يبدو البحر الأبيض المتوسّط على الخريطة كأنه بركة كبيرة. لكنّه قلب العالم القديم. هو البحر الذي أَطلَقَ عليه الرومان اسم "بحرنا" (ماري نوستروم)، وصلة الوصل بين أوروبا، وشمال أفريقيا وبلاد الشام وشرق المتوسّط. إنّه أيضًا بوابة عالمٍ جديد، وبحرٌ داخلي يؤدي إلى إمبراطوريات كبيرة مثل الفارسية والهندية والصينية. هو ملتقى الناس والحضارات والتجارة والأديان والعادات والأذواق.
يرى مؤرخ البحر الأبيض المتوسط فرناند بروديل (1902-1985) أن جميع النباتات المعروفة بالمتوسطية تقريبًا، باستثناء أشجار الزيتون والكروم وحقول القمح التي نمت في مرحلة مبكرة جدًا في المنطقة، لم ينشأ في منطقة المتوسّط، بل على بعد أميال من البحر. يقول بروديل:
"إذا عاد هيرودوتس، أبو التاريخ، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يومًا إلى الأرض وانضم إلى سيّاح اليوم، فسوف يواجه العديد من المفاجآت. أتصوّرُهُ يزور أماكن يعرفها جيدًا في شرق البحر الأبيض المتوسط فتأخذه الدهشة والحيرة حين يرى الفواكه الذهبية معلّقة على الشجيرات الخضراء الداكنة... وأشجار البرتقال والليمون واليوسفي. فهو لم يسبق له أن رأى لها مثيلاً. ذلك لأن العرب أتوا بها من الشرق الأقصى!
لم ير هيرودوتس في حياته تلك النباتات الشائكة غريبة الشكل وسيقان النباتات الزهرية ذات الأسماء الغريبة كالصبار والأغاف والألوة والتين الشوكي لأنها من الأمريكتين! وتلك الأشجار الطويلة ذات الأوراق فاتحة اللون التي تحمل اسما يونانيا هو الأوكالبتوس على الرغم من كونها أسترالية! وأشجار السرو الآتية من بلاد الفرس.
حتى أن أبسط الوجبات كفيل بإدهاشه:البندورة من البيرو والباذنجان من الهند والفلفل الحلو من غيانا والذرة الحلوة من المكسيك والأرز هدية العرب، ناهيك عن الفول والبطاطا وشجرة الخوخ التي أتت من جبال الصين وأصبحت إيرانية، والتبغ. [i]"
فما الذي نأكله اليوم، ومن أين يأتي؟ مكوّنات الغذاء في المشرق خير مثال على نتائج العولمة. نحن نعيش ونلهو بالطريقة نفسها ونأكل المأكولات نفسها. ولكن لم يكن هذا هو الحال قبل سنوات عديدة. المهاجرون هم من حملوا معهم المكوّنات والتوابل وكان لهم تأثير كبير على ما يعرف بالمطبخ الدولي.
الفينيقيون: مأكولات من هنا ومن هناك
كان الفينيقيّون أوّل من شقّ طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب. تاجروا بالحبوب والتوابل والأطعمة المجففة والمحفوظة والنبيذ. واشتهر الفينيقيّون عموماً بصبغتهم الأرجوانية الشهيرة وبمنتج شهير آخر هو صلصة الغاروم!
"كانت صلصة الغاروم وغيرها من صلصات السمك المخمّر بمثابة "كاتشب" العالم القديم، تُنتج بكميات كبيرة في المصانع وتُرَش على أي طعام لذيذ" (راجع أوكسمان 2015). ولأن المدن الساحلية الفينيقية تملك موانئ صيد كبيرة ووفرة من الأسماك، كان الفينيقيون يخمّرون قسما من الأسماك ويصنعون منه صلصة الغاروم التي كان سعرها مرتفعا في العالم القديم.
ويحمل ناووسٌ من أكثر النواويس زخرفةً في مدينة صور الجنوبية القديمة نقشًا يشير إلى أنه يخص رجلاً كان منتجًا لصلصة الغاروم.
