سنواتٌ أشبه بعقود طويلة
من النادر أن تشهد المجتمعات، في غضون فترة زمنية قصيرة، تحوّلات تُبدّل معالمها كليًا بحيث لا تعود تشبه نفسها بتاتًا. حين تحدث هذه اللحظات التاريخية، تكون عادةً ناجمة عن حروب أو اجتياحات خارجية. ولكن لبنان ليس في حالة حرب، أقله حتى الآن. ففي مخاض الأزمة التي وصفها البنك الدولي بأنها من أسوأ الأزمات المالية والاقتصادية التي عرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، يشهد لبنان تفككًا اجتماعيًا مؤلمًا يمكن تلمُّس تداعياته في مختلف جوانب الوجود الاجتماعي تقريبًا. ففي غضون بضعة أشهر من بدء الأزمة، انهار النسيج الأساسي للاقتصاد اللبناني، تاركًا خلفه بؤسًا اجتماعيًا يفوق التصوّر. ويبدو أنه لا تلوح في الأفق أي نهاية لهذا التحلل.
الأزمة الكارثية التي هي نتاج سنوات من السياسات النيوليبرالية القائمة على النهب والجشع، جاءت في أعقاب موجة من التظاهرات الشعبية التي اندلعت في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ولم تُعمِّر طويلًا، لكنها كانت مفعمة بالآمال. طوال أشهر، تظاهر آلاف الأشخاص في عدد من المناطق اللبنانية للتعبير عن معارضتهم للنظام المتهاوي، فجوبِهوا بالقمع. لا نعلم ما إذا كانت الانتفاضة قد شكّلت الفرصة الأخيرة لتجنّب الأزمة أو كانت العارض الأول من عوارضها، وعلى الأرجح أننا لن نعرف أبدًا. ولكنها كانت الانتفاضة الأكبر في تاريخ البلاد، إن كان في الأمر من تعزية.
لم يكن عنف الدولة، بأشكاله المقنَّعة المختلفة، السبب وراء إضعاف هذه الحركة الوليدة من المعارضة الشعبية. فالتفشّي غير المتوقّع للجائحة العالمية مع ما فرضته من حجرٍ وقيود، أدّى إلى إفراغ ساحات المدن من المتظاهرين. وتبيّن أن التباعد الاجتماعي وسيلة فعّالة جدًا في قطع الطريق على الانتفاضة. ولكن الرتابة التي فرضتها أشهر الحجر الطويلة لم تستمر. في 4 آب/أغسطس 2020، هزّ انفجارٌ مرفأ بيروت بسبب تخزين أطنان من مادة نترات الأمونيوم الشديدة التفجّر بطريقة مشبوهة. دُمِّرت مساحات شاسعة من العاصمة، ولقي مئات المدنيين الأبرياء مصرعهم، وشُرِّد مئات الآلاف من منازلهم. لقد شكّل يوم 4 آب/أغسطس نقطة تحوّل مضرَّجة بالدماء وغارقة في الزجاج المحطّم والمستقبل الضائع.
الانحدار نحو الهاوية معبَّدٌ بأحداث "استثنائية" تتعاقب سريعًا جدًا إلى درجة أنها تفقد طابعها الاستثنائي. الأسوأ الذي يفوق التصوّر لم يعد ضرباً من الكوابيس أو من السيناريوهات الخيالية عن يوم الدينونة. إنه الواقع الجديد، المألوف الجديد، وما سيحدث غدًا على الأرجح.
الأسوأ لم يأتِ بعد، ولكنه آتٍ لا محالة.
انتفاضة 2019
كان المزاج مغايرًا قبل عام من الآن.
كانت الأزمة قد ضربت القطاع المالي، وبدأت تمتدّ شيئًا فشيئًا إلى كافة جوانب المجتمع. كانت جميع المؤشرات تتجه على نحوٍ خطير نحو منطقة الخطر، ولكن الحكومة كانت تعلّل النفس بأن جهةً خارجية ما ستهرع لإنقاذها من السقوط، مثلما حدث مرارًا في السابق. ولكنها لم تتوقع أن كيل اللبنانيين قد طفح ولم يعودوا يقوون على التحمّل.
