يقولون أن الحرّية هي صراع مستمرّ
يقولون أن الحرّية هي بكاء مستمرّ
يقولون أن الحرّية هي حزن مستمرّ
يقولون أن الحرّية هي نواح مستمرّ
يقولون الحرّية هي موت مستمرّ
يا ربّ، لقد متنا وقتا طويلا
يجب أن نكون أحرارا، يجب أن نكون أحرارا.[1]
استشهادا بالمثل القديم القائل بأنّ الأفعال تتحدّث بصوت أعلى من الكلمات، تُجسّد أنجيلا ايفون ديفيس المواطنة الراديكالية، والالتزام النّضالي والعلميّ من خلال تاريخها في الصّراع النّسوي ضدّ الامبريالية. منذ وجودها على قائمة المطلوبين في مكتب التحقيقات الفدرالي، تُواصل ديفيس اقضاض مضاجع الأنظمة الاستبدادية متزايدة التعقيد على مستوى عالميّ، من خلال التزامها المستمرّ بممارسة التقاطعيّة. تقترض عنوان كتابها الجديد، الحرية هي صراع مستمرّ، من أغنية حُريّة هُتف بها في جنوب الولايات المتحّدة خلال حركة الحريّة في القرن العشرين، وذلك ما يتحدّث عنه الكتاب بالتّحديد، أي عن الاستمراريّات بدلا من النّهايات عندما يتعلّق الأمر بتعهّدات بالحريّة غير تامّة في جميع أنحاء العالم.
الكتاب عبارة عن حجم محرّر يتضمّن ثلاث مقابلات مع أنجيلا ديفيس، أجراها ناشط التّضامن الفلسطيني وواحد من منسّقي محكمة راسّل من أجل فلسطين ، فرانك بارات، خلال العام 2014. أمّا الفصول السّبعة المتبقيّة، فهي خُطب ألقتها ديفيس في جامعات في الولايات المتحدة الأمريكيّة وبريطانيا وتركيا، من عام 2013 إلى عام 2015. وخلال الكتاب، تحثُّ ديفيس القارئ على التفكير حول الأمور التي تبدو متميّزة ومعزولة عن بعضها البعض معا، وعلى فصل الأشياء التي يبدو كأنّها تذهب عضويا يدا بيد (104). هذا هو بالضبط ما تفعله ديفيس لأنها تناقش العنصرية والإبادة الجماعية، والمُجمّع الصّناعي السّجني، والاستعمار الاستيطاني من منظور التقاطعيّة.
واحدة من أكثر حجج الكتاب شحذا للفكر، وإن كانت مثيرة للقلق، هي ملاحظة أنّ علاقتنا الجماعية بالتاريخ معيّبة. فنحن لا نتبنّى الذّكريات المؤسّساتيّة فحسب، وإنّما نفعل ذلك على حساب ذكرياتنا الخاصّة. تفسّر ديفيس أنّ الذّكريات الفردية، لا تقارب في طولها الذّكريات المؤسّساتيّة، وخاصّة منها ذكريات المؤسّسات القمعيّة (93). ونحن بالتّالي نخدع أنفسنا في التكيّف مع تاريخ ليس لنا، ومنه إلى إتّخاذ قرارات حول مستقبل جماعيّ، تكون مبنيّة على معلومات خاطئة. وأحد جوانب هذا التضليل الذي نبني عليه معتقداتنا وأفعالنا هو القابلية اللّغوية لاستعمال الكلمات تبادليّا، رغم كونها بعيدة كلّ البعد عن التّرادف، عندما نؤرّخ. من غير المستغرب أن يتمّ استخدام مفاهيم مثل “حركات التّحرر” و “حركات الحقوق المدنية” في الولايات المتحدة الأمريكيّة تبادليّا، ولكن مع الرّواية الرّسمية لصالح التّسمية الأخيرة. يكشف هذا عن انزلاق مثير للاهتمام بين “الحرية” و”الحقوق المدنية”، كما لو أنّ السّبيل الوحيد للحصول على الحريّة يكون من خلال الإطار القائم من الحقوق، وكما لو أنّ عصر الثورات الراديكالية ولّى منذ وقت طويل. بالتأكيد، ليست هذه الزّلة اللّغويّة بريئة. بل هي تخدم قدرة هذه المؤسسات القمعية على الانكماش. وهذا يعني أيضا أنّ نضال السّود، بعد أن يكونوا قد حقّقوا تلك “الحقوق المدنية”، يمكن أن يُشحن إلى الماضي. يُتيح هذا الفرصة للنّاس للحديث عن مرحلة ما بعد العنصريّة، والى الاعتبار الخاطئ أنّ انتخاب رجل واحد علامة على نهاية العنصريّة. في هذا السّياق، يوجد إغفال تاريخي آخر مثير للاهتمام وهو النّسيان العامّ لبرنامج النقاط العشر لحزب الفهود السّود. النّاس يعرفون بوجود البرنامج، إلا أنّهم لا يعرفون محتواه. وتوضّح ديفيس أنّ الرّواية الرّسمية لديمقراطية الولايات المتّحدة الأمريكيّة تعتبر أنّ هذه النّقاط قد حُقّقت، بينما هي لا تزال في الواقع على جدول الأعمال. أي أنّها ليست مسألة من الماضي.