العرب وتجارة التوابل
في معظم الأحيان، كان التجار العرب يبيعون التوابل من قوافل الجمال على الطرق البرية، لكن ارتباط العرب بتجارة التوابل يعود إلى ما قبل ولادة المسيح. هيمن العرب على تجارة التوابل وسافروا ذهابا وإيابا إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط وخارجها. كانت هيمنتهم قوية لدرجة جعلت اللغة العربية لغة التجار في العصور الوسطى. وكان تجار التوابل العرب يبثّون جوًّا من الغموض من حولهم لأنهم كانوا يحجبون مصدر توابلهم ويرفعون أسعارها متذرّعين بحكايات خيالية عن محاربة مخلوقات مجنّحة وشرسة للحصول على التوابل التي تنمو على منحدرات عالية.
في المطبخ العربي، تعوّض الخصائص الطبية المزعومة لبعض التوابل عن الخصائص الضارة لبعض الأطعمة. لذلك يقال عن التوابل إنها تعزز الخير وتحارب الشر. ويعتقد بعض العلماء أن العرب كانوا أول من حصد الكمون. والاسم الأجنبي Cumin مستمد من "الكمّون" باللغة العربية أو "الكامونة" بالآرامية. وتشير بعض الأدبيات إلى أن حصاد الكمون بدأ في المشرق منذ العهد القديم، ثم حمله الفينيقيون غربًا إلى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الإيبيرية.
البطاطا، البطاطس، الطماطم، البندورة
الطماطم (البندورة) هي مكوّن أساسي في المطبخ المشرقي، لكنها في الواقع إضافة حديثة العهد! لا يوجد حساء بدون بندورة، ولا تبولة ولا سلطة. في الواقع، من الصعب أن نتصور المطبخ اللبناني بدون بندورة. لقد غيّرت الطماطم المطبخ اللبناني ومطابخ بلدان أخرى في منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى حد كبير. ويحتل لبنان اليوم المركز السابع، بعد إيطاليا مباشرة، من حيث نصيب الفرد من استهلاك البندورة في العالم.
نشأت البندورة من جبال الأنديز، في ما يسمى الآن بيرو وبوليفيا وشيلي والإكوادور، حيث كانت تنمو كنبتات برية. قبائل الأزتيك والانكا هي أول من زرع البندورة في عام 700 بعد الميلاد. وبعد أن "اكتشف" كريستوفر كولومبوس الأمريكتين، بدأ نقل الأطعمة من "العالم الجديد" إلى أوروبا والشرق. وشملت هذه الأطعمة البطاطا والبطاطا الحلوة والذرة والبندورة والفلفل الحار. وفي حالات كثيرة، ساهمت أطعمة العالم الجديد إلى حد كبير في تطوير المطابخ المحلية.
وصلت البندورة إلى أوروبا والمشرق في القرن السادس عشر، لكنها لم تستخدم في المطابخ قبل القرن التاسع عشر لأنها كانت تُعتبر سامة وغير نافعة إلا للزينة! أما الذرة فأتى بها كولومبوس من الأمريكتين إلى بقية العالم، وعلى عكس البندورة، دخلت الذرّة الشرق الأوسط بسرعة ووصلت إلى لبنان وسوريا في عشرينيات القرن السادس عشر. ساعدت الذرة على تحفيز النمو السكاني في ظل هيمنة العثمانيين، ونتيجة لذلك، كان العديد من الأوروبيين يشيرون إلى الذرة باسم الحبوب التركية. وفي الهند، كانت الذرة تعرف باسم مكة.
العثمانيّون
التأثير العثماني واضح جداً في لبنان الذي كان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية لمدة أربعة قرون. حكم العثمانيون لبنان من 1516 وحتى 1918 وأدخلوا إليه مجموعة متنوعة من الأطعمة التي أصبحت منذ ذلك الحين أطعمة أساسية في النظام الغذائي اللبناني.