في صيف 2019، اندلعت حرائق التهمت مساحات واسعة من الأحراج، وما زاد الأمور سوءاً أن الفساد المستشري حال دون تجهيز فرق الدفاع المدني للتعامل معها كما يجب. واقترحت الحكومة التي كانت بحاجة ماسّة إلى مصادر تمويل، فرض ضريبة مستحيلة على الواتساب، وهو تطبيق الرسائل الفورية الأوسع استخدامًا في لبنان، وذلك في إطار رزمة إجراءات تقشفية. كان اقتراحًا مجحفًا وقد كشف عن غياب الكفاءة لدى النخب الحاكمة. وفيما كانت البلاد لا تزال تترنح تحت صدمة الحرائق، أثارت الخطوة التي أقدمت عليها الحكومة غضب الكثيرين الذي باتوا يدركون أنهم متروكون لمصيرهم وتدبّر أمورهم بأنفسهم. في ليل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، نزل الآلاف إلى الشوارع في عددٍ من المناطق اللبنانية، للتعبير عن سخطهم من الحكومة. وبعد ليل طويل من الاحتجاجات وأعمال الشغب، تراجعت الحكومة عن اقتراحها تحت وطأة الضغط الشعبي. ولكن هذه التحركات أطلقت شرارة ما بات يُعرَف بـ"انتفاضة تشرين" في إشارة إلى الحركة الاحتجاجية التي عمّت الشوارع لأشهر عدّة.
بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 وآذار/مارس 2020، شارك أشخاص من مختلف مشارب الحياة في التظاهرات، بعدما وحّدهم شعورٌ واسع بالغضب ورفضٌ لما بات يُعرَف بـ"النظام". في غضون أسابيع معدودة، تحوّلت الانتفاضة من اعتراض على الحكومة إلى إدانة للنظام الذي يحكم البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية، وهو قائم على تحالف من أمراء الحرب الذين تحوّلوا إلى أرباب الدولة وزعمائها، ومن رأسماليين جشعين يتجلببون بعباءة الأيديولوجيات النيوليبرالية، ومن ميليشيات مذهبية عنيفة. طوال خمسة أشهر تقريبًا، شهدت شوارع لبنان تظاهرات واحتجاجات وأعمال شغب وعنف شكّلت مؤشرًا على انتهاء حقبة نظام ما بعد الحرب واقتصاده الريعي النيوليبرالي.
ربما كانت النقمة من فساد النخب الحاكمة الذي بلغ مستويات قياسية عالمية هي الشرارة التي أشعلت الانتفاضة، ولكن الأهم من ذلك هو أن الانتفاضة كانت مؤشرًا على تحوّلات اجتماعية عميقة كان يشهدها لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة. فالمجتمع كان في تغيّر مستمر سواءً على صعيد الجندر أو الأجيال أو الطبقات أو التوجهات الجنسية أو التفضيلات العقائدية، ولكنه كان ممنوعًا من التعبير عن نفسه. وقد خرج هذا المجتمع إلى العلن مع اندلاع الانتفاضة، وجمعَ بين مكوّناته شعورٌ عميق بالهشاشة. إذًا كان هذا المجتمع في طور اكتشاف الذات تزامنًا مع لحظة الاستبطان للأزمة التي كانت تعصف به.
جوبِهت الانتفاضة بعنفٍ غير مسبوق على أيدي مؤسسات الدولة وبلطجية الأحزاب على السواء، واستهدفت أعمال العنف المجموعات الأكثر هشاشة في التظاهرات. لكن العنف لم يكن جسديًا فحسب. فتعمُّق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، من دون أن تبذل النخب الحاكمة أي محاولة فعلية لمعالجة التداعيات الكارثية على المواطنين، كان شكلًا من أشكال العنف البنيوي الذي مارسه النظام بحق اللبنانيين. فالأزمة لم تكن تتوالى فصولًا فحسب، بل كانت تُستخدَم بمثابة أداة تأديبية لسحق أي اعتراض. لكن الانتفاضة استمرت بأشكال مختلفة. وقد اتخذت أنماطًا جديدة، سواءً في الانتخابات الجامعية أو انتخابات النقابات المهنية أو في الشبكة الوليدة من المنظمات والمجموعات الناشطة، وعملت على التأقلم مع صعوبات التنظيم في خضم الأزمة الاجتماعية التي تتخبط فيها البلاد.
