يوم في ميدان سباق بيروت

غالبًا ما يرتبط سباق الخيل بالأجواء الساحرة وفاحشي الثراء والقبعات الفاخرة. ولكن الأمر ليس كذلك في ميدان بيروت حيث تكثر علب البيرة، والأراجيل، والمراهنات المشتعلة بين سائقي سيارات الأجرة ومصفّفي الشعر ممن يؤلّفون الطبقة الوسطى في العاصمة. فميدان سباق الخيل في بيروت يجسد التاريخ المضطرب للمدينة وما تقدّمه من فرص لا تُحصى.

غالبًا ما يرتبط سباق الخيل بالأجواء الساحرة وفاحشي الثراء والقبعات الفاخرة. ولكن الأمر ليس كذلك في ميدان بيروت حيث تكثر علب البيرة، والأراجيل، والمراهنات المشتعلة بين سائقي سيارات الأجرة ومصفّفي الشعر ممن يؤلّفون الطبقة الوسطى في العاصمة. فميدان سباق الخيل في بيروت يجسد التاريخ المضطرب للمدينة وما تقدّمه من فرص لا تُحصى.

عندما تأتي على ذكر سباقات الخيل في الشرق الأوسط لا تفكّر سوى بميدان سباق الخيل الفاخر في دبي، الذي تمّ افتتاحه في العام 2010. فأمير دبي محمد بن راشد آل مكتوم، 69 عاماً، هو مالك اسطبلات غودولفين، إحدى أغنى وأكثر الإصطبلات نجاحًا في تاريخ السباقات. ويضم ميدان السباق هذا ملعبًا للغولف وفندقًا من فئة الخمس نجوم فضلًا عن أنّه يستضيف كلّ سنة سباق دبي العالمي الذي تبلغ قيمته 10 ملايين دولار، والذي يعتبر من أهم أحداث الموسم إلى حدّ أنّه يتم بثه مباشرة في الولايات المتحدة.

لكن العالم الذي سنلجه نحن الآن فهو بعيد كلّ البعد عن أجواء ميدان دبيّ! أوّلًا عليك أن تجد سبيلًا للوصول إلى بوابة الميدان ومتى نجحت في ذلك يطالعك حراس يقظون وودودون في آن، ولأسباب يبدو أنّ لا أحد يتذكرها، تتفاجأ بأن الدخول مجّاني للأجانب والنساء على عكس الذكور من أبناء بيروت الذين عليهم أن يدفعوا ما بين خمسة آلاف وخمسة عشر ألف ليرة لبنانية (ما يوازي ثلاثة إلى عشرة دولارات أمريكية)، حسب الموقع الذي اختاروه على المدرج. في ليلة الخميس هذه، كان المكان يعجّ بالمئات من المتفرجين في جوّ زاخر بالحماس والتركيز على حدّ سواء: الجمهور يأخذ سباقاته على محمل الجد حيث ترى رجالًا في منتصف العمر منكبين على دراسة برامج السباق المطبوعة على ورق A4، محاولين تكهّن هويّة الفائز المحتمل.

وهنا يكمن اختلاف ملحوظ آخر بالنسبة إلى ما يجري في دبي، حيث لا يمكن المراهنة على مسار السباق (لكن المراهنات جارية الإنترنت ولا يمكن تجنبها). إذ يعتبر الإسلام المراهنة شكلًا من أشكال القمار، وبالتالي فهو ممنوع من الناحية التقنية. الأمر مختلف في بيروت التي يفرض تعدد الثقافات والحضارات فيها مقاربة أخرى تجاه الحدث وبالتالي يخال لك أنّ الرهان في أحد الأكشاك العديدة تحت المدرج أمر لا بدّ منه.

