السيرك: نافذتي الصغيرة في غرفة مقفلة ومظلمة

مقال

 أصبح السيرك جزءًا من حياتي منذ أن التحقت به أي منذ 11 عامًا. في بادئ الأمر، اعتقدت أنه من الجنون أن يكون لنا في فلسطين مدرسة سيرك، لكنني أدركت بعدها كم من الرائع أن يكون في بلدي سيرك. في الحقيقة ظننا جميعًا أن شادي وجيسيكا فقدا عقلهما عندما قرّرا إنشاء مدرسة سيرك. إلّا أنّ إيمانهم بقدرات الشباب الفلسطيني ومدى امكانية تأثير السيرك عليهم كان أقوى من المشككّين. فتشبّثا بعناد بما يؤمنان به ونجحا في المساهمة في ارساء مجتمع مثقف وفنّي ومتحرّر. 

وقت القراءة: %count دقائق

بدأت قصة مدرسة سيرك فلسطين (PCS) في العام 2006 عندما التقى شادي زمرد من القدس بجيسيكا ديفليجير من بلجيكا فتشاركا الحلم في إنشاء مدرسة سيرك في فلسطين. بلغ عدد الأشخاص الذين سجّلوا أسماءهم في ورشة العمل الأولى عشرة فقط! عقدوا اجتماعهم الأوّل في غرفة صغيرة في رام الله. ثم ما لبثت أن نمت مجموعتهم عندما انضم اليها التلامذة الذين بدأوا يأخذون دروسًا في السيرك في العام 2007. رغم المهارات القليلة التي تعلموها، كان الطلاب يتوقون إلى تمرير ما تعلّموه إلى من هم أصغر منهم سنًا. وهكذا انضممنا أخي وأنا إلى هذا المكان السحري الصغير، الذي أصبح فيما بعد منزلنا الثاني وعائلتنا الكبيرة الثانية.

 منذ ذلك الحين، ساعدتني مدرسة سيرك فلسطين على أن أصبح الشخص الذي أنا عليه اليوم، بإخفاقاتي ونجاحاتي. لقد رافقني في كل قرار اتخذته. لقد علمتني أن أحب وأحترم وأقبل وأقدر كل شخص ألتقي به، بغض النظر عن خلفيته. واني أوافق مؤلف "السيرك للجميع: تعلم سيرك حول العالم"، الكاتب روبرت شوغرمان تمامًا في مقولته: "عندما تقف رأساً على عقب، نعلمك أن تقف على قدميك، عندما تسقط الأشياء نعلمك كيف تلتقطها، عندما نجعلك تسير على الأكتاف، فإننا نعلمك أن تعتني بالآخر. وعندما تهرُّج، نعلمك أن تأخذ نفسك على محمل الجد".

تمّ إنشاء السيرك لجعل المستحيل ممكنًا. لقد ولد من رغبة الفلسطينيين في عيش حياة طبيعية ومبدعة ومرضية. يبدو أنّ الواقع في فلسطين وكأنه سيرك كبير، حيث يحتاج الناس إلى ايجاد توازن بين الحياة والموت، في مواجهتهم العقبات الكثيرة التي يفرضها الاحتلال عليهم. هنا نضحك لنخفي حزنًا عميقًا ونجاهد كلّ يوم لنكون سعداء.

في فلسطين، الكرامة والوحدة والاحترام والثقة والأمل أكثر من أي شيء آخر في خطر. الاحتلال يدمر حياتنا، كأفراد وكأمة. ومع ذلك، ما زلنا نعتقد أن مستقبل فلسطين ممكن ونقدر أن نحقق فيه حلمنا بحياة أفضل.

تهدف مدرسة السيرك إلى تطوير قدرات الشباب الإبداعية في فلسطين من خلال تفعيل هويتهم وتقويتها وتعزيزها. نحن نوفر مساحة آمنة يُعامل فيها الأطفال والشباب على قدم المساواة ويعملون معاً لتحقيق نتائج ذات مغزى.

 من خلال تعليم الأطفال ذات خلفيات اجتماعية متنوعة، نشجع على تطوير نمط جديد من التعبير الثقافي وانشاء جيل جديد من الفنانين في فلسطين. نحن نمارس فنًا ديناميكيًا مرتكزًا في طبيعته على التجربة ويهدف إلى تحدي المفاهيم التقليدية للفنون والتفاعلات الفنية. نحن نوفر مساحة للإبداع غير المحدود على جميع المستويات، ونشجع المشاركة الفعّالة لجميع الأشخاص المعنيين: الطلاب والمدربين والمتطوعين والمجتمع ككل.