وأدّت موجات الهجرة الكبيرة إلى إدخال أطعمة جديدة مثل اللبن الزبادي والخضروات المحشوة ومجموعة متنوعة من المكسّرات. كما زاد العثمانيّون من شعبية الخروف. يعتقد البعض أن الأتراك أدخلوا البرغل المكوّن الأساسي في مطبخ المنطقة، وطبق الكبّة بشكل خاص. من ناحية أخرى، يقول بعض الخبراء أن الكبّة مذكورة في كتابات آشورية وسومرية قديمة وأن هناك أدلة أثرية تشير إلى أن الأدوات والمنتجات اللازمة لتحضير هذا الطبق كانت متوافرة في المنطقة قبل وقت طويل من هيمنة نفوذ الإسلام.
النكتة الفرنسية
دائماً ما تراود المستشرقين خيالات عن التأثير الفرنسي على المطبخ اللبناني نتيجة الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان (1923-1946). غير أن هذا التأثير لا يتعدّى كونه محض خيال! ففي خلال الفترة القصيرة نسبيًا التي قضاها الفرنسيون في لبنان، لم يؤثّروا على تقنيات المطبخ اللبناني الراسخة والمتقدّمة، ولا على المكوّنات المستخدمة فيه. ومن الأمثلة الساذجة نوعًا ما على الناتج من الخليط الفرنسي اللبناني الكروسان بالزعتر الذي يجمع بين وجبتي الإفطار الفرنسية واللبنانية الأشهر، أي الكرواسان والمنقوشة أو الزعتر. وجميع المخابز في بيروت يقدم الكروسان بزعتر.
مطبخ اللاجئين: المطبخ الأرمني والمطبخ الفلسطيني
من بين جميع الثقافات والشعوب التي حطّت رحالها في لبنان طوال القرن العشرين، وحدهم الفلسطينيون والأرمن تركوا بصمة حقيقية على المطبخ اللبناني. قدم الفلسطينيون إلى لبنان قبل سبعين عاما تقريبا، وتخلّوا مع الوقت عن لهجتهم ولباسهم التقليدي لكنهم لم يتخلوا عن مأكولاتهم! لذلك، يفتخر الفلسطينيون بتحضير أطباق المفتول والمسخن أو الكفتة بالطحينة يوميًا.
أما الأرمن فكان تأثيرهم أكبر على المطبخ اللبناني. ويوجد في بيروت حاليًا حوالي خمسين مطعم أرمني يتركز معظمها في منطقة برج حمود المعروفة أيضًا باسم "أرمينيا الصغيرة". ويحبّذ النظام اللبناني "الـهياباهبانوم" أي الحفاظ على الشعب الأرمني وهويته، وهو أمر حيوي للأرمن المغتربين المفتخرين بأصلهم.
في السنوات التي أعقبت الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915، استقرّت جماعات أرمنية بأكملها في ملاجئ مؤقتة في ضواحي بيروت. هكذا ولدت منطقة برج حمود المعروفة على نطاق واسع بوصفها المهد الثقافي للأرمن في لبنان. هناك شوارع في برج حمود مسمّاة تيمّناً بمدن أرمنية مثل يريفان، وأنهار أرمنية مثل أراكس.
يختلف الطعام الأرمني في الشرق الأوسط عنه في أرمينيا لأنه يمتزج بالتأثيرات اليونانية والتركية والعربية. تتميز برج حمود بتقديم أفضل "لحم بعجين" أو فطائر اللحم المحضّرة على الطريقة الأرمنية، فضلاً عن البرك والمانتي المتوافرة بكثرة. حتى أن الأرمن لديهم أنواع الكبة الخاصة بهم، ناهيك عن الكباب بالكرز أو النسخة الأرمنية للفتة اللبنانية!
المغتربون اللبنانيون
منذ أيام الإمبراطورية الفينيقية، يجوب اللبنانيون العالم. وقد لعبت الجالية اللبنانية دوراً جوهرياً في نشر شعبية المطبخ اللبناني الطويلة العهد. ويُقدَّر عدد المغتربين اللبنانيين بحوالي 14 مليون نسمة، أي أنه يفوق إلى حد كبير عدد السكان في لبنان الذي يبلغ 4 ملايين نسمة تقريباً. وتضمّ دولة البرازيل حالياً الشريحة الأكبر من المغتربين اللبنانيين حيث يقدر عددهم بـحوالي 6.4 مليون نسمة.
