منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1990، بدأ ضم المساحات العامة إلى تلك الخاصة بشكل كبير في لبنان، وفي بيروت على وجه التحديد، باسم "عملية إعادة الإعمار" وسأستعرض في هذا العمل كيف تساهم مبادرات ركوب الدراجات الهوائية في تمكين إعادة التفاوض على المساحات من المجال الخاص إلى العام.
محمد الحمصي سوري في الـ62 من العمر يركب دراجته الهوائية مسافة 50 كلم يومياً لبلوغ مكان عمله في لبنان حيث تغيب خطوط الدراجات فيضطر إلى مشاركة الطرقات الشهيرة بخطورتها مع السيارات والحافلات والشاحنات التي أضفت عليها هذا الطابع[1].
يُعتبر الحمصي ماهراً بركوب الدراجة فهو كان بطل سوريا في هذا المجال عام 1976، إلا أنه تعرض للأذى مراراً خلال توجهه إلى عمله. في مقابلة مع "أي جي بلاس بالعربية" عام 2017، ذكر كيف صدمته شاحنة فأصيب إصابة خطيرة وفي حال النجاة من الشاحنات، هناك عدد لا يُحصى من الحفر وكومات الركام التي ينبغي التحايل عليها[2].
تكثر الروايات المماثلة لدى مجموعة راكبي الدراجات الهوائية الصغيرة في لبنان. أذكر عندما اخترت هذه الوسيلة للتنقل خلال إقامتي في بيروت بين عامي 2010 و2013. تساءل حينها أقربائي وأصدقائي إن كنت قد فقدت صوابي وأرى الآن أنني ربما كنت قد فعلت. في ذلك الحين، كانت مبادرات ركوب الدراجات الهوائية في بداياتها وكنت أواجه يومياً كالحمصي خطر سائقي الشاحنات الذين يقودون بطريقة جنونية غير مدركين لوجود راكبي الدراجات حولهم وسائقي سيارات الأجرة المعروفة بالـ"سرفيس" الذين يتنافسون على الركاب وسائقي السيارات المستائين الساخطين وراء مقاودهم.
القول إن لبنان لا يراعي حقوق راكبي الدراجات الهوائية لا يعبر فعلياً عن حقيقة الوضع والتشجيع على التغيير الحقيقي يستغرق وقتاً أطول من المتوقع بسبب غياب خطوط الدراجات والسلامة على الطرقات بشكل عام. تعزز البنية التحتية المتمحورة حول السيارات ازدحام السير أما الطرقات السريعة العريضة والحضرية
والمحولات المعقدة والحوادث فهي شائعة. وأفادت إحصاءات قوى الأمن الداخلي عن وقوع 3140 حادث سير ما تسبب بسقوط 441 قتيلاً و4179 جريحاً بين كانون الثاني/يناير وتشرين الثاني/نوفمبر 2017[3].
إلا أن البعض يأمل في أن يتبدل هذا الوضع في المستقبل القريب بفضل تزايد عدد المبادرات المتعلقة بركوب الدراجات. لنأخذ على سبيل المثال مبادرة "ركوب الدراجات الهوائية إلى العمل 2018"[4] التي حصدت أكثر من ألف "مهتم" على فايسبوك في 25 نيسان/أبريل 2018. كانت الفكرة بسيطة فقد عمدت مجموعتان هما "تشاين إيفيكت"[5] و"ليف لاف بيروت"[6]، بدعم من عدة متاجر لبيع الدراجات و"المقاهي المشاركة"
إلى تقديم الدراجات والخوذات المجانية في عدة مواقع للراغبين في استعمالها للتوجه إلى العمل أو الجامعة. وكانت مجموعة "تشاين إيفيكت" تستعين بالمتطوعين لنشر رسوم الغرافيتي المؤيدة لركوب الدراجة الهوائية في المدينة[7]. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك مجموعة "سايكلينغ سيركل"[8] التي تنظم الجولات الجماعية على الدراجات الهوائية وتمتلك مقهى خاص بها[9] تصفه بـ"متجر ملتزم للدراجات الهوائية ومقهى يقدم خياراً من الدراجات والأكسسوارات مع خدمة تصليح في الموقع ذاته". وكشف كريم السخن أحد مؤسسي المشروع لـ"سيتي لاب" أن "ركوب الدراجات الهوائية كان للجميع قبل الحرب الأهلية في لبنان. كانت الشرطة تستخدم تلك الدراجات وكذلك خدمات البريد وأفراد مختلف الطبقات الاجتماعية"[10].
