على حدود الأحلام – روايات من الجبهات الأمامية للانقسامات السياسية

وقت القراءة: %count دقائق

مضى مئة عام على قيام ديبلوماسي فرنسي وآخر بريطاني بترسيم حدود الشرق الأوسط الحديث. وفي معرض قيامهما بذلك، رسما أيضاً حدود خطابنا. ما حدث لم يكن إعادة توجيه لاقتصاداتنا ومجتمعاتنا وحسب، إنما أيضاً رسمٌ لمخيّلاتنا من جديد. لأنه منذ ذلك الوقت، تضاعفت الكانتونات السياسية في منطقتنا بصورة مطّردة، وجزء كبير من المنطقة لم يعد بالإمكان رؤيته ولمسه، بل يمكن تخيّله فقط.

رسَم اتفاق سايكس-بيكو على الورق حدود الدول المنتدَبة من القوى الأوروبية والتي أصبحت لاحقاً دولاً قومية. هبّت زوبعة من المصالح الخارجية والمشاحنات الداخلية والفلسفات السياسية التي قسمت المنطقة وحوّلتها إلى أرخبيل كما هو حالها اليوم. إنها فوضى معقّدة ومتعددة الطبقات، حيث يضمحلّ الخطاب الديبلوماسي كما الإبرة في كومة قش. لكن ماذا عن الأشخاص العالقين وسط كل هذا؟ إنهم منسيّون، وهذا واقعٌ لا جدال فيه. فحالتهم واضحة للعيان، وتُسلّط الضوء على الحاجة الماسّة إلى تبديل الاتجاه ووقف موجة التقسيم إلى كانتونات. ليس هؤلاء الأشخاص ضجيجاً خلفياً في المشهد الديبلوماسي، بل يجسّدون حالة ملحّة يجب وضعها في صدارة الاهتمامات. هؤلاء هم لاجئو الماضي والحاضر، ويجب أن تشكّل الاختلالات التي أصابت حياتهم صلب الموضوع في سردياتنا التاريخية وقضايا عالمنا الراهنة.

هذا ما عقدت مجموعتي الإعلامية "كنوز روم"، بكل تواضع، العزم على القيام به من خلال مشروعنا المتعدد الوسائط "حدود" (BORDERS)، الذي أطلقناه عام 2013 بدعم من مؤسسة هينرش بُل- مكتب الشرق الأوسط. توجّهنا إلى ثلاث مناطق حدودية مختلفة، وبحثنا عن حكايات تجسّد الاختلالات التي أصابت حياة الناس بسبب اعتماد الحدود. استخدمنا وسائط متعددة ورموزاً كوسيلة لوضع تفاهة الحدود مقابل التداعيات الحقيقية على حياة البشر. لجأنا إلى هذه الأدوات الجديدة لوضع المصالح التجريدية في مواجهة المصالح المرئية والسياسية، وكلها في مواجهة التصدعات في الثقافة. تعقَّبنا حركة التنقّل وسجّلنا أغاني. رصدنا بصرياً الحيوات التي صنعها اللاجئون العالقون في مناطق حدودية، من الأنقاض، وحاولنا ربطها بسرديات ذات مغزى.

لكن تنفيذ فريق "كنوز روم" لهذا المشروع كان مدفوعاً أيضاً بالأنانية. فالأماكن الأقرب إلينا تتحوّل، بصورة متزايدة، إلى أماكن لا يمكننا الوصول إليها إلا عن طريق مخيّلتنا. خلال الأعوام الثمانية والستين الماضية، لم نعرف فلسطين الواقعة جنوب الحدود اللبنانية سوى من خلال الحكايات الشعبية وذكريات أجدادنا. والآن، نحو الشرق، ليس لدينا سوى غرض رمزي، بساط كردي، تذكار حلبي، لتذكيرنا بالمناطق السورية التي أتى عليها الدمار. لقد راودتنا رغبة ملموسة جداً، أكثر من أي شيء آخر، في معرفة المزيد عن أحيائنا، وهذا المشروع استجاب لحاجةٍ متنامية إلى إظهار هذه الأفكار التجريدية.

سلسلة رقمية

مشروع "حدود" (BORDERS) هو الثاني في سلسلة "كنوز روم" الرقمية. لقد تطرّق المشروع الأول إلى الثنائيات الموسيقية وطرحَ السؤال: هل سنتمكّن يوماً ما من تجاوز الانقسام بين الشرق والغرب، والتعبير بالموسيقى عما يصنع فرادة زماننا؟ هل الانتماء إلى الهوية العربية يعني أننا نتحرّك ضمن المعايير الثابتة للموسيقى الفولكلورية؟ ثمة شعورٌ دائم بالانحباس تحاول "كنوز روم" تحطيمه عبر إعادة بناء ماضينا وحاضرنا. ونحن نعتبر أن الوسائط المتعددة والـ"ترانس ميديا" (رواية القصص من خلال منصات إعلامية متعددة) هي الوسيلة الفضلى – أو على الأقل الأكثر تفاعلية – للقيام بذلك.