اذا كنّا نمرّ بوقت عصيب في التّصارع مع التّاريخ أو الإقرار بالطّريقة التّي نعيش بها تواريخنا، بامكاننا رؤية هذه المشاكل مع التاريخ في الطريقة التي تتعامل بها وسائل الإعلام مع أفعالنا الجماعية الحالية في أن تحوّلها الى أخبار مبتذلة.(122)
العنصرية لا تزال هي الوضع الرّاهن. ويجري استنساخها وتعقيدها من خلال خطاب الإرهاب ومكافحة الإرهاب. وغالبا ما يُعرض الإرهاب قبل وسائل الإعلام كما لو أنّه محصور على مجموعة معيّنة من ألوان معيّنة، في حين تُحفظ مفاهيم أخرى مثل “الإبادة الجماعية” للأوروبيين. ما يحصل لهؤلاء يُصوّر على أنّه يتجاوز، على سبيل المثال، كلّ ما عانى منه السّود لعدّة قرون. وهكذا نتعلّم أنّ مصطلح الإبادة الجماعيّة محجوز لشروط معيّنة تحدّدها اتفاقية الأمم المتّحدة لمنع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعيّة، التي اعتمدت في أعقاب الفاشيّة – فاشيّة وقعت في أوروبا. وفي الوقت نفسه، على المجموعات الأخرى التي كانت ولا تزال تتعرّض لجرائم مماثلة في الحجم أن تقاوم من خلال حالة رعب غير معترف به. عدم الاعتراف هذا يستمرّ مع البيانات والتصريحات الشّمولية التي تعزّز العنصريّة، مثل تصريح “كلّ حياة مهمّة.”
ومن ثمّة، يستمرّ التمييز ويستهدف فئات محدّدة من خلال خطاب الإرهاب. تسمية إرهابي، في حالة آسّاتا شاكور وغيرها من الكثيرات/ين، تعمل على ردع النّضال. مكافحة الإرهاب ومكافحة التّمرد ليستا آليات بناء السّلام. جنبا إلى جنب مع السّجن والاستعمار الاستيطانيّ، يمدّ هؤلاء النّظام بالأجساد القابلة للكبّ. كلّ هذا يُرجّع صدى تعريف العبوديّة بوجود مفهوم الموت في جوهرها – أي بحالة عدم الاعتراف بتواجد أحدهم ضمن سلفه. ومع ذلك، فالسّجن، في جميع أشكاله، ليس مجرّد جيم كرو[2] جديد، ولكنّه يمثّل أيضا الرّبحية المتزايدة النّاجمة عن العقاب، فضلا عن استراتيجيّة عالميّة في التّعامل مع الناس الملوّنين والمهاجرين من الجنوب العالمي. وحشية الشرطة ليست سوى جانب واحد من تكتيك أكبر، الأمر الذي يجعل المزيد من الشباب قابلا للكبّ ويجعلهنّ/م جزء من الفائض السّكاني الذّي يدار من خلال السّجن. المجمّع الصّناعي السّجنيّ هو آلية ذاتيّة التغذية تخلق باستمرار مواضيعها. في الواقع، خمسة وعشرون بالمئة من الأشخاص الذين سُجنوا في العالم هم بمثابة العلف لشركات السّجن الواسعة ذات الأبعاد العالميّة مثل شركة G4S. فهم يستفيدون من استراتيجيات تهدف إلى إخفاء المشاكل الاجتماعية التّي دُفعت تحت البساط منذ عهد العبوديّة (65).
العنف المؤسّساتيّ للسجون يكمّل ويوسّع العنف الحميميّ داخل الأسرة، والعنف الفرديّ، والاعتداء الجنسيّ. يمكننا أن نرى المؤسسات السّجنيّة تشجّع على العنف على مستويات متعددة. مثال على ذلك، ترسل متغيّرات الجندر* إلى سجون الذكور لكي تتكاثر الأنظمة الأبويّة وتتغذّى من التمييز العنصري الجنسيّ والجندريّ. هذه الممارسات تعيد صناعة الظلم وتردع الخطوات التي اتُّخذت لمواجهته. على سبيل المثال، انّ مجرّد توسيع تسمية “المرأة” لتشمل مختلف النّساء وتستوعبهم في المفردة لن يغيّر من منطق السّجن. فمثلا، حتّى لو سجنت متغيّرات الجندر* في سجون النساء، فإن ذلك لا يتحدّى المؤسّسة السّجنيّة الصناعيّة. بل ببساطة، ستتكيّف هذه المؤسّسة مع فهم أكثر ليبرالية للمفردة مع الحفاظ على سياستها تجاه الأجساد القابلة للكبّ. هذا الإجراء لا يتحدّى حصريّة المصطلح ولا المجمّع الصناعيّ السجنيّ. النّفوذ إلى الدائرة البورجوازيّة والأبويّة المغايرة ليس انتصارا. بل بدلا من ذلك، فإنه يتعارض مع الجهود لتحقيق نتائج راديكالية وثورية. وبالمثل، فالنّسوية المساندة للسّجن والتّي تدعو إلى تجريم العنف القائم على الجندر تقوم بعمل الدّولة لأنها تركّز على العنف والقمع الذّي تمارسه الدولة كوسيلة لمواجهة النّظام الأبويّ الغيريّ. الاعتداء الجنسي ليس فكرة فردية، والفرد هو ليس مصدر الانحراف الموجود.