يُعتبر ركوب الدراجة الهوائية، في استئثاره بالمساحات، تحدياً بحد ذاته كما سأظهر في عرضي. في الواقع، تطرق السخن إلى موضوع يفهمه الكثيرون في لبنان على حقيقته وهو أن زيادة عدد راكبي الدراجات الهوائية كل يوم هو عمل تضامني يؤشر إلى احتمال التغيير في لبنان. ومع أن هذه المزاعم قد تبدو غريبة، إلا أن العديد من العلماء في السنوات الأخيرة أشاروا إلى أن الطائفية، التي تُعتبر كارثية وحتمية في آن على نطاق واسع، هي بعيدة كل البعد عن الطبيعية وتتجسد ملامحها فعلياً كل يوم، عبر البنى التحتية الخدماتية القائمة كالكهرباء ومنشآت التعليم والعمل الاجتماعي والخدمات الائتمانية ووسائل التنقل وذلك وفقاً لما أوردته جوان راندا نوتشو في كتاباتها: "خلال محادثاتي في لبنان، كانت البنية التحتية وتقديم الخدمات مواضيع يومية للنقاش والقلق وكانت على صلة مباشرة بموضوع مختلف كلياً ظاهرياً ومتعلق بفكرة المجتمع الطائفي"[11].
دمرت سنوات الحرب الـ15 الكثير من بنية البلاد التحتية وتدهورت الخدمات العامة فيها إلى حد كبير. وتميزت حقبة ما بعد الحرب بعملية إعادة إعمار نُفذت بشكل واسع وفق مبدأ النيوليبرالية فلم يعد للبنية التحتية العامة أي استعمال ووقعت غالبية المساحات العامة التي كانت سابقاً رمز العاصمة الجامعة، ضحية الخصخصة بشكل كامل. خلافاً للاعتقاد السائد، لم يبدأ كل ذلك بعد الحرب التي امتدت من 1975 حتى 1990. في الواقع، اتخذ قرار وقف ترامواي بيروت عن العمل في ستينيات القرن الماضي "لإفساح المجال أمام المزيد من السيارات"[12]. هُجرت قطارات البلاد المحبوبة أو دُمرت بشكل كبير خلال الحرب فيما سار القطار الأخير عام 1994. كان مزيّناً بلافتة تحمل عبارة "قطار السلام" وجسد توقفه عن العمل نهاية حقبة ما قبل الحرب وبداية حقبة ما بعدها. تُوقظ قطارات مميزة[13] من حقبة ما قبل الحرب الحنين[14] في أذهان الكثيرين وتُولّد حساً بالخسارة الدائمة لدى جيل الشباب الذين لم يعيشوا تلك الحقبة. مما لا شك فيه أن عصر لبنان الذهبي المزعوم (خمسينيات وستينيات القرن الماضي) يعيش في أحلام رومنسية كثيرة، إلا أنه لا يسعني إلا أن أتساءل كيف ستكون الحياة في لبنان اليوم لو كانت لدينا وسائل نقل مضمونة ومتاحة للجميع، تربط ما بين مناطق البلاد المختلفة.