 لقد شاهدت مدرسة سيرك فلسطين تتطور إلى مؤسسة مهنية تعلّم على مدار السنة مهارات السيرك لأكثر من 230 طفل وشاب من سن الـ6 سنوات من جميع أنحاء فلسطين. يأتون إلينا مع قدرات متفاوتة ومن خلفيات مختلفة، بما في ذلك المعتقلين السابقين، والأطفال ذوي الإعاقات الذهنية، واللاجئين. يفتح برنامج PCS أبوابه للجميع لأننا نؤمن بقوة بأن لنا جميعًا حقوق متساوية في الوصول إلى فرص التعلم، وتحسين حياتنا وعيش الفرح. كل واحد منا له أهميته، ومعًا نستطيع أن نحسّن مجتمعنا. هذه هي الطريقة التي نوظّف فيها طاقتنا لخلق مجتمع دامج. نحن لا نحب الفن من أجل الفن لنبقى قابعين بين جدران مدرسة السيرك.
بالإضافة إلى التدريس، أنشأت مدرسة سيرك فلسطين مجموعة متنوعة من الاستعراضات في فلسطين والخارج، شاهدها أكثر من 110 ألف شخص محليًا وعالميًا. هكذا استطعنا أن نتشارك مع الآخر فخرنا وكرامتنا وأملنا كفلسطينيين.

من خلال أداء فنون السيرك، نهدي الفرح والضحك في قلوب الأطفال الذين يكادون لا يحصلون على فرصة للتمتع بطفولتهم. نحن نحاول أن نمنح جمهورنا الفرصة للتفكير بحرية، والحلم بلا قيود، وأن ننسيهم ولو للحظة الصعوبات والعقبات التي يواجهونها في حياتهم اليومية. رسالتنا هي عالم حيث يجد كلّ واحد منا مكانه، عالم بلا حدود وخال من الاحتلال الجسدي والنفسي على حدّ سواء.

مسرحية "سراب" هو إنتاج فنّي لمدرسة سيرك فلسطين، من إخراج بول إيفانز شارك فيه سبعة فنانين فلسطينيين من مدرسة السيرك. إنّه عمل فنّي يسرد تاريخ اللاجئين الفلسطينيين، ويهدف إلى إشراك الجمهور في هذه القصص، وجعلهم يشعرون بما يمر به اللاجئون، لا سيما في وقت يعيش فيه الملايين من اللاجئين في جميع أنحاء العالم تجارب مماثلة.

 بعد أداء مدرسة سيرك فلسطين لمسرحية "سراب" في لندن، قال أحد المشاهدين بين الحضور: "لم أرغب في مواصلة المشاهدة، لكنني لم أستطع الرحيل. لقد أحضرتموني إلى عالمكم الخاص، والذي كنا جميعا نحاول تجاهله بصورة عمياء. لقد صفعتموني في وجهي وأوقفتموني". "هذا هو نوع التأثير الذي نحاول أن نراه على جمهورنا. في بعض الأحيان، لا يكون هذا النوع من العرض ممتعًا، ولكن ما يهمنا هو أن يتفاعل الناس مع ما يحدث من حولهم. هذا ما نعتقد أنه يمكننا تقديمه - زيادة الوعي ونشر المعرفة حول بعض القضايا وإلهام الأشخاص لاتخاذ الخطوات اللازمة".

قد تغلبنا هذا العام (2018) على التحدي المتمثل في تنظيم مهرجان سيرك فلسطين الثاني، حيث جمعنا فناني سيرك محليين ودوليين مع المجتمع الفلسطيني، متّحدين في دعوتنا إلى الحرية. أكثر من 25300 طفل وشاب وعائلة فلسطينية توافدوا وشاهدوا 31 عرضًا وعاشوا القصص التي أنشأناها في قاعاتنا التدريبية الصغيرة. للأسف، اضطررنا لإلغاء أحد العروض التي كان من المفترض أن نؤديها في القدس، لأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي رفضت إصدار تصاريح لاثنين من الفنانين الفلسطينيين. بالإضافة إلى ذلك، منعت ستة أعضاء من 3 طواقم سيرك شريكة لنا في غزة من السفر إلى الضفة الغربية والانضمام إلينا. في الواقع، لم تتح لنا الفرصة قط للالتقاء بهم شخصيًا بسبب هذه القيود واكتفينا بالتواصل معهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتشارك الصور والفيديو. كبديل لمنعهم من أداء عرضهم في هذا الجزء من وطننا، قمنا بتنظيم حدثين في غزة للطواقم الثلاثة. جاء نحو 2100 متفرج لرؤيتهم، ويعتبر ذلك إنجازًا كبيرًا. لقد نجحنا في خلق السعادة حتى لو كانت عابرة.

السيرك لنا هو أداة مقاومة الاحتلال والظلم. قد لا يحرر فلسطين، لكنه يحرر العقل ويخرج من العنف اللاإنساني الذي يواجهه الفلسطينيون يومياً.

بالنسبة إليّ شخصياً، أنام بشكل أفضل في الليل عندما أعلم أنني نجحت في نشر الفرح والسعادة خلال النهار.

لمزيد من المعلومات، اتصل بـمدرسة سيرك فلسطين 02-281-2000, +970-59-281-2001 أو على البريد الألكتروني   info@palcircus.ps أو قم بزيارة www.palcircus.ps أو فايسبوك: The Palestinian Circus School مدرسة سيرك فلسطين أو Instagram: The Palestinian Circus School

هذه المقالة هي نسخة معدلة ومحدثة من مقال تم طباعته لأول مرة في "هذا الأسبوع في فلسطين" في أب/أغسطس عام 2018. يتم نشره هنا، بإذن من "هذا الأسبوع في فلسطين".