هل الأصم في تونس مستبعد عن الحياة العامة؟

مقال

تخوض تونس، التي انطلقت منها شرارة احتجاجات وتظاهرات العالم العربي، مسيرة الانتقال الديموقراطي. وهي تواجه منذ العام 2011 عدداً من التحديات في إطار عملية تأسيس حكومة ديموقراطية واقتصاد مستقر. إلا أن العام 2014 شكّل مرحلة هامة في تاريخها مع وضع دستور جديد يؤمن الإطار القانوني للحكم ويضمن الحقوق الأساسية بما فيها حقوق الانسان وحرية التعبير والمعلومات ولا تشذّ حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة عن هذه القاعدة.

تنصّ المادة 47 من الدستور التونسي الجديد على ما يلي: "حقوق الطفل على أبويه وعلى الدولة ضمان الكرامة والصحة والرعاية والتربية والتعليم. على الدولة توفير جميع أنواع الحماية لكل الأطفال دون تمييز ووفق المصالح الفضلى للطفل". إضافة إلى ذلك تنص المادة 48 على التالي: "تحمي الدولة الأشخاص ذوي الإعاقة من كل تمييز. لكل مواطن ذي إعاقة الحق في الانتفاع، حسب طبيعة إعاقته، بكل التدابير التي تضمن له الاندماج الكامل في المجتمع، وعلى الدولة اتخاذ جميع الإجراءات الضرورية لضمان ذلك". وأشارت نتائج الإحصاء الوطني للعام 2014 إلى أن 2،3% من الشعب التونسي (نحو 252 ألف شخص) يعانون من إعاقة، و37% منهم هم أطفال يواجه 16% منهم إعاقات سمعية.

وقّعت الحكومة التونسية اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في العام 2007 وصدّقت عليها وعلى بروتوكولها الاختياري في 2 نيسان/أبريل 2008. تغطي الاتفاقية مجموعة متنوعة من الإعاقات وتعيد ضمان تمتّع كل الأشخاص بغض النظر عن إعاقاتهم، بحقوق الانسان والحريات الأساسية. وتحدد المجالات التي ينبغي تعديلها ليمارس الأشخاص ذوو الإعاقات حقوقهم بفاعلية والمجالات التي تُنتهك فيها هذه الأخيرة. وتُظهر الاتفاقية أيضاً النواحي التي ينبغي تأكيد حماية الحقوق فيها.

لكن يبدو أننا أمام هوة شاسعة بين السياسات القانونية والممارسات الشائعة بحيث يتعرض ذوو الإعاقات للفصل في المجتمع ويعانون التمييز ولا يتمتعون بالحقوق الأخرى كغيرهم من المواطنين.

وكانت الانتخابات البلدية التونسية الأولى التي أجريت في أيار/مايو 2018 قد لحظت بدورها قوانين وصول محددة لتمكين ذوي الإعاقات من المشاركة في عملية التصويت والترشح للانتخابات. وجرى الحرص على تأمين إمكانية وصول الكراسي المتحركة إلى كل مراكز الاقتراع وتوفير لوائح الانتخاب وغيرها من المواد بالأشكال المناسبة لذوي الإعاقات البصرية والسمعية.

على الرغم من كل هذه التطورات الإيجابية، ما زال الصمّ يعانون التمييز ويتجلى ذلك في ميدان التعليم على وجه الخصوص. تتمتع تونس بنظام تعليمي ذي مسارين: أحدهما تديره وزارة التعليم ويؤمن التعليم الأساسي والآخر تسيطر عليه وزارة الشؤون الاجتماعية ويؤمن التعليم للأولاد ذوي الاحتياجات الخاصة. وهذان المساران يختلفان كلياً عن بعضهما، فالمدارس الخاضعة لوزارة الشؤون الاجتماعية تُعرف بالمراكز أو الجمعيات ولا تتبع الاستراتيجية ذاتها أو البرنامج التعليمي ذاته كالمدارس العادية. إضافة إلى ذلك، يتوجب على ذوي الصعوبات السمعية الدراسة 6 سنوات في هذه المراكز من ثم الالتحاق ببرنامج تدريب مهني مع أن الحكومة لا تقدّر شهاداتهم تقديراً عالياً. يتمتع كل مركز منها بهدف مختلف مع أنها غالباً ما تتشارك الوسائل والإيديولوجيات ذاتها. لكن عند زيارة مراكز الصمّ وذوي الصعوبات السمعية، قد نجد أشخاصاً مصابين بالتوحد والصمم وصعوبات السمع والأمراض العقلية في مكان واحد، مما يفاقم المشاكل بما أن سلوكياتهم واحتياجاتهم مختلفة وتتطلب سبل رعاية مختلفة. ويؤكد وسيم بن دياب أن المشكلة تكمن في نقص الخبراء في لغة الإشارة وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة علماً بأن وسيم هو مهندس أصمّ وعضو سابق في جمعية "صوت الصمّ في تونس"، أقدم جمعية تُعنى بالصم في البلاد.

