يسألني صديق من قيادات المجتمع المدني السوري بعد أن انتهينا للتو من جلسة أمام جمهور واسع تحدثنا فيها عن التحديات التي تواجه حلب، كيف أستطيع أن أبدو بهذا التماسك دون غضب دون مشاعر وأنا أسرد وبشكل متكرر أقسى حوادث حياتي الشخصية وخساراتي، كاستشهاد والدتي أو التحقيقات أو ما شابهها من التجارب السورية التي يعيشها الناشطون والناشطات السوريات. ويعقب أنه يخشى بشكل كبير أن ينهار أحياناً على المسرح أمام الناس، فيقولون حينها "السوريون، هؤلاء المحليون، كم هم عاطفيون!".
أجبته، الموضوع أسهل بكثير لي لأنني امرأة، نحن نعايش هذا الضبط الذاتي يومياً مع أقراننا من السوريين، مع العاملين والعاملات معنا، مع أنفسنا أحياناً. كيف نحاول ونحاول كي نؤخذ على محمل الجد؟
بدأت بالعمل في منصبي الحالي كمديرة لمنظمة مجتمع مدني، منذ ما يفوق العامين، وتعودت مع الأسف مع الوقت على أن أتقبل على مضض كل جمل المديح التي أتلقاها والتي تنطلق من اعتبار الرجل جملة المقارنة الأولى، "أخت رجال"، "والله أنت يا مرسيل بمئة رجل"، وهكذا… وتعودتُ أن أتجاهل كل نظرات الدهشة وحركات الحاجبين المصدومة عندما أدلو برأيي في موضوع سياسي.
الخلاصة ببساطة، "أن تنجح امرأة في المجال العام، هو استثناء يستحق كل أنواع الإضاءة، كأن يفشل رجل في هذا المجال."
في البداية كل التفاصيل اكتسبت أهمية بالغة "كي أؤخذ على محمل الجد". ماذا أرتدي وأنا الامرأة التي تعيش محاطة بالرجال طيلة الوقت، كيف أحيّد الجنس الخاص بي عن كل العلاقات. وحاولت لفترة طويلة أن أختفي؛ ثياب عريضة، التقليل قدر الإمكان من الابتسامات، المسافات المبالغ فيها من أي بادرات لطيفة من الجنس الآخر قد تصل أحياناً للعدائية، ثياب مفرطة الرسمية، شعرٌ معكوف نحو الخلف.
كي أؤخذ على محمل الجد، عليّ أن أبدو أبعد ما أمكن عن كل الاتهامات الحاضرة مسبقاً في أذهاننا. لستُ هنا لأنني فتاة جميلة، ولستُ هنا لأنني ملحقة برجل ما، ولستُ هنا بحثاً عن رجل ما، ولستُ هنا لأنهم يريدون تحقيق توازن جندريّ في الحضور، ولست هنا لتحقيق المحاصصة السخيفة بين المحجبات وغير المحجبات، وكي أقاوم كل هذه الاتهامات الحاضرة وغير المعلنة أحياناً والمعلنة أحياناً أخرى، كان عليّ أن أبذل كل الوقت ذاك الجهد المضاعف بالانتباه إلى كل التفاصيل.
حتى اليوم، وبعد أن أتحدث عن إنجازات المنظمة التي أعمل بها أو عن التحديات التي واجهتني كناشطة في سوريا، ما زال البعض يجد من اللائق أن يختتم بسؤال من قبيل "لكن هل ترتدين هذه الثياب في سوريا؟" ما زال واقع كوني غير محجبة، أو بالعكس لدى العديد من الزميلات، واقع كونها محجبة، هو اختصار بالغ الأهمية لما نمثله في الحياة.
ما زلت حتى اليوم ألتقي في مقابلات العمل ذاك المتقدم الذي يعتقد أنني السكرتيرة وأن المدير التنفيذي "مرسيل" سوف يأتي لاحقاً لمتابعة مقابلة العمل.
وبالطبع، ما زال سؤال المحقق في فرع الأمن، يضحكني بسخرية سوداء، "لماذا أنت مع الثورة، هل أنت على علاقة عاطفية برجل سنيّ؟" هذا يلخص ما أنا، امرأة "مسيحية" موقفها السياسي هو بالضرورة نابع عن رجل ما قد "عبث" بمخها وغرر بها.
جهد مضاعف في تفاصيل التفاصيل، كي لا نغضب، فيقولون أن نوبات مزاجنا تتحكم بأسلوبنا بالإدارة، ألا نبكي كي لا نتهم أن أحكامنا عاطفية. تفاصيل التفاصيل كذلك كي لا نقع ضمن الصورة التي يود البعض حصرنا فيها، لنساء الشرق الأوسط المستضعفات المتعلقات خلف رجال أشداء!