استخدمنا، كي نروي قصص "حدود"، النصوص والصور والرسوم، وأشرطة الفيديو المجهّزة بتقنية إعادة التشغيل التلقائية، وأشرطة الفيديو التجريبية، والترميز التفاعلي. وكي نتمكّن من المزج بسلاسة بين هذه الوسائط، وجَب على صانعي السلسلة الثلاثة – ميراي رعد ورمزي باشور وأنا – التعاون عن كثب مع جميع أعضاء الفريق المتعدد المهارات. كنّا نخوض غماراً جديدة وريادية، ولم يكن الوضع مريحاً، لكن كان من الصعب أن نتخيّل المشروع يسلك مساراً مختلفاً.

جرّة قلم وأربعون عاماً من التنقّل

يروي الجزء الأول في السلسلة المؤلفة من ثلاثة أجزاء، حكاية عاطف الشوفاني الذي اختبر اللجوء أربع مرات. هو من قرية آبل القمح، إحدى "القرى السبع الضائعة" في لبنان قرب الحدود الجنوبية. لقد كانت هذه القرى محور سجال سياسي واسع في لبنان استمر لبضعة عقود قبل التوصل إلى حل للمسألة عام 1994. لعل حكاية "القرى السبع الضائعة" تجسّد، أكثر من أي حكاية أخرى، عشوائية الحدود، وما ينجم عن ذلك، في المقابل، من حالة إهمال ونسيان مستمرة.

كان يُفترَض أن تشكّل قرية آبل القمح جزءاً من الانتداب الفرنسي في سوريا، بحسب اتفاق سايكس-بيكو لعام 1916. لكن سرعان ما أُخِذَت بجريرة الخلافات السياسية بين البريطانيين والصهاينة في فلسطين، وبين الفرنسيين في سوريا وما بات يُعرَف بعد فترة وجيزة باسم لبنان. لقد تبدّلت الحدود بين فلسطين ولبنان مرّات عدة بين عامَي 1916 و1923. ومع ذلك، كان سكّان المنطقة المتنازَع عليها يُكملون حياتهم اليومية كالمعتاد، وعندما قيل لهم إنهم مواطنون في فلسطين المنتدَبة من بريطانيا، لم يصدر عنهم كثير من الاحتجاج. لكن الوضع تغيّر، بالطبع، عند إعلان دولة إسرائيل عام 1948.

كما بات معلوماً الآن، بفضل "المؤرّخين الجدد" في إسرائيل[i] وعدد كبير من الأكاديميين الفلسطينيين، دُمِّر ما يزيد عن أربعمئة قرية فلسطينية عند إنشاء الدولة اليهودية. ولم تنجُ القرى الواقعة في الأراضي المتنازَع عليها بين فلسطين ولبنان، من الدمار. وهكذا فإن من كانوا يُعتبَرون لبنانيين في البداية تقاطروا على وجه السرعة إلى لبنان بحثاً عن الأمان، إنما هذه المرة ليس كمواطنين لبنانيين، بل كلاجئين فلسطينيين. كان الشوفاني وأمثاله يُنقَلون من مخيم للاجئين إلى آخر، بعضهم كُتِبَت له النجاة، وبعضهم الآخر قضى نحبه في مجزرة تلو الأخرى، وكانوا يسافرون من بلد إلى آخر سعياً وراء وسائل تؤمّن لهم البقاء. هذه كانت الحياة التي عاشها لاجئ فلسطيني في لبنان. ولعل حكاية الشوفاني تعبّر خير تعبير عن وضع اللاجئين وإلى أي حد يمكن أن يكون شديد الوطأة ومرهوناً بالظروف العرَضية.

كي يتمكّن الفريق من أن يحبك من جديد خيوط القصة التي عاشها الشوفاني، كان عليه أن يعبر الجزء الأكبر من حدود لبنان الجنوبية. من الصعب أن نتخيّل مكاناً أكثر إثارة للمشاعر، ومشحوناً إلى هذه الدرجة على الصعيد السياسي. لعل الأراضي الكائنة جنوب نهر الليطاني (نسبة العشرة في المئة من الأراضي اللبنانية الواقعة في أقصى الجنوب)، هي الأكثر سكينة في طول البلاد وعرضها، لكنها تُخفي في حناياها الأحداث الأكثر عصفاً في التاريخ اللبناني. لأنه في حين نعمت باقي المناطق في لبنان بالسلام وإعادة الإعمار بعدما وضعت الحرب الأهلية أوزارها عام 1990، ظلّ السكان جنوب نهر الليطاني خاضعين للاحتلال الإسرائيلي حتى عام 2000. ثم عانوا مجدداً من اندلاع الحرب مع جارتهم الجنوبية عام 2006، والتي أحدثت دماراً واسعاً.