تتجاهل الغالبية حاجات هذه الأقلية ويرى وسيم ضرورة في زيادة الوعي لدى الأشخاص العاديين. فالتونسيون على سبيل المثال يتجاهلون اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لذا يقترح وسيم "تنظيم ورش عمل لتقديم الاتفاقية لكل طرف حسب حاجاته". وحتى الصم لا يدركون حقوقهم وواجباتهم حق الإدراك، لكن بما أن معدل الأمية مرتفع في مجتمعهم فإنهم عاجزون عن قراءة هذه الاتفاقيات والمواد وفهمها ولا بد من ترجمة مضمونها لهم. وفي هذا السياق، نحن نفتقر إلى إحصاءات حديثة عن عدد الصمّ في تونس إلا أن البنية التحتية لا تفيد في الوضع الراهن ولا بد من تعديلها لتلائم ذوي الاحتياجات الخاصة.

يواجه مجتمع الصمّ في تونس العديد من التحديات للاستمرار ضمن المجتمع ككل وما زال الصمّ يواجهون التمييز والأفكار النمطية والمغلوطة التي تعتبر أنهم أغبياء وعاجزون عن التعلم. إنها أقلية غير مرئية في البلاد لذا يجد العديد من الطلاب أنفسهم عاجزين عن متابعة دراساتهم في المدراس ويختارون المسار المهني كتصفيف الشعر أو الخياطة لكسب رزقهم فلا يستكشفون ولا يستغلون قدراتهم الفكرية والبشرية بشكل كامل في غالبية الأحيان.

لا يحظى دمج أقلية الصم في سوق العمل بالاعتراف الكبير في تونس ما يفرض تحدياً جديداً ليس على الصمّ وحدهم بل على غالبية ذوي الاحتياجات الخاصة. بالنسبة إلى العمالة، يُعتبر حماس الشركات للالتزام بتوظيف ذوي الحاجات الخاصة بنسبة 1% تطوراً واعداً وتقدم الحكومة التونسية حافزاً يتيح دفع رواتب هؤلاء الموظفين من الضرائب إلا أن هذه الحصة نادراً ما تُطبق في الممارسة. كما يمكن أن يكون معدل الدمج المنخفض مؤشراً على نوعية التعليم الرديئة نسبياً في المراكز المتخصصة.

بيد أنه لا يمكننا أن ننسى الدور الذي يتوجب على المؤسسات أن تؤديه لتحسين نوعية حياة ذوي الإعاقات فهم عبارة عن أقلية مستبعدة عن الأكثرية ويجدون ملاذاً لدى هذه الجمعيات لأنهم يصادفون أشخاصاً يشبهونهم يتحدثون اللغة ذاتها ويعاملونهم على القدر نفسه من المساواة. عند زيارة جمعية "صوت الصم في تونس" مثلاً نجد ثقافة جديدة مع لغة جديدة هي لغة الإشارة التونسية.

لا تكتفي هذه الجمعيات بتأمين الملاذ فقط، بل يمكنها أن تحسن نمط حياة ذوي الإعاقات. على المستوى الطبي، عمدت جمعية "صوت الصم في تونس" بالتعاون مع وزارة الصحة والدكتورة أميرة اليعقوبي إلى تأسيس عيادة في الجبل الأحمر تُعنى بمن يعانون الصمم وضعف السمع، حيث يمكنهم الحصول على استشارة طبية في لغة الإشارة التونسية. وعلى المستوى التعليمي، إن الجمعية هي الأولى التي تقدم دروساً بلغة الإشارة التونسية بالإنكليزية، بفضل معلمة الإنكليزية الأولى والوحيدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منال البرقاوي، كما أن الدروس متاحة بالفرنسية والعربية. أما على المستوى الثقافي، فقد نظمت الجمعية العديد من النشاطات لزيادة الوعي في المجتمع التونسي، كالاحتفال بيوم الأصم العالمي للمرة الأولى عام 2017. إضافة إلى ذلك، صوّر فريق من الجمعية فيلم "باردو"، أول فيلم بلغة الإشارة التونسية في البلاد عام 2016 وهو من إنتاج ألماني.

"مقاهي لغة الإشارة" هو نشاط ثقافي آخر أطلقه الصمّ أنفسهم في إطار الجمعية عام 2015. إنه حدث يجمع الصم والأشخاص العاديين في مقهى لتعريف الناس على ثقافة الصمم ومشاركة لحظات لا تُنسى معاً. لا شك في أن مجتمع الصمّ يسعى جاهداً لإيصال صوته إلى الجميع.