يقول أحمد: "أراهن بمبلغ 200 دولار على داليدا". يأتي أحمد إلى السباقات كل أسبوع ويبدو أنه يعرف كل الخيول والفرسان. ويتابع مازحاً "يمكن شراء بعض منهم بسعر تنكة الماظة" (البيرة الأكثر شعبية في لبنان). لكن لسؤ حظّه لا يبدو أن داليدا توافق رأي أحمد في ما يتعلّق بخبرته في السباقات اذ أنها أنهت السباق بالمركز الثاني.

خسارة مائتي دولار أمر مؤسف جداً لأحمد، الذي يعمل كسائق في شركة. لكنها لا تمنعه ​​من المراهنة على السباق التالي، ولكن بحذر أكبر، جنباً إلى جنب مع أصدقائه واحدهم مصفّف شعر يدخّن النرجيلة وهو جالس على كرسي من البلاستيك. في تلك اللحظة تدرك تمامًا أنّ دبي ورويال آسكوت تقعان على بعد أميال من ميدان سباق الخيل في بيروت.

توافدَ أصدقاء أحمد من الضاحية، وهي منطقة تشمل مجموعة من الأحياء الصغيرة والقرى السابقة الواقعة جنوب بيروت سكانها معظمهم من الشيعة. وعلى بعد أمتار قليلة من المنصة، نلتقي بـ "ميشيل"، وهو مسيحي، ومدرّس متقاعد.

في مدينة يتميّز تاريخها بالانقسام الطائفي، يضمّ الجمهور جميع الخلفيات العرقية والدينية. تفاصيل مثيرة للاهتمام: معظم الفرسان الذين يركبون الخيول هم من الأقلية الدوم المعروفة، والتي يطلق عليها أحيانًا "الروما في لبنان". غالباً ما تكون بنية رجال الدوم أصغر من غيرهم من اللبنانيين، ويبدو أنهم يعرفون تمام المعرفة كيفية التعامل مع الخيول.

الرئة الخضراء

على الرغم من التواجد الكثيف لرجال الشرطة والعسكريين حول الميدان- "في لبنان لا تعرف أبدا متى يبدأ القتال"، على حدّ قول أحدهم - يسود في ميدان سباق الخيل جوٌّ من الصداقة الحميمة والإثارة حول السباقات. في حين أن بيروت الحديثة معروفة بشكل رئيسي بأماكن ترتادها الشخصيات المميّزة، فإن الشخصيات المميّزة الوحيدة هنا هي الخيول: الخيول العربية الرائعة والأنيقة، وهي النوع الوحيد المسموح به للمشاركة في سباق في بيروت. وهي أصغر من الخيول الأصيلة المعتمدة في دبي وأوروبا، ولكنها جميلة جداً.

يقول جو الخوري، وهو طبيب وناشط في جمعية حماية التراث اللبناني (APLH): "إن الحفاظ على الخيول العربية اللبنانية الأصيلة هو أحد الأدوار الحيوية الذي يلعبه ميدان سباق الخيل بيروت في الحفاظ على تراث لبنان". الخوري هو أيضا المؤلف الرئيسي لكتاب APLH حول تاريخ لسباق الخيل، والذي تم نشره هذا العام: "ميدان سباق الخيل – مئة عام في تاريخ لبنان". بيروت مدينة قابعة على طول خط ساحلي ضيق بين البحر الأبيض المتوسط ​​وسلسلة من الجبال، يعيش فيها نصف سكان البلاد ويقدّر عددهم بحوالي 2 مليون شخص وقدرتها على التوسّع محدودة جدًا. فيها عدد قليل جدًا من المنتزهات أو المساحات العامة البيئية، مما يجعل ميدان السباق ثروة بيئية مهمة وهو بمثابة الرئة الخضراء للمدينة. كان في الماضي جزءًا من "حرش الصنوبر" في بيروت، أو غابة الصنوبر، وهي واحة خضراء في مدينة حيث يبدو أن كل متر مربع هو ركيزة لمبنى شاهق. ويشرح الخوري قائلاً: "إن ميدان سباق الخيل مفصول تقنياً عن غابة الصنوبر بواسطة شارع، ولكنهما معاً لا يزالان يشكلان مساحة تاريخية خضراء واسعة في وسط بيروت". "لم يتمكن أي مشروع للتنمية الحضرية أو الحرب من تدمير الأشجار القديمة. لكن كل حرب وكل مشروع تنموي جديد يستهلك الكثير من الأشجار، ويبقى الموقع ككل في خطر دائم ».

