه الصغير الذي تركه في إيران. أنجبت بعض رفيقاتي أطفالهن في هذه الأوضاع، وكان أمراً رائعاً أن يتواجد هؤلاء الأطفال معنا، وأن نسمع صوت طفلٍ بعد كل هذا الوقت.

الحرب الكيميائية

عام 1987، شنّ صدام حسين هجماته الكيميائية على مناطق في كردستان. كنت عادةً أقرأ البرقيات والرسائل التي نتلقّاها من أماكن أخرى، وكان الناس مذعورين من هذه الحملة الضارية. استقبلنا وفداً من الحلبجة، وقد أخبرونا عن الوضع المأسوي الذي عاشوه خلال الهجوم الكيميائي على بلدتهم وبعده في 16 و17 آذار/مارس 1988. في حزيران/يونيو من العام نفسه، شُنَّت غارة كيميائية عراقية على قاعدة تابعة للحزب الشيوعي في بهدينان كنت قد زرتها قبل عام. كان الوضع مريعاً. عانى عدد كبير من الرفاق من أمراض تنفسية حادّة وأوبئة جلدية مزمنة، وفقدَ بعضهم حاسّة البصر لأشهر عدّة. كنّا في حالة تأهّب شديد. عُقِدت اجتماعات لشرح تركيبة الأسلحة الكيميائية ومضاعفاتها وكيفية التعرف على تهديداتها خلال الهجوم وتجنّبها. كان علينا أن نكون مستعدّين، في أي لحظة، للهروب. كان كل واحد منا قد جهّز حقيبة صغيرة تحتوي على الحاجيات الضرورية في حال التعرض لهجوم؛ كانت أوقاتاً عصيبة جداً. خلال الفترة التي أمضيتها في الجبال، شهدتُ على قيام طائرات مقاتلة تركية وعراقية بمسح مناطقنا، وشنّ هجوم عليها في بعض الأحيان. كان علينا أن نبقى دائماً متأهّبين.

في الأعوام الثلاثة التي أمضيتها في الجبال، كان العام 1988 الأصعب على الإطلاق. في 18 تموز/يوليو، سمعنا تصريح الخميني الذي قال فيه إنه مستعدٌّ لـ"تجرّع السم" من أجل إنهاء الحرب مع العراق، وكان ذلك يعني أنه وافق على وقف إطلاق النار بين إيران والعراق. أدركنا أن الجيش العراقي سيُحوِّل أسلحته نحونا، نحو حركات المقاومة كافة، وهذا ما فعله على الفور.

وداعاً للسلاح

كان علينا الانسحاب من قاعدتنا في بربينان، والسير تحت أشعة الشمس الحارقة، والمكوث في العراء لمدة يومَين إلى ثلاثة أيام، ثم الانتقال إلى قاعدة أخرى. وصلتنا أنباء عن شنّ الجيش العراقي غارات عنيفة على باقي رفاقنا الذين مكثوا في بربينان وخواكورك، وعلى قوات أخرى تابعة للبشمركة. شعرت بحزن شديد وغضب عارم؛ انفطر قلبي. كانت لحظة مصيرية، ثم تواردت إلى مسامعي شائعةٌ بأن قيادة الحزب اتخذت قراراً بسحب "النصيرات" والمرضى وكبار السن من الجبال. شعرت بتأثّر شديد خلال النقاشات عن تراجعنا وانسحابنا من كردستان، وتعبيراً عن غضبي، غسلت شعري في نهر صغير أمام الجميع.

أذكر اليوم الذي جلسنا فيه، نحن مجموعة صغيرة من "النصيرات"، في الخيمة، وكانت عيوننا دامعة ويتملّكنا القنوط، وقد جاء عضو من القيادة الحزبية لإخبارنا عن قرار مغادرة كردستان. أعربنا جميعنا عن شعورنا بهول الصدمة ورفَضنا المغادرة، فحاول مواساتنا بكلمات مشجِّعة لكن لم يكن باليد حيلة، كان علينا المغادرة وفي القريب العاجل!

في اليوم التالي، غادرنا ست أو سبع "نصيرات" وأنا برفقة الدليل. كانت لحظات الوداع مع رفاقنا مؤلمة جداً. مشينا لساعات عدّة، ثم طلب منا الدليل أن نخلع بزّات الكاكي ونرتدي الأثواب القروية التي أحضرها لنا. معظمنا لم يسبق أن ارتدينَ هذا النوع من الأثواب من قبل، وقد شعرنا بأن مظهرنا مضحك؛ فقهقنا وتبادلنا المزاح، ما ساهم في رفع معنوياتنا. أمضينا ليلة مظلمة وباردة جداً في العراء، وحاولنا أن ننام متجاوِرات كي نشعر بالدفء، وعندما استيقظنا في الصباح، وجدنا أنفسنا محاطات بالخراف والماعز.