الأزمات تعتمل لفترة طويلة وتنقضّ فجأةً على فريستها
تبدو الانتفاضة وكأنها ذكرى بعيدة، أو تكاد تكون حالة تاريخية شاذّة، حين يُنظَر إليها من عمق الأزمة الراهنة. ويكاد يكون الكلام أعجز عن وصف أزمة بهذا الحجم. فالأرقام، مهما كانت دراماتيكية، لا تُعبّر بصورة كاملة عن حقيقة الواقع المزري الراهن. وتوصيفُ الأوضاع البائسة السائدة حاليًا، مهما كان موجِعًا، لا يعبّر عن عمق البؤس الذي ستشهده البلاد في المراحل المقبلة. كيف نبدأ بالتأقلم مع فكرة أننا خسرنا كل شيء؟
يترك السائقون سياراتهم في محطات الوقود ليلًا كي يتمكنوا من تعبئة خزانات الوقود بكميات كافية من البنزين للذهاب إلى أعمالهم؛ ويطلب الأطباء من المرضى تأمين البنج ليتمكنوا من إجراء عمليات جراحية ضرورية لهم؛ أما التيار الكهربائي فيتوفّر لأقل من ساعتَين فقط في اليوم؛ وينتشر الجوع من جديد في بلدٍ مشكلته الوحيدة هي في فساد نخبه الجشعة وسياساتها النيوليبرالية... تواجه البلاد شحًّا على مختلف المستويات، ويُتوقَّع حدوث انقطاع كامل للسلع الأساسية، مثل حليب الرضّع والأدوية. يجنِّد اللبنانيون مختلف شبكاتهم الاجتماعية، داخل البلاد وخارجها، ليتمكّنوا من تأمين بقائهم فحسب، وتُعوّل أعداد متزايدة منهم على المساعدات الإنسانية درءًا للجوع.
لا يواجه لبنان أزمةً واحدة، بل مجموعة أزمات.
والأزمة الأكثر وضوحًا هي أزمة الانهيار الشديد في قيمة العملة المحلية التي تراجعت من 1500 ليرة لبنانية للدولار، وهذا السعر لم يعد له وجود عمليًا حتى لو كان معتمدًا على أنه سعر الصرف الرسمي، ليصبح السعر الحقيقي في السوق السوداء أكثر من 20000 ليرة، وهو رقمٌ مرشَّحٌ للارتفاع... هذا التدهور الشديد في قيمة العملة، مقرونًا بسياسة أسعار الصرف المتعددة، تسبب باستنزاف مدّخرات المواطنين، ناهيك عن انخفاض قيمة الرواتب بنحو 90 في المئة. وقد أدّى إلى تعطيل الأنشطة الاقتصادية، وإلى التضخم المفرط في بلدٍ يعتمد على الواردات في الجزء الأكبر من احتياجاته الاستهلاكية.
تُضاف أزمة العملة المحلية إلى أزمة المصارف التي تسببت عمليًا بإفلاس القطاع المصرفي، بسبب السياسات الجشعة لمالكي المصارف واعتمادها على أسعار الفوائد المرتفعة لسندات الخزينة. لقد وُضِعت سياسات كابيتال كونترول عشوائية وغير مقوننة، ما حدّ من قدرة المودعين على الوصول إلى ودائعهم بالعملات الأجنبية. وأدّت هذه الممارسة، التي هي بمثابة سرقة مقوننة، إلى فقدان الودائع بالدولار أكثر من 80 في المئة من قيمتها، هذا فضلًا عن تراجع قيمة الودائع بالليرة اللبنانية.
يدفع اللبنانيون ثمن هذه الأزمة المصرفية مقرونةً بأزمة المالية العامة للدولة، أو بالأحرى يدفعون ثمن جشع المصرفيين والسياسيين. منذ انتهاء الحرب الأهلية، أدّى القطاع المصرفي دور المموِّل للقطاع العام، بدفعٍ من سياسة الفوائد العالية. وقد عمدت إدارة الدولة التي ينخرها الفساد بمستوياته القياسية، إلى تبديد الأموال العامة، ما تسبب بعجوزات كبيرة في الميزانية العامة وبشلّ مؤسسات الدولة. استمر مخطط بونزي لأكثر من ثلاثة عقود، فحوّل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد ريعي، وكانت النتيجة الاعتماد على المضاربات المالية والعقارية، والقضاء على أي إمكانية لبناء اقتصاد منتج.