كي نؤخذ على محمل الجد، علينا كنساء ألا نختلف حتى على السياسة! وقد يحصل ألا نتفق على موقف واحد من السياسة، "تخيل أن حزب النساء المتحدات، ليس لديهن ذات المواقف من جنيف والمعارضة والسلاح والفيدرالية وأسعار النفط"، ولكن من غير السهل على الإطلاق أن نعبر عن اختلافاتنا.
يختلف الرجال في الفضاء العام كثيراً، إسلاميون وعلمانيون، مع المقاومة المسلحة وضدها، مع تحرير مناطق جديدة وضد ذلك، مع الحظر الجوي أو ضده! يكتبون المقالات ويتبادلون القطيعة والانسحابات والعزلة وكل أشكال التعبير. ونعيش نحن تحت ضغط، عدم إعلان الخلاف، كي لا نستمع إلى ترهات "المرأة عدو المرأة الأول"، "أنتن النساء غير داعمات لبعضكن بعضاً"، أنتن النساء لا "تحببن بعضكن". يتوقع أن يتفق أو يختلف الرجال بالآراء في السياسة، بينما يتوقع من النساء أن يحببن أو يكرهن بعضهن بعضاً.
كي نؤخذ على محمل الجد، علينا أن نقاوم كل الاستعمالات لوجودنا في الفضاء العام، استعمالنا من قبل الديكتاتوريات كي تسوق أن قمعها لشعوبها أقل دموية، واستعمالنا من قبل تيارات سياسية للتعبير عن انفتاح لا يؤمنون به، استعمالنا من قبل ممثلين عن المجتمع الدولي لتسويق أن "للنساء السوريات" دوراً في اتخاذ القرارات في العملية السياسية، بينما في الواقع قد أُخرج السوريون والسوريات جميعهم وجميعهن خارج كل اتخاذ القرارات الخاصة بسوريا.
علينا أن نقاوم كل الصور التي يضعوننا فيها، صورة الضحية التي علينا أن نقبل بأي نتاجٍ لها مهما كان رديئاً "لأنها لاجئة سورية"، وصورة البطلة القديسة التي عليها ألا تنهار تحت أي ظرف، فهي "شرف" الوطن وعزته، وصورة ملحقات الرجل المقاتل أو المجاهد والتي تداعب بعض الأحلام العنصرية حول نساء الشرق اللواتي "يتراقصن في الخلفية"، أو في الحالة السورية، قصص إشاعات جهاد النكاح وما شابهها.
كي نؤخذ على محمل الجد، نضطر أن نكون حاضرات دوماً وكفاءاتنا على الطاولة، نضطر للتلويح بشهاداتنا، بسنوات العمل والخبرة وأحياناً الاعتقال والتجربة، نضطر للتلويح بلغاتنا وما نجيد فعله. لا يُسأل الرجل كثيراً في الفضاء العام عن امتيازاته وأحقية وجوده. يعقب دوماً على الحديث عن المساواة ونسبة التمثيل والمشاركة بجملة، "على أن يشترط الكفاءة"، فالأصل في الرجل وجود الكفاءات طبعاً. قد يضطر اليوم الرجل السوري لعيش ذلك في المجتمع المدني مقابل المنظمات الدولية والعاملين فيها ولكننا نضطر أن نعيش ذلك بكل اللغات على ما يبدو.
كي نؤخذ على محمل الجد، علينا أن نقنع الجميع مراراً أننا معنيات بالسياسة خارج "مكتب المرأة ولجان المرأة والهيئة الاستشارية ومواضيع حقوق المرأة والطفل" وأننا معنيات بالديمقراطية ولسنا فقط ساعيات نحو السلام. أننا ناشطات ونسويات ومدافعات عن حقوق الإنسان ولسنا فقط أم الشهيد والمعتقل وأخته وزوجته، علينا أن نلوح بتاريخنا وتضحياتنا لتكتسب لنا شرعية ما.
كي نؤخذ على محمل الجد، علينا أن نقاتل طيلة الوقت وعلى كل الجبهات داخلياً وخارجياً، وعلينا بعدها ألا نبدو في الآن ذاته غاضبات وموتورات من كل تلك المعارك.
وبعد تلك المعارك الطويلة، والتي نجحت الكثير من النساء السوريات في خوضها حد اللحظة، يعيدوننا إلى خانة "الاستثناء" ويرتاحون إلى تلك الخلاصة.