لم تكن هناك مشكلة في عبور الحدود الإيرانية بطريقة غير شرعية. مكثنا مع عائلات كردية، وقد وجدنا متعة كبيرة بالاستحمام في حمام عام إيراني. طبعت هذه المحطّات بدايةَ استئناف حياتنا المدنية. لاحقاً، انفصلت عن صديقاتي وانتقلت إلى مدينة نقده. بعد يومَين، سمعت أن وقف إطلاق النار قد دخل حيّز التنفيذ بين إيران والعراق؛ كان ذلك في الثامن من آب/أغسطس 1988. بعد أسبوع، صعدتُ في الحافلة باتجاه طهران برفقة أفراد من الأسرة التي كنت أقيم في منزلها. ثم غادرتُ طهران بسهولة ومن دون عوائق، ووصلت إلى دمشق في غضون أسبوع.

كان على "نصيرات" أخريات لا يملكن جوازات سفر صالحة المجازفة وعبور الحدود الإيرانية مع الاتحاد السوفياتي بطريقة غير شرعية؛ كانت رحلة طويلة وحافلة بالمغامرات. تتوزّع أكثرية "النصيرات" الآن في بلدان عدة، لا سيما في الغرب، وتحديداً الدنمارك وألمانيا والنروج والسويد والمملكة المتحدة وهولندا... قلة منهن فقط لا تزال في العراق. إنهن متزوّجات ولديهن عائلات، وقد تابعت كثيراتٌ منهن تحصيلهن العلمي واستقررن في أوطانهن الجديدة، لكنهن يتذكّرن دائماً بحنينٍ وشغف ما عشنه من دفءٍ وحب في زمن النضال المسلّح.

بعد سنوات، تشكّل تنظيم يُعرَف بـ"رابطة الأنصار"، ما أتاح للرفاق القدامى الاجتماع بصورة دورية. وفي بعض المناسبات، نُظِّمت فعاليات خاصة للمقاتلات كي يجتمعن ويُجدّدن الصداقات القديمة. قام الرفيق علي رفيق، وهو مخرج أمضى سنوات في "رابطة الأنصار"، بإخراج وثائقي خاص عن تجربة النساء المقاتلات في العراق بعنوان "النصيرات".

لا أقصد القول بأن هذه التجربة كانت مثالية. لكنها حقيقةٌ واقعة أن الحزب الشيوعي العراقي كان رائداً في إشراك النساء في النضال المسلّح. لسوء الحظ، بالكاد يؤتى على ذكر هذا الأمر، وأعتقد أننا لم نروّج له بطريقة كافية. حتى خلال الحديث بيننا، من الواضح أنك كنت تعتقد أن قوات البشمركة كردية. في الواقع، عدد النساء الكرديات اللواتي انضممن إلى البشمركة كان ضئيلاً لأنهن تمكّنّ من المكوث في منازلهن والعمل في مدنهن.

الحلم باقٍ

عندما أتذكّر الأيام الخوالي، بعد انقضاء ثلاثين عاماً، ما زالت تراودني الآمال والأحلام نفسها التي كانت ترافقنا في تلك الفترة، إنه التعلّق الشديد بالنضال الهادف ضد الظلم والقمع، والاندفاع للقتال من أجل الحرية والكرامة والمساواة.

أودّ أن أشدّد على أنه لطالما جسّد الحزب الشيوعي صورة شاملة عن الشعب العراقي، وأعتزّ بأنني كنت جزءاً من هذا الحزب منذ صباي. لقد تعلّمت دروساً كثيرة: الصبر، والعيش والعمل معاً ضمن جماعة واحدة، والاعتناء بالآخرين، وبناء علاقات وطيدة. وما زلت حتى يومنا هذا على اتصال ببعض الرفاق.

على ضوء الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب العراقي اليوم، أشعر بالامتنان تجاه من ضحّوا بحياتهم كي يمهّدوا الطريق أمام الآخرين للقتال بثقة وعزمٍ من أجل تحويل أحلامهم إلى حقيقة عن طريق الاحتجاج السلمي. أعتقد أن الانضمام إلى النضال المسلّح ساهم في تمكين النساء، وأثبت أنه يمكن الوثوق بهن للتصرّف بمسؤولية في وجه الصعاب.

استناداً إلى تجربتنا، الماضية والراهنة على السواء، علينا أن نضغط من أجل وصول النساء إلى مزيد من المناصب القيادية بغية التخلص من العقلية الأبوية والسلطة الاستبدادية التي تؤمن بتهميش المرأة وإخضاعها.

---

إعداد الدكتور بنتي شيلر