يحدث ذلك كله فيما تقف الحكومة والنخب الحاكمة مكتوفة اليدين، وتفشل في إقرار سياسة واحدة للتعامل مع الأزمة. وقد أُجهِضت الإجراءات التي كان من شأنها التخفيف من بعض آثار الأزمة، مثل المبادرة باكرًا إلى إقرار قانون كابيتال كونترول. لم يُتّخَذ أي تدبير للتخفيف من حدّة الأزمة الاجتماعية. ولم توضَع بوادر خطة إصلاحية، ولو مبهمة، لاستقطاب الدعم الخارجي. بدلًا من ذلك، تُفضّل النخب الحاكمة ابتزاز القوى الأوروبية من خلال التلويح بالتهديد الذي يشكّله اللاجئون، أملًا بأن تقوم تلك القوى بتمويل النظام الفاسد لفترة أطول. هذا هو أسلوب العمل الذي تنتهجه هذه الطبقة الجشعة منذ نهاية الحرب الأهلية، وقد نجح، حتى الآونة الأخيرة، في تحقيق مبتغاه إذ لعبت القوى الخارجية دورًا متواطئًا في الإبقاء على النظام وتأمين استمراريته. ولكن حدّة الأزمة أدّت إلى سقوط تلك المنظومة.
"لبنان أكثر أهمية من أن يسقط"، هذا ما كان يردّده معلّقون على صلة بالنظام. حسنًا، لقد سقط، وهذه المرة لن يُمسك أحدٌ بيده لمساعدته على النهوض.
انفجار 4 آب/أغسطس
في 4 آب/أغسطس 2020، عند الساعة 6:07 مساءً، هزّ انفجارٌ ضخم العاصمة اللبنانية. فقد انفجر نحو 2500 طن من مادة نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، ما أسفر عن دمار أحياء واسعة من العاصمة، ومقتل مئات الأبرياء، وإصابة الآلاف بجروح، وتشريد مئات الآلاف من منازلهم. غرقت المدينة في بحرٍ من الزجاج المحطَّم، وراح سكانها يتساءلون عن طبيعة الغيمة البرتقالية الهائلة التي حجبت سماء العاصمة. وبعد انقضاء بضع ساعات، أدرك اللبنانيون أن الانفجار وقع في عنابر المرفأ. وفي أعقاب الصدمة التي خلّفها الانفجار، حلّت مشاعر الغضب والعجز عن التصديق، ثم مشاعر التأقلم العنيفة والمهلكة والعميقة مع حجم الإجرام الذي بلغه النظام، ومع واقع أن حياتنا أصبحت رخيصة جدًا في ظل النظام الحاكم.
بعد عامٍ على الانفجار، لا جواب رسميًا بعد بشأن الأسباب التي أدّت إلى وقوع هذه الجريمة. وهي جريمة بلا أدنى شك، وليست كارثة أو حادثًا. لقد أُقيل قاضي التحقيق الذي كُلِّف بدايةً بالملف، من منصبه حين استدعى رئيس حكومة تصريف الأعمال وثلاثة وزراء سابقين لاستجوابهم في شبهة الإهمال الوظيفي. وأصدر قاضي التحقيق الذي عُيِّن مكانه قائمة أطول بمسؤولين سياسيين وأمنيين كبار يريد استدعاءهم إلى الاستجواب. ليس واضحًا ماذا سيكون مصير هذه الخطوة، إنما يمكننا أن نستشف من ردود الفعل الأولى للنخب السياسية أنها ستمتنع هذه المرة أيضًا عن التعاون مع قاضي التحقيق، ولن يتم التوصل بالتالي إلى نتائج حاسمة. وقد أُنشئت لجنة عوائل شهداء تفجير مرفأ بيروت للمطالبة بإحقاق العدالة والتصدّي لمحاولات النظام تطبيع جريمته، ولكن بغض النظر عما إذا كان التحقيق سيتوصل إلى نتائج رسمية حاسمة أم لا، يعرف اللبنانيون مَن المسؤول عن الجريمة.
والمسؤولون عنها يعرفون أنفسهم أيضًا.