لقد سعينا، من خلال أشرطة الفيديو المجهّزة بتنقية إعادة التشغيل التلقائية والخرائط المرمّزة، إلى تسليط الضوء على السياق السياسي المشحون والتشنّجات الهادئة. صوّرنا رسوم الغرافيتي على حاجز الفصل الذي نُصِب حديثاً عند بوّابة فاطمة التي ذاع صيتها باعتبارها المكان الذي خرج عبره آخر الجنود الإسرائيليين من لبنان. وقمنا أيضاً بجولة على قرى تاريخية وملاعب عامة شُيِّدت حديثاً، وهي تصمد باعتزاز وتحدٍّ عند الحدود. وحاولنا، عن طريق خريطة تفاعلية، إيجاز تاريخ هذه الحدود الغريبة بأسلوب سهل الفهم؛ وذلك كلّه من أجل بثّ حياة في حكاية الشوفاني، والكثيرين من أمثاله.

حديث صالونات التجميل

في إطار البحوث الثقافية التي أجريناها عند العمل على هذا المشروع، وقعنا على فيلم سوري شهير يعود إلى عام 1987 ويحمل اسم "الحدود". يتحدّث الفيلم، من إخراج وبطولة الممثّل السوري دريد لحام المعروف بانتقاداته السياسية اللاذعة، عن سائق تاكسي يُدعى عبد الودود يمضي أيامه في التنقّل بين دول وهمية: شرقستان وغربستان وشمالستان وجنوبستان. في أحد الأيام، يقع منه جواز سفره على إحدى الطرقات السريعة، ولا يتمكّن من العثور عليه من جديد. نتيجةً لذلك، تمنعه كل تلك الدول من الدخول إليها، ويصبح عالقاً عند معبر حدودي. فيقرّر بناء منزله الجديد ومصدر رزقه الجديد (مطعم) مستخدِماً قطعاً من سيارته لم يعد قادراً على استعمالها.

يشكّل المطعم مرتعاً للتناقضات، في تجسيد بارع لزيف الحدود وقدرتها على التسبب بالفوضى. يصنع عبد الودود حدوداً بواسطة صخرة تعبر مؤسسته المتقلقلة، حدوداً لا يجدر بحرّاس الحدود التابعين لكل واحدة من تلك الدول (ستان) عبورها. محنة عبد الودود تسترعي، لا محالة، اهتمام الصحافة والزعماء السياسيين الذين يُضطرّون مرغَمين إلى إطلاق بيانات حماسية عن إلغاء الحدود من أجل الوحدة الوطنية. لكنها تبقى مجرد تصريحات عقيمة لا طائل منها، وليس أمام عبد الودود سوى أن يكمل حياته التي صنعها من رحم الركام، منسيّاً ومهملاً.

وجدنا، بالصدفة، شخصية من واقع الحياة تشبه قصتها حكاية عبد الودود، وذلك في منطقة وادي خالد عند الحدود السورية-اللبنانية. غامرنا بالتوجّه إلى هناك وتدوين حكايات اللاجئين في تلك المنطقة الذين يشكّلون تسعين في المئة من سكّانها. أثناء تنقّلنا من مخيم للاجئين إلى آخر، وقعنا على صالون التجميل الوحيد في المنطقة الذي تملكه ثريا* من تلكلخ في محافظة حمص. قالت لنا ثريا عام 2012، بعد نحو عام على اندلاع الحرب في سوريا: "عندما أدركت أن الحرب لن تنتهي قريباً، قرّرت أنه علي أن أكمل حياتي. بعت مجوهراتي، وفتحت الصالون".

في صباح يوم مصيري، شقّت ثريا وأفراد أسرتها طريقهم عبر النهر بين وادي خالد وحمص في ثياب النوم. منعتهم السلطات من مغادرة والدي خالد، وبما أنهم دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، أدركوا أنهم سيبقون عالقين هناك لفترة طويلة. وهكذا بدأ كل شيء، وبنت ثريا صالون تجميل من أنقاض نزوحها.