كدليل على أهمية الخيارات البديلة عن السيارات والحافلات والشاحنات، لنلقِ نظرة على وثاقي من 47 دقيقة أجرته قناة الجزيرة عن سائقي دراجات هارلي دايفيدسون النارية في لبنان[15]. يلمح الإعلان الترويجي له[16] إلى الرسالة السياسية الموروثة التي تطرحها هذه المجموعة. كانوا أفراد ميليشيات على جبهات متناقضة في غالبية الأحيان خلال الحرب، وها هم قد توحدوا الآن على حبهم للدراجات النارية. مما لا شك فيه أن هؤلاء الرجال يربطون حبهم للدراجات النارية بطريقة جديدة لاستكشاف بلادهم، طريقة تختلف جداً عن الحواجز والقناصين والأحياء التي راحت تفقد طابع الاختلاط فيها شيئاً فشيئاً خلال شبابهم، على الرغم من أن هذه الصورة مبتذلة نوعاً ما. كما أخبرنا اثنان من الدراجين، بُعيد الحرب أخذ دراجون من بيروت الشرقية نظراءهم من بيروت الغربية بجولة في منطقتهم وعاملهم أبناء بيروت الغربية بالمثل. إن سهولة التوقف والتواصل المتاحة للدراجين هي ما يأمل مؤيدو ركوب الدراجات الهوائية الترويج له، إضافة إلى العديد من الفوائد الصحية.
غالباً ما تشعر بيروت اليوم أنها مدينة بشعة رمادية تحكمها السيارات والحافلات، كما يذكّرنا وصفها في فيلم إيلي داغر القصير "أمواج 98"[17]. ثمة حيّز ضئيل للمشاة فيما تحوّلت الأرصفة كلها إلى مواقف للسيارات. لدى راكبي الدراجات الهوائية خط نموذجي واحد فقط[18] تسير عليه السيارات بانتظام ولا يبدو أن عددها على طرقات البلاد سيتضاءل[19].
لهذا السبب فإن الحديث عن الدراجات الهوائية في بيروت هو في نهاية المطاف نقاش عن الحق الأساسي بحرية الحركة وعن نظرة سكان مدينة ما لبعضهم. وتعزز ازدحامات السير التي لا تنتهي الشعور بعدم الراحة الموجود أساساً لدى الشعب الذي يطارده الماضي العنيف والمستقبل غير الأكيد. باتت عبارة "عالق في الزحمة" استعارة يُشبّه بها الوضع اللبناني مثلما تحولت أزمة النفايات التي أطلقت حركة "طلعت ريحتكم" عام 2015 إلى استعارة لوصف الفساد الحكومي المتفشي.
وكيف يمكن ألا يحصل ذلك؟ فنقص الخيارات البديلة يعني أن أعداداً لا تُحصى من الناس يمضون ساعات كل يوم للانتقال من مكان إلى آخر، في أصغر دولة معترف بها في القارة الآسيوية. وغالباً ما كانت رحلاتي اليومية إلى الجامعة الأميركية في بيروت تستغرق حوالى الساعتين مع أن قريتي لا تبعد أكثر من 20 كيلومتراً عن الجامعة وقد حسبت أنني أقضي شهراً كاملاً من كل عام داخل سيارتي. عندما انتقلت إلى المملكة المتحدة لاحقاً، لمست الفرق الذي دخل حياتي من جراء قدرتي على السير واستخدام الدراجة الهوائية وقطار الأنفاق والقطار العادي وهما غير متوافرين في لبنان بالإضافة إلى نظام الحافلات الجدير بالثقة. ورحت أجد نفسي اتجول قدر الإمكان في المتنزهات أو أسير لساعات في محاولة للتعويض عن تلك الأشهر التي أضعتها بالقيادة في بيروت.
ليست قصتي بالفريدة من نوعها فمن سافر إلى خارج لبنان لا يمكنه إلا أن يشعر بالاستياء بسبب نقص الخيارات البديلة في بلادنا، هذا الاستياء يؤدي إلى القلق وشعور واسع الانتشار بالاختناق كما لو أن بلادنا تتخذ موقفاً عدائياً من وجودنا بحد ذاته وتجتاح فسحاتنا كلما تسنت لها الفرصة. لا داعي إلى القول إن هذا الشعور بالتحديد ناجم عن وضع يراوح مكانه بعد الحرب من دون أي اعتبار للناس المقيمين فيه.
