هل يقدّم الفن والثقافة حلًا بديلًا للنزاعات المذهبية الشرسة؟

مقال

عانت طرابلس – وهي ثاني أكبر مدينة في لبنان بعد العاصمة بيروت - من عقود من الاضطرابات وعدم الاستقرار والمشاحنات المذهبية العنيفة التي تغذّيها الإنقسامات الطائفية العميقة الجذور. يُعتبر كلّ من باب التبانة الذي تعيش فيه غالبية سنّية وجبل محسن الذي تعيش فيه غالبية علوية، الحيّين الأكثر فقراً في المدينة، وقد شهدا عشرات من الجولات من المواجهات العنيفة على مدى العقود الأربعة الخيرة.

وتشير إحصائيات الأمم المتحدة إلى أن 69 في المائة من الأسر في جبل محسن و87 في المائة منها في باب التبانة يعيشون في الفقر. هذا هو المكان الذي انطلقت منه المنظمة اللبنانية غير الحكومية "مارش" (MARCH) في محاولة لقطع فتيل النزاع من خلال الفن والثقافة.

بدأ الصراع بين سكان الحيّين مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية. وبغض النظر عن الانقسام الطائفي، تدعم الطائفتان اليوم طرفي النزاع في سوريا ممّا أدى إلى تفاقم الاضطرابات وأعمال العنف في طرابلس بدءًا من العام 2011. والجدير ذكره أن الشارع الذي يرسم الحدود بين الحيين يسمّى "شارع سوريا" وفيه جرت معظم الاشتباكات العنيفة في الجولة الأخيرة من المعارك.

من خنادق جبل محسن وباب التبانة إلى خشبة المسرح

حدث ذلك عندما ذهب فريق "مارش" إلى طرابلس وأجرى اختبارات لأكثر من 100 مرشح محتمل من جبل محسن وباب التبانة للمشاركة في مسرحية حتّى انتهى الأمر باختيار 16 من المتأهلين للتصفيات النهائية، 8 منهم من كل طائفة. وكانوا ذوي خلفية اجتماعية واحدة تقريباً: تراوح عمرهم بين 16 و25 سنة، تركوا المدرسة في سنّ مبكر، وشارك معظمهم في الاشتباكات المسلحة وكانوا جميعاً عاطلين عن العمل. للأسف، لم يكن من الصعب العثور على هذا النوع من الشخصيات.

الفكرة التي كانت لدينا كانت بسيطة: جعل هؤلاء الشباب الطرابلسيين يجسّدون شخصيات في كوميديا ​​مظلمة مبنية على حياتهم وظروفهم على أمل أن تقوم المسرحية بجولة في جميع أنحاء لبنان. كان هدف الخطة منحهم منصة للتعبير عن مخاوفهم من جهة، ومن جهة أخرى السماح لغيرهم من اللبنانيين بالاستماع إلى قصصهم من وجهة نظرهم، من دون ذكر كلمة "المصالحة" باعتبارها النتيجة المرجوة للمجموعة.

ربما كان الجزء الأول المتمثّل بإشراكهم في العمل المسرحي الجزء الأصعب من عملنا. فقد تساءل أحد الممثلين الذي تمّ اختياره: "لم أذهب أبدًا إلى مسرحية، فكيف تريدني أن أتصرف في إحداها؟ لست قادرًا على فهم كيف يمكننا أن نكون لائقين بما فيه لكفاية لتأدية عمل ما على خشبة المسرح، أو لماذا قد يهتم أي شخص بعملنا لدرجة أنه سيتكبّد عناء المجيء لمشاهدته". كانت هذه الجملة بعينها تدل بوضوح على الإحساس بفقدان احترام الذات الذي يشعر به هؤلاء الشباب.

كان إقناع الذين تم اختيارهم بالتمسك بساعات التمرين وعدم التغيّب أو التأخّر أمرًا صعبًا، هذا فضلًا عن أنّ جوّاً من التوتر كان سائداً. وما زلت أتذكر التجربة االأولى للتفتيش الذي خضع له الشبان عند باب قاعة التدريب للتأكد من أنهم لا يحملون السلاح: فتمّت مصادرة البنادق والسكاكين وشفرات الحلاقة. هؤلاء رجال كانوا يعتبرون أنفسهم عدوّاً يُستهاب لا يقودهم سوى الغضب في ساحة المعارك، والكثير منهم كانوا يحملون بندقية منذ سن الخامسة عشرة. فالأسلحة والعنف جزءًا لا يتجزأ من هويتهم كرجال، وبواسطتها يفرغون الغضب المتملّك بهم.

كان الهدف من المسرحية المستوحاة من حياتهم هو السماح لهم بمشاركة قصصهم والتعرّف على بعضهم البعض، وإعطائهم إحساسًا حقيقيًا بقيمتهم الذاتية، ومساعدتهم على افراغ غضبهم وحقدهم بطريقة سلمية أكثر بنّاءة.