وظّفت ثريا لبنانيتَين كانتا تأتيان إلى العمل مرة أو مرتين فقط في الأسبوع، وكنّ يمضين الوقت معاً يتحدّثن ويضحكن بانتظار دخول الزبون التالي. قالتا إنهما تحاولان التخفيف عن ثريا، وحملها على النظر إلى الجانب الأخف وطأة في حياةٍ صعبة.

القرى الكائنة في الجزء الجنوبي الغربي من حمص تقع على مرمى حجر من وادي خالد، وبعض القرى تمرّ الحدود الدولية في وسطها وتقسمها إلى نصفَين. خلال زيارتنا إلى المعبر النهري، حيث راقبنا المهرّبين ومسافرين آخرين من خلال عدسة الكاميرا، رأينا فتاة تسير مشياً على الأقدام من منزل شقيقتها في القسم اللبناني من قرية العويشات إلى منزل والدَيها في القسم السوري من القرية نفسها. كان الهدوء مستتبّاً في ذلك اليوم، فكان التوقيت جيداً للقيام بهذه الرحلة القصيرة. قالت منيرة، وهي واحدة من الموظفتَين اللبنانيتين في صالون ثريا: "أعرف [محافظة] حمص [السورية] أكثر مما أعرف المناطق اللبنانية. لكن منذ اندلاع القتال في سوريا، لم يعد بإمكاننا الذهاب إلى هناك. أشعر بالضياع".

بعد عامٍ، مباشرةً قبل إطلاق المشروع عام 2013، عدنا إلى والدي خالد لتفقُّد الأوضاع هناك. وجدنا أعداداً أكبر بكثير من اللاجئين الذين بنوا مؤسسات، مثل ثريا، وصنعوا حياةً لهم وسط الإهمال والنسيان. قالوا إنه لا خيار أمامهم سوى مواصلة حياتهم كالمعتاد في خضم النسيان والإهمال، لأنه بالنسبة إليهم، ليس الكلام الديبلوماسي الذي يُبَثّ عبر شاشات التلفزة والمحطات الإذاعية عن التخفيف من محنة اللاجئين، سوى مجرد حديث شبيه بأحاديث صالونات التجميل.

عمل متواصل عن الحدود من خلال الوسائط المتعددة

أنتجت "كنوز روم" حلقة أخرى عن البدو في وادي رم في الأردن، وقد أفقدتهم الحدود نمط حياتهم البدوي. جسّدنا تقاليد تحوّلت إلى مجرد قطع أثرية سياحية، وسجّلنا أغانيهم القديمة. كانت هذه حلقتنا الأخيرة في السلسلة، لكنها لم تكن خاتمة العمل الذي تقوم به "كنوز روم" حول موجة التقسيم إلى كانتونات التي تزداد حدّة في المنطقة.

تعاونت "كنوز روم"، عبر الاستناد مجدداً إلى التقليد الشفوي، مع الوسيلة الإعلامية البديلة "مشالله نيوز" لإنتاج سلسلة متعددة الوسائط حول الطرقات. فمن خلال النص والترميز والعمل الفنّي، وثّقنا ونشرنا أماكن غير مدرَجة على الخرائط في المنطقة، أماكن ارتجلها أشخاصٌ وأخرى لم يعد لها وجود (مثلاً شبكة القطار). أردنا أن نقدّم شهادة عن التنقّل الذي تُفرَض عليه قيود متزايدة في الوقت الراهن، عبر إعادة تخيُّل منطقة تتميّز بتدفق أكثر حرية عن طريق عرض شهادات عن ماضينا. لقد أدركنا، من خلال هذه العملية، أن حرية التنقّل ليست مرتبطة فقط بالحيّز المكاني، بل تعني أيضاً التماسك واللُّحمة، كما أن تخيُّل ماضٍ أقل انحصاراً في كانتونات يعني التوصّل إلى فهم أفضل لمنطقتنا.

المواقع الإلكترونية:

"الحدود"، فيلم من إخراج دريد لحام:

https://www.youtube.com/watch?v=9YW6terCNy8. جرى الدخول إلى الرابط في 6 أيلول/سبتمبر 2016.

كنوز روم: رواية قصص من الشرق الأوسط بواسطة التقنية الرقمية، عنوان الموقع الإلكتروني: www.knoozroom.com/. جرى الدخول إلى الموقع في 6 أيلول/سبتمبر 2016.

مشالله نيوز: سلسلة على الطرقات: www.mashallahnews.com/routes. جرى الدخول إلى الموقع في 6 أيلول/سبتمبر 2016.

 

[i]  "المؤرّخون الجدد" في إسرائيل مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى جيل من المؤرخين ظهر بعد الكشف، في سبعينيات القرن العشرين، عن الأرشيف السرّي المتعلق بإنشاء الدولة اليهودية عام 1948.