لا تؤدي جمعية "صوت الصم في تونس" وحدها دوراً أساسياً في تنمية ذوي الإعاقة بل تساهم في ذلك جمعيات أخرى مثل "إبصار" التي تُعنى بالمكفوفين وذوي الإعاقة البصرية والهيئة الدولة لمساعدة المعوقين. في العام 2011 على سبيل المثال، أطلقت هذه الهيئة مشروعاً محلياً دامجاً للتنمية يهدف إلى تحسين وصول ذوي الإعاقات إلى القطاع البيئي لتعزيز مشاركتهم ودمجهم في المجتمع التونسي بشكل كامل. ومما لا شك فيه أن كل جمعية ساهمت على طريقتها في تنمية مجتمعها والمجتمع التونسي بشكل عام. لكن كما ذكر وسيم بن دياب في مقابلته، هناك نقص في المعلومات، من هنا تؤدي وسائل الإعلام دوراً محورياً في مشاركة المعلومات وتوعية المجتمع. لم تبدأ التغطية الإعلامية الدقيقة لأوضاع المعوقين الصعبة إلا بعد الثورة ولفت وثائقي عن عائلة معزولة ومنسيّة تضم 4 أولاد ذوي إعاقات في شمال شرق تونس الانتباه الشديد إلى هذه المسألة، إلا أن الوقع ما زال محدوداً، فالتلفزيون التونسي لا يُقدم الأخبار بلغة الإشارة إلا مرة واحدة خلال نشرة الظهر وعلى قناة واحدة، ناهيك عن غياب البرامج المترجمة إلى لغة الإشارة التونسية مما يُظهر الاستبعاد الفعلي لذوي الإعاقات السمعية.

مساهمة خاصة لجعل الصمّ في تونس يتكلمون الإنكليزية

في العام 2015، قدمت منال برقاوي أول درس بالإنكليزية للصمّ وذوي الصعوبات السمعية في جمعية "صوت الصمّ في تونس". للمرة الأولى حظي الصمّ في البلاد بفرصة دراسة الإنكليزية إلا أن تونس تفتقر إلى النصوص المناسبة لهم وإلى الأساليب التعليمية الخاصة بهم، وما من أحكام تتيح للطلاب الصمّ تعلم لغة أجنبية تعزز من اطلاعهم على مجموعة معارف جديدة عبر القراءة على الإنترنت.

شعرت منال بالاستياء لقلة المواد المتاحة لتعليم الإنكليزية للصم وذوي الصعوبات السمعية في تونس فعمدت إلى وضع كتاب بعنوان "لنتكلم الإنكليزية بلغة الإشارة". أتاح برنامج الزمالة المهني برعاية وزارة الخارجية الأميركية إنتاج هذا الكتاب، وهو الأول بالإنكليزية للصمّ وذوي الصعوبات السمعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. بدأت منال استعمال كتابها لتعليم الإنكليزية عام 2017 لدى أميديست (منظمة أميركية رائدة غير هادفة للربح ملتزمة بأنشطة التعليم والتدريب والتنمية الدولية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) التي قدمت المكان والمساعدة. لقد كانت التجربة ناجحة بما أن مستواهم بالإنكليزية قد تحسن. وفي العام 2018، اخترعت أيضاً أول تطبيق تعليمي للهواتف الجوالة خاص بالصمّ وذوي الصعوبات السمعية. يُعرف التطبيق بـ"ليتس آب" وهو مسلٍ ومفيد يؤمن الفرصة للصمّ للعب والتعلم في آن. وعبّرت منال عن موقفها بالقول "آمل أن يحظى الصمّ في تونس بالفرص المتساوية في التعليم وفي داخل المجتمع التونسي."

باختصار، لا يمكن أن نفترض أن المجتمع المدني قادر على إضفاء معنى على النصوص القانونية الموجودة إن لم يكن الشعب على اطلاع جيد على وضع ذوي الإعاقات. كما ورد في ما سبق، يجد الصمّ في تونس حاجة إلى توعية المجتمع ووسائل الإعلام مؤهلة من موقعها لتؤدي دوراً أساسياً في نشر التغطية الأوسع والأكثر دقة للمواضيع المتعلقة بذوي الإعاقة. إن أدوار المجتمع المدني والحكومة ووسائل الإعلام مترابطة ويؤثر أحدها في الآخر. ومن الضروري أن تُحاسب هذه الأطراف الفاعلة الثلاثة على منح هذه المسألة الأولوية وأن تخطو خطوة هائلة إلى الأمام لردم الهوة بين التشريع والواقع كي تصبح تونس مكاناً أفضل لذوي الإعاقات من دون أية تحفظات. إن أردنا حقاً أن نغير نظامنا وسياساتنا في تونس لتحترم المادتين 47 و48 من دستور العام 2014، فلا يمكننا أن نسمح باستبعاد مجموعات من الأشخاص بسبب احتياجاتهم الخاصة بعد الآن.