الانتفاضة الأكبر في تاريخ البلاد، أحد أضخم الانفجارات غير النووية في القرن الحادي والعشرين، جائحة عالمية، والآن إحدى أسوأ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في العالم... في العامَين الماضيين، شهد لبنان تحوّلات بدّلت معالمه بحيث لم يعد يشبه نفسه، وأصابه الانهيار التام الذي يتخطى كل الحدود.
لقد انحدر لبنان إلى الهوّة، وهذا ليس توصيفًا مجازيًا.
حين يطلب الأطباء من المرضى تأمين البنج ليتمكنوا من إجراء عمليات جراحية لهم، وحين يؤمَّن التيار الكهربائي لأقل من ساعتَين في اليوم، وحين يترك السائقون سياراتهم في محطات الوقود ليلًا كي يتمكنوا من الحصول على بعض ليترات البنزين للذهاب إلى أعمالهم، وحين يكون هناك شحٌّ في جميع السلع الأساسية تقريبًا، وحين تواجه العائلات الجوع... ليست الهوة تعبيرًا مجازيًا. إنه الواقع المعاش الأليم في بلدٍ يعاني من التفكك التام.
هذا الواقع، وهذه الهوّة، ليس نتيجة كارثة طبيعية، ولا هو من تداعيات مصائب خارجية. بل هو ناجمٌ عن السياسات النيوليبرالية الجشعة والفساد المستشري في أوساط النخبة الحاكمة التي قادت البلاد إلى الإفلاس وقضت على مختلف شبكات الأمان الاجتماعي. لقد انهار مخطط بونزي الذي قام على التواطؤ بين القطاع المصرفي وأمراء الحرب الذين تسلّموا مناصب سياسية وحصّنوا أنفسهم خلف الحماية التي تؤمّنها لهم الميليشيات المسلّحة، مخلِّفًا وراءه بؤسًا اجتماعيًا يفوق التصوّر. وقد ارتفعت كلفة المعيشة بطريقة خيالية، واستُنزِفت المدخرات وتراجعت قيمة الرواتب، وبات الشحّ في السلع الأساسية والخدمات الضرورية عنوان المرحلة.
هذه ليست أزمة، فالتسمية مضلِّلة؛ إنها واحدة من أكبر عمليات انتقال الثروات إلى الطبقات العليا في تاريخ البلاد. وما زالت مستمرة.
قبل عامٍ، حصل ما لم يكن في الحسبان، وكرّت السبحة في هذه الفترة الزمنية القصيرة.
في 4 آب/أغسطس 2020، انفجر نحو 2500 طن من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، ما أسفر عن دمار أحياء واسعة من العاصمة، ومقتل مئات الأبرياء، وإصابة الآلاف بجروح، وتشريد مئات الآلاف من منازلهم. وبعد الصدمة التي خلّفها الانفجار، حلّت مشاعر الغضب والعجز عن التصديق، ثم مشاعر التأقلم العنيفة والمهلكة والعميقة مع حجم الإجرام الذي بلغه النظام، ومع واقع أن حياتنا أصبحت رخيصة جدًا في ظل النظام الحاكم.
بعد عامٍ على الانفجار، لا جواب رسميًا بعد بشأن الأسباب التي أدّت إلى وقوع هذه الجريمة، ولم يصدر حتى الآن قرار ظنّي لتحديد المسؤوليات. أسوأ من ذلك، أُقيل قاضي التحقيق الذي كُلِّف بدايةً بالملف، من منصبه حين استدعى رئيس حكومة تصريف الأعمال وثلاثة وزراء سابقين لاستجوابهم في شبهة الإهمال الوظيفي. وقد أصدر قاضي التحقيق الذي عُيِّن مكانه قائمة أطول بمسؤولين سياسيين وأمنيين كبار يريد استدعاءهم إلى الاستجواب. ولكن من الواضح أن النخب الحاكمة لن تتعاون معه أيضًا. وتقف لجنة عوائل شهداء تفجير مرفأ بيروت وحيدةً اليوم في مواجهة هذا النظام القاتل من خلال رفعها مطلب العدالة، ويدعمها في ذلك الشعب اللبناني الذي باتت هذه الجريمة رمزًا للمصير الذي ينتظره.
ينحدر لبنان نحو الهوّة ، متروكًا لمصيره ولتدبُّر أموره بنفسه. والمجتمع الدولي الذي دعم النظام الحاكم لعقودٍ عدّة، فشل في إقناع الأفرقاء السياسيين بتطبيق أي خطط إصلاحية. وقد انكفأ الآن إلى سياسة إدارة "تداعيات" الأزمة، من خلال مزيج من المساعدات الإنسانية الخجولة والإجراءات الأمنية. سوف ترتدّ هذه السياسات بنتائج عكسية، مثلما هو الحال دائمًا، وسوف تُبقي لبنان أسير دوّامة لامتناهية من الفقر والعنف.
يبدو الوضع قاتمًا، ولكننا لا نملك ترف التشاؤم. في الوقت الراهن، لا خيار أمامنا سوى الدفاع عن النفس في مواجهة نظامٍ سوف يدمّر أي بارقة حياة في هذه البلاد.