يلعب ميدان سباق الخيل (Hippodrome) دورًا اجتماعيًا فريدًا أيضًا، وهو أحد الأماكن القليلة في بيروت حيث يمكن الناس على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ودياناتهم أن يمضوا أوقاتًا ممتعة بعيدًا عن التوترات السياسية التي تتبادر إلى أذهان الأجانب عندما يتعلّق الأمر بلبنان وسائر بلدان الشرق الأوسط. فهو مكان يجمع البيروتيين بين بعضهم بعيدًا عن الطائفية.

سباق الخيل العثماني

مثّل تاريخ سباق الخيل على مدى 100 عام المراحل العديدة من تاريخ لبنان المعقد. وضع ألفريد سرسق (1870 - 1924) مخطّط الميدان خلال الحرب العالمية الأولى، وهو رجل أعمال مسيحي أرثوذكسي من عائلة بيروتية معروفة. حصل على موافقة وتعاون الحاكم العثماني للمدينة للمضي في مشروعه، وهو أمر رائع لأن الحاكم كان يمثل السلطنة العثمانية الحاكمة للبلاد في ذلك الحين. علاوة على ذلك، كان من المفترض أن تصبح الفيلا الجديدة التي سيتم بناؤها كجزء من مجمع الميدانHippodrome complex - أول كازينو رسمي في بيروت تحت اسم "Résidence des Pins" -.

مرّ لبنان بأوقات عصيبة في الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من أنّ المدينة لم تعان الكثير من القتال المباشر أثناء الحرب العظمى، إلا أن مئات الآلاف من اللبنانيين ماتوا بسبب احتدام المعارك والحصار البحري التي فرضته الأساطيل البريطانية والفرنسية على لبنان لتدمير بيروت، زدّ على ذلك النقص في المواد الغذائية الذي نتج عن أسراب الجراد التي دمرت المحاصيل وقيام الجيش العثماني بوضع اليد على ما تبقى من المحاصيل لإطعام جنوده. بالإضافة إلى ذلك، قضى الكثيرون ممن حاولوا التمرد على الحكم العثماني شنقًا.

رغم الوضع المذري في البلاد، بدأت أعمال بناء ميدان سباق الخيل (Hippodrome) ظنًا من القيّمين على المشروع أنه سيخلق فرص عمل في أوقات عصيبة. شهد ميدان سباق الخيل وصول القوات الاستعمارية الفرنسية بعد الحرب، واشترت الحكومة الفرنسية كازينو Résidence des Pins وجعلته مقر إقامة الحاكم العام، ولا يزال مقر إقامة السفير الفرنسي في لبنان. خلال الحرب العالمية الثانية، أعلن لبنان استقلاله، وفي هذه الحقبة عايش "سباق الخيل" "العصر الذهبي" الذي عاشه لبنان في الخمسينيات وستينيات من القرن العشرين.

ولكن لسوء الحظ، ومثل معالم كثيرة أخرى من المدينة، لم يفلت من مآسي الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990). في السنوات الأولى من الصراع، تم إغلاق ميدان سباق الخيل مؤقتًا قبل أن يصبح مرة أخرى مركزًا مضادًا للطائفية المستشرية. في الفترة من عام 1977 حتى عام 1982، ظل الميدان مفتوحًا واستضاف السباقات على الرغم من وجوده على خطوط التماس التي تفصل بين ثلاث ميليشيات مسلحة متنافسة تمثل ثلاثة طوائف دينية مختلفة (سنية وشيعية ومسيحية مارونية). وقد تخلّلت المعارك هدنات غير رسمية بين الفرقاء المتقاتلين سمحت باستمرار سباقات الخيل، مثبتة مرّة أخرى كيف أن خيول بيروت يمكن أن تجمع سكان المدينة.