لا شك في أن مسألة عادية كركوب الدراجات الهوائية لن تكون من المشاكل الملحة التي ترهق الكاهل اللبناني اليوم لكنني أعتبر أن السمة العادية تواجه شحّاً في بلاد عازمة بلا هوادة على تجريد سكانها من كل شيء بحيث لا يبقى إلا البسيط للقلة المحظوظة القادرة على تحمل كلفته. وكي ينتشر ركوب الدراجات الهوائية على نطاق واسع ينبغي على السلطات الوطنية والمحلية الاستثمار في البنى التحتية الملائمة مما يتيح لسكان مدينة ما الشعور بالانتماء من جديد. قد لا يكون الحل الشامل إلا أنها بداية لائقة.
[1] راجع https://www.facebook.com/ajplusarabi/videos/415525815638649/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[2] راجع https://www.facebook.com/ajplusarabi/videos/415525815638649/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[3] راجع https://www.al-monitor.com/pulse/en/originals/2018/03/lebanon-beirut-world-bank-congestion-new-transportation-bus.amp.html تاريخ الاطلاع 17 أيلول/سبتمبر 2018
[4] https://www.facebook.com/events/419509558477448/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[5] https://www.facebook.com/TheChainEffect/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[6] http://livelove.org/about تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[7] ن. لارسون (2017) "بيروت أجمل على الدراجة الهوائية: فن الشارع يعيد ابتكار مدينة شهيرة بالصور"، صحيفة غارديان 15 تموز/يونيو 2017. متوافر على الإنترنت على الموقع: https://www.theguardian.com/cities/gallery/2017/jun/15/beirut-bike-street-art-chain-effect-in-pictures تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[8] https://www.facebook.com/cyclingcircleLB تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[9] https://www.facebook.com/pg/cyclingcircleLB/services/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[10] https://www.citylab.com/transportation/2017/09/beirut-tries-to-get-back-on-the-bike/540681/ تاريخ الاطلاع 17 أيلول/سبتمبر 2018
[11] جوان آر نوتشو (2016) "الطائفية اليومية في لبنان الحضري: البنية التحتية، الخدمات العامة والطاقة، بيرنستون نيو جيرسي، إصدارات جامعة برينستون، راجع التفاصيل الإضافية على موقع https://press.princeton.edu/titles/10884.html
[12] راجع https://www.citylab.com/transportation/2017/09/beirut-tries-to-get-back-on-the-bike/540681/ تاريخ الاطلاع 17 أيلول/سبتمبر 2018
[13] راجع "لبنان يأمل إعادة إحياء خطوط القطار على موقع يوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=wvwBw1XqCXk&vl=en تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[14] راجع "مشاهد نادرة لمحطة القطار في طرابلس، لبنان في السبعينيات" على موقع يوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=kMNx_5hv3u8 تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[15] راجع "لبنان، من مقاتلين إلى دراجين، عالم الجزيرة" على موقع يوتيوب https://www.youtube.com/watch?v=wvwBw1XqCXk&vl=en تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[16] راجع "تعرفوا على راكبي دراجات هارلي دايفيدسون النارية في لبنان الذين وضعوا خلافاتهم جانباً عبر حبهم لركوب الدراجات"، متوافر على موقع https://twitter.com/AlJazeera_World/status/963721347971993601 تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[17] راجع فيلم إيلي داغر القصير "أمواج 98" المتوافر على موقع https://vimeo.com/252441577 تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[18] راجع "طرح أول نموذج لخط الدراجات الهوائية في بيروت"، متوافر على http://blogbaladi.com/first-bike-lane-prototype-introduced-in-beirut/ تاريخ الاطلاع 14 أيلول/سبتمبر 2018
[19] راجع https://impakter.com/traffic-crisis-lebanon-entrepreneurs-rise-challenge تاريخ الاطلاع 17 أيلول/سبتمبر 2018