استخدم المغتربون اللبنانيون على مرّ العصور هويتهم اللبنانية لبناء شبكات توفر لهم الدعم. ومع الوقت، أنشأوا شبكات لبنانية في جميع أنحاء العالم. ونجح المغتربون اللبنانيون الذين يضمّون تقليدياً التجار وأصحاب المشاريع وربما حتى بعض أحفاد الأجداد الفينيقيين في اكتساب سمعة متميزة في العمل الدؤوب والتجارة. حافظ المغتربون اللبنانيون على هويتهم اللبنانية بحفاظهم على مطبخهم اللبناني من خلال فتح مطاعم في جميع أنحاء العالم تقصّر المسافات بينهم وبين وطنهم الأم.
تكريم أجدادنا
المطابخ والأذواق، قديمة كانت أو جديدة، لا تقتصر على المكوّنات. فالمطبخ التقليدي شأنه شأن الهندسة المعمارية والموسيقى والرقص يعبّر عن تقاليد البلاد. لكن يبقى المطبخ التعبير الأكثر صدقًا وأصالة وقدرةً على اجتياز الزمن والمسافات. ليس المطبخ التقليدي بالضرورة طعامَ القصور أو النخبة أو المطاعم، ولكنه الطعام العادي الذي يطبخه الناس العاديون ويؤكل في كل يوم. الطعام العادي هو المطبخ الحقيقي الذي يعبر عن تقاليد البلاد.
لم يتمكّن الخمسة عشر مليون مغترب لبناني من اصطحاب منازلهم وقراهم الحبيبة معهم إلى بلاد الغربة، لكنهم اصطحبوا وصفاتهم. دولٌ كثيرة حول العالم تبنّت طبقي الكبة والتبولة. حتى أن السفيحة والكبة أصبحتا جزءا أساسيًا من المطبخ البرازيلي لدرجة أن أصولهما اللبنانية كاد أن يطويها النسيان!
المطبخ البيتي هو وسيلة بسيطة وأصيلة لإدامة الهوية والتقاليد. لا شيء يتحدث ببلاغة عن قمح وادي البقاع وشمسه الحارقة ومزارع إنتاج الألبان فيه أفضل من الكشك. ولا شيء يتحدث عن جبال شمال لبنان الشاهقة أفضل من الكبة النيّة. ولا شيء يتحدث عن تلال الجنوب أفضل من الفريكة المدخّنة (القمح المدخن)، أو الكمونية، أي البرغل الممزوج بعطور الورد والكمون وأوراق الليمون والنعناع البري والمردقوش والريحان.
تساهم المرأة اللبنانية من خلال تقديم الرعاية والغذاء لأسرتها في الحفاظ على الهوية والتراث اللبنانيين وعلى الجذور اللبنانية التي تمتد إلى تاريخ أجدادنا العريق. وتحرص زينب كشمر، المواطنة اللبنانية من صور، على الحفاظ على علاقة وثيقة مع قرية أجدادها. تقطف الأعشاب الطازجة من حديقتها وحدائق نساء أخريات وتقول إن ما تقوم به هو بمثابة حج يسمح لها باكتشاف الوصفات السرية والبحث عن مكوناتها. وتضيف زينب: "عندما أطبخ، أشعر بحضور أجدادي، وبأنني أكرّمهم".
المراجع
Braudel, F. (1973) [1949] The Mediterranean and the Mediterranean World in the Age of Philip II. Trans. Sian Reynolds. Harper Collins Publishers Ltd.
Kanafani-Zahar, A. (1997) ‘”Whoever Eats You Is No Longer Hungry, Whoever Sees You Becomes Humble:” Bread and Identity in Lebanon.’ Food and Food-ways 7, 1: 45–71.
Oksman, O. (2015) ‘Garum sauce: ancient Rome’s “ketchup” becomes a modern-day secret ingredient.’ The Guardian, Wednesday 26 August 2015.