المجمّع الصناعي السّجنيّ مهتم بإنتاج خطاب يمدّه بالشّرعية. فهو عبارة عن تجارة مربحة ليس لها علاقة بالعدالة. دارين ويلسون، ضابط الشرطة الذي أطلق النار على مايكل براون في أحداث فيرغسون، قد تمّ تدريبه في إسرائيل، وكذلك كان ضبّاط الشرطة الذين احتلوا ميسوري بعد اطلاق النّار مدرّبين هناك. إسرائيل تستخدم تقنيات سجنيّة متقدّمة تمّ تطويرها في السجون الأمريكية، ليس فقط للسيطرة على أكثر من 8000 سجين سياسي فلسطينيّ، ولكن أيضا للسّيطرة على السكان الفلسطينيين عموما (108). ونفس قنابل الغاز المسيل للدموع التّي رميت في فيرغسون ترمى تجاه المناضلات/ين الفلسطينيات/ين. هكذا، يطوّر الظلم المشترك علاقة تكافليّة من التضامن والإلهام. لقد قام الفلسطينيون الذين لاحظوا المعدّات المستخدمة لقمع الاحتجاجات في فيرغسون باستعمال شبكة تويتر لارسال المشورة للنّاشطات/ين في الولايات المتحدة الأمريكية. أيضا، نظم الفلسطينيون حركة ركوب حافلات مفصولة عنصريّا في فلسطين المحتلّة على غرار “ركّاب الحريّة” في الستّينات. في حين أننا قد نفكّر في حدث متميّز معيّن فيما يتعلّق بالنضال والاحتجاج، أو الثورة على أنّه نهاية أو إنغلاق – أي نقطة تاريخية عالية تؤدّي إلى انتصار الديمقراطية النهائي – الّا أنّه أبعد ما يكون عن ذلك. الحرية هي نضال [متواصل] ، واذا تعلّمنا التّفرقة بين “نتيجة” و “أثر” الانشقاق، فسوف نتبنّى نضالاتنا على أنّها جماعيّة وعابرة للحدود، وسوف نرى حريّتنا ناقصة إذا اقتصرت على مجموعة معيّنة.
اذن، التضامن الدولي ليس أمرا ممكنا فحسب، بل إنّ بوادره قد بدأت في الظهور. وتوضّح ديفيس أن حركة فيرغسون قد فهمت أنّها لا تحتاج إلى القيادة التقليدية في صورة ذكر أسود كاريزماتيّ. دون أن تصبغ الحركة بخطاب عاطفيّ، تشرح ديفيس أنّ الوكالة لا يجب أن تقتصر على القادة، مُمركزة الجماعيّة في صُلب التغيير بدلا عن ذلك. ترتكز ديفيس على تجاربها، وتفعل ذلك بكلّ تواضع متفادية التّجسيد. فتدعو الى الانسحاب من مفاهيم القيادة الرّساليّة، والى وضع الاستراتيجيات وحشد وبناء توافق في الآراء كجزء من المشاركة في تطبيق العمل الجماعي. فعندما احتجّت مجموعات مختلفة من الناس في جميع أنحاء العالم على مقتل ترايفون مارتن أو على سجن ديفيس ، فإنها لم تتحرّك فقط من أجل محن هؤلاء الأفراد، بل كذلك احتجاجا على الظلم الذي تواجهه هذه المجموعات في مواقعها الجغرافية التّي تبدو بعيدة وغير متأثّرة. تاريخ عنف الاستعمار الأوروبي، بما في ذلك العبوديّة، له آثار متشابهة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، والقارّة الأمريكية. ومن خلال الاعتراف بهذه التضامنات العابرة للحدود وعدم اعتبارها غير منظّة وعرضية، يمكننا أن نبدأ في فهم جذور الظّلم على صعيد عالميّ. عندها فقط يمكن أن نظهر من ترسّخنا في فردية الليبرالية الجديدة لعصرنا هذا.
الحواشي
[1] تستشهد ديفيس بالمقطع الأوّل من الأغنية في الفصل الخامس من الكتاب. بامكانكنّ/م رؤية الأغنية كاملة على هذا الرّابط:http://courses.education.illinois.edu/ci407ss/freedomconstantstruggle.html
[2]جيم كرو هو شخصيّة خياليّة من أغنية تحقيريّة للأمريكيين السّود، صارت تستخدم اصطلاحا للإشارة إلى قوانين التّفرقة العنصريّة التّي وُجدت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.