لتحقيق ذلك، خضع المتطوعون لدينا على مدى 6 أشهر، لتدريب على يد عدد من محترفي الدراما والمسرح البارزين. استعانت "مارش" بالكاتب لوسيان بورجيلي لكتابة المسرحية وادارتها والمساعدة في تحويل المقاتلين إلى ممثلين. وقام كل من جورج خباز ونادين لبكي ورفيق علي أحمد وريتا حايك وهم من الممثلين والمخرجين البارزين في المسرح والسينما، بزيارة الشباب خلال البروفات وأقاموا ورش عمل وجلسات مناقشة لإعطاء الشبان والشابات المزيد من التوجيه والمشورة ومساعدتهم على بناء المزيد من الثقة في النفس على المسرح.

وببطء ولكن بثبات، من خلال مشاركة قصصهم معنا ومع بعضهم البعض، أدرك هؤلاء الشبان أنهم يشبهون بعضهم أكثر مما اعتقدوا. بعد أشهر طويلة من المثابرة والتمارين، استطاع بفضلها هوءلا الممثلون الناشئون أن ينأوا بأنفسهم عن العنف الذي استهلك الكثير من شبابهم، وأن يبنوا الصداقات، وهكذا نشأت مسرحية - "الحب والحرب على السطح"، وهو إعادة محلّية لمسرحية "روميو وجولييت". وقد جالت المسرحية في جميع أنحاء لبنان ولاقت نجاحًا باهرًا وحفاوةً بالغة.

ما بدأ كمشروع تجريبي مع ستة عشر شخصاً فقط ما لبث أن تحوّل إلى شيء أكبر. جاء في أعقاب مسرحية "الحب والحرب على السطح"، عدد من المسرحيات وفرق الراب، وفناني الغرافيتي، وكتاب الأغنية وراقصي الراب، ومبادرات فنّية وثقافية أخرى. هذه المشاريع الفنّية المتنوعة كلهاّ سمحت للشباب الذين تعلّموا أن يكرهوا بعضهم البعض بالالتقاء والتعبير عن إحباطاتهم - وكذلك آمالهم وأحلامهم - من خلال الفنون.

تأثّر المشاركون بهذه التجربة التي كان لها وقعٌ كبيرٌ على سكان الحيّين، لأن كل المشاكل التي يواجهونها يوميًا في حياتهم يُعّبرون عنها على خشبة المسرح أيضاً، فأصبح المشاركون لدينا نشطاء، فسلّطوا الضوء على المشاكل أثناء عملهم معًا بهدف إيجاد الحلول.

مقهى ثقافي على خطوط الجبهة السابقة لتوطيد المصالحة

ومع استمرار عدد من المشاريع، شعرت "مارش" بالحاجة إلى خلق شيء أكثر ديمومة. بدأنا العمل في مشروع من شأنه أن يزيد الأثر الإيجابي الذي نتج عن جهود جميع الأطراف ويكون مركزًا يجتمع فيه الشباب وبمثابة مساحة آمنة لمعالجة جذور الصراع ألا وهي الخوف من "الآخر". ففي شباط/فبراير 2016، افتتحت "مارش" مقهىً ثقافيًا  تحت اسم "قهوتنا: كفّي بكفّك" في مبنى مزّقته الحرب على الخط الأمامي السابق لشارع سوريا. واليوم، يوظّف المقهى شبابًا من كلتيّ المنطقتين يمزحون مع بعضهم البعض حول كيف كانوا يوّجهون البنادق صوب بعضهم البعض، فيما الآن يشيرون إلى بعضهم البعض بالإسبرسو أو الكاميرات أو الميكروفونات. ويلعب المقهى أيضًا دور الجامع بين شبان وشابات المنطقة فيتبادلون الأفكار الإيجابية ويستمرّون بالعمل والأداء سويًا والتعلم معًا لنشر رسالة السلام لجمهور أوسع. لدى سكان هذه الأحياء المهملة الآن مساحة آمنة تسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم من خلال الفن والثقافة والتعلّم، بعيداً عن التلاعب الطائفي والسياسي.

يستضيف المقهى اليوم الحفلات الموسيقية وعروض الأفلام وورش العمل والدروس والمهرجانات التي ينظمها الشبان والشّابات من كلا المجتمعين.

مثال "باب الدهب"

وعلى الرغم من أن نهج الفن والثقافة قد أثبت أنه فعّال للغاية، إلا أنه لن يساهم في التغيير على المدى الطّويل إلّا إذا كان مصحوبًا بتحسّن في الظروف الاجتماعية الاقتصادية السيئة للشباب، وبجعل الشباب يشعرون بأنّه يمكنهم إدارة حياتهم بنفسهم. هذا هو ما دفع "مارش" لبدء مشروع  "باب الدهب" في أواخر عام 2016. أثناء العمل على بناء السلام في المنطقة، اكتشف فريق "مارش" أن أحياء باب التبّانة وجبل محسن تشترك تاريخياً في اسم "باب الدهب" (حرفياً: بوابة الذهب)، بسبب الازدهار الاقتصادي المشترك للمنطقة قبل الحرب الأهلية، وهي حقيقة يمكن أن تساعد المجتمعات على تذكر التاريخ المشترك للتعايش السلمي. يجمع المشروع بين الشباب والفتيات الأكثر عرضة للخطر من كل حيّ لإعادة تأهيل المحلات التجارية على خطوط التماس السابقة التي دمرها العنف والفقر والإهمال على مدار سنين من النزاع.