لقد بدّد الانفجار أي آمال ساذجة بإمكانية إصلاح هذا النظام أو حتى التعايش معه، ولكن الكلفة كانت باهظة وموجعة جدًا. وكان ذلك بمثابة مؤشّرٍ لكثيرين بأن الأوان قد حان للرحيل. أما مَن مكثوا في لبنان فالسؤال المطروح الآن بالنسبة إليهم هو التالي، كيف يحمون أنفسهم من هذا النظام القاتل؟ وكيف يمكن أن تتبلور حركة جماعية للدفاع عن النفس؟
استجابة إنسانية وأمنية دولية أو تضامن عالمي
بعدما ساهم الأفرقاء الدوليون في منح الزخم لهذا النظام تحت ذرائع مختلفة لسنواتٍ طويلة، ها هم يعيدون الآن النظر في موقفهم من الملف اللبناني. وبعدما حاول المجتمع الدولي، لفترة قصيرة، إقناع النخب السياسية الحاكمة أو دفعها قسرًا إلى تشكيل حكومة والشروع في تنفيذ برنامج إصلاحي، يبدو أنه فقدَ الأمل بإمكانية التوصل إلى حلول داخلية. وفي غياب أي مسار ممكن للدبلوماسية السياسية، سلكَ التعاطي مع لبنان النهج المعتاد في التعامل مع الدول الفاشلة، من خلال التركيز على الاستجابة الإنسانية والأمنية. ونظرًا إلى الأوضاع الاجتماعية الكارثية، برزت حاجة ملحّة إلى العمل على تأمين المساعدات الأساسية للسكان الذين يواجهون نقصًا حادًا في كل شيء تقريبًا.
التحرّك الإنساني مدفوعٌ أيضًا بالهواجس الأمنية، في ضوء وجود أعداد كبيرة من اللاجئين الذين تخشى أوروبا أن يحاولوا عبور البحر المتوسط، إنما أيضًا تجنبًا لوقوع عنف اجتماعي. وقد ازداد الحديث عن تقديم الدعم للجيش اللبناني الذي يعاني من وطأة الأزمات، باعتباره المؤسسة الرسمية الأخيرة التي يمكنها الحفاظ على تماسك البلاد ولحمتها. بيد أن التعويل على الجيش لفرض النظام ضربٌ من السخرية، نظرًا إلى أن لبنان هو من البلدان القليلة في المنطقة التي نجحت في إبقاء الجيش خارج الحياة السياسية. إنه تطلّعٌ غير واقعي، فالجيش اللبناني أضعف من أن يتمكن من أداء الدور الذي يطلبه الدبلوماسيون الأجانب.
هذه الحلول هي، في أفضل الأحوال، قصيرة النظر، وفي أسوأ الأحوال، تزيد الأمور سوءًا. فالاستجابة الأمنية والإنسانية سوف تدفع بلبنان إلى دوّامة من الفقر والبؤس اللذين لا ينتهيان فصولًا، لا سيما وأن النخب الحاكمة ترى في المساعدات الخارجية المصدر الأخير للعملات الأجنبية. والتعامل مع لبنان انطلاقًا من النظرة التي تعتبر أنه يتألف حصرًا من "ضحايا خطيرين" يجب ضبطهم قد يكون مناسبًا للدبلوماسيين الأجانب، ولكنه غير مجدٍ. فالأوضاع الراهنة تستوجب أسلوبًا مختلفًا في التضامن، من خلال حشد التضامن العالمي مع مواطنين يعانون الأمرّين وهم رهينة لدى النخب الحاكمة. لقد فشل التضامن العالمي سابقًا في معالجة المشقّات التي تكبّدتها الشعوب التي انتفضت ضد أنظمتها، والمؤشرات العالمية الراهنة لا تبعث على التفاؤل. لكن لم تعد مشاعر التفاؤل والتشاؤم متاحةً لنا، إنه ترفٌ فقدناه منذ وقت طويل. الآن، لا خيار أمامنا سوى المقاومة. السؤال الذي نطرحه هو ما السبيل للصمود والمقاومة وسط كل هذا البؤس؟ أما العالم الخارجي فنقول له: عليكم أن تفكّروا في سبل التضامن مع شعبٍ يقف في مواجهة حكّامه.