وفي العام 1982 ما لبثت أن ضربت لبنان كارثة أخرى بالاجتياح الاسرائيلي. واشتبه أن يكون ميدان سباق الخيل مخبأ للمقاتلين الفلسطينيين، فقصف الجيش الإسرائيلي المدرج، وغابة الصنوبر والإسطبلات القريبة. وقُتل عشرة من أصل ثلاثمائة حصان. ومع ذلك، تمكّن مالكو الخيول في بيروت من تنظيم هدنة استثنائية من أجل إخلاء الخيول المتبقية، بفضل الضغط السياسي من قبل الرئيس اللبناني إلياس سركيس والمبعوث الأميركي الخاص فيليب حبيب.

بعد انتهاء الحرب، تم بناء مدرج جديد، على الرغم من أنه نسخة أقلّ جمالًا من تصميم ألفريد سرسق. لكن المهم أنّ السباقات ما زال مستمرّة، كما كانت من قبل، وما زالت تجذب المئات من المتفرجين والمقامرين كل أسبوع.

لكن نشطاء التراث يشعرون بالقلق من أن بلدية بيروت - التي لا تزال تملك هذه المساحة الشاسعة - يمكن أن تقرر تحويلها إلى مركز تجاري كبير. "تم ذكر مشاريع جديدة عدّة، من بينها" بيروت سنترال بارك"، كما يقول المؤلف والناشط الخوري. "لا تلحظ معظم هذه المشاريع أبدًا إزالة ميدان سباق الخيل، ولكنها تريد تغيير صورته. تميل البلدية أحياناً إلى تغيير وظيفته كمساحة خضراء وعامة، لتشمل ملعبًا للجولف أو بحيرة اصطناعية. كل شيء يحدّد سحر ميدان سباق الخيل الحالي سوف يذهب. البعض منهم يريدون تحويله إلى نادي كبار الشخصيات. "

في الوقت الراهن، يقف ميدان سباق الخيل بقوّة كموحّد نادر لتعددية سكان لبنان، حيث لم تتحقق خطط التنمية الجديدة بعد. فروّاد الميدان من الطبقة المتوسطة الذين يملأون المدرج ومالكي الخيول - الذين غالباً ما ينتمون إلى "السلالات الأرستقراطية" القديمة في لبنان - يريدون استمرار هذه السباقات. بينما تعمل المنظمات التراثية على رفض بشدة أي خطط مقترحة لتغيير الوضع.

وهكذا، وبطريقة فريدة خاصة به، فإن كلّ من ميدان سباق الخيل في بيروت والخيول العربية الأصيلة المذهلة، يقدم بصيص أمل في منطقة تشتهر بصراعاتها السياسية والدينية.

في الواقع، أصبحت الرياضة أكثر من مرة عاملًا موحِّدًا في المنطقة، كما هو واضح من خلال النجومية والجاذبية العربية للاعب كرة القدم المصري محمد صلاح. ومع ذلك، أثبت ميدان سباق الخيل أنه مكان أفضل بكثير للسلام والتفاهم، أكثر من ملاعب كرة القدم في لبنان، حيث جرت مباراة كرة القدم لسنوات من دون أي أنصار في المدرجات في محاولة لتجنب المشاحنات بين مشجعي الأطراف المتنازعة. "هنا في ميدان سباق الخيل، نحن فقط نأتي، نجلس وندخن. "نحن نتحادث وندرس كيف تركض الخيول". ويبتسم كريم، وهو مساعد في متجر. "وفي نهاية كلّ سباق نعود إلى منازلنا أفقر بقليل مما كنا عليه من قبل، بعد قضاء وقت جيد".