وإلى جانب تعزيز بناء السلام، يهدف المشروع إلى إحداث تغيير ملموس في الأوضاع الاقتصادية للأشخاص من خلال مساعدتهم على تطوير القدرات والمهارات التي يمكن استخدامها بعد إكمال المشروع. والفلسفة الرئيسية وراء "باب الدهب" هي أنّه من غير المحتمل أن يهدم هؤلاء المقاتلين السابقين، المسلّحين الآن بمهارات مهنية، شيئَا ساعدوا في إعادة بنائه. وقد نجح المشروع على عدة مراحل في إعادة تأهيل حوالي 200 محل تجاري مع 230 شابًا وشابة يشاركون في هذه العملية، سواء الرجال (البناء على سبيل المثال) والنساء (تصميم لافتات المحلات والمواد التسويقية، من بين أشياء أخرى).

لتكملة مبادرتها، ترافق "مارش" عملية إعادة التأهيل بتطوير برنامج المهارات الناعمة التي تصقل الشخصية والتصرف في "قهوتنا" من خلال الفن والثقافة والرياضة والتنمية الشخصية، بدءاً من إدارة الغضب وبناء فريق عمل وتنظيم جلسات توعية حول تعاطي المخدّرات بالاضافة إلى الرحلات الثقافية، وادخال دروس في اللغات للشباب بالإضافة إلى الترويج للرياضة كوسيلة صحية للتلاقي والخروج من الإحباط وبناء الجسور من خلال بطولة "باب الدهب" لكرة القدم. تضم البطولة حوالي 12 فريقاً مختلطاً مؤلّفًا من المقاتلين السابقين من باب التبانة وجبل محسن وأفراد من الجيش اللبناني، يتبارون على اللقب، من أجل المساهمة في بناء الجسور بين الجيش اللبناني والمجتمع.

وقد نجح المشروع حتى الآن في التوفيق بين المئات من الشباب من المنطقتين، والذين يطلقون على أنفسهم الآن "فريق باب الدهب"، وهم يشيرون بفخر أمام المارة إلى المحلات التجارية والعلامات التي ساهموا في إعادة تأهيلها.

لقد نجح المشروع لأنّه ارتكز على واقع العوامل الرئيسية وراء لجوء الشباب إلى العنف والإيديولوجيات المتشدّدة. وتشمل عدم الشعور بالانتماء وفقدان الهوية وشبه الأمية أومعدلات أمية مرتفعة للغاية وشعور بالظلم (أو وجود ظلم حقيقي) فضلاً عن ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة للغاية. كانت هذه العناصر تخنق أي أمل في قلوب هؤلاء الشبان الصغار وعقولهم، مما يغذّي فيهم النقمة والشعور بالضعف فيصبحون عرضة للتلاعب بواسطة أيديولوجيات متطرفة وعنيفة.

هؤلاء الشباب جميعهم يبحثون عن مورد رزق، لكننا وجدنا أنهم أيضا يتوقون إلى وضع هدف وأمل في مستقبلهم. فالجماعات المتطرفة تزكي فقدان الأمل لدى الشباب لجذب مجنّدين جدد، وتقديم هوية جديدة لهم وسبب وجيه للنضال من أجله.

لتحدّي هذا الوضع، يجب اتباع نهج شامل لتزويد الشباب ببديل "هادىء" ومتمرّد في آن كوسيلة للتنفيس، والشعور بأن لحياتهم هدف ومنحهم احساس بأنّهم قادرون على تغييير حياتهم، والشعور بأن ثمّة من يسمعهم ويقدّر عملهم. قد لا يؤثر هذا النهج على القادة المتطرفين المتشددين، لكنه أثبت أنه أداة مهمة في إبعاد بعض المجندين.

لولا الفن والثقافة والتنمية الشخصية، لما استطعنا خلق مجتمع ثالث من قلب مجتمعين متناحرين. بتزويدنا هؤلاء الشبان بجزء مما فاتهم في حياتهم. ساعدناهم على تحطيم حواجز الخوف، وجعلناهم أكثر إنسانية، وساعدناهم على تنفيس غضبهم وإحباطاتهم وخلق شعور بالانتماء والسعي وراء هدف واحترام الذات. والأهم من ذلك أن هذه الجهود التي بذلتها الأطراف كافة جعلت الناس يستمعون إلى بعضهم البعض من دون الحكم على الآخر، وأعطتهم صوتًا وجعلتهم يشعرون بالأهمية وبالأمل في مستقبل أفضل. وهذا هو مفتاح كل شيء.